إنك كنت جنسي وأصلي وصاحب قرباي ! إنك كنت النور الذي ينبعث من شمع عقيدتي !
3985 - فأنا عبد لذلك السراج الذي يبحث عن العين ، ذلك السراج الذي اقتبس النور منه سراجك .
إني عبد لأمواج ذلك البحر من النور ، الذي دفع مثل هذا الجوهر إلى الظهور .
فلتعرض عليّ الشهادة ، فإني قد رأيتك مفخرة الزمان “ .
واتجه نحو الدين بمحبة واشتياق قرابة خمسين من ذوي قرباه وقومه .
فعليّ - بسيف حلمه - قد اشترى من السيف كثيراً من الرقاب ، لكثير من الخلق .
3990 - وإن سيف الحلم لأحدّ من سيف الحديد ! بل إنه لأقدر على تحصيل الظفر من مائة جيش ! فوا أسفاه أن لقمة أو لقمتين قد أكلتا . فتجمد من تناولهما جيشان الفكر .
إن حبة من القمح قد كسفت شمس آدم كما أن ( سقوط ) الذنب “ 1 “ يكون خسوفاً لا لتماع البدر .
فتأمل لطف القلب ، وكيف يصير ، بَدْرُه بقبضة من الطين مقتطع النور كأنه أنجم الثور “ 2 “ .
فحينما كان الخبز معنوياً ، كان تناوله نافعاً ، ولكنه حين أصبح صورياً أثار الجحود !
...............................................................
( 1 ) عقدة الذنب وعقدة الرأس هما النقطتان اللتان يتلاقى عندهما مدار كل من الشمس والقمر . ويحدث الكسوف والخسوف عند أية نقطة من هاتين النقطتين .
( 2 ) مجموعة من النجوم الصغيرة تبدو وهي مجتمعة على صورة الثور ، وتمثل منزلا من منازل القمر . فمعنى البيت أن المطامع المادية تبدد نور القلب فتجعله يبدو مشتتاً كنور الأنجم الصغيرة المبعثرة بعد أن كان كالبدر مجتمع النور .
“ 461 “
3995 - فهو مثل الأشواك الخضراء التي تأكلها الجمال ، فتجد في تناولها مائة نفع ولذة .
فإذا ما ذهبت خضرتها وجفت ، فإن الجمال حين تأكلها في الصحراء ، تمزق أفواهها وأشداقها .
فوا أسفاه أن هذا الورد المغذي “ 1 “ قد أصبح سكيناً .
فالخبز - حينما كان معنوياً - كان شبيهاً بذلك الشواك الأخضر .
فلما أصبح صورياً فإنه الآن يابس غليظ ! وأنت على تلك العادة : فكما كنت قد أكلته من قبل ، أيها الكائن الرقيق !
4000 - فإنك تأكل اليوم ذلك اليابس ، ( وفي أنفك ) ذات الرائحة ، بعد بعد أن امتزج المعنى بالتراب .
لقد أصبح ( خبزك ) مختلطاً بالتراب ، يابساً ، يمزق اللحم ، فلتعف الآن عن ذلك العشب ( اليابس ) ، أيها الجمل ! إن الكلام يجيء وهو شديد التلوث بالتراب ! وها قد تعكر الماء ، فلتغلقن فوهة البئر .
حتى يعيده اللَّه ماء صافياً عذباً . وإن الذي عكره ليجعلنه صافياً .
والصبر هو الذي يحقق الأمل ، لا التسرع . فكن صابراً ، واللَّه أعلم بالصواب .
(تمت ترجمة الكتاب الأول من المثنوي)
...............................................................
( 1 ) يقصد الشوك الأخضر الذي كان طعاماً سائغاً نافعاً للإبل .
* * *
شرح كيف بصق أحد الخصوم في وجه علّي كرّم اللَّه وجهه
( 3721 ) يبدأ الشاعر هنا سرد قصة معروفة عن علي بن أبي طالب ، خلاصتها أنه كان ينازل أحد الرجال ، وتغلّب عليه فطرحه أرضاً ثم جثم على صدره ليقتله ، فبصق الرجل في وجه عليّ . وإذ ذلك ألقى عليّ بالسيف من يده وأعرض عن قتله . فلما سُل في ذلك ، قال إنه فعل ذلك لأنه خشي أن يكون من أسباب هذا القتل غضبه لأن الخصم قد بصق في وجهه . وهو لم يُرد قتله لهوى في نفسه ، وإنما كان ذلك من أجل مرضاة اللَّه .
وقد ذكر نيكولسون بعض المصادر التي وردت بها هذه القصة ، ومنها رسالة القشيري ، وكتاب الفخري . ( انظر تعليقاته على الجزاء الأول ، ص 213 ) .
وقد أضفى جلال الدين على القصة من فنّه ما جعلها حافلة بألوان رائعة من الحكمة ، وعلى عادته ، جعل من حكاية صغيرة ، عملًا أدبياً ينبض بالحياة .
( 3729 ) ما الذي تجلى لك من صور الغيب ، فسكن غضبك بهذه السرعة ؟
( 3740 ) قال الرسول هذا الحديث ، ناهياً أصحابه عن مواصلة الصوم ( انظر الحديث في تعليقنا على هذا البيت مع ترجمته ) . وقد روي الحديث بصور مختلفة ، لكنها تحمل المعنى ذاته . وللحديث تفسير
“ 619 “
صوفيّ في كتاب اللمع للسراج ( ص 132 ، 294 ) .
( 3741 ) يجب أن تتقبل الروح مثل هذا القول من الرسول ، بدون تأويل ، وتكون متذوقة له كما يتذّوق الحلق الشهد واللبن .
( 3742 ) فالتأويل الذي يصرف هذا القول عن معناه يكون رفضاً لهذا الكشف الإلهي الذي نقله الرسول إلينا . وتأويل القول على هذا النحو ينطوي - بصورة عامة - على اعتقاد بخطئه .
( 3743 ) الذي يرى الخطأ في كشف إلهي ، أو خبر صادق مأثور عن الرسول فإنما فعل ذلك لأنه ضعيف العقل ، ولا مقدرة له على استيعاب مثل هذه المعاني الروحية . فلقد فاضت هذه من العقل الكليّ ، والعقل الكليّ هو لبّ الحكمة ، وأما العقل الجزئي الذي يعتد به الإنسان فليس سوى قشور .
( 3744 ) “ إذا لم تتذوق مثل هذه الأخبار الصالح فابحث في نفسك عن الخطأ ، ولا تحسبه في هذه الأخبار فتعمل على تأويلها . والأولى بك أن تُلقي النوم على عقلك إزاء ما لا تفهم منها ، لا أن تتناولها بالنقد والتجريح “ . وقوله : “ وسبّ نفسك ولا تسبّ بستان الورد “ يحمل ذات المغزى الذي يشير إليه قول المتنبي :ومن يك ذا فم مرّ مريض * يجد مرّا به الماء الزلالا
( 3747 ) إن صفح عليّ قد قتل الغرور والاعتداد في نفس خصمه .
والحقّ يقتل رغبات الحسّ ويخلص الإنسان من طغيانها ، وبهذا يبثّ في روحه الحياة الخالدة .
[ شرح من بيت 3750 إلى 3900 ]
( 3750 ) قوله : “ يا باز العرش ، يا صاحب الصيد الوفير “ معناه : “ أيها الباز الذي حلّق في سماوات العالم الروحي ، وظفر منها بالصيد الوفير “ .
والصيد الوفير كناية عما ظفر به في سياحاته الروحية .
( 3752 - 3754 ) يشير الشاعر في هذه الأبيات إلى مختلف درجات الكشف الروحي . فأهل العرفان يكون لهم من الشهود والعيان ما تؤهلهم له
“ 620 “
قواهم الروحية ونفاذ بصيرتهم المتجهة إلى عالم الغيب .
( 3754 ) يخاطب الكافر عليّاً بقوله : “ هؤلاء العارفون - على اختلاف درجاتهم - متجهون إليك ، وقد تعلقت أبصارهم وآذانهم بصنيعك ، لما تجلى فيه من جمال الكشف الروحي . فهذا الصفح قد أظهر أمامهم مثلًا رائعاً من الحلم وضبط النفس . وهم - في الوقت ذاته - منصرفون عنّي ، لم تلفت أنظارهم شناعة عملي ، لأن مبعثه الحقد والبغضاء والميل مع الهوى ، وهؤلاء لا صلة لقلوبهم بهذه الأحاسيس “ .
( 3760 - 3762 ) المرشد يشرق نور هدايته - الذي يتجلى في سلوكه وأفعاله - فيهدي السالكين . ولكنه إذا تكلم كان أكثر هداية لهم ، وكانت أقواله تزيد أفعاله وضوحاً ، فيسهل على مريديه الاقتداء به . وقد قدم ابن العربي لحديثه عن الأولياء المرشدين بقوله :ومن عجب أني أحنّ إليهمو * وأسأل عنهم من أرى وهمو معي
وترصدهم عيني وهم في سوادها * ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي( الفتوحات المكيّة ، ج 1 ، ص 178 ) .
( 3763 ) في هذا البيت إشارة إلى الحديث الذي ينسب إلى الرسول أنه قال : “ أنا مدينة العلم وعليّ بابها “ .
( 3764 ) قوله : “ حتى يتحقق بك وصول القشور إلى اللباب “ ، معناه “ حتى تكون هادياً لمن أسارى عالم الحس الظاهر إلى عالم الروح ، وهو الهدف الأسمى لوجود الإنسان في هذا العالم .
( 3767 ) ليس للقلب سبيل إلى الانطلاق من عالم الحس إلى عالم المعنى ما لم يفتح له الباب مرشده وراعيه .
( 3768 ) لو انفتح أمام القلب باب يشاهد منه العالم الروحي ، لبهره جمال ما يشهد ، وكان هذا الجمال مثيراً لخياله ، باعثاً له على الانطلاق محلقّاً بأجنحة شداد في عوالم من التأمل الروحي العميق .
( 3769 - 3770 ) المرشد الروحي بما يكون عليه من التواضع والزهد
“ 621 “
والتقشف يبدو للسالك مظهراً لا خير وراء . والسالك قد يقصده فيجد عنده كنوز المعرفة على غير توقع منه ، كما قد يجد بعض الناس كنزاً في الأرض الخراب . وإذ ذاك ينجذب السالك إلى كل مرشد روحي ، كما يندفع مكتشف الكنز نحو كل أرض خراب . ولو لم يجد السالك ما يسعده من جواهر الحكمة عند أحد المرشدين الروحيين ، لما قاده ذلك إلى أن يطلب صحبة رجال التصوف ، وينشد الارتباط بهم .
( 3771 - 3772 ) الإنسان المعتدّ بنفسه ، المبتعد عن رجال الحقيقة ، يعيش أسير ظنونه ، ولا سبيل له إلى إدراك اليقين . فالمعتدّ بنفسه لا يستطيع أن يفيد معرفة من غيره ، كمن شمخ بأنفه فلم يعد يبصر شيئاً سواها .
( 3775 ) كان من المعروف أن الشمس هي التي تبث الروح الحيواني في الأحياء.
( 3784 ) قوله “ الباز الذي يصيد العنقاء “ معناه “ يا من أنت قادر على الظفر بأعمق حقائق العرفان التي تستعصي على الآخرين “ .
( 3794 ) الرياح العاصفة “ هنا رمز للأهواء والشهوات التي تذهب بثبات الرجال وتعصف بهم .
( 3797 ) الشطر الثاني من البيت يمكن أن يقرأ على النحو التالي :
“ ورشوم چون كاه بادم ياد اوست “ .
ومعناه : “ ولو صرت كالقشة فلا ريح تحركني إلا ذكره “ . والقراءتان - في نظرنا - مقبولتان .
( 3806 ) قوله “ فما هو إلا عيان ومشاهدة “ يعنى أن اليقين يحل بالقلب النقي فيكون صاحبه صادراً في عمله عن يقين تكشّف له ، وليس دافعه حينذاك التقليد ، ولا الظن والخيال .
( 3810 ) يتحدّث الشاعر هنا حديثاً مباشراً فيقول إنه لا يجوز أن تُكشف الأسرار الروحية لعامة الخلق إلا بمقدار ، فعقولهم لا تتسع لها ،
“ 622 “
كما أن مجرى النهر لا يتسع لماء البحر .
( 3818 ) إن الذي يتبع الشهوات لا يستطيع الخلاص من سيطرتها عليه . فكأنما هو قد ألقى بنفسه في بئر عميقة القرار . والشاعر يؤكد هنا إيمانه بمسئولية الإنسان عن أفعاله فليس ارتكاب الذنوب جبراً إليهاً ، بل هو خطيئة إنسانية .
( 3819 ) البئر التي لا رسن يوازي عمقها “ كناية عن الخطايا والشهوات التي يصعب الخلاص منها على من أصبح أسيراً لها .
( 3821 ) إن الأكباد التي لا تتأثر ، بمثل هذا النداء الروحي ، وبهذا التحذير من الحسّ وشهواته ، لم يكن فعلها هذا ناشئاً عن صلابتها وقدرتها على الصمود أمام روعة هذا النداء ، وإنما كان بسبب غفلتها وحيرتها وانصرافها عن سبيل الحق . فهي لا تسمعه ، ولهذا لا تتأثر به .
( 3822 ) قوله : “ فلتدْمَ في وقت لا يكون فيه دمك مردوداً “ .
معناه : “ فلتبادر إلى الإصغاء لنداء الحق والعمل به قبل أن يأتي وقت لا ينفعك فيه الندم ، ولا يفيدك إدراك الحقيقة بعد فوات الأوان “ .
( 3824 ) إن الرسول قد أرسل شاهداً على الخلق . وإنه لأعظم الناس أهلية لهذه الشهادة ، لأنه قد تحرر من استعباد المادة تحرراً كاملًا . وعبد المادة والشهوة - كما ذكر الشاعر - أمعن في العبودية من العبد الرقيق . ( انظر 3815 ، 3816 ) .
( 3825 ) عاد الشاعر هنا إلى إجراء الحديث على لسان عليّ .
( 3826 ) في البيت إشارة إلى حديث قدسي نصّه : “ إن رحمتي غلبت على غضبي “ .
( 3830 ) إن المعصية التي ارتكبها خصم عليّ كانت سبباً في اهتداء هذا الخصم . ذلك لأنها كشفت حلم عليّ وتجرده من الغرض أمام هذا الخصم ،
“ 623 “
فتجلى له اليقين ، وحمله الإيمان إلى أعلى سماواته .
( 3832 ) كان عمر بن الخطاب قاصداً قتل الرسول ، فلقيه على الطريق من نهاه عن ذلك ، ونبهه إلى الالتفات إلى أهل بيته حيث أن أخته فاطمة وزوجها سعيد بن زيد بن عمرو قد أسلما . فذهب قاصداً أخته وزوجها ليؤاخذهما على اتباع دين محمد . وكانت معهما صحيفة من سورة طه ، قرأها عمر فاهتدى إلى الإسلام ، وذهب إلى الرسول ثم أعلن إسلامه .
( انظر القصة برواياتها المختلفة في سيرة ابن هشام ، ج 1 ، ص 366 - 375 ، طبعة الحلبي . القاهرة ، 1936 ) .
( 3836 ) إن انبثاق الطاعات من المعاصي على هذا النحو الذي وصفه الشاعر يدل على أن باب الأمل مفتوح على مصراعيه أمام الناس . إن اللَّه قد ضرب عنق اليأس ، وأراد لعباده أن يتحرروا منه .
( 3837 ) يشير الشاعر هنا إلى قوله تعالى :” إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً ، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً “. ( 25 : 70 ) .
والتوبة هنا هي البداية الجديدة لحياة من الإيمان وصالح الأعمال تجبّ ما قلبها من حياة العصيان . وفي القرآن آيات كثيرة ذكرت التوبة وبينت أنها وسيلة لغفران الذنوب . ومن هذه الآيات قوله تعالى :” إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً “. ( 19 : 60 ) .
وقوله :” وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ “. ( 7 : 153 ) . وللتوبة الحق شروط لا مجال لذكرها هنا .
أما قول الشاعر “ على الرغم من الوشاة “ فمعناه أن اللَّه يقبل التوبة ممن يصح عزمه على الصلاح وترك العصيان ، وذلك على الرغم من قول المتشائمين ، الذين يذهبون إلى استحالة قبول التوبة من العاصي ، ويغلقون بذلك باب الأمل المفتوح أمام الناس .
( 3841 - 3843 ) يقدم الشاعر في هذه الأبيات تصويراً لمحاولة الشيطان إغراء الناس وإيقاعهم في الخايا ، وتربية الإثم في نفوسهم .
“ 624 “
( 3844 ) عاد الشاعر هنا إلى إجراء الحديث على لسان عليّ . وقد ذكر في الأبيات التالية قصة عن علي خلاصتها أن الرسول كان قد أخبر خادم علي أن هلاك سيده يكون على يديه ، وأن علياً برغم علمه بذلك لم يقرب خادمه بسوء . وفي القصة عناصر لا يُعرف لها أصل ، وفيها عناصر يمكن أن تُرد إلى أصولها .
فأما وصف عبد الرحمن بن ملجم بأنه كان خادم علي ، فهذا ما لم أعثر عليه في أي من المصادر التاريخية التي رجعت إليها . لكن هناك ما يشير في المصادر إلى أن علياً كان يعرف قاتله ، وكذلك أن الرسول تنبأ سلفاً بمقتل علي . ومما ذُكر من ذلك “ أن علياً كان يخطب مرة ويذكر أصحابه ، وابن ملجم تلقاء المنبر فسُمع وهو يقول : واللَّه لأريحنهم منك . فلما انصرف علي إلي بيته أُتي به ملبباً ، فأشرف عليهم فقال : ما تريدون ؟ فخبروه بما سمعوا . فقال : ما قتلني بعد ، فخوا عنه “ . ( الكامل للمبرد ، ج 3 ، ص 198 ، مطبعة نهضة مصر ، القاهرة ) .
وخوطب علي في شأن ان ملجم فقيل له : “ كأنك قد عرفته ، وعرفت ما يريد بك ، أفلا تقتله ؟ فقال : كيف أقتل قاتلي ؟ “ ( المصدر السابق ) .
وفيما رواه ابن طباطبا ما يشبه ما ورد في كتاب الكامل . ولكنه يضيف إليه قوله : “ وهذا يدل على أن رسول اللَّه أعمله بذلك في جملة ما أعمله به “ .
(تاريخ الدول الاسلامية المعروف بالفخري ، ص 99 ، بيروت ، 1960 ) .
( 3853 - 3854 ) القاتل ليس إلا أداة من الأدوات التي يستخدمها الحق في إماتة الناس . فهو وحده الذي يجيي ويميت . ولكن إذا كان هذا القتل من فعل اللَّه ، فلماذا يكون القصاص ؟ ويجيب الشاعر على ذلك بأن هذا القصاص من الأسرار الإلهية ، ولكنه مع ذلك لا يخرج من كونه صورة من الصور التي يتجلى فيها التضاد الظاهري فيما ينبثق عن الصفات الإلهية التي استوعبت الكون بكل مظاهره .
( 3855 ) إن ما قد يظهر في الكون من قهر إلهي ، يعقبه لطف يمحو آثار هذا القمر ، ويشيع في مكانه الرحمة والرضى .
“ 625 “
( 3860 ) كل شريعة أنزلها اللَّه كانت أكمل مما سبقها . ولهذا فإن الخالق ما حطم شيئاً إلا صنع ما هو خير منه .
( 3861 ) مظهر القهر قد يستر وراءه خيراً ولطفاً ، كاليل يحجب نور النهار بظلامه ، ويلف الخلق جميعاً بسكونه ، ومع ذلك ، ففي هذا الظلام والسكون ما يمكنّ العقول من التأمل والتفكر فتشرق عليها أنوار المعرفة .
( 3863 ) قوله “ أليس ماء الحياة داخل الظلمات ؟ “ يعني أن الشدة قد تنطوي على الخير ، كما يحيط الظلام بماء الحياة . ( انظر البيت 574 والتعليق عليه ) .
( 3865 ) إن الشر في هذه الدنيا بظهر الخير ، والآلام تظهر المسرات .
وكل ضد يظهر ضد في الوجود . وليس للنور الدائم مقر إلا سويداء القلب .
( 3774 ) إن موت الإنسان بداية لحياة جديدة أعظم من حياته على الأرض .
وقد يكون قطع الخلق هنا رمزاً لإماتة الشهوات الحسية ، مما يجعل الروح قادرة على الانطلاق من إسار الجسد إلى عالمها الرحب .
( 3875 ) “ الحلق الثالث “ هنا رمز لقدرة على التذوق من نوع آخر ، وتلك هي الذوق الصوفي . والصوفية بهذا الذوق ، “ يحتسون النور ، وينهلون شراب الحق “ كما يقولون .
( 3876 ) إن من قُتلت فيه شهوات الحس ونزواته ، يولد له ذوق روحي ، فيكون فناء الحس سبيله لتحقيق البقاء ، ويكون نفي الذات طريقه إلى الخلود .
( 3877 ) قوله : “ إلى متى تكون بالخبر حياة روحك ؟ “ معناه “ إلى متى تعتبر طعام الحس سر حياتك، وتحسب أن هذه الحياة ارتكزت على متاع الدنيا وملاذها؟“.
( 3878 ) إنك أرقت ماء وجهك للحصول على المتع الحسية ،
“ 626 “
واعتبرت ذلك هدفاً لك في الحياة ، ولهذا فإنك لم تثمر ، فكأنك شجرة صفصاف .
( 3879 ) “ فإن كنت غير قادر على التحرر من سلطان الحس فاتخذ شيخاً مرشداً ، فإن هذا المرشد قادر على أن يرتفع بنفسك من طبيعتها الحيوانية إلى طبيعة أسمى من تلك ، وأثره عليك يكون كأثر الإكسير على النحاس .
( 3880 ) فإن كنت تريد غسل قلبك ، وتنظيفه مما علق به من شوائب المادة ، فلا تحوّل وجهك عن هؤلاء الخبراء بتنظيف القلوب وتطهيرها .
( 3881 ) مع أن الخبر لذيذ يزيل آلام الجوع ( والخبز هنا رمز لمتع الحس التي ترضي النفس الحيوانية ) ، فإن خير الإنسان يكون في تعلقه بخالقه ، وإعراضه عن شهوات الحس ، مهما شق عليه هذا الإعراض .
( 3882 ) كل ما يصدر عن اللَّه فهو خير . وقد يظهر للناس بعض ذلك مؤلماً ، ولكن صدوره عن الخالق يستلزم أن يكون منطوياً على الخير .
( 3884 ) لعل الشاعر يشير هنا إلى تحريم قتل النفس ، إلا بالحق . والحق هو ما تنص عليه الشريعة الإلهية ، فالإنسان الذي يقتل ، لا يستطيع أن يحي ، لكن اللَّه يحطم حياة الجسد ، ويهب حياة أكمل منها هي حياة الروح . وإذا أخرج إنساناً من هذه الدنيا ، فهو قادر على أن يخلق من بعده كثيراً من البشر . ويؤيد هذا التفسير ما قاله الشاعر في البيتين رقم 3888 ، 3889 .
( 3888 - 3889 ) لو لم يأمر اللَّه بالقصاص من القائل ، لما كان لإنسان أي حق في أن يقتل إنساناً آخر ، ذلك لأن الإحياء والإماتة هما من حق اللَّه وحده .
[ شرح من بيت 3900 إلى 4003 ]
( 3900 ) في البيت اقتباس من قوله تعالى :” رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ “. ( آل عمران ، 3 : 8 ) .
“ 627 “
( 3904 ) الإنسان عدو لفنسه ، وكثيراً ما يجلب عليها الأضرار والمتاعب ولا سبيل إلى إنقاذ الروح مما يوقعه بها صاحبها ، إلا بلطف إلهي . وهذا اللطف هبة من اللَّه يؤتيها من يشاء من خلقه .
( 3905 ) لو أنه أنقذ روحه من شهوات الحس ، فليس معنى ذلك أنه وصل بها إلى غايتها من الكمال . فالروح تخلص من إسار المادة ، لكي ترقى درجات الكمال حتى تبلغ في هذا السبيل أقصى الغايات . فإذا اقتصر الجهد على محاربة الأهواء والشهوات ، وبقيت الروح راكدة في ظل إحساسها الذاتي ، لا تستشعر الحنين إلى خالقها وموجدها ، كانت هذه الروح مسخرة للخوف ، مدبرة حيث كان ينبغي لها الإقبال . فانطواء الروح على إحساسها الذاتي يحول بينها وبين السعي إلى خالقها .
( 3916 ) قوله “ وقطع حلق الناي ثم عاد فدلله “ ، معناه أنه جعل الغاب يُقطع من منبته ويثقب ليصبح آلة للعزف ، فلما صادر كذلك كرّمه بأن جعله قريناً المجلس السماع ، حيث يشغل الصوفية بذكر اللَّه .
( 3923 ) الشطر الأول من البيت قراءة محرّفة للشطر الأول من بيت مشهور للشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة يقول فيه :ألا كل شيء ما خلا اللَّه باطل * وكل نعيم لا محالة زائل( 3924 ) يقول صاحب الفخري ( ص 99 ) : “ وكان علي - عليه السلام - دائماً يحسن إلى ابن ملجم “ .
( 3925 ) انظر حاشية البيت 3844 .
( 3930 ) قوله : “ أستشعر عشق المنيّة وهواها “ ، معناه : “ أشتاق إلى خلاص الروح من الجسد حتى تصعد إلى خالقها “ .
( 3934 - 3935 ) في هذين البيتين اقتباس من قول الحلاج :اقتلوني يا ثقاتي * إن في قتلي حياتي
وحياتي في مماتي * ومماتي في حياتي
( 3936 ) “ لو لم يكن في المقام بهذه الحياة الدنيا فرقتي عن عالم الروح ، لما
“ 628 “
كان يُقال” إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ “. ( البقرة ، 2 : 156 ) والمؤمنون يرددون هذه العبارة القرآنية حينما تصيبهم مصيبة، أو يمر بهم ما يذكرهم بالموت ولقاء اللَّه.
( 3944 ) ينسب إلى علي أنه قال :السيف والخنجر وريحاننا * أُف على النرجس والآس
( 3945 ) عُرف علي بالزهد والتقوى . والشاعر يصوره هنا منصرفاً عن جاء الدنيا ، وقد غلبت حياة الروح عنده على متع الجسد .
( 3949 ) شبيه بمعنى هذا البيت قول البوصيري :وراودته الجبال الشمّ من ذهب * عن نفسه فأراها أيما شم
( 3954 ) “ إن متاع الدنيا لا يستطيع أن يصرفنا عن طريق الروح التي أخذنا أنفسنا بالسعي إليها، كما أن جمال الخلق لا يحوّل قلوبنا عن محبة الخالق المبدع “ .
( 3958 ) إن الغرض يلوّن الحقيقة بطابعه في بصيرة الانسان ، كما يحدث حين ينظر المرء إلى نور الشمس من خلال زجاجة ملوّنة .
( 3959 ) “ الزجاجات الملونة “ هنا رمز للأهواء المختلفة التي تصبغ الحقيقة بألوانها . وكسر هذه الزجاجات كناية عن التخلص من تلك الأهواء حتى لا تكون مدعاة لخطأ البصيرة . فالإنسان الذي يتخلص من الغرض والهوى يصدق حكمه على الناس وعلى أفعالهم . وقوله : “ حتى تتبيّن فلا الغبار والرجل “ معناه : “ حتى تتكشف لك حقيقة الرجل الصالح ، فلا تقيس أحواله ، بأحوالك وتحكم عليه من خلال ما غشي بصيرتك من ضباب الشهوات والأهواء “ .
( 3961 ) مثل الذي يستهزيء برجل اللَّه كمثل إبليس الذي نظر إلى ظاهر آدم ، ولم ينظر إلى حقيقة . فهيكل آدم الذي صُنع من الطين خدع إبليس عن حقيقة آدم فاستهان به ، وحسب نفسه خيراً منه .
( 3965 ) الأسد ملك الحيوانات وأقواها يمثل الحس المادي في أقوى صوره ، هذا الحس “ الذي ينشد الصيد والغذاء “ وهما يرمزان هنا إلى
“ 629 “
الحرص واللذة ، أما “ أسد الحقّ “ وهو الرجل الكامل الذي انطلق بروحه نحو خالقه ، فلم يعد للجسد ، بكل لذّاته الحسيّة ، سلطان عليه . وسبيله الذي ينشده هو التحرر الكامل من طغيان الجسد .
( 3973 ) “ السراج “ وصف للرسول جاء في قوله تعالى :” يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً . وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً “.
( 33 : 45 - 46 ) .
( 3979 ) قوله : “ وكسر زجاجة الحبيب لا يكون إلا بحجر الحبيب “ ، معناه أنه لا حق لإنسان في أن يميت إنساناً آخر . فاللَّه وحده هو الذي يميت ، سواه أكان ذلك بفعل مباشر ، أو بأمر واجب الاتباع ، مما نصتّ عليه الشريعة .
( 3984 ) “ السراج الذي يبحث عن العين “ هو الذي يهدي القلوب التي تنشد الهداية . والعبارة كلها كناية عن الرسول . ويؤكد هذا المعنى وصف الشاعر لهذا السراج في الشطر الثاني من البيت بأنه هو الذي أمدّ سراج عليّ بالنور .
فهدْيُ عليّ مقتبسُ من هدي الرسول .
( 3985 ) هديُ الرسول بحر من النور ، وقد كان سبباً في ظهور كل هذه الأفعال النبيلة على يد أتباعه . ومنها سلوك عليّ إزاء ذلك الكافر .
( 3990 ) ذكر بعض الشراح أن الشاعر يشير بهذا البيت إلى حادث معيّن ، أوقف نظم المثنوي عند نهاية الكتاب الأول . والمعروف أن هذا الحادث - على ما يُذكر في سيرة الشاعر - كان وفاة زوجة حسام الدين ، تلميذه المحبوب ، الذي كان يكتب ما يمليه الشاعر من أبيات المثنوي .
ولكني اعقتد أن الشاعر يتناول في هذا البيت أثر المادة على الروح بوجه
“ 630 “
عام . فالتمتع الحسيّ ، يوقف جيشان الفكر وانطلاقه .
( 4001 - 4003 ) يبدو في هذه الأبيات طابع من الحزن ، ولعل الشاعر هنا يشير إلى مأساة تلميذه حسام الدين بفقد زوجته . فهذه المأساة قد عكّرت صفاء التلميذ ، وجعلته غير قادر على المضي مع أُستاذه في العمل .
وهنا رأى الشاعر أن نبع الشعر قد اعتكر ، وأنه لا بدّ من الوقوف عند هذا الحد إلى أن يعود الصفاء من جديد .
(تمت شروح الكتاب الأول من المثنوي )
3985 - فأنا عبد لذلك السراج الذي يبحث عن العين ، ذلك السراج الذي اقتبس النور منه سراجك .
إني عبد لأمواج ذلك البحر من النور ، الذي دفع مثل هذا الجوهر إلى الظهور .
فلتعرض عليّ الشهادة ، فإني قد رأيتك مفخرة الزمان “ .
واتجه نحو الدين بمحبة واشتياق قرابة خمسين من ذوي قرباه وقومه .
فعليّ - بسيف حلمه - قد اشترى من السيف كثيراً من الرقاب ، لكثير من الخلق .
3990 - وإن سيف الحلم لأحدّ من سيف الحديد ! بل إنه لأقدر على تحصيل الظفر من مائة جيش ! فوا أسفاه أن لقمة أو لقمتين قد أكلتا . فتجمد من تناولهما جيشان الفكر .
إن حبة من القمح قد كسفت شمس آدم كما أن ( سقوط ) الذنب “ 1 “ يكون خسوفاً لا لتماع البدر .
فتأمل لطف القلب ، وكيف يصير ، بَدْرُه بقبضة من الطين مقتطع النور كأنه أنجم الثور “ 2 “ .
فحينما كان الخبز معنوياً ، كان تناوله نافعاً ، ولكنه حين أصبح صورياً أثار الجحود !
...............................................................
( 1 ) عقدة الذنب وعقدة الرأس هما النقطتان اللتان يتلاقى عندهما مدار كل من الشمس والقمر . ويحدث الكسوف والخسوف عند أية نقطة من هاتين النقطتين .
( 2 ) مجموعة من النجوم الصغيرة تبدو وهي مجتمعة على صورة الثور ، وتمثل منزلا من منازل القمر . فمعنى البيت أن المطامع المادية تبدد نور القلب فتجعله يبدو مشتتاً كنور الأنجم الصغيرة المبعثرة بعد أن كان كالبدر مجتمع النور .
“ 461 “
3995 - فهو مثل الأشواك الخضراء التي تأكلها الجمال ، فتجد في تناولها مائة نفع ولذة .
فإذا ما ذهبت خضرتها وجفت ، فإن الجمال حين تأكلها في الصحراء ، تمزق أفواهها وأشداقها .
فوا أسفاه أن هذا الورد المغذي “ 1 “ قد أصبح سكيناً .
فالخبز - حينما كان معنوياً - كان شبيهاً بذلك الشواك الأخضر .
فلما أصبح صورياً فإنه الآن يابس غليظ ! وأنت على تلك العادة : فكما كنت قد أكلته من قبل ، أيها الكائن الرقيق !
4000 - فإنك تأكل اليوم ذلك اليابس ، ( وفي أنفك ) ذات الرائحة ، بعد بعد أن امتزج المعنى بالتراب .
لقد أصبح ( خبزك ) مختلطاً بالتراب ، يابساً ، يمزق اللحم ، فلتعف الآن عن ذلك العشب ( اليابس ) ، أيها الجمل ! إن الكلام يجيء وهو شديد التلوث بالتراب ! وها قد تعكر الماء ، فلتغلقن فوهة البئر .
حتى يعيده اللَّه ماء صافياً عذباً . وإن الذي عكره ليجعلنه صافياً .
والصبر هو الذي يحقق الأمل ، لا التسرع . فكن صابراً ، واللَّه أعلم بالصواب .
(تمت ترجمة الكتاب الأول من المثنوي)
...............................................................
( 1 ) يقصد الشوك الأخضر الذي كان طعاماً سائغاً نافعاً للإبل .
* * *
شرح كيف بصق أحد الخصوم في وجه علّي كرّم اللَّه وجهه
( 3721 ) يبدأ الشاعر هنا سرد قصة معروفة عن علي بن أبي طالب ، خلاصتها أنه كان ينازل أحد الرجال ، وتغلّب عليه فطرحه أرضاً ثم جثم على صدره ليقتله ، فبصق الرجل في وجه عليّ . وإذ ذلك ألقى عليّ بالسيف من يده وأعرض عن قتله . فلما سُل في ذلك ، قال إنه فعل ذلك لأنه خشي أن يكون من أسباب هذا القتل غضبه لأن الخصم قد بصق في وجهه . وهو لم يُرد قتله لهوى في نفسه ، وإنما كان ذلك من أجل مرضاة اللَّه .
وقد ذكر نيكولسون بعض المصادر التي وردت بها هذه القصة ، ومنها رسالة القشيري ، وكتاب الفخري . ( انظر تعليقاته على الجزاء الأول ، ص 213 ) .
وقد أضفى جلال الدين على القصة من فنّه ما جعلها حافلة بألوان رائعة من الحكمة ، وعلى عادته ، جعل من حكاية صغيرة ، عملًا أدبياً ينبض بالحياة .
( 3729 ) ما الذي تجلى لك من صور الغيب ، فسكن غضبك بهذه السرعة ؟
( 3740 ) قال الرسول هذا الحديث ، ناهياً أصحابه عن مواصلة الصوم ( انظر الحديث في تعليقنا على هذا البيت مع ترجمته ) . وقد روي الحديث بصور مختلفة ، لكنها تحمل المعنى ذاته . وللحديث تفسير
“ 619 “
صوفيّ في كتاب اللمع للسراج ( ص 132 ، 294 ) .
( 3741 ) يجب أن تتقبل الروح مثل هذا القول من الرسول ، بدون تأويل ، وتكون متذوقة له كما يتذّوق الحلق الشهد واللبن .
( 3742 ) فالتأويل الذي يصرف هذا القول عن معناه يكون رفضاً لهذا الكشف الإلهي الذي نقله الرسول إلينا . وتأويل القول على هذا النحو ينطوي - بصورة عامة - على اعتقاد بخطئه .
( 3743 ) الذي يرى الخطأ في كشف إلهي ، أو خبر صادق مأثور عن الرسول فإنما فعل ذلك لأنه ضعيف العقل ، ولا مقدرة له على استيعاب مثل هذه المعاني الروحية . فلقد فاضت هذه من العقل الكليّ ، والعقل الكليّ هو لبّ الحكمة ، وأما العقل الجزئي الذي يعتد به الإنسان فليس سوى قشور .
( 3744 ) “ إذا لم تتذوق مثل هذه الأخبار الصالح فابحث في نفسك عن الخطأ ، ولا تحسبه في هذه الأخبار فتعمل على تأويلها . والأولى بك أن تُلقي النوم على عقلك إزاء ما لا تفهم منها ، لا أن تتناولها بالنقد والتجريح “ . وقوله : “ وسبّ نفسك ولا تسبّ بستان الورد “ يحمل ذات المغزى الذي يشير إليه قول المتنبي :ومن يك ذا فم مرّ مريض * يجد مرّا به الماء الزلالا
( 3747 ) إن صفح عليّ قد قتل الغرور والاعتداد في نفس خصمه .
والحقّ يقتل رغبات الحسّ ويخلص الإنسان من طغيانها ، وبهذا يبثّ في روحه الحياة الخالدة .
[ شرح من بيت 3750 إلى 3900 ]
( 3750 ) قوله : “ يا باز العرش ، يا صاحب الصيد الوفير “ معناه : “ أيها الباز الذي حلّق في سماوات العالم الروحي ، وظفر منها بالصيد الوفير “ .
والصيد الوفير كناية عما ظفر به في سياحاته الروحية .
( 3752 - 3754 ) يشير الشاعر في هذه الأبيات إلى مختلف درجات الكشف الروحي . فأهل العرفان يكون لهم من الشهود والعيان ما تؤهلهم له
“ 620 “
قواهم الروحية ونفاذ بصيرتهم المتجهة إلى عالم الغيب .
( 3754 ) يخاطب الكافر عليّاً بقوله : “ هؤلاء العارفون - على اختلاف درجاتهم - متجهون إليك ، وقد تعلقت أبصارهم وآذانهم بصنيعك ، لما تجلى فيه من جمال الكشف الروحي . فهذا الصفح قد أظهر أمامهم مثلًا رائعاً من الحلم وضبط النفس . وهم - في الوقت ذاته - منصرفون عنّي ، لم تلفت أنظارهم شناعة عملي ، لأن مبعثه الحقد والبغضاء والميل مع الهوى ، وهؤلاء لا صلة لقلوبهم بهذه الأحاسيس “ .
( 3760 - 3762 ) المرشد يشرق نور هدايته - الذي يتجلى في سلوكه وأفعاله - فيهدي السالكين . ولكنه إذا تكلم كان أكثر هداية لهم ، وكانت أقواله تزيد أفعاله وضوحاً ، فيسهل على مريديه الاقتداء به . وقد قدم ابن العربي لحديثه عن الأولياء المرشدين بقوله :ومن عجب أني أحنّ إليهمو * وأسأل عنهم من أرى وهمو معي
وترصدهم عيني وهم في سوادها * ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي( الفتوحات المكيّة ، ج 1 ، ص 178 ) .
( 3763 ) في هذا البيت إشارة إلى الحديث الذي ينسب إلى الرسول أنه قال : “ أنا مدينة العلم وعليّ بابها “ .
( 3764 ) قوله : “ حتى يتحقق بك وصول القشور إلى اللباب “ ، معناه “ حتى تكون هادياً لمن أسارى عالم الحس الظاهر إلى عالم الروح ، وهو الهدف الأسمى لوجود الإنسان في هذا العالم .
( 3767 ) ليس للقلب سبيل إلى الانطلاق من عالم الحس إلى عالم المعنى ما لم يفتح له الباب مرشده وراعيه .
( 3768 ) لو انفتح أمام القلب باب يشاهد منه العالم الروحي ، لبهره جمال ما يشهد ، وكان هذا الجمال مثيراً لخياله ، باعثاً له على الانطلاق محلقّاً بأجنحة شداد في عوالم من التأمل الروحي العميق .
( 3769 - 3770 ) المرشد الروحي بما يكون عليه من التواضع والزهد
“ 621 “
والتقشف يبدو للسالك مظهراً لا خير وراء . والسالك قد يقصده فيجد عنده كنوز المعرفة على غير توقع منه ، كما قد يجد بعض الناس كنزاً في الأرض الخراب . وإذ ذاك ينجذب السالك إلى كل مرشد روحي ، كما يندفع مكتشف الكنز نحو كل أرض خراب . ولو لم يجد السالك ما يسعده من جواهر الحكمة عند أحد المرشدين الروحيين ، لما قاده ذلك إلى أن يطلب صحبة رجال التصوف ، وينشد الارتباط بهم .
( 3771 - 3772 ) الإنسان المعتدّ بنفسه ، المبتعد عن رجال الحقيقة ، يعيش أسير ظنونه ، ولا سبيل له إلى إدراك اليقين . فالمعتدّ بنفسه لا يستطيع أن يفيد معرفة من غيره ، كمن شمخ بأنفه فلم يعد يبصر شيئاً سواها .
( 3775 ) كان من المعروف أن الشمس هي التي تبث الروح الحيواني في الأحياء.
( 3784 ) قوله “ الباز الذي يصيد العنقاء “ معناه “ يا من أنت قادر على الظفر بأعمق حقائق العرفان التي تستعصي على الآخرين “ .
( 3794 ) الرياح العاصفة “ هنا رمز للأهواء والشهوات التي تذهب بثبات الرجال وتعصف بهم .
( 3797 ) الشطر الثاني من البيت يمكن أن يقرأ على النحو التالي :
“ ورشوم چون كاه بادم ياد اوست “ .
ومعناه : “ ولو صرت كالقشة فلا ريح تحركني إلا ذكره “ . والقراءتان - في نظرنا - مقبولتان .
( 3806 ) قوله “ فما هو إلا عيان ومشاهدة “ يعنى أن اليقين يحل بالقلب النقي فيكون صاحبه صادراً في عمله عن يقين تكشّف له ، وليس دافعه حينذاك التقليد ، ولا الظن والخيال .
( 3810 ) يتحدّث الشاعر هنا حديثاً مباشراً فيقول إنه لا يجوز أن تُكشف الأسرار الروحية لعامة الخلق إلا بمقدار ، فعقولهم لا تتسع لها ،
“ 622 “
كما أن مجرى النهر لا يتسع لماء البحر .
( 3818 ) إن الذي يتبع الشهوات لا يستطيع الخلاص من سيطرتها عليه . فكأنما هو قد ألقى بنفسه في بئر عميقة القرار . والشاعر يؤكد هنا إيمانه بمسئولية الإنسان عن أفعاله فليس ارتكاب الذنوب جبراً إليهاً ، بل هو خطيئة إنسانية .
( 3819 ) البئر التي لا رسن يوازي عمقها “ كناية عن الخطايا والشهوات التي يصعب الخلاص منها على من أصبح أسيراً لها .
( 3821 ) إن الأكباد التي لا تتأثر ، بمثل هذا النداء الروحي ، وبهذا التحذير من الحسّ وشهواته ، لم يكن فعلها هذا ناشئاً عن صلابتها وقدرتها على الصمود أمام روعة هذا النداء ، وإنما كان بسبب غفلتها وحيرتها وانصرافها عن سبيل الحق . فهي لا تسمعه ، ولهذا لا تتأثر به .
( 3822 ) قوله : “ فلتدْمَ في وقت لا يكون فيه دمك مردوداً “ .
معناه : “ فلتبادر إلى الإصغاء لنداء الحق والعمل به قبل أن يأتي وقت لا ينفعك فيه الندم ، ولا يفيدك إدراك الحقيقة بعد فوات الأوان “ .
( 3824 ) إن الرسول قد أرسل شاهداً على الخلق . وإنه لأعظم الناس أهلية لهذه الشهادة ، لأنه قد تحرر من استعباد المادة تحرراً كاملًا . وعبد المادة والشهوة - كما ذكر الشاعر - أمعن في العبودية من العبد الرقيق . ( انظر 3815 ، 3816 ) .
( 3825 ) عاد الشاعر هنا إلى إجراء الحديث على لسان عليّ .
( 3826 ) في البيت إشارة إلى حديث قدسي نصّه : “ إن رحمتي غلبت على غضبي “ .
( 3830 ) إن المعصية التي ارتكبها خصم عليّ كانت سبباً في اهتداء هذا الخصم . ذلك لأنها كشفت حلم عليّ وتجرده من الغرض أمام هذا الخصم ،
“ 623 “
فتجلى له اليقين ، وحمله الإيمان إلى أعلى سماواته .
( 3832 ) كان عمر بن الخطاب قاصداً قتل الرسول ، فلقيه على الطريق من نهاه عن ذلك ، ونبهه إلى الالتفات إلى أهل بيته حيث أن أخته فاطمة وزوجها سعيد بن زيد بن عمرو قد أسلما . فذهب قاصداً أخته وزوجها ليؤاخذهما على اتباع دين محمد . وكانت معهما صحيفة من سورة طه ، قرأها عمر فاهتدى إلى الإسلام ، وذهب إلى الرسول ثم أعلن إسلامه .
( انظر القصة برواياتها المختلفة في سيرة ابن هشام ، ج 1 ، ص 366 - 375 ، طبعة الحلبي . القاهرة ، 1936 ) .
( 3836 ) إن انبثاق الطاعات من المعاصي على هذا النحو الذي وصفه الشاعر يدل على أن باب الأمل مفتوح على مصراعيه أمام الناس . إن اللَّه قد ضرب عنق اليأس ، وأراد لعباده أن يتحرروا منه .
( 3837 ) يشير الشاعر هنا إلى قوله تعالى :” إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً ، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً “. ( 25 : 70 ) .
والتوبة هنا هي البداية الجديدة لحياة من الإيمان وصالح الأعمال تجبّ ما قلبها من حياة العصيان . وفي القرآن آيات كثيرة ذكرت التوبة وبينت أنها وسيلة لغفران الذنوب . ومن هذه الآيات قوله تعالى :” إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً “. ( 19 : 60 ) .
وقوله :” وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ “. ( 7 : 153 ) . وللتوبة الحق شروط لا مجال لذكرها هنا .
أما قول الشاعر “ على الرغم من الوشاة “ فمعناه أن اللَّه يقبل التوبة ممن يصح عزمه على الصلاح وترك العصيان ، وذلك على الرغم من قول المتشائمين ، الذين يذهبون إلى استحالة قبول التوبة من العاصي ، ويغلقون بذلك باب الأمل المفتوح أمام الناس .
( 3841 - 3843 ) يقدم الشاعر في هذه الأبيات تصويراً لمحاولة الشيطان إغراء الناس وإيقاعهم في الخايا ، وتربية الإثم في نفوسهم .
“ 624 “
( 3844 ) عاد الشاعر هنا إلى إجراء الحديث على لسان عليّ . وقد ذكر في الأبيات التالية قصة عن علي خلاصتها أن الرسول كان قد أخبر خادم علي أن هلاك سيده يكون على يديه ، وأن علياً برغم علمه بذلك لم يقرب خادمه بسوء . وفي القصة عناصر لا يُعرف لها أصل ، وفيها عناصر يمكن أن تُرد إلى أصولها .
فأما وصف عبد الرحمن بن ملجم بأنه كان خادم علي ، فهذا ما لم أعثر عليه في أي من المصادر التاريخية التي رجعت إليها . لكن هناك ما يشير في المصادر إلى أن علياً كان يعرف قاتله ، وكذلك أن الرسول تنبأ سلفاً بمقتل علي . ومما ذُكر من ذلك “ أن علياً كان يخطب مرة ويذكر أصحابه ، وابن ملجم تلقاء المنبر فسُمع وهو يقول : واللَّه لأريحنهم منك . فلما انصرف علي إلي بيته أُتي به ملبباً ، فأشرف عليهم فقال : ما تريدون ؟ فخبروه بما سمعوا . فقال : ما قتلني بعد ، فخوا عنه “ . ( الكامل للمبرد ، ج 3 ، ص 198 ، مطبعة نهضة مصر ، القاهرة ) .
وخوطب علي في شأن ان ملجم فقيل له : “ كأنك قد عرفته ، وعرفت ما يريد بك ، أفلا تقتله ؟ فقال : كيف أقتل قاتلي ؟ “ ( المصدر السابق ) .
وفيما رواه ابن طباطبا ما يشبه ما ورد في كتاب الكامل . ولكنه يضيف إليه قوله : “ وهذا يدل على أن رسول اللَّه أعمله بذلك في جملة ما أعمله به “ .
(تاريخ الدول الاسلامية المعروف بالفخري ، ص 99 ، بيروت ، 1960 ) .
( 3853 - 3854 ) القاتل ليس إلا أداة من الأدوات التي يستخدمها الحق في إماتة الناس . فهو وحده الذي يجيي ويميت . ولكن إذا كان هذا القتل من فعل اللَّه ، فلماذا يكون القصاص ؟ ويجيب الشاعر على ذلك بأن هذا القصاص من الأسرار الإلهية ، ولكنه مع ذلك لا يخرج من كونه صورة من الصور التي يتجلى فيها التضاد الظاهري فيما ينبثق عن الصفات الإلهية التي استوعبت الكون بكل مظاهره .
( 3855 ) إن ما قد يظهر في الكون من قهر إلهي ، يعقبه لطف يمحو آثار هذا القمر ، ويشيع في مكانه الرحمة والرضى .
“ 625 “
( 3860 ) كل شريعة أنزلها اللَّه كانت أكمل مما سبقها . ولهذا فإن الخالق ما حطم شيئاً إلا صنع ما هو خير منه .
( 3861 ) مظهر القهر قد يستر وراءه خيراً ولطفاً ، كاليل يحجب نور النهار بظلامه ، ويلف الخلق جميعاً بسكونه ، ومع ذلك ، ففي هذا الظلام والسكون ما يمكنّ العقول من التأمل والتفكر فتشرق عليها أنوار المعرفة .
( 3863 ) قوله “ أليس ماء الحياة داخل الظلمات ؟ “ يعني أن الشدة قد تنطوي على الخير ، كما يحيط الظلام بماء الحياة . ( انظر البيت 574 والتعليق عليه ) .
( 3865 ) إن الشر في هذه الدنيا بظهر الخير ، والآلام تظهر المسرات .
وكل ضد يظهر ضد في الوجود . وليس للنور الدائم مقر إلا سويداء القلب .
( 3774 ) إن موت الإنسان بداية لحياة جديدة أعظم من حياته على الأرض .
وقد يكون قطع الخلق هنا رمزاً لإماتة الشهوات الحسية ، مما يجعل الروح قادرة على الانطلاق من إسار الجسد إلى عالمها الرحب .
( 3875 ) “ الحلق الثالث “ هنا رمز لقدرة على التذوق من نوع آخر ، وتلك هي الذوق الصوفي . والصوفية بهذا الذوق ، “ يحتسون النور ، وينهلون شراب الحق “ كما يقولون .
( 3876 ) إن من قُتلت فيه شهوات الحس ونزواته ، يولد له ذوق روحي ، فيكون فناء الحس سبيله لتحقيق البقاء ، ويكون نفي الذات طريقه إلى الخلود .
( 3877 ) قوله : “ إلى متى تكون بالخبر حياة روحك ؟ “ معناه “ إلى متى تعتبر طعام الحس سر حياتك، وتحسب أن هذه الحياة ارتكزت على متاع الدنيا وملاذها؟“.
( 3878 ) إنك أرقت ماء وجهك للحصول على المتع الحسية ،
“ 626 “
واعتبرت ذلك هدفاً لك في الحياة ، ولهذا فإنك لم تثمر ، فكأنك شجرة صفصاف .
( 3879 ) “ فإن كنت غير قادر على التحرر من سلطان الحس فاتخذ شيخاً مرشداً ، فإن هذا المرشد قادر على أن يرتفع بنفسك من طبيعتها الحيوانية إلى طبيعة أسمى من تلك ، وأثره عليك يكون كأثر الإكسير على النحاس .
( 3880 ) فإن كنت تريد غسل قلبك ، وتنظيفه مما علق به من شوائب المادة ، فلا تحوّل وجهك عن هؤلاء الخبراء بتنظيف القلوب وتطهيرها .
( 3881 ) مع أن الخبر لذيذ يزيل آلام الجوع ( والخبز هنا رمز لمتع الحس التي ترضي النفس الحيوانية ) ، فإن خير الإنسان يكون في تعلقه بخالقه ، وإعراضه عن شهوات الحس ، مهما شق عليه هذا الإعراض .
( 3882 ) كل ما يصدر عن اللَّه فهو خير . وقد يظهر للناس بعض ذلك مؤلماً ، ولكن صدوره عن الخالق يستلزم أن يكون منطوياً على الخير .
( 3884 ) لعل الشاعر يشير هنا إلى تحريم قتل النفس ، إلا بالحق . والحق هو ما تنص عليه الشريعة الإلهية ، فالإنسان الذي يقتل ، لا يستطيع أن يحي ، لكن اللَّه يحطم حياة الجسد ، ويهب حياة أكمل منها هي حياة الروح . وإذا أخرج إنساناً من هذه الدنيا ، فهو قادر على أن يخلق من بعده كثيراً من البشر . ويؤيد هذا التفسير ما قاله الشاعر في البيتين رقم 3888 ، 3889 .
( 3888 - 3889 ) لو لم يأمر اللَّه بالقصاص من القائل ، لما كان لإنسان أي حق في أن يقتل إنساناً آخر ، ذلك لأن الإحياء والإماتة هما من حق اللَّه وحده .
[ شرح من بيت 3900 إلى 4003 ]
( 3900 ) في البيت اقتباس من قوله تعالى :” رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ “. ( آل عمران ، 3 : 8 ) .
“ 627 “
( 3904 ) الإنسان عدو لفنسه ، وكثيراً ما يجلب عليها الأضرار والمتاعب ولا سبيل إلى إنقاذ الروح مما يوقعه بها صاحبها ، إلا بلطف إلهي . وهذا اللطف هبة من اللَّه يؤتيها من يشاء من خلقه .
( 3905 ) لو أنه أنقذ روحه من شهوات الحس ، فليس معنى ذلك أنه وصل بها إلى غايتها من الكمال . فالروح تخلص من إسار المادة ، لكي ترقى درجات الكمال حتى تبلغ في هذا السبيل أقصى الغايات . فإذا اقتصر الجهد على محاربة الأهواء والشهوات ، وبقيت الروح راكدة في ظل إحساسها الذاتي ، لا تستشعر الحنين إلى خالقها وموجدها ، كانت هذه الروح مسخرة للخوف ، مدبرة حيث كان ينبغي لها الإقبال . فانطواء الروح على إحساسها الذاتي يحول بينها وبين السعي إلى خالقها .
( 3916 ) قوله “ وقطع حلق الناي ثم عاد فدلله “ ، معناه أنه جعل الغاب يُقطع من منبته ويثقب ليصبح آلة للعزف ، فلما صادر كذلك كرّمه بأن جعله قريناً المجلس السماع ، حيث يشغل الصوفية بذكر اللَّه .
( 3923 ) الشطر الأول من البيت قراءة محرّفة للشطر الأول من بيت مشهور للشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة يقول فيه :ألا كل شيء ما خلا اللَّه باطل * وكل نعيم لا محالة زائل( 3924 ) يقول صاحب الفخري ( ص 99 ) : “ وكان علي - عليه السلام - دائماً يحسن إلى ابن ملجم “ .
( 3925 ) انظر حاشية البيت 3844 .
( 3930 ) قوله : “ أستشعر عشق المنيّة وهواها “ ، معناه : “ أشتاق إلى خلاص الروح من الجسد حتى تصعد إلى خالقها “ .
( 3934 - 3935 ) في هذين البيتين اقتباس من قول الحلاج :اقتلوني يا ثقاتي * إن في قتلي حياتي
وحياتي في مماتي * ومماتي في حياتي
( 3936 ) “ لو لم يكن في المقام بهذه الحياة الدنيا فرقتي عن عالم الروح ، لما
“ 628 “
كان يُقال” إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ “. ( البقرة ، 2 : 156 ) والمؤمنون يرددون هذه العبارة القرآنية حينما تصيبهم مصيبة، أو يمر بهم ما يذكرهم بالموت ولقاء اللَّه.
( 3944 ) ينسب إلى علي أنه قال :السيف والخنجر وريحاننا * أُف على النرجس والآس
( 3945 ) عُرف علي بالزهد والتقوى . والشاعر يصوره هنا منصرفاً عن جاء الدنيا ، وقد غلبت حياة الروح عنده على متع الجسد .
( 3949 ) شبيه بمعنى هذا البيت قول البوصيري :وراودته الجبال الشمّ من ذهب * عن نفسه فأراها أيما شم
( 3954 ) “ إن متاع الدنيا لا يستطيع أن يصرفنا عن طريق الروح التي أخذنا أنفسنا بالسعي إليها، كما أن جمال الخلق لا يحوّل قلوبنا عن محبة الخالق المبدع “ .
( 3958 ) إن الغرض يلوّن الحقيقة بطابعه في بصيرة الانسان ، كما يحدث حين ينظر المرء إلى نور الشمس من خلال زجاجة ملوّنة .
( 3959 ) “ الزجاجات الملونة “ هنا رمز للأهواء المختلفة التي تصبغ الحقيقة بألوانها . وكسر هذه الزجاجات كناية عن التخلص من تلك الأهواء حتى لا تكون مدعاة لخطأ البصيرة . فالإنسان الذي يتخلص من الغرض والهوى يصدق حكمه على الناس وعلى أفعالهم . وقوله : “ حتى تتبيّن فلا الغبار والرجل “ معناه : “ حتى تتكشف لك حقيقة الرجل الصالح ، فلا تقيس أحواله ، بأحوالك وتحكم عليه من خلال ما غشي بصيرتك من ضباب الشهوات والأهواء “ .
( 3961 ) مثل الذي يستهزيء برجل اللَّه كمثل إبليس الذي نظر إلى ظاهر آدم ، ولم ينظر إلى حقيقة . فهيكل آدم الذي صُنع من الطين خدع إبليس عن حقيقة آدم فاستهان به ، وحسب نفسه خيراً منه .
( 3965 ) الأسد ملك الحيوانات وأقواها يمثل الحس المادي في أقوى صوره ، هذا الحس “ الذي ينشد الصيد والغذاء “ وهما يرمزان هنا إلى
“ 629 “
الحرص واللذة ، أما “ أسد الحقّ “ وهو الرجل الكامل الذي انطلق بروحه نحو خالقه ، فلم يعد للجسد ، بكل لذّاته الحسيّة ، سلطان عليه . وسبيله الذي ينشده هو التحرر الكامل من طغيان الجسد .
( 3973 ) “ السراج “ وصف للرسول جاء في قوله تعالى :” يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً . وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً “.
( 33 : 45 - 46 ) .
( 3979 ) قوله : “ وكسر زجاجة الحبيب لا يكون إلا بحجر الحبيب “ ، معناه أنه لا حق لإنسان في أن يميت إنساناً آخر . فاللَّه وحده هو الذي يميت ، سواه أكان ذلك بفعل مباشر ، أو بأمر واجب الاتباع ، مما نصتّ عليه الشريعة .
( 3984 ) “ السراج الذي يبحث عن العين “ هو الذي يهدي القلوب التي تنشد الهداية . والعبارة كلها كناية عن الرسول . ويؤكد هذا المعنى وصف الشاعر لهذا السراج في الشطر الثاني من البيت بأنه هو الذي أمدّ سراج عليّ بالنور .
فهدْيُ عليّ مقتبسُ من هدي الرسول .
( 3985 ) هديُ الرسول بحر من النور ، وقد كان سبباً في ظهور كل هذه الأفعال النبيلة على يد أتباعه . ومنها سلوك عليّ إزاء ذلك الكافر .
( 3990 ) ذكر بعض الشراح أن الشاعر يشير بهذا البيت إلى حادث معيّن ، أوقف نظم المثنوي عند نهاية الكتاب الأول . والمعروف أن هذا الحادث - على ما يُذكر في سيرة الشاعر - كان وفاة زوجة حسام الدين ، تلميذه المحبوب ، الذي كان يكتب ما يمليه الشاعر من أبيات المثنوي .
ولكني اعقتد أن الشاعر يتناول في هذا البيت أثر المادة على الروح بوجه
“ 630 “
عام . فالتمتع الحسيّ ، يوقف جيشان الفكر وانطلاقه .
( 4001 - 4003 ) يبدو في هذه الأبيات طابع من الحزن ، ولعل الشاعر هنا يشير إلى مأساة تلميذه حسام الدين بفقد زوجته . فهذه المأساة قد عكّرت صفاء التلميذ ، وجعلته غير قادر على المضي مع أُستاذه في العمل .
وهنا رأى الشاعر أن نبع الشعر قد اعتكر ، وأنه لا بدّ من الوقوف عند هذا الحد إلى أن يعود الصفاء من جديد .
(تمت شروح الكتاب الأول من المثنوي )
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin