عَامَلَ عمرَو بنَ العاص بمنتهى اللطف
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
11ـ عَامَلَ عمرَو بنَ العاص بمنتهى اللطف
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
أيُّها الإخوة الكرام: ربُّنا عزَّ وجلَّ أرحمُ الرَّاحمينَ، وقد سَبَقَت رحمَتُهُ غَضَبَهُ، كما جاء في الحديث الذي رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي».
ومن مَظاهِرِ رحمَتِهِ تباركَ وتعالى أنْ جَعَلَ نَبِيَّهُ سيِّدَنا محمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رحمَةً عامَّةً شامِلَةً للعالمينَ، كما جَعَلَهُ ربُّنا عزَّ وجلَّ رحمَةً خاصَّةً بالمؤمنينَ، وهذهِ الرَّحمةُ المهداةُ ظَهَرَت آثارُها على الخلقِ في الدُّنيا، وسيظهَرُ أثَرُها يومَ القِيامَةِ، عندما يشفعُ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للخلقِ أجمعينَ. وهذهِ مَيِّزَةٌ أُكرِمَ بها سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لم تَكُن لأحَدٍ من الخلقِ أجمعينَ مِمَّن سَبَقَ ولَحِقَ.
فالرَّحمةُ التي اتَّصَفَ بها الحبيبُ الأعظمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ليست مُختَصَّةً في فردٍ من الأفرادِ، ولا في جماعةٍ من الجماعاتِ، ولا في قَومٍ من الأقوامِ، وليست مُختَصَّةً في الدِّينِ دونَ الدُّنيا.
فالنَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هوَ سَبَبٌ لسعادةِ العبدِ في الدَّارَينِ، وسَبَبٌ لصلاحِ مَعاشِهِ في الدُّنيا، ومَعادِهِ في الآخِرَةِ، وهوَ سَبَبٌ لِدُخولِ الجنَّةِ لمن أطاعَهُ، وسَبَبٌ لِرَفعِ عَذابِ الاستِئصالِ في الدُّنيا عمَّن عَصاهُ وخالَفَهُ في الحياةِ الدُّنيا.
فنسألُ اللهَ تعالى أن يَجزِيَهُ عنَّا خيرَ ما جَزى نَبِيَّاً عن أمَّتِهِ، ونسألُ اللهَ تعالى أن يُسعِدَنا في الدُّنيا والآخِرَةِ بِبَرَكَةِ طاعَتِهِ وامتِثالِ أمرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
قَبولُ إسلامِ أعدائِهِ:
أيُّها الإخوة الكرام: من مَظاهِرِ رحمَةِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَبِلَ إسلامَ الذينِ كانوا من ألَدِّ أعدائِهِ، وآذَوهُ أشدَّ الإيذاءِ، وصدُّوا عنهُ أشدَّ الصُّدودِ، من جملةِ هؤلاءِ سيِّدُنا عمرو بنُ العاصِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
روى الإمام مسلم عَنْ ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، فَبَكَى طَوِيلاً وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا؟ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا؟
قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله، إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ.
1. لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضاً لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنِّي، وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَد اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
2. فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي.
قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟»
قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ.
قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟».
قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي.
قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟».
وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالاً لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ، لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
3. ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ.
4. فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنَّاً، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي. اهـ.
أيُّها الإخوة الكرام: هذا الخُلُقُ من سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هوَ تجسيدٌ عَمَليٌّ لقولِهِ تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين﴾. ولقولِهِ تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم﴾. ولقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِع السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِق النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: عَرَفنا حالَ عمروٍ قبلَ إسلامِهِ، من عَداوَتِهِ وبُغضِهِ وكراهَتِهِ لرسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وحِرصِهِ على قَتلِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
وعَرَفنا كيفَ عامَلَهُ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عندما جاءَهُ مُسلِماً، كيفَ ظَهَرَتِ الشَّفَقَةُ والرَّحمةُ وخاصَّةً عندَ قَبضِ عمروٍ يَدَهُ، واشتِراطِهِ على سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أن يُغفَرَ له.
وعَرَفنا حالَ عمروٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ بعدَ إسلامِهِ حيثُ صارَ وليَّاً حميماً لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وصارَ أحَبَّ الخلقِ عِندَهُ، حتَّى بَلَغَ إجلالُهُ لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ ما كانَ يَستطيعُ أن يملأَ عَينَيهِ من رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إجلالاً له وتَعظيماً واحتِراماً.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ما كانَ يُقابِلُ السَّيِّئَةَ بالسَّيِّئةِ حتَّى مع الذينَ كَفروا، بل كانَ يعفو ويصفحُ امتِثالاً لقولِهِ تعالى: ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ الله لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُون﴾.
وهذا هوَ وصْفُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في التَّوراةِ، كما جاءَ في صحيحِ الإمام البخاري عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ الله بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ.
قَالَ: أَجَلْ، والله إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾ وَحِرْزاً لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُناً عُمْياً وَآذَاناً صُمَّاً وَقُلُوباً غُلْفاً.
أينَ نحنُ من سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ اللَّهُمَّ خَلِّقنا بأخلاقِهِ يا ربَّ العالمينَ.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
11ـ عَامَلَ عمرَو بنَ العاص بمنتهى اللطف
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
أيُّها الإخوة الكرام: ربُّنا عزَّ وجلَّ أرحمُ الرَّاحمينَ، وقد سَبَقَت رحمَتُهُ غَضَبَهُ، كما جاء في الحديث الذي رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي».
ومن مَظاهِرِ رحمَتِهِ تباركَ وتعالى أنْ جَعَلَ نَبِيَّهُ سيِّدَنا محمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رحمَةً عامَّةً شامِلَةً للعالمينَ، كما جَعَلَهُ ربُّنا عزَّ وجلَّ رحمَةً خاصَّةً بالمؤمنينَ، وهذهِ الرَّحمةُ المهداةُ ظَهَرَت آثارُها على الخلقِ في الدُّنيا، وسيظهَرُ أثَرُها يومَ القِيامَةِ، عندما يشفعُ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للخلقِ أجمعينَ. وهذهِ مَيِّزَةٌ أُكرِمَ بها سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لم تَكُن لأحَدٍ من الخلقِ أجمعينَ مِمَّن سَبَقَ ولَحِقَ.
فالرَّحمةُ التي اتَّصَفَ بها الحبيبُ الأعظمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ليست مُختَصَّةً في فردٍ من الأفرادِ، ولا في جماعةٍ من الجماعاتِ، ولا في قَومٍ من الأقوامِ، وليست مُختَصَّةً في الدِّينِ دونَ الدُّنيا.
فالنَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هوَ سَبَبٌ لسعادةِ العبدِ في الدَّارَينِ، وسَبَبٌ لصلاحِ مَعاشِهِ في الدُّنيا، ومَعادِهِ في الآخِرَةِ، وهوَ سَبَبٌ لِدُخولِ الجنَّةِ لمن أطاعَهُ، وسَبَبٌ لِرَفعِ عَذابِ الاستِئصالِ في الدُّنيا عمَّن عَصاهُ وخالَفَهُ في الحياةِ الدُّنيا.
فنسألُ اللهَ تعالى أن يَجزِيَهُ عنَّا خيرَ ما جَزى نَبِيَّاً عن أمَّتِهِ، ونسألُ اللهَ تعالى أن يُسعِدَنا في الدُّنيا والآخِرَةِ بِبَرَكَةِ طاعَتِهِ وامتِثالِ أمرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
قَبولُ إسلامِ أعدائِهِ:
أيُّها الإخوة الكرام: من مَظاهِرِ رحمَةِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَبِلَ إسلامَ الذينِ كانوا من ألَدِّ أعدائِهِ، وآذَوهُ أشدَّ الإيذاءِ، وصدُّوا عنهُ أشدَّ الصُّدودِ، من جملةِ هؤلاءِ سيِّدُنا عمرو بنُ العاصِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
روى الإمام مسلم عَنْ ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، فَبَكَى طَوِيلاً وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا؟ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا؟
قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله، إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ.
1. لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضاً لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنِّي، وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَد اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
2. فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي.
قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟»
قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ.
قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟».
قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي.
قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟».
وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالاً لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ، لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
3. ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ.
4. فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنَّاً، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي. اهـ.
أيُّها الإخوة الكرام: هذا الخُلُقُ من سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هوَ تجسيدٌ عَمَليٌّ لقولِهِ تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين﴾. ولقولِهِ تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم﴾. ولقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِع السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِق النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: عَرَفنا حالَ عمروٍ قبلَ إسلامِهِ، من عَداوَتِهِ وبُغضِهِ وكراهَتِهِ لرسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وحِرصِهِ على قَتلِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
وعَرَفنا كيفَ عامَلَهُ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عندما جاءَهُ مُسلِماً، كيفَ ظَهَرَتِ الشَّفَقَةُ والرَّحمةُ وخاصَّةً عندَ قَبضِ عمروٍ يَدَهُ، واشتِراطِهِ على سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أن يُغفَرَ له.
وعَرَفنا حالَ عمروٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ بعدَ إسلامِهِ حيثُ صارَ وليَّاً حميماً لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وصارَ أحَبَّ الخلقِ عِندَهُ، حتَّى بَلَغَ إجلالُهُ لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ ما كانَ يَستطيعُ أن يملأَ عَينَيهِ من رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إجلالاً له وتَعظيماً واحتِراماً.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ما كانَ يُقابِلُ السَّيِّئَةَ بالسَّيِّئةِ حتَّى مع الذينَ كَفروا، بل كانَ يعفو ويصفحُ امتِثالاً لقولِهِ تعالى: ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ الله لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُون﴾.
وهذا هوَ وصْفُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في التَّوراةِ، كما جاءَ في صحيحِ الإمام البخاري عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ الله بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ.
قَالَ: أَجَلْ، والله إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾ وَحِرْزاً لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُناً عُمْياً وَآذَاناً صُمَّاً وَقُلُوباً غُلْفاً.
أينَ نحنُ من سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ اللَّهُمَّ خَلِّقنا بأخلاقِهِ يا ربَّ العالمينَ.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin