فتن ومحن في العصر الأول 3
العلماء
والآن أتحدث العلماء، ومهمتهم في هذه الحياة، سواء من ناحية الشعوب التي هم منها، أو من ناحية الحكام الذين هم تحت ظلهم، والمعلوم أن العلماء ليست مهمتهم محصورة في تقديم العلم كوصفات الطبيب، كل وصفة تناسب مرضاً، أو ظرفاً، أو وضعاً، بل العلماء مهمتهم تسيير الأمور نحو اتباع كتاب الله، ولذلك جاءت الآية القرآنية الكريمة: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59].
يقول الزمخشري :: «هم أمراء السرايا، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع اللَّه، ومن عصاني فقد عصى اللَّه، ومن يطع أميري فقد أطاعني ومن يعص أميري فقد عصاني»، وقيل: هم العلماء الدينون الذين يعلمون الناس الدين، ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر»([1]).
ويؤيد هذا ما ذكره البغوي : في تفسيره: «هُمُ الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَعَالِمَ دِينِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ، وَدَلِيلُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ (النِّسَاءِ -83)، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُلَاةُ»([2]).
وعلى هذا كان على العلماء مهمة لا تختلف عن مهمة الأمراء والحاكمين، فلا بد أن يقوموا بأدوارهم، لا لتثبيت عروش، أو نقضها، وإنما لتثبيت حق، قد يكون انتهك، أو ضاع، أو ضعف، أو تصدع، أو إحقاق حق حاول المتطرفون، أو من يسيرون في ركب أعدء الأمة أن يضيّعوه أو يهاجمونه، فعلى العلماء أن لا يتقاعسوا عن هذا العمل، أو هذا الأمر.
ومن هنا جاء التعبير النبوي: عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ - وَهَذَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ - قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ)([3]).
وهنا جاء الحديث دليلاً على العمل الذي على العلماء أن يقوموا به، وليس عملهم هو تبرير الأفعال، أو ما يحكم به الأمراء والولاة، بل الصدع بالحق.
وبما أن كل حكم، مهما كان صالحاً، وعادلاً، ومتّبعاً لدين الله، فلا بد من حدوث بعض الخلل، أو التقصير، أو الخطأ في استعمال بعض الأحكام، فكان لا بد من أناس يصدعون بالحق، ومجابهة المخطئ، أو المسرف في أحكامه، أو الجاهل بالطريق الصحيح، وقد عرف المسلمون كثيراً من هذه الوقفات في عهد الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم على مدى التاريخ الإسلامي، وكيف أن العلماء بناء على مضمون كثير من آيات القرآن الكريم، ومضمون معاني كثير من الأحاديث النبوية حول هذا الموضوع كانوا يتحدثون، ويناقشون مسألة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأخذ على يد من يجنح في المخالفات، أو في التهاون بالأحكام، لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يصدهم عن ذلك سلطة قوية، أو حتى غاشمة، فهذا هو حقهم، وعملهم، وكذلك حق على السلطات أن تتقبل ما يوحهه العلماء لهم من آراء، أو نظرات، أو نقض لبعض ما يحكمون، وألا يسلطوا على العلماء سيف السلطان، وعسفه، وتجبره.
وعلى من يتصدر هذه الأمور أن يعلموا أن الكلمة لها وزن، ولها نتيجة، ولذلك كان الإسلام يطالب الإنسان، أي إنسان أن يزن كلامه، وأن يرى إلى أين يصل، وماذا يهدف، فقد تكون النهاية قاتلة، أو موصلة إلى جهنم، يقول القاضي عياض :: «وقوله [أي النبي صلى الله عليه وسلم]: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يهوى بها في النار)، الحديث: هذا مثل قوله فى الحديث الآخر: (ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت)، وقوله أيضًا: (لا يلقى لها بالاً)، قيل: هى الكلمة يتكلم بها عند سلطان جائر يرضيه بها فيما يسخط الله»([4]).
فهنا الكلمة، أي كلمة تهوي بصاحبها في النار إن كانت في غير محلها، وكما قال الصنعاني : أيضاً: «قوله: (كلمة عدل عند سلطان جائر - أو أمير جائر) - هو شك من الراوي - وإنما كانت أعظم الجهاد، أو فضله على لفظ أبي داود، والنسائي، فإنه عندهما لفظ: (أفضل)؛ لأنه تكلم بحق في موقف لا يؤمَن، وورد الحديث بلفظ: (كان أحب وأفضل) لما فيه من الإعلان بالحق والصدوع به، وإيثار مرضاة الله على مرضاة عباده، والمخاطرة بالنفس لإعلاء كلمة الحق، وإنما كان أفضل من الجهاد بملاقاة الأقران؛ لأنَّ ذلك فيه مظنة الظفر، والغلبة، والسلب، والنفس قوية في الدفع عن دمها بخلاف المتكلم عند السلطان الجائر، فإنَّ بنفسه وماله مخاطرة، وليس فيه شيء مما ذكرناه في ملاقاة الأقران.
وفيه دليل أنَّ أحب الأعمال وأفضلها أشقها على النفس، وأنَّ التعرض للشهادة مع القطع بعدم الغلبة جائز»([5]).
وهنا تعترض العلماء مشكلة بعض الحكام الذين قد لا يتحملون النقد، أو قول الحق، فهل يصدع العلماء بآرائهم، أم يصمتون، فيسلموا، وهل يحق لهم الصمت، وترك قول الحق دون تبيانه للناس، ولكن كل هذه الخلافات تقع بين العلماء، باعتبار أن السلاطين مسلمون، قد ينحرفون، أو يجورون، فماذا يفعل العلماء؟ يقول الإمام ابن الملقن :: «عن طارق بن شهاب أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الجهاد أفضل؟ قال: (كلمة حق عند سلطان جائر).
قلت: واختلف السلف في تأويله - كما قال الطبري.
فقيل: إنه محمول على ما إذا أمن على نفسه القتل، أو أن يلحقه من البلاء ما لا قبل له به، وهو مذهب أسامة بن زيد، وروي عن ابن مسعود، وابن عباس، وحذيفة، وروي عن مطرف بن الشخير أنه قال: والله لو لم يكن لي دين حتى أقوم إلى رجل معه ألف سيف، فأنبذ إليه كلمة فيقتلني، إن ديني إذًا لضيق.
وقيل: الواجب على من رأى منكرًا من ذي سلطان أن ينكره علانية، وكيف أمكنه، روي ذلك عن عمر، وأبيّ، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده).الحديث، وبقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا هابت أمتي أن يقولوا للظالم: يا ظالم فقد تودع منهم).
وقيل: من رأى من سلطانه منكرًا، فالواجب عليه أن ينكره بقلبه فقط، واحتجوا بحديث أم سلمة مرفوعًا: (يستعمل عليكم أمراء بعدي، تعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع)، قالوا: يا رسول الله، أفلا نقاتلهم؟ قال: (لا، ما صلّوا).
والصواب -كما قال الطبري- أن الواجب على كل من رأى منكرًا أن ينكره إذا لم يخف على نفسه عقوبة لا قبل له بها؛ لورود الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة للأئمة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه)، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: (يتعرض من البلاء لما لا يطيق).
فصل:
فإن قلت في حديث أسامة: كيف صار الذي كان يأمرهم وينهاهم معهم في النار، وهو لهم آمرٌ وناهٍ؟ قيل: لم يكونوا أهل طاعته، وإنما كانوا أهل معصيته»([6]).
فنلاحظ هنا تأكيد ابن الملقن : على فكرة أن هؤلاء الحكام عصاة، وليسوا من أهل الكفر، أو أعداء الدين، وهذا ما يجب أن يحذره بعض من يتخذ هذه الأحاديث تكأة لبعض أئمة الكفر، والنفاق، والفجور، وأعداء الدين، ويدافعون عنهم بحجة هذه الروايات، فيصورون أن هذا الدين جاء لاستغلال السلاطين للشعوب، ولاستعبادهم، واضطهادهم، وأنه لا يحق لهم إلا أن يكون طائعين خاضعين، وكأن الإسلام لا علاقة له بتحرير الناس من الظلم، والاضطهاد.
ونتابع ما يقول العلماء هذه الأحاديث التي تدعو إلى قول الحق أما السلاطين المسلمون، الذين قد يقعون في المعاصي، أو الانحراف، أو الظلم، وما على العلماء والعباد أن يقوموا به نحوهم، فيقول المناوي :: «(أحبّ الْجِهَاد) (إِلَى الله كلمة حق) أَي مُوَافق للْوَاقِع بِحَسب مَا يجب، وعَلى قدر مَا يجب فِي الْوَقْت الَّذِي يجب، (تقال لإِمَام) أَي سُلْطَان (جَائِر) أَي ظَالِم؛ لأنّ من جَاهد العدوّ [الكافر] فقد تردّد بَين رَجَاء وَخَوف، وَصَاحب السُّلْطَان [المسلم] إِذا قَالَ الْحق، وَأمر بِالْمَعْرُوفِ، وَنهى عَن الْمُنكر تعرّض للهلاك قطعاً فَهُوَ أفضل»([7]).
ويشرح لنا الإمام ابن عبد البر معنى الجائر كما أورده الزرقاني: «قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْكَلِمَةُ الْأُولَى هِيَ الَّتِي يَقُولُهَا عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، زَادَ ابْنُ بَطَّالٍ: بِالْبَغْيِ، أَوْ بِالسَّعْيِ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَتَكُونُ سَبَبًا لِهَلَاكِهِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْقَائِلُ ذَلِكَ، لَكِنَّهَا رُبَّمَا أَدَّتْ إِلَيْهِ فَيُكْتَبُ عَلَى الْقَائِلِ إِثْمُهَا، وَالْكَلِمَةُ الَّتِي يُرْفَعُ بِهَا الدَّرَجَاتُ، وَيُكْتَبُ بِهَا الرِّضْوَانُ هِيَ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا عَنْ مُسْلِمٍ مَظْلَمَةً، أَوْ يُفَرِّجُ بِهَا عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ يَنْصُرُ بِهَا مَظْلُومًا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: الْأُولَى هِيَ الْكَلِمَةُ عِنْدَ ذِي سُلْطَانٍ يُرْضِيهِ بِهَا فِيمَا يَسْخَطُ اللَّهُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا هُوَ الْغَالِبُ، وَرُبَّمَا كَانَتْ عِنْدَ غَيْرِ السُّلْطَانِ مِمَّنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَلِكَ»([8]).
ويشرح الطيبي الحديث النبوي، ويبين مدلولات ألفاظ الحديث اللغوية، فيقول: «إنما صار ذلك أفضل الجهاد؛ لأن من جاهد العدو كان متردداً بين الرجاء والخوف، لا يدري هل يغلِب، أو يُغلَب، وصاحب السلطان مقهور في يده، فهو إذا قال الحق، وأمره بالمعروف، فقد تعرض للتلف، فصار ذلك أفضل أنواع الجهاد من أجل غلبة الخوف.
وإنما كان أفضل؛ لأن ظلم السلطان يسري في جميع من تحت سياسته، وهو جم غفير، فإذا نهاه عن الظلم، فقد أوصل النفع إلى خلق كثير، بخلاف قتل كافر، قال الشيخ أبو حامد [الغزالي] في الإحياء: الأمر بالمعروف مع السلاطين التعريف والوعظ، وأما المنع والقهر، فليس ذلك لآحاد الرعية؛ لأن ذلك يحرك الفتنة، ويهيج الشر؛ ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر، وأما التخشن في القول كقولك: يا ظالم! يا من لا يخاف الله! وما يجري مجراه، فذلك إن كان يتعدى شره إلى غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز، بل مندوب إليه، فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار، والتصريح بالأنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة؛ لعلهم بأن ذلك جهاد وشهادة»([9]).
وأختم الكلام برأي الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني : في كتابه العظيم فتح الباري: «فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجِبُ مُطْلَقًا، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، رَفَعَهُ: (أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)، وَبِعُمُومِ قَوْلِهِ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ) الْحَدِيثَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ؛ لَكِنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَلْحَقَ الْمُنْكِرَ بَلَاءٌ لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ، مِنْ قَتْلٍ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: يُنْكِرُ بِقَلْبِهِ؛ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا: (يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ بَعْدِي، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ...) الْحَدِيثَ، قَالَ: وَالصَّوَابُ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ: (لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ)، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنْ يَتَعَرَّضَ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ، انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجِبُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ ضَرَرًا، وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ مُتَلَبِّسًا بِالْمَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ يُؤْجَرُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مُطَاعًا، وَأَمَّا إِثْمُهُ الْخَاصُّ بِهِ، فَقَدْ يَغْفِرُهُ اللَّهُ لَهُ، وَقَدْ يُؤَاخِذُهُ بِهِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إِلَّا مَنْ لَيْسَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ الْأَوْلَى فَجَيِّدٌ، وَإلَّا فَيَسْتَلْزِمُ سَدَّ بَابِ الْأَمْرِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ صَارَ الْمَأْمُورُونَ بِالْمَعْرُوفِ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ الْمَذْكُورِ فِي النَّارِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ لَمْ يَمْتَثِلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، فَعُذِّبُوا بِمَعْصِيَتِهِمْ، وَعُذِّبَ أَمِيرُهُمْ بِكَوْنِهِ كَانَ يَفْعَلُ مَا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَفِي الْحَدِيثِ تَعْظِيمُ الْأُمَرَاءِ، وَالْأَدَبِ مَعَهُمْ، وَتَبْلِيغِهِمْ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِمْ، لِيَكُفُّوا وَيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ بِلُطْفٍ، وَحُسْنِ تَأْدِيَةٍ، بِحَيْثُ يَبْلُغُ الْمَقْصُود من غير أذية للْغَيْر»([10]).
وكل ما كتبه هؤلاء العلماء كان عن سلاطين المسلمين، ولذلك كانوا يرون أن بقاء الحكام المسلمين على مكانهم، أفضل من إثارة الناس عليهم، ولكن! أين ما قال العلماء عن طاعة الكافرين، أو الملحدين، أو من تطوعوا لمحاربة الدين وأصحابه، ما موقف هؤلاء العلماء نحو هؤلاء السلاطين؟
يقول الحافظ ابن حجر في فتح الباري: «طَاعَتَهُ [السلطان الجائر] خَيْرٌ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ، وَتَسْكِينِ الدَّهْمَاءِ، وَحُجَّتُهُمْ هَذَا الْخَبَرُ، وَغَيْرُهُ مِمَّا يُسَاعِدُهُ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا وَقَعَ مِنَ السُّلْطَانِ الْكُفْرُ الصَّرِيحُ، فَلَا تَجُوزُ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ، بَلْ تَجِبُ مُجَاهَدَتُهُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا»([11]).
وهنا لا يتكلم عن السلطان الكافر أصالةً، وإنما عن سلطان مسلم ظهر منه كفر صريح، فأوجب مجاهدته وقتاله، وهذا الذي يخفيه كثير من فقهاء هذا الزمان، ويأتون بالنصوص التي تتكلم عن الحاكم المسلم الصالح.
ونرى أن الشوكاني تكلم بأسلوب أوضح في هذه المسألة فقال: «وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْخُرُوجِ عَلَى الظَّلَمَةِ، وَمُنَابَذَتِهِمْ السَّيْفَ، وَمُكَافَحَتِهِمْ بِالْقِتَالِ، بِعُمُومَاتٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَا شَكَّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ [مصنف كتاب المنتقى لابن تيمية الجد] فِي هَذَا الْبَابِ، وَذَكَرْنَاهَا، أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ مُطْلَقًا، وَهِيَ مُتَوَافِرَةُ الْمَعْنَى، كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ أَنَسَةٌ بِعِلْمِ السُّنَّةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَحُطَّ عَلَى مَنْ خَرَجَ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ الْعِتْرَةِ، وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ، فَإِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ أَتْقَى لِلَّهِ وَأَطْوَعُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ»([12]).
وقال القرطبي شارح صحيح مسلم: «جواز غيبة المعلن بفسقه ونفاقه، والأمير الجائر والكافر، وصاحب البدعة، وجواز مداراتهم اتقاء شرهم، لكن ما لم يؤدِ ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى، والفرق بين المداراة والمداهنة، أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين، وهي مباحة ومستحسنة في بعض الأحوال، والمداهنة المذمومة المحرمة: هي بذل الدين لصالح الدنيا» ([13]).
وأخيراً أنقل من رسالة صغيرة لعبد المنعم مصطفى حليمة تجميعاً لهذا الموضوع: فصل الكلام في مسألة الخروج على الإمام: «وقال [أي النبي صلى الله عليه وسلم]: (ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منهم فلا يكوننّ عريفاً، ولا شرطياً، ولا جابياً، ولا خازناً)([14])، وقال: (اسمعوا، هل سمعتم أنه سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه، وليس بوارد عليَّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم، ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني وأنا منه، وهو وارد عليّ الحوض)([15])، وقال: (سيكون أمراء، تعرفون وتنكرون، فمن نابذهم نجا، ومن اعتزلهم سلم، ومن خالطهم هلك) ([16])، وغيرها كثير من الأحاديث التي تحض على اعتزال العمل عن الطواغيت الظالمين، وعلى اجتنابهم.
فإن قيل: الأحاديث الآنفة الذكر خاصة بأمراء الجور؟ أقول: أن تُحمل على أئمة الكفر والطغيان من باب أولى وأوكد، والله تعالى أعلم.
ثالثاً: ألا يعترفوا طواعية بشرعيته، وشرعية حكمه ونظامه، ومن ذلك أن لا يُضفوا عليه العبارات التي تفيد الاعتراف بشرعيته كحاكم على البلاد والعباد ... فإن الأمة لو اجتمعت على ذلك، واتفقت عليه، ولا بد لها من أن تتفق عليه، فإن ذلك مما يعجل من زواله وزوال حكمه عن البلاد والعباد..!»([17]).
وفي السطور الآتية يجد القارئ الكريم صوراً لما ينبغي أن يكون عليه المسلم، وطالب العلم، والعالم، وينظر في هذه الطرق المعروضة أمامه من خلال أحداث التاريخ ، حيث كان العهد بالهدي النبوي قريباً، وحيث يرى شخصيات، وأعلاماً كباراً من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم يعلّمون الناس كيف يكون الأمر عند غياب الحاكم المسلم الذي يريدونه، كما في تصوّرهم، وكيف يجب أن يكون العالم المسلم بين الناس؛ ليقتفي أثر هؤلاء الرهط الذين جنّبوا، أو حاولوا تجنيب الأمة أخطار الفتن، ونتائج المآسي.
وقد سبق الحديث عن أولئك الذين وقعوا في شَرَك الفتن، من القواد والأمراء، وكان الكلام على أحداثهم بشيء من التفصيل، وهي حركات عسكرية، وأما هذا النوع الثاني، فهو من العلماء الذين رأوا أنه لا بد من توجيه الدفة في الحكم، لأنه – برأي عدد منهم – أصبح كسروياً وراثياً، وترك الشورى التي هي أساس تولي الحاكم، فلم يسلّ هؤلاء العلماء سيفاً، ولم يدعوا الناس إلى الثورة، ومحاربة الخلافة، وهؤلاء العلماء ممكن الكلام عنهم على النحو الآتي:
1- فئة اعتزلت الحكام، وعاشت بعيداً عن الأحداث السياسية، واهتموا بتربية الناس، وتعليمهم أمور دينهم، ودنياهم، ولم يقعوا في براثن أهل الفتن .
2- فئة كانت مع الخليفة أو الأمير، وساندت النظام القائم، أو ممكن أن نقول عن هذه الفئة إنها كانت موظفة عندهم، بين قضاة، وولاة، وأئمة، وغير ذلك، دون اهتمام بما قد يكون عن الخليفة أو الوالي نوع من الخطأ، أو الانحراف عن المنهج الصحيح، ولم تذكر أيضاً شيئاً عن محاسن هؤلاء الأمراء، والولاة، والخلفاء، ورفضوا أي محاولة من محاولات النيل من الأمراء والولاة، أو مدحهم، والتزلف لهم، لأنهم يرون أن فعلهم قد يكون إضعافاً لهذه الأمة، وإخراجاً لها من خطها الذي ظهرت معالمه في الجهاد والفتوح.
3- فئة لم تسل سيفاً، أو تنادي بالتحرك ضد الدولة، إلا أنها لم تسكت عما تراه منكراً، بل أنكرته أشد الإنكار، وتحملت تبعة ما نادت به، وهذا هو الأصل الذي يجب أن يكون عند من يريد إعادة الحق.
قبل أن يبدأ الحديث حول هذه الفئات الثلاث، نقول إن خلاف الأمراء لبعض آراء العلماء ليس خطأ دائماً، خصوصاً إذا كان الخلفاء همهم خدمة الإسلام، ونشره، والدعوة له، وليسوا حكاماً اتخذوا غير الإسلام ديناً، ومنهجاً، فهؤلاء الأمراء الأمويون قد يرى بعض العلماء خلاف ما يرون في تسيير أمور الدولة، والأمة، فهناك أمور قد تدعو لها السياسة العامة، أو السياسة الخارجية، أو الداخلية، فينظر لها بعض العلماء من زاويته، بينما يراها الأمراء من زاوية أخرى، وليس بالضرورة أن تكون نظرة العلماء أصح من نظرة الأمراء، وخاصة أن الأمراء في ذلك الوقت كان أكثرهم علماء، ويفهمون نصوص الكتاب والسنة كما يجب أن تُفهم، فالجميع لغتهم واحدة، وفهمهم للنصوص متقارب.
ومثال لهؤلاء الأمراء، ومدى علمهم بالنصوص، وفهمهم لها، ما أورده ابن كثير ؒ عن عمر بن عبد العزيز ؒ عندما أراد الوليد توسعة المسجد النبوي بضم حجر زوجات النبي إلى المسجد النبوي، فجمع عمر، وهو أمير المدينة للوليد، جمع الفقهاء، والعلماء، ووجوه الناس، يقول ابن كثير ؒ:«فَجَمَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْد الْعَزيز وُجُوهَ النَّاس، وَالْفُقَهَاءَ الْعَشَرَةَ، وأهل المدينة، وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين الْوَليد، فَشَقَّ عَلَيْهمْ ذَلكَ.
وَقَالُوا: هَذه حُجَرٌ قَصيرَةُ السُّقُوف، وَسُقُوفُهَا منْ جَريد النَّخْل، وَحيطَانُهَا منَ اللَّبن، وَعَلَى أَبْوَابهَا الْمُسُوحُ، وَتَرْكُهَا عَلَى حَالهَا أَوْلَى ليَنْظُرَ إلَيْهَا الْحُجَّاجُ، وَالزُّوَّارُ، وَالْمُسَافرُونَ، وَإلَى بُيُوت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فَيَنْتَفعُوا بذَلكَ، وَيَعْتَبرُوا به، وَيَكُونَ ذَلكَ أَدْعَى لَهُمْ إلَى الزُّهْد في الدُّنْيَا، فَلَا يُعَمّرُونَ فيهَا إلَّا بقَدْر الْحَاجَة، وَهُوَ مَا يَسْتُرُ وَيُكنُّ، وَيَعْرفُونَ أَنَّ هَذَا الْبُنْيَانَ الْعَاليَ إنَّمَا هُوَ منْ أَفْعَال الْفَرَاعنَة، وَالْأَكَاسرَة، وَكُلّ طَويل الْأَمَل، رَاغبٍ في الدُّنْيَا، وَفي الْخُلُود فيهَا.
فَعنْدَ ذَلكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْد الْعَزيز إلَى الْوَليد بمَا أَجْمَعَ عَلَيْه الْفُقَهَاءُ الْعَشَرَةُ الْمُتَقَدّمُ ذكْرُهُمْ، فَأَرْسَلَ إلَيْه يَأْمُرُهُ بالْخَرَاب، وَبنَاء الْمَسْجد عَلَى مَا ذَكَرَ، وَأَنْ يُعَلّيَ سُقُوفَهُ.
فَلَمْ يَجدْ عُمَرُ بُدًّا منْ هَدْمهَا، وَلَمَّا شَرَعُوا في الْهَدْم، صَاحَ الْأَشْرَافُ، وَوُجُوهُ النَّاس من بنى هاشم وغيرهم، وَتَبَاكَوْا مثْلَ يَوْم مَاتَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأجاب مَنْ لَهُ ملْكٌ مُتَاخمٌ للْمَسْجد للْبَيْع، فَاشْتَرَى منْهُمْ، وَشَرَعَ في بنَائه، وَشَمَّرَ عَنْ إزَاره، واجتهد في ذلك»([18]).
وبعد مضي أربعة عشر قرناً ويزيد، هل هذه التوسعة أولى للمسجد النبوي، وهدم حجرات النبي وضمها للمسجد، رغم وقوف الفقهاء العشرة، وأشراف الناس، وبني هاشم، وكل المسلمين من سكان المدينة، رغم وقوفهم ضدها، وإصرار الخليفة الوليد عبد الملك، أم الأولى ترك هذه التوسعة، وإبقاء الحجرات النبوية؟.
فهل هذه التوسعة بهذه الظروف والملابسات كانت أصلح، وأمثل للأمة، أم رأي الفقهاء، وجمهور أهل المدينة هو الأمثل؟
قد يكون رأي الخليفة، والأمراء أن إبقاء الحجرات النبوية قد يودي بكثير من أفراد الأمة إلى تقديس هذه البيوت، وجعلها أماكن مقدسة، كما حدث في كثير من الأماكن الإسلامية، وعادوا إلى كثير من الوثنيات، والشركيات، والغلو، والتقديس، والخروج عن الحدود الشرعية من هذا الباب.
فيرى الخليفة أن إقفال هذا الباب بتوسعة المسجد النبوي أفضل، وخصوصاً إذا رأينا الآن أن توسعة المسجد النبوي في عصرنا تغطي مساحة المدينة النبوية قبل الإسلام.
ولو أقفل باب التوسعة للمسجد النبوي، وحصره في مساحة الروضة النبوية –على صاحبها أفضل الصلاة والسلام -، لأحس الناس بضيق المسجد، وعدم تحقيقه للتوسعة على الناس.
ولو وافق الخليفة على رأي الفقهاء، وبقيت الحجرات النبوية إلى عصرنا، لرأينا تاريخاً موثقاً ماثلاً أمامنا، لتاريخ مطلع الإسلام، كما نعلم تاريخ الآشوريين، والفينقيين، وغيرهم من شعوب الأرض، حيث آثارهم تدل على وجودهم، وحياتهم في زمن معين، ومثل هذا نراه مثلاً في تاريخ النبي عيسى صلى الله عليه وسلم، حيث نجد آثاراً كثيراً عن مهده، وأماكن حياته.
فهذا مثال من بعض وجوه الخلاف بين العلماء والحكام.
ومثال آخر من مخالفة الولاة لبعض الأحكام الشرعية، وكيف يكون موقف المسلمين منهم:
يقول الصحابي الجليل عُبادة بن الصَّامت قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (إنَّها ستكونُ عليكم بعدي أُمراءُ، تَشغَلُهم أشياءُ عن الصلاة لوَقتها، حتَّى يَذهَبَ وقتُها، فصَلُّوا الصَّلاةَ لوَقتها)، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللَّه، أُصَلّي معهم؟ قال: (نعم، إن شئتَ)، وقال سُفيان: إن أدرَكتُها معهم أُصلّي معهم؟ قال: (نعم، إن شئت)»([19]).
وروى مسلم عَن الأَسْوَد، وَعَلْقَمَةَ قَالاَ: أَتَيْنَا عَبْدَ اللَّه بْنَ مَسْعُودٍ في دَاره، فَقَالَ: أَصَلَّى هَؤُلاَء خَلْفَكُمْ؟ فَقُلْنَا: لاَ، قَالَ: فَقُومُوا فَصَلُّوا، فَلَمْ يَأْمُرْنَا بأَذَانٍ، وَلاَ إقَامَةٍ، قَالَ: وَذَهَبْنَا لنَقُومَ خَلْفَهُ، فَأَخَذَ بأَيْدينَا، فَجَعَلَ أَحَدَنَا عَنْ يَمينه، وَالآخَرَ عَنْ شمَاله، قَالَ: فَلَمَّا رَكَعَ وَضَعْنَا أَيْديَنَا عَلَى رُكَبنَا، قَالَ: فَضَرَبَ أَيْديَنَا، وَطَبَّقَ بَيْنَ كَفَّيْه، ثُمَّ أَدْخَلَهُمَا بَيْنَ فَخذَيْه، قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: (إنَّهُ سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، يُؤَخّرُونَ الصَّلاَةَ عَنْ ميقَاتهَا، وَيَخْنُقُونَهَا إلَى شَرَق الْمَوْتَى، فَإذَا رَأَيْتُمُوهُمْ قَدْ فَعَلُوا ذَلكَ، فَصَلُّوا الصَّلاَةَ لميقَاتهَا، وَاجْعَلُوا صَلاَتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً، وَإذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً، فَصَلُّوا جَميعًا، وَإذَا كُنْتُمْ أَكْثَرَ منْ ذَلكَ، فَلْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، وَإذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَفْرشْ ذرَاعَيْه عَلَى فَخذَيْه، وَلْيَجْنَأْ، وَلْيُطَبّقْ بَيْنَ كَفَّيْه، فَلَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى اخْتلاَف أَصَابع رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَأَرَاهُمْ»([20]).
بعد هذه المقدمة نعود لنعيش مع فئات العلماء، وكيف كانوا مع حكامهم.
أ- فئة اعتزلت:
يمكن القول إن جميع فئات العلماء خلال هذا القرن يجمعها جامع واحد، واتفقت عليه، هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولذلك بعد استعراض الفئتين: الفئة التي اعتزلت الحكام، والفئة التي كانت معهم، سيكون الحديث عن الفئة الثالثة التي لم تترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، نجد أن هذه الفئة فيها من الأولى، والثانية عدد كبير، أي أنهم كلهم اتفقوا على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولكن كل بطريقته.
والفئة التي اعتزلت لها أدلتها في ترك أبواب السلاطين، ولها آراؤها، وعند الحديث عن بيعة يزيد بن معاوية لدى ابن كثير أتى على شيء من آراء هذه الفئة أثناء كلامه على لعن يزيد، فقال: «ذهب إلى الترخيص في لعنة يزيد بن معاوية، وهو رواية عن أحمد بن حنبل، اختارها الخلال، وأبو بكر عبد العزيز، والقاضي أبو يعلى، وابنه القاضي أبو الحسين، وانتصر لذلك أبو الفرج بن الجوزي في مصنف مفرد وجوّز لعنته، ومنع من ذلك آخرون، وصنفوا فيه أيضاً لئلا يجعل لعنه وسيلة إلى أبيه، أو أحد من الصحابة، وحملوا ما صدر عنه من سوء التصرفات على أنه تأول، وأخطأ، وقالوا: إنه كان مع ذلك إماماً فاسقاً، والإمام إذا فسق لا يعزل بمجرد فسقه على أصح قولي العلماء، بل يجوز الخروج عليه لما في ذلك من إثارة الفتنة، ووقوع الهرج، وسفك الدماء الحرام، ونهب الأموال، وفعل الفواحش مع النساء وغيرهن، وغير ذلك مما كل واحدة فيها من الفساد أضعاف فسقه، كما جرى مما تقدم إلى يومنا هذا»([21]).
وهذا أمر غريب من أمثال هذه العلماء، كيف يتوصولون إلى فسق يزيد بسبب روايات التاريخ التي لا سند لها، بينما هناك روايات حديثية لم توافق على هذا الرأي، كما رأينا من ابن عمر، وابن الحنفية رحمهما الله، وغيرهما؟
وما ذكره من أنه يُخشى من لعنه التوصل إلى أبيه، وإلى غيره من الصحابة، ويؤيد صحة هذا الر أي ما نراه عند الروافض، ومن لفّ لفيفهم.
فهذه الأسباب التي جعلت هؤلاء يسكتون، ولا يثورون، وجعلت مثل عمرو البكالي ؒ يقول: ««إذَا أَمَرَكَ الْإمَامُ بالصَّلَاة، وَالزَّكَاة، وَالْجهَاد في سَبيل اللَّه، فَقَدْ حَلَّتْ لَكَ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ، وَحَرُمَ عَلَيْكَ سَبُّهُ»([22]).
ومع كل هذه الأفكار فقد رأى هؤلاء أن عليهم الابتعاد عن أبواب الأمراء، وعدم الاقتراب منهم، فهذا جعفر الصادق ؒ مع أنه لم يسل سيفاً، أو يشرعه في وجه سلطان، ولم يتنقص سلطاناً، أو يطالب بالثورة عليه، طالب باعتزال السلاطين، والابتعاد عن أبوابهم، فروي عنه: «الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُل، فَإذَا رَأَيْتُمُ الْفُقَهَاءَ قَدْ رَكبُوا إلَى السَّلَاطين فَاتَّهمُوهُمْ»([23]).
وهذه الجملة مروية بروايات عدة، ومنهم من رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصح رفعها، واحتج بها كثير من أهل العلم، ونسبتها إلى جعفر بن محمد أو غيره، أولى من نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وابتعاد هذه الفئة عن الحاكم، ونفورها من بابه ليس معناه أنهم تركوه وشأنه يفعل ما يريد، فهم إما سكتوا عنه خوف الفتنة، والإرجاف بين الناس، وإما أنهم لم يتهموه بدينه، والكفر بدين اللَّه، ومع هذه التعليلات لم ينسوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فما رأوه من أمور الناس مخالفاً لما يعرفونه من نصوص نبهوا عليها بحكمة، ولم يسكتوا عنه.
وهذه بعض الروايات حول هؤلاء النفر، مرتبة حسب الترتيب الألفبائي:
1- أسامة بن زيد:
«واعتزل أسامة الفتن بعد قتل عثمان، إلى أن مات في أواخر خلافة معاوية، وكان قد سكن المزة من عمل دمشق، ثم رجع فسكن وادي القرى، ثم نزل إلى المدينة، فمات بها بالجرف»([24]).
2- الأسود بن سريع:
صحابي غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، ونزل البصرة، وقصّ بها([25])، ولما قتل عثمان، ركب الأسود سفينة، وحمل معه أهله وعياله، فانطلق، فما رئي بعد([26]).
3- جرير بن عبد الله البجلي:
أسلم بعد نزول المائدة عندما وفد عَلَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم سَنَة عشر، فأسلم في رمضان، فأكرم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مقدمه، وَكَانَ بديع الجمال، مليح الصورة إلَى الغاية، طويلًا، قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «عَلَى وجهه مسحة مَلَك»، وَرُويَ عَن عمر رضي الله عنه قَالَ: جَريرُ يوسف هَذه الأمة، ولما قتل عثمان اعتزل عليًا وَمُعَاويَة، وأقام بنواحي الجزيرة حتى توفي([27]).
4- الحسن البصري:
أدرك الحسن البصري عدة فتن، وكاد أن يسير في ركاب ابن الأشعث، كما حصل مع سعيد بن جبير ؒ، إلا أنه خرج منها، وتركها.
يروي الإمام ابن كثير ؒ عن أَيُّوب السّخْتيَانيُّ ؒ: «إنَّ الْحَجَّاجَ أَرَادَ قَتْلَ الْحَسَن مرَارًا، فَعَصَمَهُ اللَّهُ منْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ مَعَهُ مُنَاظَرَاتٍ...
عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَكُنْ ممَّنْ يَرَى الْخُرُوجَ عَلَيْه، وَكَانَ يَنْهَى أَصْحَابَ ابْن الْأَشْعَث عَنْ ذَلكَ، وَإنَّمَا خَرَجَ مَعَهُمْ مُكْرَهًا كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: إنَّمَا هُوَ نقْمَةٌ فَلَا تُقَابَلُ نقْمَةُ اللَّه بالسَّيْف، وَعَلَيْكُمْ بالصَّبْر وَالسَّكينَة وَالتَّضَرُّع»([28]).
وفي فتنة يزيد بن المهلب يقول ابن كثيرؒ: «وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْريُّ في هَذه الْأَيَّام يُحَرّضُ النَّاسَ عَلَى الْكَفّ، وَتَرْك الدُّخُول في الْفتْنَة، وَيَنْهَاهُمْ أَشَدَّ النهي، وذلك لما وقع من القتال الطَّويل الْعَريض في أَيَّام ابْن الْأَشْعَث، وَمَا قتل بسبب ذَلكَ منَ النُّفُوس الْعَديدَة، وَجَعَلَ الْحَسَنُ يَخْطُبُ الناس ويعظهم في ذلك، ويأمرهم بالكف»([29]).
وكان مما قال لهم في قتال الحجاج: «أَرَى أَنْ لَا تُقَاتلُوهُ؛ فَإنَّهَا إنْ تَكُنْ عُقُوبَةً منَ اللَّه، فَمَا أَنْتُمْ برَادّي عُقُوبَةَ اللَّه بأَسْيَافكُمْ، وَإنْ يَكُنْ بَلَاءٌ، فَاصْبرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ، وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكمينَ»([30]).
وفي رواية أخرى لابن سعد: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّهُ وَاللَّه مَا سَلَّطَ اللَّهُ الْحَجَّاجَ عَلَيْكُمْ إلَّا عُقُوبَةً، فَلَا تُعَارضُوا عُقُوبَةَ اللَّه بالسَّيْف، وَلَكنْ عَلَيْكُمُ السَّكينَةَ وَالتَّضَرُّعَ»([31]).
وقَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَزيدَ الْعَبْديُّ قَالَ: سَمعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: «لَوْ أَنَّ النَّاسَ إذَا ابْتُلُوا منْ قبَل سُلْطَانهمْ صَبَرُوا مَا لَبثُوا أَنْ يُفْرَجَ عَنْهُمْ، وَلَكنَّهُمْ يَجْزَعُونَ إلَى السَّيْف، فَيُوَكَّلُونَ إلَيْه، فَوَاللَّه مَا جَاؤُوا بيَوْم خَيْرٍ قَطُّ»([32]).
وعندما سئل عن الفتن التي وقعت في عصره، مثل فتنة يزيد بن المهلب، وفتنة محمد بن عبد الرحمن بن الأشعث: «يَا أبا سَعيدٍ، مَا تَقُولُ في الْفتَن، مثْل يَزيدَ بْن الْمُهَلَّب، وَابْن الأَشْعَث؟ فَقَالَ: لا تَكُنْ مَعَ هَؤُلاء، وَلا مَعَ هَؤُلاء»([33]).
وعندما طلبوا منه أن يدخل على الأمراء: «حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ مهْرَانَ قَالَ: قيلَ للْحَسَن: أَلَا تَدْخُلُ عَلَى الْأُمَرَاء، فَتَأْمُرَهُمْ بالْمَعْرُوف، وَتَنْهَاهُمْ عَن الْمُنْكَر؟ قَالَ: لَيْسَ للْمُؤْمن أَنْ يُذلَّ نَفْسَهُ، إنَّ سُيُوفَهُمْ لَتَسْبقُ أَلْسنَتَنَا، إذَا تَكَلَّمْنَا قَالُوا بسُيُوفهمْ هَكَذَا، وَوَصَفَ لَنَا بيَده ضَرْبًا»([34]).
ولذلك كان رأيه الابتعاد عن أبواب السلاطين بقدر الاستطاعة، وكان يوبخ الذين يتزلفون إلى السلطان، فقد «خَرَجَ الْحَسَنُ منْ عنْد ابْن هُبَيْرَةَ، فَإذَا هُوَ بالْقُرَّاء عَلَى الْبَاب، فَقَالَ: «مَا يُجْلسُكُمْ هَاهُنَا؟ تُريدُونَ الدُّخُولَ عَلَى هَؤُلَاء الْخُبَثَاء؟ أَمَا وَاللَّه، مَا مُجَالَسَتُهُمْ بمُجَالَسَة الْأَبْرَار، تَفَرَّقُوا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ أَرْوَاحكُمْ، وَأَجْسَادكُمْ، قَدْ لَقَّحْتُمْ نعَالَكُمْ، وَشَمَّرْتُمْ ثيَابَكُمْ، وَجَزَزْتُمْ شُعُورَكُمْ، فَضَحْتُمُ الْقُرَّاءَ فَضَحَكُمُ اللَّهُ، وَأَمَا وَاللَّه لَوْ زَهَدْتُمْ فيمَا عنْدَهُمْ، لَرَغبُوا فيمَا عنْدَكُمْ، لَكنَّكُمْ رَغبْتُمْ فيمَا عنْدَهُمْ، فَزَهدُوا فيمَا عنْدَكُمْ، أَبْعَدَ اللَّهُ مَنْ أَبْعَدَ»([35]).
وهكذا كان الحسن البصري ؒ، فهو بقدر ما يهرب من أبواب الأمراء، وهم كما نعلم أنهم كانوا من دعاة الإسلام، والمجاهدين في سبيل اللَّه، ويدعو إلى الابتعاد عنهم، إلا أنه كان يمنع من قتالهم، أو القيام عليهم، ويرفض حمل السيف في وجوههم، أو الدعوة للخروج عليهم، لأنه يعتبر هذا من الفتنة التي تدمر الأمة، وتلقي بها في المهالك.
5- حذيفة بن اليمان:
العلماء
والآن أتحدث العلماء، ومهمتهم في هذه الحياة، سواء من ناحية الشعوب التي هم منها، أو من ناحية الحكام الذين هم تحت ظلهم، والمعلوم أن العلماء ليست مهمتهم محصورة في تقديم العلم كوصفات الطبيب، كل وصفة تناسب مرضاً، أو ظرفاً، أو وضعاً، بل العلماء مهمتهم تسيير الأمور نحو اتباع كتاب الله، ولذلك جاءت الآية القرآنية الكريمة: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59].
يقول الزمخشري :: «هم أمراء السرايا، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع اللَّه، ومن عصاني فقد عصى اللَّه، ومن يطع أميري فقد أطاعني ومن يعص أميري فقد عصاني»، وقيل: هم العلماء الدينون الذين يعلمون الناس الدين، ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر»([1]).
ويؤيد هذا ما ذكره البغوي : في تفسيره: «هُمُ الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَعَالِمَ دِينِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ، وَدَلِيلُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ (النِّسَاءِ -83)، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُلَاةُ»([2]).
وعلى هذا كان على العلماء مهمة لا تختلف عن مهمة الأمراء والحاكمين، فلا بد أن يقوموا بأدوارهم، لا لتثبيت عروش، أو نقضها، وإنما لتثبيت حق، قد يكون انتهك، أو ضاع، أو ضعف، أو تصدع، أو إحقاق حق حاول المتطرفون، أو من يسيرون في ركب أعدء الأمة أن يضيّعوه أو يهاجمونه، فعلى العلماء أن لا يتقاعسوا عن هذا العمل، أو هذا الأمر.
ومن هنا جاء التعبير النبوي: عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ - وَهَذَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ - قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ)([3]).
وهنا جاء الحديث دليلاً على العمل الذي على العلماء أن يقوموا به، وليس عملهم هو تبرير الأفعال، أو ما يحكم به الأمراء والولاة، بل الصدع بالحق.
وبما أن كل حكم، مهما كان صالحاً، وعادلاً، ومتّبعاً لدين الله، فلا بد من حدوث بعض الخلل، أو التقصير، أو الخطأ في استعمال بعض الأحكام، فكان لا بد من أناس يصدعون بالحق، ومجابهة المخطئ، أو المسرف في أحكامه، أو الجاهل بالطريق الصحيح، وقد عرف المسلمون كثيراً من هذه الوقفات في عهد الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم على مدى التاريخ الإسلامي، وكيف أن العلماء بناء على مضمون كثير من آيات القرآن الكريم، ومضمون معاني كثير من الأحاديث النبوية حول هذا الموضوع كانوا يتحدثون، ويناقشون مسألة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأخذ على يد من يجنح في المخالفات، أو في التهاون بالأحكام، لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يصدهم عن ذلك سلطة قوية، أو حتى غاشمة، فهذا هو حقهم، وعملهم، وكذلك حق على السلطات أن تتقبل ما يوحهه العلماء لهم من آراء، أو نظرات، أو نقض لبعض ما يحكمون، وألا يسلطوا على العلماء سيف السلطان، وعسفه، وتجبره.
وعلى من يتصدر هذه الأمور أن يعلموا أن الكلمة لها وزن، ولها نتيجة، ولذلك كان الإسلام يطالب الإنسان، أي إنسان أن يزن كلامه، وأن يرى إلى أين يصل، وماذا يهدف، فقد تكون النهاية قاتلة، أو موصلة إلى جهنم، يقول القاضي عياض :: «وقوله [أي النبي صلى الله عليه وسلم]: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يهوى بها في النار)، الحديث: هذا مثل قوله فى الحديث الآخر: (ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت)، وقوله أيضًا: (لا يلقى لها بالاً)، قيل: هى الكلمة يتكلم بها عند سلطان جائر يرضيه بها فيما يسخط الله»([4]).
فهنا الكلمة، أي كلمة تهوي بصاحبها في النار إن كانت في غير محلها، وكما قال الصنعاني : أيضاً: «قوله: (كلمة عدل عند سلطان جائر - أو أمير جائر) - هو شك من الراوي - وإنما كانت أعظم الجهاد، أو فضله على لفظ أبي داود، والنسائي، فإنه عندهما لفظ: (أفضل)؛ لأنه تكلم بحق في موقف لا يؤمَن، وورد الحديث بلفظ: (كان أحب وأفضل) لما فيه من الإعلان بالحق والصدوع به، وإيثار مرضاة الله على مرضاة عباده، والمخاطرة بالنفس لإعلاء كلمة الحق، وإنما كان أفضل من الجهاد بملاقاة الأقران؛ لأنَّ ذلك فيه مظنة الظفر، والغلبة، والسلب، والنفس قوية في الدفع عن دمها بخلاف المتكلم عند السلطان الجائر، فإنَّ بنفسه وماله مخاطرة، وليس فيه شيء مما ذكرناه في ملاقاة الأقران.
وفيه دليل أنَّ أحب الأعمال وأفضلها أشقها على النفس، وأنَّ التعرض للشهادة مع القطع بعدم الغلبة جائز»([5]).
وهنا تعترض العلماء مشكلة بعض الحكام الذين قد لا يتحملون النقد، أو قول الحق، فهل يصدع العلماء بآرائهم، أم يصمتون، فيسلموا، وهل يحق لهم الصمت، وترك قول الحق دون تبيانه للناس، ولكن كل هذه الخلافات تقع بين العلماء، باعتبار أن السلاطين مسلمون، قد ينحرفون، أو يجورون، فماذا يفعل العلماء؟ يقول الإمام ابن الملقن :: «عن طارق بن شهاب أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الجهاد أفضل؟ قال: (كلمة حق عند سلطان جائر).
قلت: واختلف السلف في تأويله - كما قال الطبري.
فقيل: إنه محمول على ما إذا أمن على نفسه القتل، أو أن يلحقه من البلاء ما لا قبل له به، وهو مذهب أسامة بن زيد، وروي عن ابن مسعود، وابن عباس، وحذيفة، وروي عن مطرف بن الشخير أنه قال: والله لو لم يكن لي دين حتى أقوم إلى رجل معه ألف سيف، فأنبذ إليه كلمة فيقتلني، إن ديني إذًا لضيق.
وقيل: الواجب على من رأى منكرًا من ذي سلطان أن ينكره علانية، وكيف أمكنه، روي ذلك عن عمر، وأبيّ، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده).الحديث، وبقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا هابت أمتي أن يقولوا للظالم: يا ظالم فقد تودع منهم).
وقيل: من رأى من سلطانه منكرًا، فالواجب عليه أن ينكره بقلبه فقط، واحتجوا بحديث أم سلمة مرفوعًا: (يستعمل عليكم أمراء بعدي، تعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع)، قالوا: يا رسول الله، أفلا نقاتلهم؟ قال: (لا، ما صلّوا).
والصواب -كما قال الطبري- أن الواجب على كل من رأى منكرًا أن ينكره إذا لم يخف على نفسه عقوبة لا قبل له بها؛ لورود الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة للأئمة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه)، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: (يتعرض من البلاء لما لا يطيق).
فصل:
فإن قلت في حديث أسامة: كيف صار الذي كان يأمرهم وينهاهم معهم في النار، وهو لهم آمرٌ وناهٍ؟ قيل: لم يكونوا أهل طاعته، وإنما كانوا أهل معصيته»([6]).
فنلاحظ هنا تأكيد ابن الملقن : على فكرة أن هؤلاء الحكام عصاة، وليسوا من أهل الكفر، أو أعداء الدين، وهذا ما يجب أن يحذره بعض من يتخذ هذه الأحاديث تكأة لبعض أئمة الكفر، والنفاق، والفجور، وأعداء الدين، ويدافعون عنهم بحجة هذه الروايات، فيصورون أن هذا الدين جاء لاستغلال السلاطين للشعوب، ولاستعبادهم، واضطهادهم، وأنه لا يحق لهم إلا أن يكون طائعين خاضعين، وكأن الإسلام لا علاقة له بتحرير الناس من الظلم، والاضطهاد.
ونتابع ما يقول العلماء هذه الأحاديث التي تدعو إلى قول الحق أما السلاطين المسلمون، الذين قد يقعون في المعاصي، أو الانحراف، أو الظلم، وما على العلماء والعباد أن يقوموا به نحوهم، فيقول المناوي :: «(أحبّ الْجِهَاد) (إِلَى الله كلمة حق) أَي مُوَافق للْوَاقِع بِحَسب مَا يجب، وعَلى قدر مَا يجب فِي الْوَقْت الَّذِي يجب، (تقال لإِمَام) أَي سُلْطَان (جَائِر) أَي ظَالِم؛ لأنّ من جَاهد العدوّ [الكافر] فقد تردّد بَين رَجَاء وَخَوف، وَصَاحب السُّلْطَان [المسلم] إِذا قَالَ الْحق، وَأمر بِالْمَعْرُوفِ، وَنهى عَن الْمُنكر تعرّض للهلاك قطعاً فَهُوَ أفضل»([7]).
ويشرح لنا الإمام ابن عبد البر معنى الجائر كما أورده الزرقاني: «قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْكَلِمَةُ الْأُولَى هِيَ الَّتِي يَقُولُهَا عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، زَادَ ابْنُ بَطَّالٍ: بِالْبَغْيِ، أَوْ بِالسَّعْيِ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَتَكُونُ سَبَبًا لِهَلَاكِهِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْقَائِلُ ذَلِكَ، لَكِنَّهَا رُبَّمَا أَدَّتْ إِلَيْهِ فَيُكْتَبُ عَلَى الْقَائِلِ إِثْمُهَا، وَالْكَلِمَةُ الَّتِي يُرْفَعُ بِهَا الدَّرَجَاتُ، وَيُكْتَبُ بِهَا الرِّضْوَانُ هِيَ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا عَنْ مُسْلِمٍ مَظْلَمَةً، أَوْ يُفَرِّجُ بِهَا عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ يَنْصُرُ بِهَا مَظْلُومًا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: الْأُولَى هِيَ الْكَلِمَةُ عِنْدَ ذِي سُلْطَانٍ يُرْضِيهِ بِهَا فِيمَا يَسْخَطُ اللَّهُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا هُوَ الْغَالِبُ، وَرُبَّمَا كَانَتْ عِنْدَ غَيْرِ السُّلْطَانِ مِمَّنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَلِكَ»([8]).
ويشرح الطيبي الحديث النبوي، ويبين مدلولات ألفاظ الحديث اللغوية، فيقول: «إنما صار ذلك أفضل الجهاد؛ لأن من جاهد العدو كان متردداً بين الرجاء والخوف، لا يدري هل يغلِب، أو يُغلَب، وصاحب السلطان مقهور في يده، فهو إذا قال الحق، وأمره بالمعروف، فقد تعرض للتلف، فصار ذلك أفضل أنواع الجهاد من أجل غلبة الخوف.
وإنما كان أفضل؛ لأن ظلم السلطان يسري في جميع من تحت سياسته، وهو جم غفير، فإذا نهاه عن الظلم، فقد أوصل النفع إلى خلق كثير، بخلاف قتل كافر، قال الشيخ أبو حامد [الغزالي] في الإحياء: الأمر بالمعروف مع السلاطين التعريف والوعظ، وأما المنع والقهر، فليس ذلك لآحاد الرعية؛ لأن ذلك يحرك الفتنة، ويهيج الشر؛ ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر، وأما التخشن في القول كقولك: يا ظالم! يا من لا يخاف الله! وما يجري مجراه، فذلك إن كان يتعدى شره إلى غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز، بل مندوب إليه، فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار، والتصريح بالأنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة؛ لعلهم بأن ذلك جهاد وشهادة»([9]).
وأختم الكلام برأي الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني : في كتابه العظيم فتح الباري: «فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجِبُ مُطْلَقًا، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، رَفَعَهُ: (أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)، وَبِعُمُومِ قَوْلِهِ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ) الْحَدِيثَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ؛ لَكِنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَلْحَقَ الْمُنْكِرَ بَلَاءٌ لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ، مِنْ قَتْلٍ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: يُنْكِرُ بِقَلْبِهِ؛ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا: (يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ بَعْدِي، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ...) الْحَدِيثَ، قَالَ: وَالصَّوَابُ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ: (لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ)، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنْ يَتَعَرَّضَ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ، انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجِبُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ ضَرَرًا، وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ مُتَلَبِّسًا بِالْمَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ يُؤْجَرُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مُطَاعًا، وَأَمَّا إِثْمُهُ الْخَاصُّ بِهِ، فَقَدْ يَغْفِرُهُ اللَّهُ لَهُ، وَقَدْ يُؤَاخِذُهُ بِهِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إِلَّا مَنْ لَيْسَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ الْأَوْلَى فَجَيِّدٌ، وَإلَّا فَيَسْتَلْزِمُ سَدَّ بَابِ الْأَمْرِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ صَارَ الْمَأْمُورُونَ بِالْمَعْرُوفِ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ الْمَذْكُورِ فِي النَّارِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ لَمْ يَمْتَثِلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، فَعُذِّبُوا بِمَعْصِيَتِهِمْ، وَعُذِّبَ أَمِيرُهُمْ بِكَوْنِهِ كَانَ يَفْعَلُ مَا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَفِي الْحَدِيثِ تَعْظِيمُ الْأُمَرَاءِ، وَالْأَدَبِ مَعَهُمْ، وَتَبْلِيغِهِمْ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِمْ، لِيَكُفُّوا وَيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ بِلُطْفٍ، وَحُسْنِ تَأْدِيَةٍ، بِحَيْثُ يَبْلُغُ الْمَقْصُود من غير أذية للْغَيْر»([10]).
وكل ما كتبه هؤلاء العلماء كان عن سلاطين المسلمين، ولذلك كانوا يرون أن بقاء الحكام المسلمين على مكانهم، أفضل من إثارة الناس عليهم، ولكن! أين ما قال العلماء عن طاعة الكافرين، أو الملحدين، أو من تطوعوا لمحاربة الدين وأصحابه، ما موقف هؤلاء العلماء نحو هؤلاء السلاطين؟
يقول الحافظ ابن حجر في فتح الباري: «طَاعَتَهُ [السلطان الجائر] خَيْرٌ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ، وَتَسْكِينِ الدَّهْمَاءِ، وَحُجَّتُهُمْ هَذَا الْخَبَرُ، وَغَيْرُهُ مِمَّا يُسَاعِدُهُ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا وَقَعَ مِنَ السُّلْطَانِ الْكُفْرُ الصَّرِيحُ، فَلَا تَجُوزُ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ، بَلْ تَجِبُ مُجَاهَدَتُهُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا»([11]).
وهنا لا يتكلم عن السلطان الكافر أصالةً، وإنما عن سلطان مسلم ظهر منه كفر صريح، فأوجب مجاهدته وقتاله، وهذا الذي يخفيه كثير من فقهاء هذا الزمان، ويأتون بالنصوص التي تتكلم عن الحاكم المسلم الصالح.
ونرى أن الشوكاني تكلم بأسلوب أوضح في هذه المسألة فقال: «وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْخُرُوجِ عَلَى الظَّلَمَةِ، وَمُنَابَذَتِهِمْ السَّيْفَ، وَمُكَافَحَتِهِمْ بِالْقِتَالِ، بِعُمُومَاتٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَا شَكَّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ [مصنف كتاب المنتقى لابن تيمية الجد] فِي هَذَا الْبَابِ، وَذَكَرْنَاهَا، أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ مُطْلَقًا، وَهِيَ مُتَوَافِرَةُ الْمَعْنَى، كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ أَنَسَةٌ بِعِلْمِ السُّنَّةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَحُطَّ عَلَى مَنْ خَرَجَ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ الْعِتْرَةِ، وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ، فَإِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ أَتْقَى لِلَّهِ وَأَطْوَعُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ»([12]).
وقال القرطبي شارح صحيح مسلم: «جواز غيبة المعلن بفسقه ونفاقه، والأمير الجائر والكافر، وصاحب البدعة، وجواز مداراتهم اتقاء شرهم، لكن ما لم يؤدِ ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى، والفرق بين المداراة والمداهنة، أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين، وهي مباحة ومستحسنة في بعض الأحوال، والمداهنة المذمومة المحرمة: هي بذل الدين لصالح الدنيا» ([13]).
وأخيراً أنقل من رسالة صغيرة لعبد المنعم مصطفى حليمة تجميعاً لهذا الموضوع: فصل الكلام في مسألة الخروج على الإمام: «وقال [أي النبي صلى الله عليه وسلم]: (ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منهم فلا يكوننّ عريفاً، ولا شرطياً، ولا جابياً، ولا خازناً)([14])، وقال: (اسمعوا، هل سمعتم أنه سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه، وليس بوارد عليَّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم، ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني وأنا منه، وهو وارد عليّ الحوض)([15])، وقال: (سيكون أمراء، تعرفون وتنكرون، فمن نابذهم نجا، ومن اعتزلهم سلم، ومن خالطهم هلك) ([16])، وغيرها كثير من الأحاديث التي تحض على اعتزال العمل عن الطواغيت الظالمين، وعلى اجتنابهم.
فإن قيل: الأحاديث الآنفة الذكر خاصة بأمراء الجور؟ أقول: أن تُحمل على أئمة الكفر والطغيان من باب أولى وأوكد، والله تعالى أعلم.
ثالثاً: ألا يعترفوا طواعية بشرعيته، وشرعية حكمه ونظامه، ومن ذلك أن لا يُضفوا عليه العبارات التي تفيد الاعتراف بشرعيته كحاكم على البلاد والعباد ... فإن الأمة لو اجتمعت على ذلك، واتفقت عليه، ولا بد لها من أن تتفق عليه، فإن ذلك مما يعجل من زواله وزوال حكمه عن البلاد والعباد..!»([17]).
وفي السطور الآتية يجد القارئ الكريم صوراً لما ينبغي أن يكون عليه المسلم، وطالب العلم، والعالم، وينظر في هذه الطرق المعروضة أمامه من خلال أحداث التاريخ ، حيث كان العهد بالهدي النبوي قريباً، وحيث يرى شخصيات، وأعلاماً كباراً من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم يعلّمون الناس كيف يكون الأمر عند غياب الحاكم المسلم الذي يريدونه، كما في تصوّرهم، وكيف يجب أن يكون العالم المسلم بين الناس؛ ليقتفي أثر هؤلاء الرهط الذين جنّبوا، أو حاولوا تجنيب الأمة أخطار الفتن، ونتائج المآسي.
وقد سبق الحديث عن أولئك الذين وقعوا في شَرَك الفتن، من القواد والأمراء، وكان الكلام على أحداثهم بشيء من التفصيل، وهي حركات عسكرية، وأما هذا النوع الثاني، فهو من العلماء الذين رأوا أنه لا بد من توجيه الدفة في الحكم، لأنه – برأي عدد منهم – أصبح كسروياً وراثياً، وترك الشورى التي هي أساس تولي الحاكم، فلم يسلّ هؤلاء العلماء سيفاً، ولم يدعوا الناس إلى الثورة، ومحاربة الخلافة، وهؤلاء العلماء ممكن الكلام عنهم على النحو الآتي:
1- فئة اعتزلت الحكام، وعاشت بعيداً عن الأحداث السياسية، واهتموا بتربية الناس، وتعليمهم أمور دينهم، ودنياهم، ولم يقعوا في براثن أهل الفتن .
2- فئة كانت مع الخليفة أو الأمير، وساندت النظام القائم، أو ممكن أن نقول عن هذه الفئة إنها كانت موظفة عندهم، بين قضاة، وولاة، وأئمة، وغير ذلك، دون اهتمام بما قد يكون عن الخليفة أو الوالي نوع من الخطأ، أو الانحراف عن المنهج الصحيح، ولم تذكر أيضاً شيئاً عن محاسن هؤلاء الأمراء، والولاة، والخلفاء، ورفضوا أي محاولة من محاولات النيل من الأمراء والولاة، أو مدحهم، والتزلف لهم، لأنهم يرون أن فعلهم قد يكون إضعافاً لهذه الأمة، وإخراجاً لها من خطها الذي ظهرت معالمه في الجهاد والفتوح.
3- فئة لم تسل سيفاً، أو تنادي بالتحرك ضد الدولة، إلا أنها لم تسكت عما تراه منكراً، بل أنكرته أشد الإنكار، وتحملت تبعة ما نادت به، وهذا هو الأصل الذي يجب أن يكون عند من يريد إعادة الحق.
قبل أن يبدأ الحديث حول هذه الفئات الثلاث، نقول إن خلاف الأمراء لبعض آراء العلماء ليس خطأ دائماً، خصوصاً إذا كان الخلفاء همهم خدمة الإسلام، ونشره، والدعوة له، وليسوا حكاماً اتخذوا غير الإسلام ديناً، ومنهجاً، فهؤلاء الأمراء الأمويون قد يرى بعض العلماء خلاف ما يرون في تسيير أمور الدولة، والأمة، فهناك أمور قد تدعو لها السياسة العامة، أو السياسة الخارجية، أو الداخلية، فينظر لها بعض العلماء من زاويته، بينما يراها الأمراء من زاوية أخرى، وليس بالضرورة أن تكون نظرة العلماء أصح من نظرة الأمراء، وخاصة أن الأمراء في ذلك الوقت كان أكثرهم علماء، ويفهمون نصوص الكتاب والسنة كما يجب أن تُفهم، فالجميع لغتهم واحدة، وفهمهم للنصوص متقارب.
ومثال لهؤلاء الأمراء، ومدى علمهم بالنصوص، وفهمهم لها، ما أورده ابن كثير ؒ عن عمر بن عبد العزيز ؒ عندما أراد الوليد توسعة المسجد النبوي بضم حجر زوجات النبي إلى المسجد النبوي، فجمع عمر، وهو أمير المدينة للوليد، جمع الفقهاء، والعلماء، ووجوه الناس، يقول ابن كثير ؒ:«فَجَمَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْد الْعَزيز وُجُوهَ النَّاس، وَالْفُقَهَاءَ الْعَشَرَةَ، وأهل المدينة، وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين الْوَليد، فَشَقَّ عَلَيْهمْ ذَلكَ.
وَقَالُوا: هَذه حُجَرٌ قَصيرَةُ السُّقُوف، وَسُقُوفُهَا منْ جَريد النَّخْل، وَحيطَانُهَا منَ اللَّبن، وَعَلَى أَبْوَابهَا الْمُسُوحُ، وَتَرْكُهَا عَلَى حَالهَا أَوْلَى ليَنْظُرَ إلَيْهَا الْحُجَّاجُ، وَالزُّوَّارُ، وَالْمُسَافرُونَ، وَإلَى بُيُوت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فَيَنْتَفعُوا بذَلكَ، وَيَعْتَبرُوا به، وَيَكُونَ ذَلكَ أَدْعَى لَهُمْ إلَى الزُّهْد في الدُّنْيَا، فَلَا يُعَمّرُونَ فيهَا إلَّا بقَدْر الْحَاجَة، وَهُوَ مَا يَسْتُرُ وَيُكنُّ، وَيَعْرفُونَ أَنَّ هَذَا الْبُنْيَانَ الْعَاليَ إنَّمَا هُوَ منْ أَفْعَال الْفَرَاعنَة، وَالْأَكَاسرَة، وَكُلّ طَويل الْأَمَل، رَاغبٍ في الدُّنْيَا، وَفي الْخُلُود فيهَا.
فَعنْدَ ذَلكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْد الْعَزيز إلَى الْوَليد بمَا أَجْمَعَ عَلَيْه الْفُقَهَاءُ الْعَشَرَةُ الْمُتَقَدّمُ ذكْرُهُمْ، فَأَرْسَلَ إلَيْه يَأْمُرُهُ بالْخَرَاب، وَبنَاء الْمَسْجد عَلَى مَا ذَكَرَ، وَأَنْ يُعَلّيَ سُقُوفَهُ.
فَلَمْ يَجدْ عُمَرُ بُدًّا منْ هَدْمهَا، وَلَمَّا شَرَعُوا في الْهَدْم، صَاحَ الْأَشْرَافُ، وَوُجُوهُ النَّاس من بنى هاشم وغيرهم، وَتَبَاكَوْا مثْلَ يَوْم مَاتَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأجاب مَنْ لَهُ ملْكٌ مُتَاخمٌ للْمَسْجد للْبَيْع، فَاشْتَرَى منْهُمْ، وَشَرَعَ في بنَائه، وَشَمَّرَ عَنْ إزَاره، واجتهد في ذلك»([18]).
وبعد مضي أربعة عشر قرناً ويزيد، هل هذه التوسعة أولى للمسجد النبوي، وهدم حجرات النبي وضمها للمسجد، رغم وقوف الفقهاء العشرة، وأشراف الناس، وبني هاشم، وكل المسلمين من سكان المدينة، رغم وقوفهم ضدها، وإصرار الخليفة الوليد عبد الملك، أم الأولى ترك هذه التوسعة، وإبقاء الحجرات النبوية؟.
فهل هذه التوسعة بهذه الظروف والملابسات كانت أصلح، وأمثل للأمة، أم رأي الفقهاء، وجمهور أهل المدينة هو الأمثل؟
قد يكون رأي الخليفة، والأمراء أن إبقاء الحجرات النبوية قد يودي بكثير من أفراد الأمة إلى تقديس هذه البيوت، وجعلها أماكن مقدسة، كما حدث في كثير من الأماكن الإسلامية، وعادوا إلى كثير من الوثنيات، والشركيات، والغلو، والتقديس، والخروج عن الحدود الشرعية من هذا الباب.
فيرى الخليفة أن إقفال هذا الباب بتوسعة المسجد النبوي أفضل، وخصوصاً إذا رأينا الآن أن توسعة المسجد النبوي في عصرنا تغطي مساحة المدينة النبوية قبل الإسلام.
ولو أقفل باب التوسعة للمسجد النبوي، وحصره في مساحة الروضة النبوية –على صاحبها أفضل الصلاة والسلام -، لأحس الناس بضيق المسجد، وعدم تحقيقه للتوسعة على الناس.
ولو وافق الخليفة على رأي الفقهاء، وبقيت الحجرات النبوية إلى عصرنا، لرأينا تاريخاً موثقاً ماثلاً أمامنا، لتاريخ مطلع الإسلام، كما نعلم تاريخ الآشوريين، والفينقيين، وغيرهم من شعوب الأرض، حيث آثارهم تدل على وجودهم، وحياتهم في زمن معين، ومثل هذا نراه مثلاً في تاريخ النبي عيسى صلى الله عليه وسلم، حيث نجد آثاراً كثيراً عن مهده، وأماكن حياته.
فهذا مثال من بعض وجوه الخلاف بين العلماء والحكام.
ومثال آخر من مخالفة الولاة لبعض الأحكام الشرعية، وكيف يكون موقف المسلمين منهم:
يقول الصحابي الجليل عُبادة بن الصَّامت قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (إنَّها ستكونُ عليكم بعدي أُمراءُ، تَشغَلُهم أشياءُ عن الصلاة لوَقتها، حتَّى يَذهَبَ وقتُها، فصَلُّوا الصَّلاةَ لوَقتها)، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللَّه، أُصَلّي معهم؟ قال: (نعم، إن شئتَ)، وقال سُفيان: إن أدرَكتُها معهم أُصلّي معهم؟ قال: (نعم، إن شئت)»([19]).
وروى مسلم عَن الأَسْوَد، وَعَلْقَمَةَ قَالاَ: أَتَيْنَا عَبْدَ اللَّه بْنَ مَسْعُودٍ في دَاره، فَقَالَ: أَصَلَّى هَؤُلاَء خَلْفَكُمْ؟ فَقُلْنَا: لاَ، قَالَ: فَقُومُوا فَصَلُّوا، فَلَمْ يَأْمُرْنَا بأَذَانٍ، وَلاَ إقَامَةٍ، قَالَ: وَذَهَبْنَا لنَقُومَ خَلْفَهُ، فَأَخَذَ بأَيْدينَا، فَجَعَلَ أَحَدَنَا عَنْ يَمينه، وَالآخَرَ عَنْ شمَاله، قَالَ: فَلَمَّا رَكَعَ وَضَعْنَا أَيْديَنَا عَلَى رُكَبنَا، قَالَ: فَضَرَبَ أَيْديَنَا، وَطَبَّقَ بَيْنَ كَفَّيْه، ثُمَّ أَدْخَلَهُمَا بَيْنَ فَخذَيْه، قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: (إنَّهُ سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، يُؤَخّرُونَ الصَّلاَةَ عَنْ ميقَاتهَا، وَيَخْنُقُونَهَا إلَى شَرَق الْمَوْتَى، فَإذَا رَأَيْتُمُوهُمْ قَدْ فَعَلُوا ذَلكَ، فَصَلُّوا الصَّلاَةَ لميقَاتهَا، وَاجْعَلُوا صَلاَتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً، وَإذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً، فَصَلُّوا جَميعًا، وَإذَا كُنْتُمْ أَكْثَرَ منْ ذَلكَ، فَلْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، وَإذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَفْرشْ ذرَاعَيْه عَلَى فَخذَيْه، وَلْيَجْنَأْ، وَلْيُطَبّقْ بَيْنَ كَفَّيْه، فَلَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى اخْتلاَف أَصَابع رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَأَرَاهُمْ»([20]).
بعد هذه المقدمة نعود لنعيش مع فئات العلماء، وكيف كانوا مع حكامهم.
أ- فئة اعتزلت:
يمكن القول إن جميع فئات العلماء خلال هذا القرن يجمعها جامع واحد، واتفقت عليه، هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولذلك بعد استعراض الفئتين: الفئة التي اعتزلت الحكام، والفئة التي كانت معهم، سيكون الحديث عن الفئة الثالثة التي لم تترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، نجد أن هذه الفئة فيها من الأولى، والثانية عدد كبير، أي أنهم كلهم اتفقوا على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولكن كل بطريقته.
والفئة التي اعتزلت لها أدلتها في ترك أبواب السلاطين، ولها آراؤها، وعند الحديث عن بيعة يزيد بن معاوية لدى ابن كثير أتى على شيء من آراء هذه الفئة أثناء كلامه على لعن يزيد، فقال: «ذهب إلى الترخيص في لعنة يزيد بن معاوية، وهو رواية عن أحمد بن حنبل، اختارها الخلال، وأبو بكر عبد العزيز، والقاضي أبو يعلى، وابنه القاضي أبو الحسين، وانتصر لذلك أبو الفرج بن الجوزي في مصنف مفرد وجوّز لعنته، ومنع من ذلك آخرون، وصنفوا فيه أيضاً لئلا يجعل لعنه وسيلة إلى أبيه، أو أحد من الصحابة، وحملوا ما صدر عنه من سوء التصرفات على أنه تأول، وأخطأ، وقالوا: إنه كان مع ذلك إماماً فاسقاً، والإمام إذا فسق لا يعزل بمجرد فسقه على أصح قولي العلماء، بل يجوز الخروج عليه لما في ذلك من إثارة الفتنة، ووقوع الهرج، وسفك الدماء الحرام، ونهب الأموال، وفعل الفواحش مع النساء وغيرهن، وغير ذلك مما كل واحدة فيها من الفساد أضعاف فسقه، كما جرى مما تقدم إلى يومنا هذا»([21]).
وهذا أمر غريب من أمثال هذه العلماء، كيف يتوصولون إلى فسق يزيد بسبب روايات التاريخ التي لا سند لها، بينما هناك روايات حديثية لم توافق على هذا الرأي، كما رأينا من ابن عمر، وابن الحنفية رحمهما الله، وغيرهما؟
وما ذكره من أنه يُخشى من لعنه التوصل إلى أبيه، وإلى غيره من الصحابة، ويؤيد صحة هذا الر أي ما نراه عند الروافض، ومن لفّ لفيفهم.
فهذه الأسباب التي جعلت هؤلاء يسكتون، ولا يثورون، وجعلت مثل عمرو البكالي ؒ يقول: ««إذَا أَمَرَكَ الْإمَامُ بالصَّلَاة، وَالزَّكَاة، وَالْجهَاد في سَبيل اللَّه، فَقَدْ حَلَّتْ لَكَ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ، وَحَرُمَ عَلَيْكَ سَبُّهُ»([22]).
ومع كل هذه الأفكار فقد رأى هؤلاء أن عليهم الابتعاد عن أبواب الأمراء، وعدم الاقتراب منهم، فهذا جعفر الصادق ؒ مع أنه لم يسل سيفاً، أو يشرعه في وجه سلطان، ولم يتنقص سلطاناً، أو يطالب بالثورة عليه، طالب باعتزال السلاطين، والابتعاد عن أبوابهم، فروي عنه: «الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُل، فَإذَا رَأَيْتُمُ الْفُقَهَاءَ قَدْ رَكبُوا إلَى السَّلَاطين فَاتَّهمُوهُمْ»([23]).
وهذه الجملة مروية بروايات عدة، ومنهم من رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصح رفعها، واحتج بها كثير من أهل العلم، ونسبتها إلى جعفر بن محمد أو غيره، أولى من نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وابتعاد هذه الفئة عن الحاكم، ونفورها من بابه ليس معناه أنهم تركوه وشأنه يفعل ما يريد، فهم إما سكتوا عنه خوف الفتنة، والإرجاف بين الناس، وإما أنهم لم يتهموه بدينه، والكفر بدين اللَّه، ومع هذه التعليلات لم ينسوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فما رأوه من أمور الناس مخالفاً لما يعرفونه من نصوص نبهوا عليها بحكمة، ولم يسكتوا عنه.
وهذه بعض الروايات حول هؤلاء النفر، مرتبة حسب الترتيب الألفبائي:
1- أسامة بن زيد:
«واعتزل أسامة الفتن بعد قتل عثمان، إلى أن مات في أواخر خلافة معاوية، وكان قد سكن المزة من عمل دمشق، ثم رجع فسكن وادي القرى، ثم نزل إلى المدينة، فمات بها بالجرف»([24]).
2- الأسود بن سريع:
صحابي غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، ونزل البصرة، وقصّ بها([25])، ولما قتل عثمان، ركب الأسود سفينة، وحمل معه أهله وعياله، فانطلق، فما رئي بعد([26]).
3- جرير بن عبد الله البجلي:
أسلم بعد نزول المائدة عندما وفد عَلَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم سَنَة عشر، فأسلم في رمضان، فأكرم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مقدمه، وَكَانَ بديع الجمال، مليح الصورة إلَى الغاية، طويلًا، قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «عَلَى وجهه مسحة مَلَك»، وَرُويَ عَن عمر رضي الله عنه قَالَ: جَريرُ يوسف هَذه الأمة، ولما قتل عثمان اعتزل عليًا وَمُعَاويَة، وأقام بنواحي الجزيرة حتى توفي([27]).
4- الحسن البصري:
أدرك الحسن البصري عدة فتن، وكاد أن يسير في ركاب ابن الأشعث، كما حصل مع سعيد بن جبير ؒ، إلا أنه خرج منها، وتركها.
يروي الإمام ابن كثير ؒ عن أَيُّوب السّخْتيَانيُّ ؒ: «إنَّ الْحَجَّاجَ أَرَادَ قَتْلَ الْحَسَن مرَارًا، فَعَصَمَهُ اللَّهُ منْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ مَعَهُ مُنَاظَرَاتٍ...
عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَكُنْ ممَّنْ يَرَى الْخُرُوجَ عَلَيْه، وَكَانَ يَنْهَى أَصْحَابَ ابْن الْأَشْعَث عَنْ ذَلكَ، وَإنَّمَا خَرَجَ مَعَهُمْ مُكْرَهًا كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: إنَّمَا هُوَ نقْمَةٌ فَلَا تُقَابَلُ نقْمَةُ اللَّه بالسَّيْف، وَعَلَيْكُمْ بالصَّبْر وَالسَّكينَة وَالتَّضَرُّع»([28]).
وفي فتنة يزيد بن المهلب يقول ابن كثيرؒ: «وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْريُّ في هَذه الْأَيَّام يُحَرّضُ النَّاسَ عَلَى الْكَفّ، وَتَرْك الدُّخُول في الْفتْنَة، وَيَنْهَاهُمْ أَشَدَّ النهي، وذلك لما وقع من القتال الطَّويل الْعَريض في أَيَّام ابْن الْأَشْعَث، وَمَا قتل بسبب ذَلكَ منَ النُّفُوس الْعَديدَة، وَجَعَلَ الْحَسَنُ يَخْطُبُ الناس ويعظهم في ذلك، ويأمرهم بالكف»([29]).
وكان مما قال لهم في قتال الحجاج: «أَرَى أَنْ لَا تُقَاتلُوهُ؛ فَإنَّهَا إنْ تَكُنْ عُقُوبَةً منَ اللَّه، فَمَا أَنْتُمْ برَادّي عُقُوبَةَ اللَّه بأَسْيَافكُمْ، وَإنْ يَكُنْ بَلَاءٌ، فَاصْبرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ، وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكمينَ»([30]).
وفي رواية أخرى لابن سعد: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّهُ وَاللَّه مَا سَلَّطَ اللَّهُ الْحَجَّاجَ عَلَيْكُمْ إلَّا عُقُوبَةً، فَلَا تُعَارضُوا عُقُوبَةَ اللَّه بالسَّيْف، وَلَكنْ عَلَيْكُمُ السَّكينَةَ وَالتَّضَرُّعَ»([31]).
وقَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَزيدَ الْعَبْديُّ قَالَ: سَمعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: «لَوْ أَنَّ النَّاسَ إذَا ابْتُلُوا منْ قبَل سُلْطَانهمْ صَبَرُوا مَا لَبثُوا أَنْ يُفْرَجَ عَنْهُمْ، وَلَكنَّهُمْ يَجْزَعُونَ إلَى السَّيْف، فَيُوَكَّلُونَ إلَيْه، فَوَاللَّه مَا جَاؤُوا بيَوْم خَيْرٍ قَطُّ»([32]).
وعندما سئل عن الفتن التي وقعت في عصره، مثل فتنة يزيد بن المهلب، وفتنة محمد بن عبد الرحمن بن الأشعث: «يَا أبا سَعيدٍ، مَا تَقُولُ في الْفتَن، مثْل يَزيدَ بْن الْمُهَلَّب، وَابْن الأَشْعَث؟ فَقَالَ: لا تَكُنْ مَعَ هَؤُلاء، وَلا مَعَ هَؤُلاء»([33]).
وعندما طلبوا منه أن يدخل على الأمراء: «حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ مهْرَانَ قَالَ: قيلَ للْحَسَن: أَلَا تَدْخُلُ عَلَى الْأُمَرَاء، فَتَأْمُرَهُمْ بالْمَعْرُوف، وَتَنْهَاهُمْ عَن الْمُنْكَر؟ قَالَ: لَيْسَ للْمُؤْمن أَنْ يُذلَّ نَفْسَهُ، إنَّ سُيُوفَهُمْ لَتَسْبقُ أَلْسنَتَنَا، إذَا تَكَلَّمْنَا قَالُوا بسُيُوفهمْ هَكَذَا، وَوَصَفَ لَنَا بيَده ضَرْبًا»([34]).
ولذلك كان رأيه الابتعاد عن أبواب السلاطين بقدر الاستطاعة، وكان يوبخ الذين يتزلفون إلى السلطان، فقد «خَرَجَ الْحَسَنُ منْ عنْد ابْن هُبَيْرَةَ، فَإذَا هُوَ بالْقُرَّاء عَلَى الْبَاب، فَقَالَ: «مَا يُجْلسُكُمْ هَاهُنَا؟ تُريدُونَ الدُّخُولَ عَلَى هَؤُلَاء الْخُبَثَاء؟ أَمَا وَاللَّه، مَا مُجَالَسَتُهُمْ بمُجَالَسَة الْأَبْرَار، تَفَرَّقُوا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ أَرْوَاحكُمْ، وَأَجْسَادكُمْ، قَدْ لَقَّحْتُمْ نعَالَكُمْ، وَشَمَّرْتُمْ ثيَابَكُمْ، وَجَزَزْتُمْ شُعُورَكُمْ، فَضَحْتُمُ الْقُرَّاءَ فَضَحَكُمُ اللَّهُ، وَأَمَا وَاللَّه لَوْ زَهَدْتُمْ فيمَا عنْدَهُمْ، لَرَغبُوا فيمَا عنْدَكُمْ، لَكنَّكُمْ رَغبْتُمْ فيمَا عنْدَهُمْ، فَزَهدُوا فيمَا عنْدَكُمْ، أَبْعَدَ اللَّهُ مَنْ أَبْعَدَ»([35]).
وهكذا كان الحسن البصري ؒ، فهو بقدر ما يهرب من أبواب الأمراء، وهم كما نعلم أنهم كانوا من دعاة الإسلام، والمجاهدين في سبيل اللَّه، ويدعو إلى الابتعاد عنهم، إلا أنه كان يمنع من قتالهم، أو القيام عليهم، ويرفض حمل السيف في وجوههم، أو الدعوة للخروج عليهم، لأنه يعتبر هذا من الفتنة التي تدمر الأمة، وتلقي بها في المهالك.
5- حذيفة بن اليمان:
اليوم في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
اليوم في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
اليوم في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
اليوم في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
اليوم في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
اليوم في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin