وهذا النص يرويه ابْن جريج قَالَ: سَمِعت غير وَاحِد مِمَّن حضر ابْن الزبير...، فليس فيها شهود عيان بأسمائهم، وإنما هي عن أشخاص مغمورين، مجهولين، من خلال واحد معروف، وابن جريج قال عنه ابن حبان: «من فقهاء أهل مكة، وقرائهم ممن جمع، وصنف، وحفظ، وذاكر، مات سنة خمسين ومائة، وكان يدلس»([221]).
فهو من المدلسين، ولو كان ثقة بذاته، إلا أن التدليس في مثل هذه الأخبار أمر مشبوه، فهو هنا أبهم من روى عنهم، مع أنه قال عنهم إنهم شهود حاضرون لما حدث، فلماذا أبهمهم، وهذا يشكك بالرواية، لأنه مشهور بالتدليس.
بينما رواية خليفة بن خياط ليس فيها هذا التدليس، يقول خليفة: «قَالَ ابْن جريج: قَالَ ابْن أَبِي مليكَة: فاعتزل ابْن الزبير فِي نَاحيَة دَار الندوة فِي تِلْكَ النَّاحِيَة، فَجعل يَقُول: يَا رب، يَا رب، لَو علمت أَن هَذَا كَائِن، يَا رب، يَا رب قد رقت حشْوَة الْكَعْبَة، وَضعف بناؤها، حَتَّى إِن الطير لتقع عَلَيْهَا، فتتناثر حجارتها»([222])، ويتابع خليفة برواية القصة التي رواها صاحب تاريخ مكة، ولكن ليس من رواية ابن جريج، وإنما من رواية المدائني، وفيها: «وَحَدَّثَنَا أَبُو الْحسن، عَن بَقِيَّة بْن عَبْد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه قَالَ:
لما بلغ يَزِيد بْن مُعَاوِيَة أَن أهل مَكَّة أَرَادوا ابْن الزبير عَلَى الْبيعَة، فَأبى، أرسل النُّعْمَان بْن بشير الْأنْصَارِيّ، وَهَمَّام بْن قبيصَة النميري إِلَى ابْن الزبير، يدعوانه إِلَى الْبيعَة ليزِيد، عَلَى أَن يَجْعَل لَهُ ولَايَة الْحجاز، وَمَا شَاءَ، وَمَا أحب لأهل بَيته من الْولَايَة.
فَقدما عَلَى ابْن الزبير، فعرضا عَلَيْهِ مَا أَمرهمَا بِهِ يَزِيد، فَقَالَ ابْن الزبير:
أتأمراني ببيعة رجل يشرب الْخمر، ويدع الصَّلَاة، وَيتبع الصَّيْد؟
فَقَالَ همام: أَنْت أولى بِمَا قلت مِنْهُ.
فلكمه رجل من قُرَيْش.
فَرَجَعَا إِلَى يَزِيد.
فَغَضب، فَحلف لَا يقبل بيعَته، إِلَّا وَفِي يَده جَامِعَة»([223]).
فهنا نجد أن بعض الصحابة الذين ذهبوا إلى ابن الزبير رضي الله عنه يطالبونه بالبيعة، ولم يقبلوا منه قوله في شرب يزيد الخمر، وغيرها.
ويرى ابن عمرو ب رأياً يخالف رأي ابن الزبير ب، يقول خليفة: «إِسْمَاعِيلُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: نَا حَمَّاد بْن سَلمَة، عَن يعلى بْن عَطاء عَن عَمه قَالَ كنت مَعَ عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو حِين بَعثه يَزِيد بْن مُعَاوِيَة إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن الزبير قَالَ:
فَسمِعت عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو يَقُول لِابْنِ الزبير:
تعلم أَنِّي وجدت فِي الْكتاب أَنَّك ستعَني، وتعَنى، وتدعى الْخَلِيفَة، وَلست بخليفة، وَإِنِّي أجد الْخَلِيفَة يَزِيد بْن مُعَاوِيَة»([224]).
وإن يزيد بن معاوية حاول - فيما يبدو – تكرار الرسل لابن الزبير ب كي يبايعه، ويجنّب الأمة من ويلات الحرب، فيروي خليفة بن خياط: «عَن عَبْد الْعَزِيز بْن مَرْوَان قَالَ:
بعث يَزِيد ابْن عضاه الْأَشْعَرِيّ إِلَى ابْن الزبير يَدعُوهُ لبيعته، وَمَعَهُ جَامِعَة [مجموعة] من فضَّة وبرنس خَز.
فَقدم عَلَى ابْن الزبير وَهُوَ جَالس بِالْأَبْطح، وَمَعَهُ أَيُّوب بْن عَبْد اللَّهِ بْن زُهَيْر بْن أَبِي أُميَّة المَخْزُومِي، وعَلى مَكَّة يَوْمئِذٍ الْحَارِث بْن خَالِد بْن الْعَاصِ بْن هِشَام بْن الْمُغيرَة، فَكَلمهُ ابْن عضاه، وَابْن الزبير ينكت فِي الأَرْض.
فَقَالَ لَهُ أَيُّوب: يَا أَبَا بَكْر، أَلا أَرَاك غَرضا للْقَوْم.
فَرفع ابْن الزبير رَأسه، فَقَالَ: قُلْتُمْ حلف أَلا يقبل بيعتي حَتَّى يُؤْتى بِي فِي جَامِعَة، لَا أبر اللَّه قسمه، وتمثل ابْن الزبير:
وَلَا أَلين لغير الْحق أسأله
حَتَّى يلين لضرس الماضغ الْحجر
ثمَّ قَالَ: وَاللَّه لَا أبايع يَزِيد، وَلَا أَدخل لَهُ فِي طَاعَة»([225]).
«ثُمَّ لَمَّا مَاتَ يَزِيدُ، بَايَعَ النَّاسَ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ»([226]).
ويؤيد هذه الرواية ما رواه خليفة بن خياط بقوله: «وفيهَا [سنة 64هـ] مَاتَ يَزِيد بْن مُعَاوِيَة بحوّارين من بِلَاد حمص، وَصلى عَلَيْهِ ابْنه مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة لَيْلَة الْبَدْر فِي شهر ربيع الأول...، واستُخلف ابْنه مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، فَأقر عُمَّال أَبِيه، وَلم يولّ أحداً، وَلم يزل مَرِيضاً حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ ابْن إِحْدَى وَعشْرين سنة وَيُقَال عشْرين سنة، وَصلى عَلَيْهِ الْوَلِيد بْن عتبَة بْن أَبِي سُفْيَان، وَكَانَت ولَايَته نَحواً من شهر وَنصف، وَيُقَال مَاتَ مُعَاوِيَة بعد أَبِيه يَزِيد بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَهُوَ ابْن ثَمَان عشرَة سنة»([227]).
وهنا يقوم ابن الزبير بالدعاء لنفسه بعد علمه بموت يزيد بن معاوية، وموت ابنه معاوية بن يزيد، وهذا يؤكد أن ابن الزبير ب وإن رفض بيعة يزيد، إلا أنه لم يدعُ البيعة لنفسه؛ لأنه يرى أن الأمر يجب أن يكون أمر الخلافة شورى، لا أن يَعهد خليفة لمن بعده ولداً له كان أو غيره، قال خليفة بن خياط ؒ: «وَإِنَّمَا كَانَ ابْن الزبير يَدْعُو قبل ذَلِكَ إِلَى أَن تكون شُورَى بَين الْأمة، فَلَمَّا كَانَ بعد ثَلَاثَة أشهر من وَفَاة يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، دَعَا إِلَى بيعَة نَفسه، فبويع لَهُ بالخلافة لتسْع خلون من رَجَب سنة أَربع وَسِتِّينَ» ([228]).
والملاحظ هنا أن ابن الزبير ب كان ينادي بالشورى لاختيار الخليفة، وعندما شغر كرسي الخلافة بموت يزيد لم يقم بالشورى لاختيار الخليفة، وإنما دعا البيعة لنفسه، وهذا يدل على أن أمر الشورى كان يُنادي بها في الأحوال المستقرة، ولما اضطربت الأحوال، وشغر مكان الخلافة (على رأيه)، لم يجد بداً من ملئها حتى لا تقع الفتنة والفوضى، وقد تكون مثل هذه الحالة سبب قول بعض الدارسين من قدامى ومحدثين بسيادة المتغلب، ولكن القدامى كان عندهم شرط إقامة الدين، واتباع الشريعة، وإلا فلا يجوز اتباعه، على عكس رأي كثير من المحدَثين الذين قالوا بجواز اتباع المتغلِّب دون أي شرط إلا شرط القوة، وهذا لم يقلْه أحد من القدامى.
ونلاحظ أن يزيد توفي في شهر ربيع الأول، وبعده بشهر ونصف مات ابنه معاوية، وأن ابن الزبير دعا لنفسه بالخلافة بعد أن فرغ كرسي الخلافة بموت خليفتين، ولم يبايع لأحد بعدهما بحوالي شهر أو أكثر، ولم يكن هناك خليفة للمسلمين في أي مصر من الأمصار الإسلامية، أي كانت بيعة مروان بعد بيعة ابن الزبير في الحجاز بأكثر من أربعة أشهر، وهذا ما سبّب خلافاً عند بعض العلماء القدامى اعتبارهم ابن الزبير الخليفة، ومروان هو الباغي الخارج عليها.
ومن المعلوم أن معاوية بن يزيد لم يعهد بالخلافة لأحد بعده، بل تقول الرواية: «وَلِمَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قِيلَ لَهُ:
أَلَا توصي؟
فقال: لا أتزوّد مرارتها إلى إخوتي، وَأَتْرُكُ حَلَاوَتَهَا لِبَنِي أُمَيَّةَ....
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَخَالِدٌ إِخْوَةٌ، وَكَانُوا مِنْ صَالِحِي الْقَوْمِ... وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ هَذَا نَادَى فِي النَّاسِ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ذَاتَ يَوْمٍ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ.
فَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ أَمْرَكُمْ، وَأَنَا ضَعِيفٌ عَنْهُ، فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ تَرَكْتُهَا لِرَجُلٍ قَوِيٍّ كَمَا تَرَكَهَا الصِّدِّيقُ لِعُمَرَ، وَإِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا شُورَى فِي سِتَّةٍ مِنْكُمْ، كَمَا تَرَكَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مَنْ هُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ، وَقَدْ تَرَكْتُ لَكُمْ أَمْرَكُمْ، فَوَلُّوا عَلَيْكُمْ مَنْ يَصْلُحُ لَكُمْ.
ثُمَّ نَزَلَ، وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى»([229]).
وإن بعض بني أمية أراد مبايعة ابن الزبير، ولكن شعروا بالخطأ في هذا الرأي، يقول ابن كثير ب: «وَلَمَّا رَأَى مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ مَا انْتَظَمَ مِنَ البيعة لابن الزبير، وما استوثق لَهُ مِنَ الْمُلْكِ، عَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ إِلَيْهِ لمبايعته، وَلِيَأْخُذَ مِنْهُ أَمَانًا لِبَنِي أُمَيَّةَ، فَسَارَ حَتَّى بلغ أذرعات، فلقيه ابن زِيَادٍ مُقْبِلًا مِنَ الْعِرَاقِ، فَصَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهَجَّنَ رَأْيَهُ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، وَابْنُ زِيَادٍ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ، وَخَلْقٌ، فَقَالُوا لِمَرْوَانَ: أَنْتَ كَبِيرُ قريش..»([230]).
وبذلك عاد مروان ودعا لنفسه، واجتمعت الأمة عليه خلا الحجاز، ثم أتبع ابن الزبير رضي الله عنه العراق بالحجاز، بينما كانت بيعة مروان بن الحكم في منتصف ذي القعدة سنة أربع وستين([231]).
وهذا التداخل في البيعة والحكم أدى إلى فتن عدة، ومعارك كبيرة، فوقت في راهط موقعة بين من بايعوا عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه بقيادة الضحاك بن قيس، وبين من بايعوا مروان بن الحكم، وبقي القتال أكثر من عشرين يوماً «وقتل يَوْمَئِذٍ من أشراف الناس من أهل الشام، ممن كَانَ مع الضحاك ثمانون رجلاً... وقتل أهل الشام يَوْمَئِذٍ مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قط من القبائل كلها»([232]).
وهذه الرواية لم أجدها عند الطبري، وهي من رواية الكلبي، وهو غير ثقة.
وبعد وفاة مروان بن الحكم استُخلف عبد الملك بن مروان، ودعا ابن الزبير رضي الله عنه محمد بن علي بن أبي طالب لبيعته، فأبى، وحبسه في عدة من أصحابه، ومنهم عامر بن واثلة رضي الله عنه، ولم يخرجوا حتى أخرجهم المختار بن أبي عبيد([233]).
ولما سئل ابن عمر ب لماذا لم يبايع ابن الزبير، فاستنكر هذا السؤال، واعتبر الأمر من القاذورات التي يجب الابتعاد عنها([234]).
وعلق ابن عمر على عمل ابن الزبير ب فقال: «إِنَّمَا كَانَ مَثَلُنَا فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا يَسِيرُونَ عَلَى جَادَةٍ يَعْرِفُونَهَا، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ غَشِيَتْهُمْ سَحَابَةٌ، وَظُلْمَةٌ، فَأَخَذَ بَعْضُنَا يَمِينًا، وَبَعْضُنَا شِمَالًا، فَأَخْطَأْنَا الطَّرِيقَ، وَأَقَمْنَا حَيْثُ أَدْرَكْنَا ذَلِكَ، حَتَّى تَجَلَّى عَنَّا ذَلِكَ، حَتَّى أَبْصَرَنَا الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ، فَعَرَفْنَاهُ، فَأَخَذْنَا فِيهِ، إِنَّمَا هَؤُلَاءِ فِتْيَانٌ يَتَقَاتَلُونَ عَلَى هَذَا السُّلْطَانِ، وَعَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا، وَاللَّهِ مَا أُبَالِي أَلَّا يَكُونَ لِي مَا يَقْتُلُ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِنَعْلَيَّ»([235]).
ورفض الإمام سعيد بن المسيب بيعة ابن الزبير، فجلده جابر الأسود ستين سوطاً([236]).
وقد ذكر أبو نعيم قَالَ:
«كَانَتْ فِتْنَةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ تِسْعَ سِنِينَ، فَمَكَثَ شُرَيْحٌ لَا يُخْبِرُ، وَلَا يُسْتَخْبَرُ»([237])، وذكر ابن كثير الرواية بأطول، فقال شريح بعد النص السابق: «لما كانت الفتنة، لم أسأل عنها، فقال رجل: لو كنت مثلك ما باليت متى مت، فقال شريح: فكيف بما في قلبي، وقد رواه شقيق بن سلمة عن شريح قال: في الفتنة ما استخبَرْتُ، ولا أُخبرت، ولا ظلمت مسلماً، ولا معاهداً ديناراً، ولا درهماً»([238]).
ولما ولي الحجاج العراقين حاصر ابن الزبير في أول ذي القعدة سنة ثنتين وسبعين للهجرة، وبقي الحصار حتى جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين للهجرة، أي بقيت الحرب ما ينوف على ستة أشهر([239]).
وقبل هذا الحصار، قامت معارك كثيرة في العراق، حيث كان أميرها مصعب بن الزبير من قبل أخيه عبد اللَّه، ولما قُتل مصعب، ووُضع رأسه أمام عبد الملك بن مروان بكى، وقال: «وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَقْدِرُ أَنْ أَصْبِرَ عَلَيْهِ سَاعَةً وَاحِدَةً مِنْ حُبِّي لَهُ، حَتَّى دَخَلَ السَّيْفُ بَيْنَنَا، وَلَكِنَّ الْمُلْكَ عَقِيمٌ، وَلَقَدْ كَانَتِ الْمَحَبَّةُ، وَالْحُرْمَةُ بَيْنَنَا قَدِيمَةً، مَتَى تَلِدُ النِّسَاءُ مِثْلَ مُصْعَبٍ؟ ثُمَّ أَمَرَ بِمُوَارَاتِهِ، وَدَفَنَهُ، هُوَ وَابْنَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ فِي قُبُورٍ بِمَسْكِنٍ بِالْقُرْبِ مِنَ الْكُوفَةِ»([240]).
وعبد الملك هذا طلب من عامله الحجاج اتّباع ما يفعل ابن عمر في الحج، فقد روى الإمام البخاري من طريق مَالِك، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: «كَتَبَ عَبْدُ المَلِكِ إِلَى الحَجَّاجِ: أَنْ لاَ يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِي الحَجِّ، فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه، وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الحَجَّاجِ، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: «الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ»، قَالَ: هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: فَأَنْظِرْنِي حَتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأْسِي، ثُمَّ أَخْرُجُ، فَنَزَلَ حَتَّى خَرَجَ الحَجَّاجُ، فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي، فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرِ الخُطْبَةَ، وَعَجِّلِ الوُقُوفَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: «صَدَقَ»([241]).
فالحجاج هذا الذي يتبع ابن عمر في مناسك الحج بأمر عبد الملك بن مروان، هو الذي حارب ابن الزبير رضي الله عنه أيضاً بأمر عبد الملك بن مروان، فنصب خمسة مجانيق على مكة، وحاصر أهلها، وطالبهم بطاعة أمير المؤمنين عبد الملك، وقتل في ذلك خلقاً كثيراً في هذه الحرب، حيث حاصرهم، وحبس عنهم المؤن، والماء، فاعتمدوا على شرب ماء زمزم، ويعتبر حملته على الكعبة، وقصفها طاعة لأمير المؤمنين، وبقي ابن الزبير رضي الله عنه يقاتل، فقُتل كثير من أتباعه، حتى خذله الناس، وتركوه وحيداً، ورفض الصلح الذي عُرض عليه([242]).
قال الإمام ابن كثير: «وَمَا زَالَ أَهْلُ مَكَّةَ يَخْرُجُونَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْأَمَانِ، وَيَتْرُكُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، حَتَّى خَرَجَ إِلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَمَّنَهُمْ، وَقَلَّ أَصْحَابُ ابْنِ الزُّبَيْرِ جِدًّا، حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْحَجَّاجِ حَمْزَةُ، وَخُبَيْبٌ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَخَذَا لِأَنْفُسِهِمَا أَمَانًا مِنَ الْحَجَّاجِ فَأَمَّنَهُمَا»([243]).
وقد جاء الحجاجَ المددُ من أهل الشام، فجعل الحجاج أهل كل مدينة يواجهون باباً من أبواب الكعبة، وهو يجاهدهم، «ثُمَّ يَصِيحُ: أَبَا صَفْوَانَ! وَيْلُ أُمِّهِ فَتْحًا لَوْ كَانَ لَهُ رِجَالٌ:
لَوْ كَانَ قِرْنِي وَاحِدًا كَفَيْتُهُ!
فَيَقُولُ أَبُو صَفْوَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ: إِي وَاللَّهِ وَأَلْفُ»([244]).
و«كَانَ ابْنُ صَفْوَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ صَبَرَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ حِينَ حَصَرَهُ الْحَجَّاجُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنِّي قَدْ أَقَلْتُكَ بَيْعَتِي، فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ، فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا قَاتَلْتُ عَنْ ديني، ثُمَّ صَبَّرَ نَفْسَهُ، حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ»([245]).
وسارت المعارك بين عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه والحجاج، وأحسّ ابن الزبير بأن الموت قادم لا بد منه، فذهب ليودع أمه قبل المضي إلى نهاية الطريق التي اختارها راضياً، وكان مما قالته له أمه العظيمة أسماء بنت أبي بكر ل: قال الزبير بن بكار: «دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ رَأَى مِنَ النَّاسِ مَا رَأَى مِنْ خُذْلانِهِمْ، فَقَالَ: يَا أُمَّهْ، خَذَلَنِي النَّاسُ، حَتَّى وَلَدِي وَأَهْلِي، فَلَمْ يَبْقَ مَعِي إِلا الْيَسِيرُ مِمَّنْ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ الدَّفْعِ أَكْثَرَ مِنْ صَبْرِ سَاعَةٍ، وَالْقَوْمُ يُعْطُونَنِي مَا أَرَدْتُ مِنَ الدُّنْيَا، فَمَا رَأْيُكِ؟ قَالَتْ: أَنْتَ وَاللَّهِ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ يَا بُنَيَّ، إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ عَلَى حَقٍّ وَإِلَيْهِ تَدْعُو، فَامْضِ لَهُ، فَقَدْ قُتِلَ عَلَيْهِ مَنْ مَضَى مَنْ أَصْحَابِكَ، وَلا تُمَكِّنْ مِنْ رَقَبَتِكَ يَتَلَعَّبُ بِهَا غِلْمَانُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا أَرَدْتَ الدُّنْيَا، فَبِئْسَ الْعَبْدُ أَنْتَ، أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ، وَأَهْلَكْتَ مَنْ قُتِلَ مَعَكَ، وَإِنْ قُلْتَ: كُنْتُ عَلَى حَقٍّ، فَلَمَّا وَهَنَ أَصْحَابِي ضَعُفَتْ نِيَّتِي، فَكُلُّ هَذَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الأَحْرَارِ، وَلا أَهْلِ الدِّينِ، كَمْ خُلُودُكَ يَا بُنَيَّ فِي الدُّنْيَا؟ الْقَتْلُ أَحْسَنُ.
فَدَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَبَّلَ رَأْسَهَا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وَاللَّهِ رَأْيِي وَعَزْمِي، وَالَّذِي هَمَمْتُ بِهِ دَاعِيًا إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَمَا رَكَنْتُ إِلَى الدُّنْيَا، وَلا أَحْبَبْتُ الْحَيَاةَ فِيهَا، وَمَا دَعَوْتُ إِلَى الْخُرُوجِ إِلا الْغَضَبُ لِلَّهِ أَنْ تُسْتَحَلَّ حُرَمُهُ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَعْلَمَ رَأْيَكِ، فَزِدْتِنِي قُوَّةً وَبَصِيرَةً مَعَ بَصِيرَتِي، فَانْظُرِي يَا أُمَّهْ، فَإِنِي مَقْتُولٌ مِنْ يَوْمِي هَذَا أَنْ لا يَشْتَدَّ جَزَعُكِ عَلَيَّ، وَسَلِّمِي لِأَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ ابْنَكِ لَمْ يَتَعَمَّدْ إِتْيَانَ مُنْكَرٍ، وَلا عَمِلَ بِفَاحِشَةٍ، وَلَمْ يَجُرْ فِي حُكْمٍ، وَلَمْ يَغْدِرْ فِي أَمَانٍ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ ظُلْمَ مُسْلِمٍ، وَلا مُعَاهِدٍ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُمَّالِي سُوءٌ فَرَضِيتُهُ، بَلْ أَنْكَرْتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ عِنْدِي آثَرَ مِنْ رِضَا رِبِّي، اللَّهُمَّ لا أَقُولُ هَذَا تَزْكِيَةً لِنَفْسِي، أَنْتَ أَعْلَمُ بِي، وَلَكِنِّي أَقُولُهُ تَعْزِيَةً لأُمِّي لِتَسْلُوَ عَنِّي.
فَقَالَتْ أُمُّهُ: إِنِّي لَأَرْجُو مِنَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ عَزَائِي عَنْكَ حَسَنًا، إِنْ تَقَدَّمْتَنِي أَوْ تَقَدَّمْتُكَ، فَفِي نَفْسِي حَرَجٌ حَتَّى أَنْظُرَ إِلامَ يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرُكَ؟ فَقَالَ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا يَا أُمَّهْ، فَلا تَدَعِي الدُّعَاءَ قَبْلِي وَبَعْدِي، فَقَالَتْ: لا أَدْعُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَبَدًا، فَمَنْ قُتِلَ عَلَى بَاطِلٍ، فَقَدْ قُتِلْتَ عَلَى حَقٍّ.
ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ طُولَ ذَلِكَ الْقِيَامِ فِي اللَّيْلِ الطَّوِيلِ، وَذَاكَ النَّحِيبَ وَالظَّمَأَ فِي هَوَاجِرِ الْمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ، وَبِرَّهُ بِأَبِيهِ وَبِي، اللَّهمَّ إِنِّي سَلَّمْتُ فِيهِ لأَمْرِكَ، وَرَضِيتُ بِمَا قَضَيْتَ، فَأَثَبْنِي فِي عَبْدِ اللَّهِ ثَوَابَ الشَّاكِرِينَ الصَّابِرِينَ.»([246]).
وهذه الرواية من رواية الواقدي، وفيها انقطاع، واختارها علماء السير، وقبلوا بها([247])، ونرى كيف أن عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه خذله الناس، وتركوه، حتى أهله وولده، وخرجوا إلى عبد الملك بن مروان، وهذا الأمر يذكرنا بمعاوية رضي الله عنه لما استعرض أسماء من يمكن ترشيحهم للخلافة، ثم نظر فيهم جميعاً، وأحسّ أنهم لا يستطيعون حمل عبء أحمال الخلافة باجتهاده، وأثبتت حوادث التاريخ صحة فراسته فيهم، وقوله عن ابن الزبير أنه إن صار خليفة سينفض عنه أتباعه، بل في الحقيقة انفض عنه أهله، وولده، كما قال في كلامه لأمه أسماء رضي الله عنهم جميعاً.
ولما استشهد عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه، واستولى الحجاج على مكة، وخطب في أهلها، وأنه جاء لينصر الخلافة، ويقتل من يلحد في الحرم([248]).
وهكذا طويت صفحة من صفحات الفتن والحروب في القرن الهجري الأول، وذهب ضحيتها عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه إلى ربه راضياً مرضياً، بما أقدم عليه، وقام به، وتوصل إليه، ويمكن استخلاص الرؤية لهذه الحركة:
- لم تكن حركة ابن الزبير ثورة على الأمويين بالمعنى الحقيقي؛ لأنه أخذ البيعة لنفسه بعد وفاة معاوية بن يزيد، ولم يتعين خليفة مدة من الزمن، وبويع بالخلافة قبل مروان بن الحكم بأشهر قليلة [ولكن لم تجتمع على بيعته الأمة، كما اجتمعت على من سبقه، ومن جاء بعده]، وهذا ما دعا كثيراً من المؤرخين اعتباره هو الخليفة الشرعي، وليس الخليفة الأموي مروان.
- عند الصراع على الحكم يضيع كثير من الأخلاقيات، فينسى الصديق صديقه، والقريب قريبه، وهذا ما أحسّ به عبد الملك بن مروان عندما وُضع بين يديه رأس مصعب بن الزبير، وبكى.
- وفي سبيل تثبيت دعائم الحكم لا يلوي المتصارعة إلا على تثبيت (العرش) تحتهم، مهما كلفهم ذلك من نفوس وحيوات، وهذا ما أحسّ به مروان بن الحكم الذي كان مشغولاً قبل الحكم بأقضية عمر بن الخطاب، يتتبعها كما ذكر ذلك الإمام أحمد بن حنبل([249])، ولكنه بعد ذلك قال: «وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ، وَذَكَرَ مَرْوَانَ يَوْمًا فَقَالَ: قَالَ مَرْوَانُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثم أصبحت فيما أنا فيه، من إهراق الدماء، وهذا الشأن، وقال إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرة عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ: كَانَ مروان إذا ذكر الإسلام قال:
بنعمة ربى لا بما قدمت يدي
ولا بتراثي إِنَّنِي كُنْتُ خَاطِئَا»([250])
- ومثله ولده عبد الملك الذي وصفه ابن كثير أنه كان يجالس الفقهاء، والعلماء، والعبّاد، والصلحاء، وروى الحديث عن عدة، منهم جابر، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وابن عمر، وأبوه، وغيرهم كثير، وأنه كان قبل الخلافة من فقهاء المدينة، وملازماً للمسجد، ومن التالين للقرآن([251]).
ويروي ابن كثير بعد ذلك كلاماً لعبد الملك أنه لا يأكل في خلافته المال بغير حق، وأنه ليس بالخليفة المستضعف، ولا المداهن، وأنه يتحمل رأي الناس مهما كان، ولكن لا يرفعوا سيفاً، أو ينظموا جيوشاً، أو يدعون إلى شق جماعة الأمة([252]).
إذن هؤلاء الحكام مهما احتملوا الناس، ومهما حلموا عليهم، فإنهم لا يتحملون الوثوب على المنبر (الكرسي)، ويضرب عبد الملك مثلاً بابن عمه عمرو بن سعيد كيف قتله بكل بساطة وجسارة.
- في الصراع على السلطة يحس الحاكم بأنه هو مصلحة الأمة، ولا يقبل بتهديد مصالح الأمة، ولذلك يلجأ إلى القضاء على خصومه؛ ليحافظ على مصلحة الأمة.
- والحاكم، عادلاً كان أم ظالماً، لا يقبل بالفوضى والحروب والغوغائية، ولو كان من القائمين من الصلحاء، والعلماء، إذ لو ترك الأمر على رأيهم يرون معالجة سريعة، وحاسمة لانقلبت دعوات الإصلاح إلى فساد وهرج وقتل، لأن هذه الدعوات ستجعل الشعب أحزاباً وفئات متناحرة، ومتصارعة، ولذلك يعجل الحكام بالقضاء على أصحاب هذه الحركات، ورؤسائها، مهما كانت أوضاعهم الاجتماعية، أو ألقابهم العلمية.
- الناس الذين يساندون هؤلاء الثائرين لهم صبر محدود، وجَلَد ينتهي، ولذلك يتخيلون قائدهم إن لم يحمل بشائر النصر، يسلمونه إلى عدوهم وعدوه، وهذا ما حصل مع عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه، حيث خذله الناس، حتى أهله، وولده، كما قال لأمه أسماء ل، وكما روت كتب التاريخ أن الذين انفضوا عنه فاق العشرة آلاف رجل([253])، منهم ابناه حمزة وخبيب، وإن الذين يحاولون القيام بحركات الإصلاح، ويطلبون من الشعب مساندتهم، سيكون مصير ثورتهم الفشل – غالباً – لأن الناس يقيسون الأمور بأحوالها الحاضرة، لا بعواقبها الدنيوية، والأخروية، فعندما كان ابن الزبير منتصراً أيدوه، وعندما قويت شوكة خصومه تخلوا عنه، وانتقلوا إلى الكفة الأقوى، وهكذا الناس في كل زمان ومكان، بقدر ما ينصرون القائد، وفجأة يخذلونه، خصوصاً إذا كان الأمر لا تتضح فيه الفروق بين القائم والثائر، فكلهم مسلمون، لا يعرفون إلا الإسلام نظاماً وحكماً وشريعة، وكلهم صالحون، وهذا الذي لم يدركه الناس في زماننا، حيث لا يميزون بين الفرق القائمة بالأمر، أو الثائرة لإثبات أمر جديد، ويكتفي القواد بالشعارات دون النظر في أحوال هؤلاء القائمين يريدون إقامة حكم جديد، وأظهر مثال واضح حول هذا الأمر في الماضي أن عبد الله بن الزبير ب انتهى أمره في عهد عبد الملك، وابن الزبير صحابي ابن صحابي وصحابية، أما عبد الملك، فكان مشهوراً بالعلم والفقه، فهو من فقهاء المدينة وعلمائها، من أضراب سعيد بن المسيب ؒ وأصحابه، ولذلك لا يشعر الناس بالحرج من ظهور أحد المتخاصمين، فكلاهما عدل بذاته، وليس مطعوناً بدين.
ز- حركة عبد الرحمن بن الأشعث:
في سنة إحدى وثمانين أجمع ابن الأشعث المسير إلى العراق، وأخذ ينال من الحجاج، وينادي بخلعه، ولم يخلع عبد الملك بن مروان، لكراهية وتباغض بينهما([254])، ولذلك خاطب العراقيين قائلاً كما أورد ابن كثير: «ثم إن ابن الأشعث جمع رؤوس أهل العراق، وقال لهم: إِنَّ الحجاج قد ألحَّ عليكم في الإيغال في بلاد العدو، وهي البلاد التي قد هلك فيها إخوانكم بالأمس، وقد أقبل عليكم فصل الشتاء والبرد، فانظروا في أمركم، أما أنا فلست مطيعه، ولا أنقض رأياً رأيته بالأمس... وَوَثَبُوا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ، فَبَايَعُوهُ عِوَضًا عَنِ الْحَجَّاجِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَبَعَثَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى رتبيل، فصالحه على أنه إن ظفروا بِالْحَجَّاجِ فَلَا خَرَاجَ عَلَى رُتْبِيلَ أَبَدًا... قَالُوا: إِنَّ خَلْعَنَا لِلْحَجَّاجِ خَلْعٌ لابن مروان، فخلعوهما، وَجَدَّدُوا الْبَيْعَةَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ، فَبَايَعَهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وسنَّة رَسُولِهِ وَخَلْعِ أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَجِهَادِ الملحدين، فَإِذَا قَالُوا نَعَمْ بَايَعَهُمْ... وَقَالَ لَهُمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ: ليس الحجاج بشيء، وَلَكِنِ اذْهَبُوا بِنَا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ لِنُقَاتِلَهُ، ووافقه على خلعهما جميع من في البصرة مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْقُرَّاءِ، وَالشُّيُوخِ، وَالشَّبَابِ، ثُمَّ أَمَرَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِخَنْدَقٍ حَوْلَ الْبَصْرَةِ فَعَمِلَ ذَلِكَ»([255]).
والملاحظ في هذا النص كيف أن ابن الأشعث في سبيل حركته صالح رتبيل على إسقاط الجزية عنه للأبد: «وَبَعَثَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إلى رتبيل فصالحه على أنه إن ظفروا بِالْحَجَّاجِ فَلَا خَرَاجَ عَلَى رُتْبِيلَ أَبَدًا»([256]).
ولكن الحجاج قام على الفور بمصالحة رتبيل للتخلي عن ابن الأشعث: «فَصَالح [الحجاج] رتبيل، وخلى بَينه وَبَين ابْن الْأَشْعَث، فأوثقه وعدة من أهل بَيته فِي الْحَدِيد، وَأَقْبل يُرِيد الْحجَّاج، وَقد قرن بِهِ رجل يكنى أَبَا العَنز، فَلَمَّا صَار بالرخج طرح نَفسه من فَوق الْقصر، فماتا جَمِيعًا، وَحمل رَأس ابْن الْأَشْعَث إِلَى الْحجَّاج»([257]).
وكانت أول وقعة بينهما هي تستر، آخر سنة إحدى وثمانين، ثم جاءت الوقعة الثانية بالزاوية أول سنة اثنتين وثمانين، وكذلك كانت الوقعة الثالثة بظهر المربد في السنة نفسها، وجاءت الوقعة الرابعة بدير الجماجم، وفيها كانت الهزيمة في جمادى هذه السنة، وجاءت الوقعة الخامسة في شعبان من السنة نفسها([258]).
فهو من المدلسين، ولو كان ثقة بذاته، إلا أن التدليس في مثل هذه الأخبار أمر مشبوه، فهو هنا أبهم من روى عنهم، مع أنه قال عنهم إنهم شهود حاضرون لما حدث، فلماذا أبهمهم، وهذا يشكك بالرواية، لأنه مشهور بالتدليس.
بينما رواية خليفة بن خياط ليس فيها هذا التدليس، يقول خليفة: «قَالَ ابْن جريج: قَالَ ابْن أَبِي مليكَة: فاعتزل ابْن الزبير فِي نَاحيَة دَار الندوة فِي تِلْكَ النَّاحِيَة، فَجعل يَقُول: يَا رب، يَا رب، لَو علمت أَن هَذَا كَائِن، يَا رب، يَا رب قد رقت حشْوَة الْكَعْبَة، وَضعف بناؤها، حَتَّى إِن الطير لتقع عَلَيْهَا، فتتناثر حجارتها»([222])، ويتابع خليفة برواية القصة التي رواها صاحب تاريخ مكة، ولكن ليس من رواية ابن جريج، وإنما من رواية المدائني، وفيها: «وَحَدَّثَنَا أَبُو الْحسن، عَن بَقِيَّة بْن عَبْد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه قَالَ:
لما بلغ يَزِيد بْن مُعَاوِيَة أَن أهل مَكَّة أَرَادوا ابْن الزبير عَلَى الْبيعَة، فَأبى، أرسل النُّعْمَان بْن بشير الْأنْصَارِيّ، وَهَمَّام بْن قبيصَة النميري إِلَى ابْن الزبير، يدعوانه إِلَى الْبيعَة ليزِيد، عَلَى أَن يَجْعَل لَهُ ولَايَة الْحجاز، وَمَا شَاءَ، وَمَا أحب لأهل بَيته من الْولَايَة.
فَقدما عَلَى ابْن الزبير، فعرضا عَلَيْهِ مَا أَمرهمَا بِهِ يَزِيد، فَقَالَ ابْن الزبير:
أتأمراني ببيعة رجل يشرب الْخمر، ويدع الصَّلَاة، وَيتبع الصَّيْد؟
فَقَالَ همام: أَنْت أولى بِمَا قلت مِنْهُ.
فلكمه رجل من قُرَيْش.
فَرَجَعَا إِلَى يَزِيد.
فَغَضب، فَحلف لَا يقبل بيعَته، إِلَّا وَفِي يَده جَامِعَة»([223]).
فهنا نجد أن بعض الصحابة الذين ذهبوا إلى ابن الزبير رضي الله عنه يطالبونه بالبيعة، ولم يقبلوا منه قوله في شرب يزيد الخمر، وغيرها.
ويرى ابن عمرو ب رأياً يخالف رأي ابن الزبير ب، يقول خليفة: «إِسْمَاعِيلُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: نَا حَمَّاد بْن سَلمَة، عَن يعلى بْن عَطاء عَن عَمه قَالَ كنت مَعَ عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو حِين بَعثه يَزِيد بْن مُعَاوِيَة إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن الزبير قَالَ:
فَسمِعت عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو يَقُول لِابْنِ الزبير:
تعلم أَنِّي وجدت فِي الْكتاب أَنَّك ستعَني، وتعَنى، وتدعى الْخَلِيفَة، وَلست بخليفة، وَإِنِّي أجد الْخَلِيفَة يَزِيد بْن مُعَاوِيَة»([224]).
وإن يزيد بن معاوية حاول - فيما يبدو – تكرار الرسل لابن الزبير ب كي يبايعه، ويجنّب الأمة من ويلات الحرب، فيروي خليفة بن خياط: «عَن عَبْد الْعَزِيز بْن مَرْوَان قَالَ:
بعث يَزِيد ابْن عضاه الْأَشْعَرِيّ إِلَى ابْن الزبير يَدعُوهُ لبيعته، وَمَعَهُ جَامِعَة [مجموعة] من فضَّة وبرنس خَز.
فَقدم عَلَى ابْن الزبير وَهُوَ جَالس بِالْأَبْطح، وَمَعَهُ أَيُّوب بْن عَبْد اللَّهِ بْن زُهَيْر بْن أَبِي أُميَّة المَخْزُومِي، وعَلى مَكَّة يَوْمئِذٍ الْحَارِث بْن خَالِد بْن الْعَاصِ بْن هِشَام بْن الْمُغيرَة، فَكَلمهُ ابْن عضاه، وَابْن الزبير ينكت فِي الأَرْض.
فَقَالَ لَهُ أَيُّوب: يَا أَبَا بَكْر، أَلا أَرَاك غَرضا للْقَوْم.
فَرفع ابْن الزبير رَأسه، فَقَالَ: قُلْتُمْ حلف أَلا يقبل بيعتي حَتَّى يُؤْتى بِي فِي جَامِعَة، لَا أبر اللَّه قسمه، وتمثل ابْن الزبير:
وَلَا أَلين لغير الْحق أسأله
حَتَّى يلين لضرس الماضغ الْحجر
ثمَّ قَالَ: وَاللَّه لَا أبايع يَزِيد، وَلَا أَدخل لَهُ فِي طَاعَة»([225]).
«ثُمَّ لَمَّا مَاتَ يَزِيدُ، بَايَعَ النَّاسَ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ»([226]).
ويؤيد هذه الرواية ما رواه خليفة بن خياط بقوله: «وفيهَا [سنة 64هـ] مَاتَ يَزِيد بْن مُعَاوِيَة بحوّارين من بِلَاد حمص، وَصلى عَلَيْهِ ابْنه مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة لَيْلَة الْبَدْر فِي شهر ربيع الأول...، واستُخلف ابْنه مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، فَأقر عُمَّال أَبِيه، وَلم يولّ أحداً، وَلم يزل مَرِيضاً حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ ابْن إِحْدَى وَعشْرين سنة وَيُقَال عشْرين سنة، وَصلى عَلَيْهِ الْوَلِيد بْن عتبَة بْن أَبِي سُفْيَان، وَكَانَت ولَايَته نَحواً من شهر وَنصف، وَيُقَال مَاتَ مُعَاوِيَة بعد أَبِيه يَزِيد بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَهُوَ ابْن ثَمَان عشرَة سنة»([227]).
وهنا يقوم ابن الزبير بالدعاء لنفسه بعد علمه بموت يزيد بن معاوية، وموت ابنه معاوية بن يزيد، وهذا يؤكد أن ابن الزبير ب وإن رفض بيعة يزيد، إلا أنه لم يدعُ البيعة لنفسه؛ لأنه يرى أن الأمر يجب أن يكون أمر الخلافة شورى، لا أن يَعهد خليفة لمن بعده ولداً له كان أو غيره، قال خليفة بن خياط ؒ: «وَإِنَّمَا كَانَ ابْن الزبير يَدْعُو قبل ذَلِكَ إِلَى أَن تكون شُورَى بَين الْأمة، فَلَمَّا كَانَ بعد ثَلَاثَة أشهر من وَفَاة يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، دَعَا إِلَى بيعَة نَفسه، فبويع لَهُ بالخلافة لتسْع خلون من رَجَب سنة أَربع وَسِتِّينَ» ([228]).
والملاحظ هنا أن ابن الزبير ب كان ينادي بالشورى لاختيار الخليفة، وعندما شغر كرسي الخلافة بموت يزيد لم يقم بالشورى لاختيار الخليفة، وإنما دعا البيعة لنفسه، وهذا يدل على أن أمر الشورى كان يُنادي بها في الأحوال المستقرة، ولما اضطربت الأحوال، وشغر مكان الخلافة (على رأيه)، لم يجد بداً من ملئها حتى لا تقع الفتنة والفوضى، وقد تكون مثل هذه الحالة سبب قول بعض الدارسين من قدامى ومحدثين بسيادة المتغلب، ولكن القدامى كان عندهم شرط إقامة الدين، واتباع الشريعة، وإلا فلا يجوز اتباعه، على عكس رأي كثير من المحدَثين الذين قالوا بجواز اتباع المتغلِّب دون أي شرط إلا شرط القوة، وهذا لم يقلْه أحد من القدامى.
ونلاحظ أن يزيد توفي في شهر ربيع الأول، وبعده بشهر ونصف مات ابنه معاوية، وأن ابن الزبير دعا لنفسه بالخلافة بعد أن فرغ كرسي الخلافة بموت خليفتين، ولم يبايع لأحد بعدهما بحوالي شهر أو أكثر، ولم يكن هناك خليفة للمسلمين في أي مصر من الأمصار الإسلامية، أي كانت بيعة مروان بعد بيعة ابن الزبير في الحجاز بأكثر من أربعة أشهر، وهذا ما سبّب خلافاً عند بعض العلماء القدامى اعتبارهم ابن الزبير الخليفة، ومروان هو الباغي الخارج عليها.
ومن المعلوم أن معاوية بن يزيد لم يعهد بالخلافة لأحد بعده، بل تقول الرواية: «وَلِمَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قِيلَ لَهُ:
أَلَا توصي؟
فقال: لا أتزوّد مرارتها إلى إخوتي، وَأَتْرُكُ حَلَاوَتَهَا لِبَنِي أُمَيَّةَ....
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَخَالِدٌ إِخْوَةٌ، وَكَانُوا مِنْ صَالِحِي الْقَوْمِ... وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ هَذَا نَادَى فِي النَّاسِ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ذَاتَ يَوْمٍ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ.
فَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ أَمْرَكُمْ، وَأَنَا ضَعِيفٌ عَنْهُ، فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ تَرَكْتُهَا لِرَجُلٍ قَوِيٍّ كَمَا تَرَكَهَا الصِّدِّيقُ لِعُمَرَ، وَإِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا شُورَى فِي سِتَّةٍ مِنْكُمْ، كَمَا تَرَكَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مَنْ هُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ، وَقَدْ تَرَكْتُ لَكُمْ أَمْرَكُمْ، فَوَلُّوا عَلَيْكُمْ مَنْ يَصْلُحُ لَكُمْ.
ثُمَّ نَزَلَ، وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى»([229]).
وإن بعض بني أمية أراد مبايعة ابن الزبير، ولكن شعروا بالخطأ في هذا الرأي، يقول ابن كثير ب: «وَلَمَّا رَأَى مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ مَا انْتَظَمَ مِنَ البيعة لابن الزبير، وما استوثق لَهُ مِنَ الْمُلْكِ، عَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ إِلَيْهِ لمبايعته، وَلِيَأْخُذَ مِنْهُ أَمَانًا لِبَنِي أُمَيَّةَ، فَسَارَ حَتَّى بلغ أذرعات، فلقيه ابن زِيَادٍ مُقْبِلًا مِنَ الْعِرَاقِ، فَصَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهَجَّنَ رَأْيَهُ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، وَابْنُ زِيَادٍ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ، وَخَلْقٌ، فَقَالُوا لِمَرْوَانَ: أَنْتَ كَبِيرُ قريش..»([230]).
وبذلك عاد مروان ودعا لنفسه، واجتمعت الأمة عليه خلا الحجاز، ثم أتبع ابن الزبير رضي الله عنه العراق بالحجاز، بينما كانت بيعة مروان بن الحكم في منتصف ذي القعدة سنة أربع وستين([231]).
وهذا التداخل في البيعة والحكم أدى إلى فتن عدة، ومعارك كبيرة، فوقت في راهط موقعة بين من بايعوا عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه بقيادة الضحاك بن قيس، وبين من بايعوا مروان بن الحكم، وبقي القتال أكثر من عشرين يوماً «وقتل يَوْمَئِذٍ من أشراف الناس من أهل الشام، ممن كَانَ مع الضحاك ثمانون رجلاً... وقتل أهل الشام يَوْمَئِذٍ مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قط من القبائل كلها»([232]).
وهذه الرواية لم أجدها عند الطبري، وهي من رواية الكلبي، وهو غير ثقة.
وبعد وفاة مروان بن الحكم استُخلف عبد الملك بن مروان، ودعا ابن الزبير رضي الله عنه محمد بن علي بن أبي طالب لبيعته، فأبى، وحبسه في عدة من أصحابه، ومنهم عامر بن واثلة رضي الله عنه، ولم يخرجوا حتى أخرجهم المختار بن أبي عبيد([233]).
ولما سئل ابن عمر ب لماذا لم يبايع ابن الزبير، فاستنكر هذا السؤال، واعتبر الأمر من القاذورات التي يجب الابتعاد عنها([234]).
وعلق ابن عمر على عمل ابن الزبير ب فقال: «إِنَّمَا كَانَ مَثَلُنَا فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا يَسِيرُونَ عَلَى جَادَةٍ يَعْرِفُونَهَا، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ غَشِيَتْهُمْ سَحَابَةٌ، وَظُلْمَةٌ، فَأَخَذَ بَعْضُنَا يَمِينًا، وَبَعْضُنَا شِمَالًا، فَأَخْطَأْنَا الطَّرِيقَ، وَأَقَمْنَا حَيْثُ أَدْرَكْنَا ذَلِكَ، حَتَّى تَجَلَّى عَنَّا ذَلِكَ، حَتَّى أَبْصَرَنَا الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ، فَعَرَفْنَاهُ، فَأَخَذْنَا فِيهِ، إِنَّمَا هَؤُلَاءِ فِتْيَانٌ يَتَقَاتَلُونَ عَلَى هَذَا السُّلْطَانِ، وَعَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا، وَاللَّهِ مَا أُبَالِي أَلَّا يَكُونَ لِي مَا يَقْتُلُ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِنَعْلَيَّ»([235]).
ورفض الإمام سعيد بن المسيب بيعة ابن الزبير، فجلده جابر الأسود ستين سوطاً([236]).
وقد ذكر أبو نعيم قَالَ:
«كَانَتْ فِتْنَةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ تِسْعَ سِنِينَ، فَمَكَثَ شُرَيْحٌ لَا يُخْبِرُ، وَلَا يُسْتَخْبَرُ»([237])، وذكر ابن كثير الرواية بأطول، فقال شريح بعد النص السابق: «لما كانت الفتنة، لم أسأل عنها، فقال رجل: لو كنت مثلك ما باليت متى مت، فقال شريح: فكيف بما في قلبي، وقد رواه شقيق بن سلمة عن شريح قال: في الفتنة ما استخبَرْتُ، ولا أُخبرت، ولا ظلمت مسلماً، ولا معاهداً ديناراً، ولا درهماً»([238]).
ولما ولي الحجاج العراقين حاصر ابن الزبير في أول ذي القعدة سنة ثنتين وسبعين للهجرة، وبقي الحصار حتى جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين للهجرة، أي بقيت الحرب ما ينوف على ستة أشهر([239]).
وقبل هذا الحصار، قامت معارك كثيرة في العراق، حيث كان أميرها مصعب بن الزبير من قبل أخيه عبد اللَّه، ولما قُتل مصعب، ووُضع رأسه أمام عبد الملك بن مروان بكى، وقال: «وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَقْدِرُ أَنْ أَصْبِرَ عَلَيْهِ سَاعَةً وَاحِدَةً مِنْ حُبِّي لَهُ، حَتَّى دَخَلَ السَّيْفُ بَيْنَنَا، وَلَكِنَّ الْمُلْكَ عَقِيمٌ، وَلَقَدْ كَانَتِ الْمَحَبَّةُ، وَالْحُرْمَةُ بَيْنَنَا قَدِيمَةً، مَتَى تَلِدُ النِّسَاءُ مِثْلَ مُصْعَبٍ؟ ثُمَّ أَمَرَ بِمُوَارَاتِهِ، وَدَفَنَهُ، هُوَ وَابْنَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ فِي قُبُورٍ بِمَسْكِنٍ بِالْقُرْبِ مِنَ الْكُوفَةِ»([240]).
وعبد الملك هذا طلب من عامله الحجاج اتّباع ما يفعل ابن عمر في الحج، فقد روى الإمام البخاري من طريق مَالِك، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: «كَتَبَ عَبْدُ المَلِكِ إِلَى الحَجَّاجِ: أَنْ لاَ يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِي الحَجِّ، فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه، وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الحَجَّاجِ، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: «الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ»، قَالَ: هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: فَأَنْظِرْنِي حَتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأْسِي، ثُمَّ أَخْرُجُ، فَنَزَلَ حَتَّى خَرَجَ الحَجَّاجُ، فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي، فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرِ الخُطْبَةَ، وَعَجِّلِ الوُقُوفَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: «صَدَقَ»([241]).
فالحجاج هذا الذي يتبع ابن عمر في مناسك الحج بأمر عبد الملك بن مروان، هو الذي حارب ابن الزبير رضي الله عنه أيضاً بأمر عبد الملك بن مروان، فنصب خمسة مجانيق على مكة، وحاصر أهلها، وطالبهم بطاعة أمير المؤمنين عبد الملك، وقتل في ذلك خلقاً كثيراً في هذه الحرب، حيث حاصرهم، وحبس عنهم المؤن، والماء، فاعتمدوا على شرب ماء زمزم، ويعتبر حملته على الكعبة، وقصفها طاعة لأمير المؤمنين، وبقي ابن الزبير رضي الله عنه يقاتل، فقُتل كثير من أتباعه، حتى خذله الناس، وتركوه وحيداً، ورفض الصلح الذي عُرض عليه([242]).
قال الإمام ابن كثير: «وَمَا زَالَ أَهْلُ مَكَّةَ يَخْرُجُونَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْأَمَانِ، وَيَتْرُكُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، حَتَّى خَرَجَ إِلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَمَّنَهُمْ، وَقَلَّ أَصْحَابُ ابْنِ الزُّبَيْرِ جِدًّا، حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْحَجَّاجِ حَمْزَةُ، وَخُبَيْبٌ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَخَذَا لِأَنْفُسِهِمَا أَمَانًا مِنَ الْحَجَّاجِ فَأَمَّنَهُمَا»([243]).
وقد جاء الحجاجَ المددُ من أهل الشام، فجعل الحجاج أهل كل مدينة يواجهون باباً من أبواب الكعبة، وهو يجاهدهم، «ثُمَّ يَصِيحُ: أَبَا صَفْوَانَ! وَيْلُ أُمِّهِ فَتْحًا لَوْ كَانَ لَهُ رِجَالٌ:
لَوْ كَانَ قِرْنِي وَاحِدًا كَفَيْتُهُ!
فَيَقُولُ أَبُو صَفْوَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ: إِي وَاللَّهِ وَأَلْفُ»([244]).
و«كَانَ ابْنُ صَفْوَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ صَبَرَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ حِينَ حَصَرَهُ الْحَجَّاجُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنِّي قَدْ أَقَلْتُكَ بَيْعَتِي، فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ، فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا قَاتَلْتُ عَنْ ديني، ثُمَّ صَبَّرَ نَفْسَهُ، حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ»([245]).
وسارت المعارك بين عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه والحجاج، وأحسّ ابن الزبير بأن الموت قادم لا بد منه، فذهب ليودع أمه قبل المضي إلى نهاية الطريق التي اختارها راضياً، وكان مما قالته له أمه العظيمة أسماء بنت أبي بكر ل: قال الزبير بن بكار: «دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ رَأَى مِنَ النَّاسِ مَا رَأَى مِنْ خُذْلانِهِمْ، فَقَالَ: يَا أُمَّهْ، خَذَلَنِي النَّاسُ، حَتَّى وَلَدِي وَأَهْلِي، فَلَمْ يَبْقَ مَعِي إِلا الْيَسِيرُ مِمَّنْ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ الدَّفْعِ أَكْثَرَ مِنْ صَبْرِ سَاعَةٍ، وَالْقَوْمُ يُعْطُونَنِي مَا أَرَدْتُ مِنَ الدُّنْيَا، فَمَا رَأْيُكِ؟ قَالَتْ: أَنْتَ وَاللَّهِ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ يَا بُنَيَّ، إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ عَلَى حَقٍّ وَإِلَيْهِ تَدْعُو، فَامْضِ لَهُ، فَقَدْ قُتِلَ عَلَيْهِ مَنْ مَضَى مَنْ أَصْحَابِكَ، وَلا تُمَكِّنْ مِنْ رَقَبَتِكَ يَتَلَعَّبُ بِهَا غِلْمَانُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا أَرَدْتَ الدُّنْيَا، فَبِئْسَ الْعَبْدُ أَنْتَ، أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ، وَأَهْلَكْتَ مَنْ قُتِلَ مَعَكَ، وَإِنْ قُلْتَ: كُنْتُ عَلَى حَقٍّ، فَلَمَّا وَهَنَ أَصْحَابِي ضَعُفَتْ نِيَّتِي، فَكُلُّ هَذَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الأَحْرَارِ، وَلا أَهْلِ الدِّينِ، كَمْ خُلُودُكَ يَا بُنَيَّ فِي الدُّنْيَا؟ الْقَتْلُ أَحْسَنُ.
فَدَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَبَّلَ رَأْسَهَا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وَاللَّهِ رَأْيِي وَعَزْمِي، وَالَّذِي هَمَمْتُ بِهِ دَاعِيًا إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَمَا رَكَنْتُ إِلَى الدُّنْيَا، وَلا أَحْبَبْتُ الْحَيَاةَ فِيهَا، وَمَا دَعَوْتُ إِلَى الْخُرُوجِ إِلا الْغَضَبُ لِلَّهِ أَنْ تُسْتَحَلَّ حُرَمُهُ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَعْلَمَ رَأْيَكِ، فَزِدْتِنِي قُوَّةً وَبَصِيرَةً مَعَ بَصِيرَتِي، فَانْظُرِي يَا أُمَّهْ، فَإِنِي مَقْتُولٌ مِنْ يَوْمِي هَذَا أَنْ لا يَشْتَدَّ جَزَعُكِ عَلَيَّ، وَسَلِّمِي لِأَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ ابْنَكِ لَمْ يَتَعَمَّدْ إِتْيَانَ مُنْكَرٍ، وَلا عَمِلَ بِفَاحِشَةٍ، وَلَمْ يَجُرْ فِي حُكْمٍ، وَلَمْ يَغْدِرْ فِي أَمَانٍ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ ظُلْمَ مُسْلِمٍ، وَلا مُعَاهِدٍ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُمَّالِي سُوءٌ فَرَضِيتُهُ، بَلْ أَنْكَرْتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ عِنْدِي آثَرَ مِنْ رِضَا رِبِّي، اللَّهُمَّ لا أَقُولُ هَذَا تَزْكِيَةً لِنَفْسِي، أَنْتَ أَعْلَمُ بِي، وَلَكِنِّي أَقُولُهُ تَعْزِيَةً لأُمِّي لِتَسْلُوَ عَنِّي.
فَقَالَتْ أُمُّهُ: إِنِّي لَأَرْجُو مِنَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ عَزَائِي عَنْكَ حَسَنًا، إِنْ تَقَدَّمْتَنِي أَوْ تَقَدَّمْتُكَ، فَفِي نَفْسِي حَرَجٌ حَتَّى أَنْظُرَ إِلامَ يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرُكَ؟ فَقَالَ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا يَا أُمَّهْ، فَلا تَدَعِي الدُّعَاءَ قَبْلِي وَبَعْدِي، فَقَالَتْ: لا أَدْعُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَبَدًا، فَمَنْ قُتِلَ عَلَى بَاطِلٍ، فَقَدْ قُتِلْتَ عَلَى حَقٍّ.
ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ طُولَ ذَلِكَ الْقِيَامِ فِي اللَّيْلِ الطَّوِيلِ، وَذَاكَ النَّحِيبَ وَالظَّمَأَ فِي هَوَاجِرِ الْمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ، وَبِرَّهُ بِأَبِيهِ وَبِي، اللَّهمَّ إِنِّي سَلَّمْتُ فِيهِ لأَمْرِكَ، وَرَضِيتُ بِمَا قَضَيْتَ، فَأَثَبْنِي فِي عَبْدِ اللَّهِ ثَوَابَ الشَّاكِرِينَ الصَّابِرِينَ.»([246]).
وهذه الرواية من رواية الواقدي، وفيها انقطاع، واختارها علماء السير، وقبلوا بها([247])، ونرى كيف أن عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه خذله الناس، وتركوه، حتى أهله وولده، وخرجوا إلى عبد الملك بن مروان، وهذا الأمر يذكرنا بمعاوية رضي الله عنه لما استعرض أسماء من يمكن ترشيحهم للخلافة، ثم نظر فيهم جميعاً، وأحسّ أنهم لا يستطيعون حمل عبء أحمال الخلافة باجتهاده، وأثبتت حوادث التاريخ صحة فراسته فيهم، وقوله عن ابن الزبير أنه إن صار خليفة سينفض عنه أتباعه، بل في الحقيقة انفض عنه أهله، وولده، كما قال في كلامه لأمه أسماء رضي الله عنهم جميعاً.
ولما استشهد عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه، واستولى الحجاج على مكة، وخطب في أهلها، وأنه جاء لينصر الخلافة، ويقتل من يلحد في الحرم([248]).
وهكذا طويت صفحة من صفحات الفتن والحروب في القرن الهجري الأول، وذهب ضحيتها عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه إلى ربه راضياً مرضياً، بما أقدم عليه، وقام به، وتوصل إليه، ويمكن استخلاص الرؤية لهذه الحركة:
- لم تكن حركة ابن الزبير ثورة على الأمويين بالمعنى الحقيقي؛ لأنه أخذ البيعة لنفسه بعد وفاة معاوية بن يزيد، ولم يتعين خليفة مدة من الزمن، وبويع بالخلافة قبل مروان بن الحكم بأشهر قليلة [ولكن لم تجتمع على بيعته الأمة، كما اجتمعت على من سبقه، ومن جاء بعده]، وهذا ما دعا كثيراً من المؤرخين اعتباره هو الخليفة الشرعي، وليس الخليفة الأموي مروان.
- عند الصراع على الحكم يضيع كثير من الأخلاقيات، فينسى الصديق صديقه، والقريب قريبه، وهذا ما أحسّ به عبد الملك بن مروان عندما وُضع بين يديه رأس مصعب بن الزبير، وبكى.
- وفي سبيل تثبيت دعائم الحكم لا يلوي المتصارعة إلا على تثبيت (العرش) تحتهم، مهما كلفهم ذلك من نفوس وحيوات، وهذا ما أحسّ به مروان بن الحكم الذي كان مشغولاً قبل الحكم بأقضية عمر بن الخطاب، يتتبعها كما ذكر ذلك الإمام أحمد بن حنبل([249])، ولكنه بعد ذلك قال: «وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ، وَذَكَرَ مَرْوَانَ يَوْمًا فَقَالَ: قَالَ مَرْوَانُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثم أصبحت فيما أنا فيه، من إهراق الدماء، وهذا الشأن، وقال إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرة عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ: كَانَ مروان إذا ذكر الإسلام قال:
بنعمة ربى لا بما قدمت يدي
ولا بتراثي إِنَّنِي كُنْتُ خَاطِئَا»([250])
- ومثله ولده عبد الملك الذي وصفه ابن كثير أنه كان يجالس الفقهاء، والعلماء، والعبّاد، والصلحاء، وروى الحديث عن عدة، منهم جابر، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وابن عمر، وأبوه، وغيرهم كثير، وأنه كان قبل الخلافة من فقهاء المدينة، وملازماً للمسجد، ومن التالين للقرآن([251]).
ويروي ابن كثير بعد ذلك كلاماً لعبد الملك أنه لا يأكل في خلافته المال بغير حق، وأنه ليس بالخليفة المستضعف، ولا المداهن، وأنه يتحمل رأي الناس مهما كان، ولكن لا يرفعوا سيفاً، أو ينظموا جيوشاً، أو يدعون إلى شق جماعة الأمة([252]).
إذن هؤلاء الحكام مهما احتملوا الناس، ومهما حلموا عليهم، فإنهم لا يتحملون الوثوب على المنبر (الكرسي)، ويضرب عبد الملك مثلاً بابن عمه عمرو بن سعيد كيف قتله بكل بساطة وجسارة.
- في الصراع على السلطة يحس الحاكم بأنه هو مصلحة الأمة، ولا يقبل بتهديد مصالح الأمة، ولذلك يلجأ إلى القضاء على خصومه؛ ليحافظ على مصلحة الأمة.
- والحاكم، عادلاً كان أم ظالماً، لا يقبل بالفوضى والحروب والغوغائية، ولو كان من القائمين من الصلحاء، والعلماء، إذ لو ترك الأمر على رأيهم يرون معالجة سريعة، وحاسمة لانقلبت دعوات الإصلاح إلى فساد وهرج وقتل، لأن هذه الدعوات ستجعل الشعب أحزاباً وفئات متناحرة، ومتصارعة، ولذلك يعجل الحكام بالقضاء على أصحاب هذه الحركات، ورؤسائها، مهما كانت أوضاعهم الاجتماعية، أو ألقابهم العلمية.
- الناس الذين يساندون هؤلاء الثائرين لهم صبر محدود، وجَلَد ينتهي، ولذلك يتخيلون قائدهم إن لم يحمل بشائر النصر، يسلمونه إلى عدوهم وعدوه، وهذا ما حصل مع عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه، حيث خذله الناس، حتى أهله، وولده، كما قال لأمه أسماء ل، وكما روت كتب التاريخ أن الذين انفضوا عنه فاق العشرة آلاف رجل([253])، منهم ابناه حمزة وخبيب، وإن الذين يحاولون القيام بحركات الإصلاح، ويطلبون من الشعب مساندتهم، سيكون مصير ثورتهم الفشل – غالباً – لأن الناس يقيسون الأمور بأحوالها الحاضرة، لا بعواقبها الدنيوية، والأخروية، فعندما كان ابن الزبير منتصراً أيدوه، وعندما قويت شوكة خصومه تخلوا عنه، وانتقلوا إلى الكفة الأقوى، وهكذا الناس في كل زمان ومكان، بقدر ما ينصرون القائد، وفجأة يخذلونه، خصوصاً إذا كان الأمر لا تتضح فيه الفروق بين القائم والثائر، فكلهم مسلمون، لا يعرفون إلا الإسلام نظاماً وحكماً وشريعة، وكلهم صالحون، وهذا الذي لم يدركه الناس في زماننا، حيث لا يميزون بين الفرق القائمة بالأمر، أو الثائرة لإثبات أمر جديد، ويكتفي القواد بالشعارات دون النظر في أحوال هؤلاء القائمين يريدون إقامة حكم جديد، وأظهر مثال واضح حول هذا الأمر في الماضي أن عبد الله بن الزبير ب انتهى أمره في عهد عبد الملك، وابن الزبير صحابي ابن صحابي وصحابية، أما عبد الملك، فكان مشهوراً بالعلم والفقه، فهو من فقهاء المدينة وعلمائها، من أضراب سعيد بن المسيب ؒ وأصحابه، ولذلك لا يشعر الناس بالحرج من ظهور أحد المتخاصمين، فكلاهما عدل بذاته، وليس مطعوناً بدين.
ز- حركة عبد الرحمن بن الأشعث:
في سنة إحدى وثمانين أجمع ابن الأشعث المسير إلى العراق، وأخذ ينال من الحجاج، وينادي بخلعه، ولم يخلع عبد الملك بن مروان، لكراهية وتباغض بينهما([254])، ولذلك خاطب العراقيين قائلاً كما أورد ابن كثير: «ثم إن ابن الأشعث جمع رؤوس أهل العراق، وقال لهم: إِنَّ الحجاج قد ألحَّ عليكم في الإيغال في بلاد العدو، وهي البلاد التي قد هلك فيها إخوانكم بالأمس، وقد أقبل عليكم فصل الشتاء والبرد، فانظروا في أمركم، أما أنا فلست مطيعه، ولا أنقض رأياً رأيته بالأمس... وَوَثَبُوا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ، فَبَايَعُوهُ عِوَضًا عَنِ الْحَجَّاجِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَبَعَثَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى رتبيل، فصالحه على أنه إن ظفروا بِالْحَجَّاجِ فَلَا خَرَاجَ عَلَى رُتْبِيلَ أَبَدًا... قَالُوا: إِنَّ خَلْعَنَا لِلْحَجَّاجِ خَلْعٌ لابن مروان، فخلعوهما، وَجَدَّدُوا الْبَيْعَةَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ، فَبَايَعَهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وسنَّة رَسُولِهِ وَخَلْعِ أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَجِهَادِ الملحدين، فَإِذَا قَالُوا نَعَمْ بَايَعَهُمْ... وَقَالَ لَهُمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ: ليس الحجاج بشيء، وَلَكِنِ اذْهَبُوا بِنَا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ لِنُقَاتِلَهُ، ووافقه على خلعهما جميع من في البصرة مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْقُرَّاءِ، وَالشُّيُوخِ، وَالشَّبَابِ، ثُمَّ أَمَرَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِخَنْدَقٍ حَوْلَ الْبَصْرَةِ فَعَمِلَ ذَلِكَ»([255]).
والملاحظ في هذا النص كيف أن ابن الأشعث في سبيل حركته صالح رتبيل على إسقاط الجزية عنه للأبد: «وَبَعَثَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إلى رتبيل فصالحه على أنه إن ظفروا بِالْحَجَّاجِ فَلَا خَرَاجَ عَلَى رُتْبِيلَ أَبَدًا»([256]).
ولكن الحجاج قام على الفور بمصالحة رتبيل للتخلي عن ابن الأشعث: «فَصَالح [الحجاج] رتبيل، وخلى بَينه وَبَين ابْن الْأَشْعَث، فأوثقه وعدة من أهل بَيته فِي الْحَدِيد، وَأَقْبل يُرِيد الْحجَّاج، وَقد قرن بِهِ رجل يكنى أَبَا العَنز، فَلَمَّا صَار بالرخج طرح نَفسه من فَوق الْقصر، فماتا جَمِيعًا، وَحمل رَأس ابْن الْأَشْعَث إِلَى الْحجَّاج»([257]).
وكانت أول وقعة بينهما هي تستر، آخر سنة إحدى وثمانين، ثم جاءت الوقعة الثانية بالزاوية أول سنة اثنتين وثمانين، وكذلك كانت الوقعة الثالثة بظهر المربد في السنة نفسها، وجاءت الوقعة الرابعة بدير الجماجم، وفيها كانت الهزيمة في جمادى هذه السنة، وجاءت الوقعة الخامسة في شعبان من السنة نفسها([258]).
اليوم في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
اليوم في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
اليوم في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
اليوم في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
اليوم في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
اليوم في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin