مع الحبيب المصطفى: فامنن عليَّ منَّ الله عليك
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
19ـ فامنن عليَّ منَّ الله عليك
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فَيَأيُّهَا الإخوَةُ الكرام: إنَّ لُبَابَ الإِسلامِ، وزِينَةَ الأَنامِ، وذُروَةَ سَنَامِ الأخلاقِ، السَّماحةُ. بِهَا تَصفو القُلوبُ، ويَسُودُ الوِئَامُ، ويُسعَدُ الأَنامُ، وأوَّلُ مَن يَسعَدُ بِهَا صاحِبُهَا، وهوَ خيرُ النَّاسِ وأفضَلُهُم، روى الإمام ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ». قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ».
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: الفَظَاظَةُ والغَلاظَةُ ليست من دِينِنَا، قال تعالى: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾. فالمُؤمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ، كما جاء في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه البيهقي عن عبدِ اللهِ بنِ عمر رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «المُؤمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ، كَالجَمَلِ الأَنِفِ، الَّذِي إِن قِيدَ انقَادَ، وإِذَا أُنِيخَ عَلَى صَخرَةٍ استَنَاخَ». فالمُؤمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ، يَنقَادُ في غيرِ معصيَةٍ للهِ تعالى، وكيفَ لا يكونُ المُؤمِنُ سَمحَاً هَيِّنَاً لَيِّنَاً، وسيِّدُنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَغَّبَ في ذَلكَ بأَحَاديِثَ عدَّةٍ مِنهَا:
أولاً: ما روى الإمامُ أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ تعالى؟ قَالَ: «الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ».
ثانياً: ما روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «اسْمَحْ يُسْمَحْ لَكَ».
ثالثاً: ما روى الإمام الترمذي عنِ ابنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلا أَخْبرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ تَحْرُمُ على كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ ليِّنٍ سَهْلٍ».
سَهلُ الخُلُقِ، كَرِيمُ الشَّمائِلِ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: سيِّدُنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي آمنَّا بهِ أنَّهُ نَبِيُّنَا، ورَسُولُنَا، وقُدوَتُنَا إلى اللهِ تعالى، كانَ سَهلَ الخُلُقِ، كَرِيمَ الشَّمائِلِ، لَطِيفاً، وما خُيِّرَ بينَ أمرَينَ إلَّا اختَارَ أيسَرَهُمَا ما لم يَكُن إثمَاً، فإِن كانَ إثمَاً كانَ أبعَدَ النَّاسِ منهُ، ومَا انتَقَمَ لِنَفسِهِ قَطُّ، إلا أن تُنتَهَكَ حُرمَةُ اللهِ، فَيَنتَقِمَ للهِ بِهَا.
وكانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَجاوَزُ عن مُخالِفِيهِ مِمَّن ناصَبُوهُ العِداءَ، طَمَعَاً في إسلامِهِم، وتَحَقُّقَاً بِقولِهِ تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين﴾. وتَحَقُّقَاً بِقولِهِ تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم﴾. وتَحَقُّقَاً بِقولِهِ تعالى: ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ الله لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُون﴾.
عَدِيُّ بنُ حاتِمِ الطَّائِيِّ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: خُلُقُ السَّمَاحَةِ سَبَبٌ عَظِيمٌ في هِدايَةِ الخَلقِ إلى الحَقِّ، وخَاصَّةً مِمَّن لَم يَعرِفِ الحقَّ، ويَجِبُ على دُعاةِ الحَقِّ أن يُظهِرُوا الحَقَّ بِأبهَى صُورَةٍ وأَجلاهَا وأَحلاهَا، كما فَعَلَ سَيِّدُنَا رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
خُلُقُ السَّمَاحَةِ كانَ سَبَبَاً في هِدَايَةِ عَدِيِّ بنِ حاتِمِ الطَّائِيِّ مَلِكِ طَيِّئ، حيثُ نَاصَبَ سيِّدَنَا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ العِداءَ لمَّا صَدَعَ بِدَعوَتِهِ، وزَادَت عَداوَتُهُ عندمَا رَأى أحياءَ العَرَبِ تَدينُ لهُ حيَّاً بعدَ حَيٍّ، وخَافَ على زَعَامَتِهِ أن يُقضَى عَلَيهَا، وعلى رِياسَتِهِ أن تَزُولَ، فَعَادَى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ العَداوَةِ، وهُوَ لا يعرِفُهُ، وأَبغَضَهُ أعظَمَ البُغضِ قبلَ أَن يَراهُ.
يقولُ عَدِيُّ بنُ حاتِم: مَا رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ أَشَدَّ كَرَاهَةً لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ بِهِ مِنِّي، أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ امْرَأً شَرِيفاً، وَكُنْتُ نَصْرَانِيَّاً، وَكُنْتُ أَسِيرُ فِي قَوْمِي بِالْمِرْبَاعِ ـ يأخُذُ رُبعَ غَنائِمِهِم ـ فآخُذُ الرُّبعَ من غَنائِمِهِم كَمَا يَفعَلُ غَيرِي مِن مُلُوكِ العَرَبِ، وَكُنْتُ فِي نَفْسِي عَلَى دِينٍ، وَكُنْتُ مَلِكاً فِي قَوْمِي، لِمَا كَانَ يُصْنَعُ بِي.
فَلَمَّا سَمِعْتُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَرِهْتُهُ، ولَمَّا عَظُمَ أَمرُهُ واشتَدَّت شَوكَتُهُ، وجَعَلَت جُيُوشُهُ وسَراياهُ تُشرِقُ وتَغرُبُ في أرضِ العَرَبِ، قُلْتُ لِغُلَامٍ كَانَ لِي عَرَبِيٍّ، وَكَانَ رَاعِياً لِإِبِلِي: لَا أَباً لَكَ، اُعْدُدْ لِي مِنْ إِبِلِي أَجْمَالاً ذُلُلاً سِمَاناً، فَاحْتَبِسْهَا قَرِيباً مِنِّي، فَإِذَا سَمِعْتَ بِجَيْشٍ لِمُحَمَّدٍ أو بِسَرِيَّةٍ مِن سَراياهُ قَدْ وَطِئَ هَذِهِ الْبِلَادَ فَآذِنِّي، فَفَعَل.
ثُمَّ أَنَّهُ أَتَانِي ذَاتَ غَدَاةٍ فَقَالَ: يَا عَدِيُّ، مَا كُنْتَ صَانِعاً إِذَا غَشِيَتْكَ خَيْلُ مُحَمَّدٍ، فَاصْنَعْهُ الْآنَ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَايَاتٍ، فَسَأَلْتُ عَنْهَا فَقَالُوا: هَذِهِ جُيُوشُ مُحَمَّدٍ.
قَالَ: قُلْتُ: فَقَرِّبْ إِلَى أَجْمَالِي، فَقَرَّبَهَا فَاحْتَمَلْتُ بِأَهْلِي وَوَلَدِي، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْحَقُ بِأَهْلِ دِينِي مِنَ النَّصَارَى بِالشَّامِ، وأنزِلُ بَينَهُم.
وقَد أَعجَلَنِي الأَمرُ عنِ استِقصَاءِ أهلِي كُلِّهِم، فلمَّا اجتَزتُ مَواضِعَ الخَطَرِ، تَفَقَّدتُ أَهلي، فإذَا بِي تَرَكتُ أُختَاً لِي في نَجدٍ، فَمَضيتُ بِمَن مَعِيَ حتَّى بَلَغتُ الشَّامَ، وأَقَمتُ فِيهَا بينَ أبناءِ دِينِي، أمَّا أُختِي فَقَد نَزَلَ بِهَا مَا كُنتُ أَتَوَقَّعُهُ وأخشاهُ، حيثُ صارَت من جُملَةِ السَّبايَا، وسِيقَت إلى المَدِينَةِ.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: شَأنُ العُقَلاءِ أن يَقِفُوا بِجانِبِ الحَقِّ، لأنَّ مَن وَقَفَ بِجانِبِهِ رَبِحَ الدُّنيَا والآخِرة، واحذَر أَن تَقِفَ مَوقِفَاً تُعادِي فيهِ الحَقَّ، لأنَّهُ مَن وَقَفَ هذا المَوقِفَ خَسِرَ الدَّنيَا والآخرة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ الله فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُون﴾.
إنَّ عَدِيَّ بنَ حَاتم عَادَى الحَقَّ عِشرِينَ عامَاً، ومَا ذَاكَ إلا للمُحافَظَةِ على مَصَالِحِهِ، إلا للمُحافظَةِ على مِلكِهِ، ونَسِيَ بأنَّ النِّعمَةَ لا تَدُومُ للعبدِ، وإن دَامَت لهُ فَلَن يَدومَ لهَا، كما جاء في الحديثِ الشَّريف الذي رواه الحاكم عن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «وَأَحبِب مَن شِئتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ». وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُون﴾.
«فَامننُ عَليَّ مَنَّ اللهُ عَليكَ»:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لِنَتَعَلَّمْ مِن سيِّدِنَا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كيفَ نَملِكُ القُلُوبَ، كيفَ نَربَحُ الأصدِقَاءَ، كيفَ نُبَلِّغُ رِسالَةَ اللهِ، كيفَ نأتِي بالنَّاسِ إلى دينِ اللهِ تعالى قلبَاً لا قالَباً فَقَط، لأنَّ الرَّجُلَ الجَهبَذَ هوَ الذي يَرُدُّ هَارِباً من اللهِ تعالى إلى اللهِ تعالى، والعاجِزُ هوَ الذي يَخسَرُ الأصدِقاءَ والأوفِيَاءَ.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لِنَسمَعْ إلى كلامِ عَدِيِّ بنِ حاتِم بعدَ أن وَصَلَ إلى بلادِ الشَّامِ:
لَقَد بَلَغَنِي وأَنَا فِي دِيارِ الشَّامِ أنَّ خَيلَ مُحمَّدٍ أغارَت على دِيَارِنَا وأَخَذَت أُختِي فِي جُملَةِ مَن أَخَذَتهُ منَ السَّبايَا وسِيقَت إلى يَثرِبَ.
قَالَ: فَجُعِلَتِ ابْنَةُ حَاتِمٍ فِي حَظِيرَةٍ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، كَانَتِ السَّبَايَا تُحْبَسُ بِهَا، فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَامَتْ إِلَيْهِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَزْلَةً.
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ، وَغَابَ الْوَافِدُ، فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ.
قَالَ: «وَمَنْ وَافِدُكِ؟».
قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ.
قَالَ: «الْفَارُّ مِنَ الله وَرَسُولِهِ؟».
قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى وَتَرَكَنِي حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ مَرَّ بِي، فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ بِالْأَمْسِ.
قَالَتْ: حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ الْغَدِ مَرَّ بِي وَقَدْ يَئِسْتُ، فَأَشَارَ إِلَيَّ رَجُلٌ خَلْفَهُ أَنْ قُومِي فَكَلِّمِيهِ.
قَالَتْ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ، وَغَابَ الْوَافِدُ، فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ.
أكرِمُوا عَزِيزَ قَومٍ ذَلَّ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: مِن كَمَالِ شَخصِيَّةِ سيِّدِنَا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وهوَ رسولُ الرَّحمَةِ، وهوَ الذي جَاءَ لِيَرفَعَ الذُّلَّ عنِ العِبادِ، وخاصَّةً العزِيزَ منهُم إذا ذَلَّ ـ وكَمَا تَعلَمُونَ أنَّهُ جاءَ في الأَثَرِ: ارحَمُوا ثَلاثَة: عَزِيزَ قَومٍ ذَلَّ، وغَنِيَّ قومٍ افتَقَرَ، وعَالِمَاً بَينَ جُهَّالٍ. ويُنسَبُ هذا الكَلامُ للفُضَيل بن عِياضٍ رحمَهُ اللهُ تعالى ـ عندمَا سَمِعَ سَيِّدُنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَلامَ أُختِ عَدِيٍّ، قالَ لها: «قَدْ فَعَلْتُ».
وفي روايةٍ ثانيةٍ، قالت: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ، وَغَابَ الْوَافِدُ، يَا مُحَمَّدُ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُخَلِّيَ عَنِّي وَلَا تُشْمِتْ بِيَ أَحْيَاءَ الْعَرَبِ فَإِنِّي ابْنَةُ سَيِّدِ قَوْمِي، وَإِنَّ أَبِي كَانَ يَحْمِي الدِّيارَ، وَيَفُكُّ الْعَانِيَ، وَيُشْبِعُ الْجَائِعَ، وَيَكْسُو الْعَارِيَ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَيُفْشِي السَّلَامَ، وَلَمْ يَرُدَّ طَالِبَ حَاجَةٍ قَطُّ، وَأَنَا ابْنَةُ حَاتِمِ طَيِّئٍ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا جَارِيَةُ، هَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ حَقَّاً، لَوْ كَانَ أَبُوكِ مُؤْمِناً لَتَرَحَّمْنَا عَلَيْهِ، خَلُّوا عَنْهَا فَإِنَّ أَبَاهَا كَانَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، وَاللهُ تَعَالَى يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ إِلَّا بِحُسْنِ الْخُلُقِ».
فقالت: إنِّي أُرِيدُ اللَّحَاقَ بِأهلِي في الشَّامِ.
فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَعْجَلِي بِخُرُوجٍ حَتَّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِكَ مَنْ يَكُونُ لَكِ ثِقَةً حَتَّى يُبَلِّغَكِ إِلَى بِلَادِكِ، ثُمَّ آذِنِينِي». معرفة الصَّحابَة لأبي نعيم.
ولمَّا انصَرَفَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَأَلَتْ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيها أَنْ كَلِّمِيهِ فَقِيلَ لها: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
قَالَتْ: فَأَقَمْتُ في المَدينَةِ حَتَّى قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَلِيٍّ أَوْ قُضَاعَةَ. قَالَتْ: إِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ آتِيَ أَخِي بِالشَّامِ، فَجِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، قَدْ قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِي، لِي فِيهِمْ ثِقَةٌ وَبَلَاغٌ. قَالَتْ: فَكَسَانِي رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحَمَلَنِي، وَأَعْطَانِي نَفَقَةً، فَخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ.
لَا جَعَلَ اللهُ لَكَ إِلَى لَئِيمٍ حَاجَةً:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: عندما منَّ عليهَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، استأذَنتهُ في الدُّعاءِ، فَأَذِنَ لَهَا، وقال لأصحَابِهِ: «اسمَعُوا وعُوا».
فقالت: أصابَ اللهُ بِبِرِّكَ مَواقِعَهُ، ولَا جَعَلَ اللهُ لَكَ إِلَى لَئِيمٍ حَاجَةً، ولا سَلَبَ نِعمَةً عن كَرِيمِ قَومٍ إلا جَعَلَكَ سَبَبَاً في رَدِّهَا لَهُ. معرفة الصَّحابَة لأبي نعيم.
وإنِّي أَسألُ اللهَ تعالى أن يَجعَلَ بِرَّكُم في مَواقِعِهِ، ولا يَجعَلَ لكُم إلى لَئِيمٍ حاجَةً، ولا سَلَبَ نعمَةً عن كَرِيمِ قَومٍ إلا جَعَلَكم سَبَبَاً في رَدِّهَا لَهُ.
اللهُمَّ لا تَجعل حاجَتَنَا إلى لَئِيمٍ، ولا تُوقِفنَا على بابِهِ يا أرحَمَ الرَّاحِمينَ، يقولُ سيِّدُنَا عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنهُ: واللهِ لَحَفرُ بِئرَينِ بِإِبرَتَينِ، وَكَنسُ أَرضِ الحِجَازِ فِي يَومٍ عَاصِفٍ بِرِيشَتَينِ، ونَقلُ بَحرَينِ زَاخِرَينِ بِمِنخَلَينِ، وغَسلُ عَبدَينِ أَسوَدَينِ حَتَّى يَصِيرَا أَبيَضَينِ، أَهوَنُ عليَّ مِن طَلَبِ حَاجَةٍ مِن لَئِيمٍ لِوَفَاءِ دَينٍ. معرفة الصَّحابَة لأبي نعيم.
لَن تُذَلَّ عندَهُ وأنتَ أنتَ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: يقولُ عَدِيٌّ: ثمَّ جَعَلنَا نَتَنَسَّمُ أخبَارَهَا، ونَتَرَقَّبُ قُدُومَهَا، فَوَاللهِ إِنِّي لَقَاعِدٌ فِي أَهْلِي إِذْ نَظَرْتُ إِلَى ظَعِينَةٍ تُصَوِّبُ إِلَى قَوْمِنَا. قَالَ: فَقُلْتُ: ابْنَةُ حَاتِمٍ؟ قَالَ: فَإِذَا هِيَ هِيَ.
فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيَّ انْسَحَلَتْ ـ بادَرَت ـ تَقُولُ: الْقَاطِعُ الظَّالِمُ، احْتَمَلْتَ بِأَهْلِكَ وَوَلَدِكَ وَتَرَكْتَ بَقِيَّةَ وَالِدِكَ وعَوْرَتَكَ؟
قُلْتُ: أَيْ أُخَيَّةُ، لَا تَقُولِي إِلَّا خَيْراً، فَوَاللهِ مَا لِي مِنْ عُذْرٍ، لَقَدْ صَنَعْتُ مَا ذَكَرْتِ، وجَعلتُ أستَرضِهَا.
قَالَ: ثُمَّ نَزَلَتْ فَأَقَامَتْ عِنْدِي، فَقُلْتُ لَهَا وَكَانَتِ امْرَأَةً حَازِمَةً: مَاذَا تَرَيْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ؟
قَالَتْ: أَرَى واللهِ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ سَرِيعاً، فَإِنْ يَكُنِ الرَّجُلُ نَبِيَّاً فَلِلسَّابِقِ إِلَيْهِ فَضْلُهُ، وَإِنْ يَكُنْ مَلِكاً فَلَنْ تَذِلَّ عِندَهُ وَأَنْتَ أَنْتَ.
ثمَّ قالت لهُ: لقد فَعَلَ فِعلَةً ما كانَ أبوكَ يَفعَلُهَا، انتَهِ رَاغِبَاً أو راهِباً.
إنِّي لأرجُو أن يَجعَلَ اللهُ يدَ عَدِيٍّ في يَدِي:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: جَهَّزَ عَدِيٌّ نفسَهُ وقَدِمَ على سَيِّدِنَا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من غيرِ أَمانٍ ولا كِتابٍ لأنَّهُ بَلَغَهُ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «إنِّي لأرجُو أن يَجعَلَ اللهُ يدَ عَدِيٍّ في يَدِي». معرفة الصَّحابَة لأبي نعيم.
فقال: فَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْدُمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَنِ الرَّجُلُ؟».
فَقُلْتُ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ.
فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَانْطَلَقَ بِي إِلَى بَيْتِهِ.
ولم يَقُل لهُ في وَجهِهِ الْفَارُّ مِنَ الله وَرَسُولِهِ؟.
واللهِ ما هذا بِمَلِكٍ:
يقولُ عَدِيُّ: فَوَاللهِ إِنَّهُ لَعَامِدٌ بِي إِلَيْهِ إِذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ ومَعَهَا صَبيٌّ صَغِيرٌ فَاسْتَوْقَفَتْهُ، فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلاً تُكَلِّمُهُ فِي حَاجَتِهَا، فَظَلَّ مَعَهَا حتَّى قَضَى حاجَتَهَا وأنَا وَاقِفٌ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: واللهِ مَا هَذَا بِمَلِكٍ.
ثمَّ أَخَذَ بِيَدِي، ثُمَّ مَضَى بِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ تَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّةً لِيفاً، فَقَذَفَهَا إِلَيَّ فَقَالَ: «اجْلِسْ عَلَى هَذِهِ».
فاستَحيَيتُ منهُ وقُلْتُ لهُ: بَلْ أَنْتَ فَاجْلِسْ عَلَيْهَا.
قَالَ: «بَلْ أَنْتَ».
فَجَلَسْتُ وَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على الْأَرْضِ.
فقُلْتُ فِي نَفْسِي: واللهِ مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ.
يَمْنَعُكَ مِنْ الدُّخُولِ فِي هذا الدِّينِ أَنَّكَ تَرَى الْمُلْكَ في غيرِ المُسلِمِينَ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: عندمَا خَلَا سيِّدُنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِعَدِيٍّ، قال لهُ: «إِيهِ يَا عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ أَلَمْ تَكُ رَكُوسِيَّاً تَدينُ بِدِينِ النَّصرانِيَّةِ والصَّابِئَةِ؟». معرفة الصَّحابَة لأبي نعيم.
قُلْتُ: بَلَى.
فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَوَلَمْ تَكُنْ تَسِيرُ فِي قَوْمِكَ بِالْمِرْبَاعِ؟».
فَقُلْتُ: بَلَى.
فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ».
قُلْتُ: أَجَلْ واللهِ، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ يَعْلَمُ مَا يُجْهَلُ.
ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّكَ يَا عَدِيُّ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِي هَذَا الدِّينِ مَا تَرَى مِنْ حَاجَةِ المُسلِمِينَ وفَقرِهِم، فَوَاللهِ لَيُوشِكَنَّ الْمَالُ أَنْ يَفِيضَ فِيهِمْ حَتَّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ».
«وَلَعَلَّكَ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِيهِ مَا تَرَى مِنْ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، فَوَاللهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا حَتَّى تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ لَا تَخَافُ أحداً إلا اللهَ تعالى».
«وَلَعَلَّكَ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِيهِ أَنَّكَ تَرَى أَنَّ الْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ، وَايْمُ اللهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ، وأنَّ كُنُوزَ كِسرَى بنِ هُرْمُزَ قَد صَارَت إِلَيهِم».
فَقُلت: كُنُوزَ كِسرَى بنِ هُرْمُزَ؟.
فَقَال: «نَعَم، كُنُوزَ كِسرَى بنِ هُرْمُزَ ». معرفة الصَّحابَة لأبي نعيم.
قالَ عَدِيٌّ: عندَ ذلِكَ شَهِدتُ شَهَادَةَ الحَقِّ، وأَسْلَمْتُ.
يقولُ بعدَ ذلِكَ عَدِيٌّ: لقَد تَحَقَّقَت اثْنَتَانِ، وَبَقِيَتِ الثَّالِثَةُ، وإنَّهَا وَاللهِ لَتَكُونَنَّ، وَقَدْ رَأَيْتُ الْقُصُورَ الْبِيضَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ، وَرَأَيْتُ الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا لَا تَخَافُ حَتَّى تَحُجَّ هَذَا الْبَيْتَ، وكنتُ في أوَّلِ خَيلٍ أَغارَت على كُنُوزِ كِسرَى وأَخَذتُهَا، وَايْمُ الله لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ، لَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ.
وحَقَّاً جاءَتِ الثَّالِثَةُ فِي عَهدِ سَيِّدِنَا عُمَر بنِ عبدِ العَزيزِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، حيثُ فَاضَتِ الأموالُ على المُسلِمِينَ، حتَّى جَعَلَ مُنادِيهِ يُنادِي على المُسلِمِينَ على مَن يأخُذُ أَموالَ الزَّكاةِ منَ المُسلِمِينَ فَلَم يَجِد أحَدَاً.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: بِخُلُقِ السَّماحَةِ، وَصَفَاءِ القُلُوبِ، مُلِكَتِ القُلُوبُ، وانقَادَت لِطاعَةِ رَبِّهَا عزَّ وجلَّ، بِهِمَا عادَ الهارِبُ من اللهِ تعالى إلى اللهِ تعالى، وعادَ العُصَاةُ إلى طاعَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وعادَ المُبغِضُ لِدِينِ اللهِ تعالى مُحِبَّاً لهُ.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لِيَسأَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفسَهُ الأَسئِلَةَ التَّالِيَةَ:
أولاً: كَم مِن هَارِبٍ مِنَ اللهِ تعالى ورَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَدَدتُهُم إلى اللهِ تعالى ورَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
ثانياً: كَم مِن نَافِرٍ مِن دينِ اللهِ تعالى، رَدَدتُهُم إلى دِينِ اللهِ تعالى؟
ثالثاً: كَم مِن مُبغِضٍ للهِ تعالى، ولِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولِشَرعِهِ، رَدَدتُهُم إلى مَحبَّةِ اللهِ تَعَالى ورَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولِشَرعِهِ؟
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: إن لَم نَفعَلَ ذلِكَ فَلَا أَقلَّ مِن أن لا نُنَفِّرَ أَحدَاً مِن دِينِ اللهِ تعالى، ولا أَقَلَّ مِن أَن لا نَكُونَ سَبَبَاً فِي الطَّعنِ في دِينِ اللهِ عزَّ وَجَلَّ.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: مَن لَم يَستَطِع أَن يَكُونَ مُصلِحَاً، فَلَا أَقَلَّ من أَن لا يَكُونَ فَاسِدَاً ومُفسِدَاً، وَمَن لَم يَستَطِع أَن يَحقِنَ دِمَاءَ المُسلِمِينَ، فَلَا أَقَلَّ مِن أن لا يَكُونَ سَبَبَاً فِي إراقَةِ دِمَائِهِم.
و مَن لَم يَستَطِع أَن يُصلِحَ بَينَ المُسلِمِينَ، فَلَا أَقَلَّ أن لا يَكُونَ مُحَرِّشَاً بَينَهُم.
ومَن لَم يَستَطِع أَن يَقُولَ خَيرَاً، فَلَا أَقَلَّ أَن يَصمُت.
اللهُمَّ رُدَّنَا إِليكَ ردَّاً جَميلاً. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
** ** **
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
19ـ فامنن عليَّ منَّ الله عليك
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فَيَأيُّهَا الإخوَةُ الكرام: إنَّ لُبَابَ الإِسلامِ، وزِينَةَ الأَنامِ، وذُروَةَ سَنَامِ الأخلاقِ، السَّماحةُ. بِهَا تَصفو القُلوبُ، ويَسُودُ الوِئَامُ، ويُسعَدُ الأَنامُ، وأوَّلُ مَن يَسعَدُ بِهَا صاحِبُهَا، وهوَ خيرُ النَّاسِ وأفضَلُهُم، روى الإمام ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ». قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ».
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: الفَظَاظَةُ والغَلاظَةُ ليست من دِينِنَا، قال تعالى: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾. فالمُؤمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ، كما جاء في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه البيهقي عن عبدِ اللهِ بنِ عمر رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «المُؤمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ، كَالجَمَلِ الأَنِفِ، الَّذِي إِن قِيدَ انقَادَ، وإِذَا أُنِيخَ عَلَى صَخرَةٍ استَنَاخَ». فالمُؤمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ، يَنقَادُ في غيرِ معصيَةٍ للهِ تعالى، وكيفَ لا يكونُ المُؤمِنُ سَمحَاً هَيِّنَاً لَيِّنَاً، وسيِّدُنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَغَّبَ في ذَلكَ بأَحَاديِثَ عدَّةٍ مِنهَا:
أولاً: ما روى الإمامُ أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ تعالى؟ قَالَ: «الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ».
ثانياً: ما روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «اسْمَحْ يُسْمَحْ لَكَ».
ثالثاً: ما روى الإمام الترمذي عنِ ابنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلا أَخْبرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ تَحْرُمُ على كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ ليِّنٍ سَهْلٍ».
سَهلُ الخُلُقِ، كَرِيمُ الشَّمائِلِ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: سيِّدُنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي آمنَّا بهِ أنَّهُ نَبِيُّنَا، ورَسُولُنَا، وقُدوَتُنَا إلى اللهِ تعالى، كانَ سَهلَ الخُلُقِ، كَرِيمَ الشَّمائِلِ، لَطِيفاً، وما خُيِّرَ بينَ أمرَينَ إلَّا اختَارَ أيسَرَهُمَا ما لم يَكُن إثمَاً، فإِن كانَ إثمَاً كانَ أبعَدَ النَّاسِ منهُ، ومَا انتَقَمَ لِنَفسِهِ قَطُّ، إلا أن تُنتَهَكَ حُرمَةُ اللهِ، فَيَنتَقِمَ للهِ بِهَا.
وكانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَجاوَزُ عن مُخالِفِيهِ مِمَّن ناصَبُوهُ العِداءَ، طَمَعَاً في إسلامِهِم، وتَحَقُّقَاً بِقولِهِ تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين﴾. وتَحَقُّقَاً بِقولِهِ تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم﴾. وتَحَقُّقَاً بِقولِهِ تعالى: ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ الله لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُون﴾.
عَدِيُّ بنُ حاتِمِ الطَّائِيِّ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: خُلُقُ السَّمَاحَةِ سَبَبٌ عَظِيمٌ في هِدايَةِ الخَلقِ إلى الحَقِّ، وخَاصَّةً مِمَّن لَم يَعرِفِ الحقَّ، ويَجِبُ على دُعاةِ الحَقِّ أن يُظهِرُوا الحَقَّ بِأبهَى صُورَةٍ وأَجلاهَا وأَحلاهَا، كما فَعَلَ سَيِّدُنَا رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
خُلُقُ السَّمَاحَةِ كانَ سَبَبَاً في هِدَايَةِ عَدِيِّ بنِ حاتِمِ الطَّائِيِّ مَلِكِ طَيِّئ، حيثُ نَاصَبَ سيِّدَنَا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ العِداءَ لمَّا صَدَعَ بِدَعوَتِهِ، وزَادَت عَداوَتُهُ عندمَا رَأى أحياءَ العَرَبِ تَدينُ لهُ حيَّاً بعدَ حَيٍّ، وخَافَ على زَعَامَتِهِ أن يُقضَى عَلَيهَا، وعلى رِياسَتِهِ أن تَزُولَ، فَعَادَى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ العَداوَةِ، وهُوَ لا يعرِفُهُ، وأَبغَضَهُ أعظَمَ البُغضِ قبلَ أَن يَراهُ.
يقولُ عَدِيُّ بنُ حاتِم: مَا رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ أَشَدَّ كَرَاهَةً لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ بِهِ مِنِّي، أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ امْرَأً شَرِيفاً، وَكُنْتُ نَصْرَانِيَّاً، وَكُنْتُ أَسِيرُ فِي قَوْمِي بِالْمِرْبَاعِ ـ يأخُذُ رُبعَ غَنائِمِهِم ـ فآخُذُ الرُّبعَ من غَنائِمِهِم كَمَا يَفعَلُ غَيرِي مِن مُلُوكِ العَرَبِ، وَكُنْتُ فِي نَفْسِي عَلَى دِينٍ، وَكُنْتُ مَلِكاً فِي قَوْمِي، لِمَا كَانَ يُصْنَعُ بِي.
فَلَمَّا سَمِعْتُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَرِهْتُهُ، ولَمَّا عَظُمَ أَمرُهُ واشتَدَّت شَوكَتُهُ، وجَعَلَت جُيُوشُهُ وسَراياهُ تُشرِقُ وتَغرُبُ في أرضِ العَرَبِ، قُلْتُ لِغُلَامٍ كَانَ لِي عَرَبِيٍّ، وَكَانَ رَاعِياً لِإِبِلِي: لَا أَباً لَكَ، اُعْدُدْ لِي مِنْ إِبِلِي أَجْمَالاً ذُلُلاً سِمَاناً، فَاحْتَبِسْهَا قَرِيباً مِنِّي، فَإِذَا سَمِعْتَ بِجَيْشٍ لِمُحَمَّدٍ أو بِسَرِيَّةٍ مِن سَراياهُ قَدْ وَطِئَ هَذِهِ الْبِلَادَ فَآذِنِّي، فَفَعَل.
ثُمَّ أَنَّهُ أَتَانِي ذَاتَ غَدَاةٍ فَقَالَ: يَا عَدِيُّ، مَا كُنْتَ صَانِعاً إِذَا غَشِيَتْكَ خَيْلُ مُحَمَّدٍ، فَاصْنَعْهُ الْآنَ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَايَاتٍ، فَسَأَلْتُ عَنْهَا فَقَالُوا: هَذِهِ جُيُوشُ مُحَمَّدٍ.
قَالَ: قُلْتُ: فَقَرِّبْ إِلَى أَجْمَالِي، فَقَرَّبَهَا فَاحْتَمَلْتُ بِأَهْلِي وَوَلَدِي، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْحَقُ بِأَهْلِ دِينِي مِنَ النَّصَارَى بِالشَّامِ، وأنزِلُ بَينَهُم.
وقَد أَعجَلَنِي الأَمرُ عنِ استِقصَاءِ أهلِي كُلِّهِم، فلمَّا اجتَزتُ مَواضِعَ الخَطَرِ، تَفَقَّدتُ أَهلي، فإذَا بِي تَرَكتُ أُختَاً لِي في نَجدٍ، فَمَضيتُ بِمَن مَعِيَ حتَّى بَلَغتُ الشَّامَ، وأَقَمتُ فِيهَا بينَ أبناءِ دِينِي، أمَّا أُختِي فَقَد نَزَلَ بِهَا مَا كُنتُ أَتَوَقَّعُهُ وأخشاهُ، حيثُ صارَت من جُملَةِ السَّبايَا، وسِيقَت إلى المَدِينَةِ.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: شَأنُ العُقَلاءِ أن يَقِفُوا بِجانِبِ الحَقِّ، لأنَّ مَن وَقَفَ بِجانِبِهِ رَبِحَ الدُّنيَا والآخِرة، واحذَر أَن تَقِفَ مَوقِفَاً تُعادِي فيهِ الحَقَّ، لأنَّهُ مَن وَقَفَ هذا المَوقِفَ خَسِرَ الدَّنيَا والآخرة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ الله فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُون﴾.
إنَّ عَدِيَّ بنَ حَاتم عَادَى الحَقَّ عِشرِينَ عامَاً، ومَا ذَاكَ إلا للمُحافَظَةِ على مَصَالِحِهِ، إلا للمُحافظَةِ على مِلكِهِ، ونَسِيَ بأنَّ النِّعمَةَ لا تَدُومُ للعبدِ، وإن دَامَت لهُ فَلَن يَدومَ لهَا، كما جاء في الحديثِ الشَّريف الذي رواه الحاكم عن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «وَأَحبِب مَن شِئتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ». وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُون﴾.
«فَامننُ عَليَّ مَنَّ اللهُ عَليكَ»:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لِنَتَعَلَّمْ مِن سيِّدِنَا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كيفَ نَملِكُ القُلُوبَ، كيفَ نَربَحُ الأصدِقَاءَ، كيفَ نُبَلِّغُ رِسالَةَ اللهِ، كيفَ نأتِي بالنَّاسِ إلى دينِ اللهِ تعالى قلبَاً لا قالَباً فَقَط، لأنَّ الرَّجُلَ الجَهبَذَ هوَ الذي يَرُدُّ هَارِباً من اللهِ تعالى إلى اللهِ تعالى، والعاجِزُ هوَ الذي يَخسَرُ الأصدِقاءَ والأوفِيَاءَ.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لِنَسمَعْ إلى كلامِ عَدِيِّ بنِ حاتِم بعدَ أن وَصَلَ إلى بلادِ الشَّامِ:
لَقَد بَلَغَنِي وأَنَا فِي دِيارِ الشَّامِ أنَّ خَيلَ مُحمَّدٍ أغارَت على دِيَارِنَا وأَخَذَت أُختِي فِي جُملَةِ مَن أَخَذَتهُ منَ السَّبايَا وسِيقَت إلى يَثرِبَ.
قَالَ: فَجُعِلَتِ ابْنَةُ حَاتِمٍ فِي حَظِيرَةٍ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، كَانَتِ السَّبَايَا تُحْبَسُ بِهَا، فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَامَتْ إِلَيْهِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَزْلَةً.
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ، وَغَابَ الْوَافِدُ، فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ.
قَالَ: «وَمَنْ وَافِدُكِ؟».
قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ.
قَالَ: «الْفَارُّ مِنَ الله وَرَسُولِهِ؟».
قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى وَتَرَكَنِي حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ مَرَّ بِي، فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ بِالْأَمْسِ.
قَالَتْ: حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ الْغَدِ مَرَّ بِي وَقَدْ يَئِسْتُ، فَأَشَارَ إِلَيَّ رَجُلٌ خَلْفَهُ أَنْ قُومِي فَكَلِّمِيهِ.
قَالَتْ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ، وَغَابَ الْوَافِدُ، فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ.
أكرِمُوا عَزِيزَ قَومٍ ذَلَّ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: مِن كَمَالِ شَخصِيَّةِ سيِّدِنَا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وهوَ رسولُ الرَّحمَةِ، وهوَ الذي جَاءَ لِيَرفَعَ الذُّلَّ عنِ العِبادِ، وخاصَّةً العزِيزَ منهُم إذا ذَلَّ ـ وكَمَا تَعلَمُونَ أنَّهُ جاءَ في الأَثَرِ: ارحَمُوا ثَلاثَة: عَزِيزَ قَومٍ ذَلَّ، وغَنِيَّ قومٍ افتَقَرَ، وعَالِمَاً بَينَ جُهَّالٍ. ويُنسَبُ هذا الكَلامُ للفُضَيل بن عِياضٍ رحمَهُ اللهُ تعالى ـ عندمَا سَمِعَ سَيِّدُنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَلامَ أُختِ عَدِيٍّ، قالَ لها: «قَدْ فَعَلْتُ».
وفي روايةٍ ثانيةٍ، قالت: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ، وَغَابَ الْوَافِدُ، يَا مُحَمَّدُ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُخَلِّيَ عَنِّي وَلَا تُشْمِتْ بِيَ أَحْيَاءَ الْعَرَبِ فَإِنِّي ابْنَةُ سَيِّدِ قَوْمِي، وَإِنَّ أَبِي كَانَ يَحْمِي الدِّيارَ، وَيَفُكُّ الْعَانِيَ، وَيُشْبِعُ الْجَائِعَ، وَيَكْسُو الْعَارِيَ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَيُفْشِي السَّلَامَ، وَلَمْ يَرُدَّ طَالِبَ حَاجَةٍ قَطُّ، وَأَنَا ابْنَةُ حَاتِمِ طَيِّئٍ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا جَارِيَةُ، هَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ حَقَّاً، لَوْ كَانَ أَبُوكِ مُؤْمِناً لَتَرَحَّمْنَا عَلَيْهِ، خَلُّوا عَنْهَا فَإِنَّ أَبَاهَا كَانَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، وَاللهُ تَعَالَى يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ إِلَّا بِحُسْنِ الْخُلُقِ».
فقالت: إنِّي أُرِيدُ اللَّحَاقَ بِأهلِي في الشَّامِ.
فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَعْجَلِي بِخُرُوجٍ حَتَّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِكَ مَنْ يَكُونُ لَكِ ثِقَةً حَتَّى يُبَلِّغَكِ إِلَى بِلَادِكِ، ثُمَّ آذِنِينِي». معرفة الصَّحابَة لأبي نعيم.
ولمَّا انصَرَفَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَأَلَتْ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيها أَنْ كَلِّمِيهِ فَقِيلَ لها: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
قَالَتْ: فَأَقَمْتُ في المَدينَةِ حَتَّى قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَلِيٍّ أَوْ قُضَاعَةَ. قَالَتْ: إِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ آتِيَ أَخِي بِالشَّامِ، فَجِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، قَدْ قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِي، لِي فِيهِمْ ثِقَةٌ وَبَلَاغٌ. قَالَتْ: فَكَسَانِي رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحَمَلَنِي، وَأَعْطَانِي نَفَقَةً، فَخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ.
لَا جَعَلَ اللهُ لَكَ إِلَى لَئِيمٍ حَاجَةً:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: عندما منَّ عليهَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، استأذَنتهُ في الدُّعاءِ، فَأَذِنَ لَهَا، وقال لأصحَابِهِ: «اسمَعُوا وعُوا».
فقالت: أصابَ اللهُ بِبِرِّكَ مَواقِعَهُ، ولَا جَعَلَ اللهُ لَكَ إِلَى لَئِيمٍ حَاجَةً، ولا سَلَبَ نِعمَةً عن كَرِيمِ قَومٍ إلا جَعَلَكَ سَبَبَاً في رَدِّهَا لَهُ. معرفة الصَّحابَة لأبي نعيم.
وإنِّي أَسألُ اللهَ تعالى أن يَجعَلَ بِرَّكُم في مَواقِعِهِ، ولا يَجعَلَ لكُم إلى لَئِيمٍ حاجَةً، ولا سَلَبَ نعمَةً عن كَرِيمِ قَومٍ إلا جَعَلَكم سَبَبَاً في رَدِّهَا لَهُ.
اللهُمَّ لا تَجعل حاجَتَنَا إلى لَئِيمٍ، ولا تُوقِفنَا على بابِهِ يا أرحَمَ الرَّاحِمينَ، يقولُ سيِّدُنَا عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنهُ: واللهِ لَحَفرُ بِئرَينِ بِإِبرَتَينِ، وَكَنسُ أَرضِ الحِجَازِ فِي يَومٍ عَاصِفٍ بِرِيشَتَينِ، ونَقلُ بَحرَينِ زَاخِرَينِ بِمِنخَلَينِ، وغَسلُ عَبدَينِ أَسوَدَينِ حَتَّى يَصِيرَا أَبيَضَينِ، أَهوَنُ عليَّ مِن طَلَبِ حَاجَةٍ مِن لَئِيمٍ لِوَفَاءِ دَينٍ. معرفة الصَّحابَة لأبي نعيم.
لَن تُذَلَّ عندَهُ وأنتَ أنتَ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: يقولُ عَدِيٌّ: ثمَّ جَعَلنَا نَتَنَسَّمُ أخبَارَهَا، ونَتَرَقَّبُ قُدُومَهَا، فَوَاللهِ إِنِّي لَقَاعِدٌ فِي أَهْلِي إِذْ نَظَرْتُ إِلَى ظَعِينَةٍ تُصَوِّبُ إِلَى قَوْمِنَا. قَالَ: فَقُلْتُ: ابْنَةُ حَاتِمٍ؟ قَالَ: فَإِذَا هِيَ هِيَ.
فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيَّ انْسَحَلَتْ ـ بادَرَت ـ تَقُولُ: الْقَاطِعُ الظَّالِمُ، احْتَمَلْتَ بِأَهْلِكَ وَوَلَدِكَ وَتَرَكْتَ بَقِيَّةَ وَالِدِكَ وعَوْرَتَكَ؟
قُلْتُ: أَيْ أُخَيَّةُ، لَا تَقُولِي إِلَّا خَيْراً، فَوَاللهِ مَا لِي مِنْ عُذْرٍ، لَقَدْ صَنَعْتُ مَا ذَكَرْتِ، وجَعلتُ أستَرضِهَا.
قَالَ: ثُمَّ نَزَلَتْ فَأَقَامَتْ عِنْدِي، فَقُلْتُ لَهَا وَكَانَتِ امْرَأَةً حَازِمَةً: مَاذَا تَرَيْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ؟
قَالَتْ: أَرَى واللهِ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ سَرِيعاً، فَإِنْ يَكُنِ الرَّجُلُ نَبِيَّاً فَلِلسَّابِقِ إِلَيْهِ فَضْلُهُ، وَإِنْ يَكُنْ مَلِكاً فَلَنْ تَذِلَّ عِندَهُ وَأَنْتَ أَنْتَ.
ثمَّ قالت لهُ: لقد فَعَلَ فِعلَةً ما كانَ أبوكَ يَفعَلُهَا، انتَهِ رَاغِبَاً أو راهِباً.
إنِّي لأرجُو أن يَجعَلَ اللهُ يدَ عَدِيٍّ في يَدِي:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: جَهَّزَ عَدِيٌّ نفسَهُ وقَدِمَ على سَيِّدِنَا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من غيرِ أَمانٍ ولا كِتابٍ لأنَّهُ بَلَغَهُ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «إنِّي لأرجُو أن يَجعَلَ اللهُ يدَ عَدِيٍّ في يَدِي». معرفة الصَّحابَة لأبي نعيم.
فقال: فَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْدُمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَنِ الرَّجُلُ؟».
فَقُلْتُ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ.
فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَانْطَلَقَ بِي إِلَى بَيْتِهِ.
ولم يَقُل لهُ في وَجهِهِ الْفَارُّ مِنَ الله وَرَسُولِهِ؟.
واللهِ ما هذا بِمَلِكٍ:
يقولُ عَدِيُّ: فَوَاللهِ إِنَّهُ لَعَامِدٌ بِي إِلَيْهِ إِذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ ومَعَهَا صَبيٌّ صَغِيرٌ فَاسْتَوْقَفَتْهُ، فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلاً تُكَلِّمُهُ فِي حَاجَتِهَا، فَظَلَّ مَعَهَا حتَّى قَضَى حاجَتَهَا وأنَا وَاقِفٌ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: واللهِ مَا هَذَا بِمَلِكٍ.
ثمَّ أَخَذَ بِيَدِي، ثُمَّ مَضَى بِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ تَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّةً لِيفاً، فَقَذَفَهَا إِلَيَّ فَقَالَ: «اجْلِسْ عَلَى هَذِهِ».
فاستَحيَيتُ منهُ وقُلْتُ لهُ: بَلْ أَنْتَ فَاجْلِسْ عَلَيْهَا.
قَالَ: «بَلْ أَنْتَ».
فَجَلَسْتُ وَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على الْأَرْضِ.
فقُلْتُ فِي نَفْسِي: واللهِ مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ.
يَمْنَعُكَ مِنْ الدُّخُولِ فِي هذا الدِّينِ أَنَّكَ تَرَى الْمُلْكَ في غيرِ المُسلِمِينَ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: عندمَا خَلَا سيِّدُنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِعَدِيٍّ، قال لهُ: «إِيهِ يَا عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ أَلَمْ تَكُ رَكُوسِيَّاً تَدينُ بِدِينِ النَّصرانِيَّةِ والصَّابِئَةِ؟». معرفة الصَّحابَة لأبي نعيم.
قُلْتُ: بَلَى.
فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَوَلَمْ تَكُنْ تَسِيرُ فِي قَوْمِكَ بِالْمِرْبَاعِ؟».
فَقُلْتُ: بَلَى.
فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ».
قُلْتُ: أَجَلْ واللهِ، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ يَعْلَمُ مَا يُجْهَلُ.
ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّكَ يَا عَدِيُّ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِي هَذَا الدِّينِ مَا تَرَى مِنْ حَاجَةِ المُسلِمِينَ وفَقرِهِم، فَوَاللهِ لَيُوشِكَنَّ الْمَالُ أَنْ يَفِيضَ فِيهِمْ حَتَّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ».
«وَلَعَلَّكَ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِيهِ مَا تَرَى مِنْ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، فَوَاللهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا حَتَّى تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ لَا تَخَافُ أحداً إلا اللهَ تعالى».
«وَلَعَلَّكَ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِيهِ أَنَّكَ تَرَى أَنَّ الْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ، وَايْمُ اللهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ، وأنَّ كُنُوزَ كِسرَى بنِ هُرْمُزَ قَد صَارَت إِلَيهِم».
فَقُلت: كُنُوزَ كِسرَى بنِ هُرْمُزَ؟.
فَقَال: «نَعَم، كُنُوزَ كِسرَى بنِ هُرْمُزَ ». معرفة الصَّحابَة لأبي نعيم.
قالَ عَدِيٌّ: عندَ ذلِكَ شَهِدتُ شَهَادَةَ الحَقِّ، وأَسْلَمْتُ.
يقولُ بعدَ ذلِكَ عَدِيٌّ: لقَد تَحَقَّقَت اثْنَتَانِ، وَبَقِيَتِ الثَّالِثَةُ، وإنَّهَا وَاللهِ لَتَكُونَنَّ، وَقَدْ رَأَيْتُ الْقُصُورَ الْبِيضَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ، وَرَأَيْتُ الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا لَا تَخَافُ حَتَّى تَحُجَّ هَذَا الْبَيْتَ، وكنتُ في أوَّلِ خَيلٍ أَغارَت على كُنُوزِ كِسرَى وأَخَذتُهَا، وَايْمُ الله لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ، لَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ.
وحَقَّاً جاءَتِ الثَّالِثَةُ فِي عَهدِ سَيِّدِنَا عُمَر بنِ عبدِ العَزيزِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، حيثُ فَاضَتِ الأموالُ على المُسلِمِينَ، حتَّى جَعَلَ مُنادِيهِ يُنادِي على المُسلِمِينَ على مَن يأخُذُ أَموالَ الزَّكاةِ منَ المُسلِمِينَ فَلَم يَجِد أحَدَاً.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: بِخُلُقِ السَّماحَةِ، وَصَفَاءِ القُلُوبِ، مُلِكَتِ القُلُوبُ، وانقَادَت لِطاعَةِ رَبِّهَا عزَّ وجلَّ، بِهِمَا عادَ الهارِبُ من اللهِ تعالى إلى اللهِ تعالى، وعادَ العُصَاةُ إلى طاعَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وعادَ المُبغِضُ لِدِينِ اللهِ تعالى مُحِبَّاً لهُ.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لِيَسأَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفسَهُ الأَسئِلَةَ التَّالِيَةَ:
أولاً: كَم مِن هَارِبٍ مِنَ اللهِ تعالى ورَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَدَدتُهُم إلى اللهِ تعالى ورَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
ثانياً: كَم مِن نَافِرٍ مِن دينِ اللهِ تعالى، رَدَدتُهُم إلى دِينِ اللهِ تعالى؟
ثالثاً: كَم مِن مُبغِضٍ للهِ تعالى، ولِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولِشَرعِهِ، رَدَدتُهُم إلى مَحبَّةِ اللهِ تَعَالى ورَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولِشَرعِهِ؟
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: إن لَم نَفعَلَ ذلِكَ فَلَا أَقلَّ مِن أن لا نُنَفِّرَ أَحدَاً مِن دِينِ اللهِ تعالى، ولا أَقَلَّ مِن أَن لا نَكُونَ سَبَبَاً فِي الطَّعنِ في دِينِ اللهِ عزَّ وَجَلَّ.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: مَن لَم يَستَطِع أَن يَكُونَ مُصلِحَاً، فَلَا أَقَلَّ من أَن لا يَكُونَ فَاسِدَاً ومُفسِدَاً، وَمَن لَم يَستَطِع أَن يَحقِنَ دِمَاءَ المُسلِمِينَ، فَلَا أَقَلَّ مِن أن لا يَكُونَ سَبَبَاً فِي إراقَةِ دِمَائِهِم.
و مَن لَم يَستَطِع أَن يُصلِحَ بَينَ المُسلِمِينَ، فَلَا أَقَلَّ أن لا يَكُونَ مُحَرِّشَاً بَينَهُم.
ومَن لَم يَستَطِع أَن يَقُولَ خَيرَاً، فَلَا أَقَلَّ أَن يَصمُت.
اللهُمَّ رُدَّنَا إِليكَ ردَّاً جَميلاً. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
** ** **
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin