ويذكر ابن كثير في روايته ما فعل مسرف [مسلم] بن عقبة في أهل المدينة، حيث وقف عليهم بعد مضي الثلاثة أيام، فقال: «يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ: مَضَتِ الثَّلَاثُ، وَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لِي: إِنَّكُمْ أَصْلُهُ وَعَشِيرَتُهُ، وَإِنَّهُ يَكْرَهُ إِرَاقَةَ دِمَائِكُمْ، وَإِنَّهُ أَمَرَنِي أَنْ أُؤَجِّلَكُمْ ثَلَاثًا فَقَدْ مضت، فماذا أَنْتُمْ صَانِعُونَ؟ أَتُسَالِمُونَ أَمْ تُحَارِبُونَ؟
فَقَالُوا: بَلْ نُحَارِبُ.
فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا، بَلْ سَالِمُوا، وَنَجْعَلُ جَدَّنَا وَقُوَّتَنَا عَلَى هَذَا الْمُلْحِدِ- يَعْنِي ابْنَ الزبير- .
فقالوا: يَا عَدُوَّ اللَّهِ! لَوْ أَرَدْتَ ذَلِكَ لَمَا مَكَّنَّاكَ مِنْهُ، أَنَحْنُ نَذَرُكُمْ تَذْهَبُونَ فَتُلْحِدُونَ فِي بيت اللَّه الحرام؟
ثم تهيأوا لِلْقِتَالِ، وَقَدْ كَانُوا اتَّخِذُوا خَنْدَقًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ابن عُقْبَةَ، وَجَعَلُوا جَيْشَهُمْ أَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ عَلَى كُلِّ ربع أمير، وجعلوا أجمل الْأَرْبَاعِ الرُّبُعَ الَّذِي فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْهَزَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَيْهَا، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ مِنَ السَّادَاتِ وَالْأَعْيَانِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ، وَبَنُونَ لَهُ سَبْعَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلُ، وَأَخُوهُ لِأُمِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَقَدْ مَرَّ بِهِ مروان وهو مجندل فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ فَكَمْ مِنْ سَارِيَةٍ قَدْ رَأَيْتُكَ تُطِيلُ عِنْدَهَا الْقِيَامَ وَالسُّجُودَ»([195]).
ومن عجائب هذه الرواية مع ما فيها من ثغرات، حيث تتابع أن مسلم بن عقبة هذا نقل معه ثلجاً من دمشق؟! ليشوب به الخمرة التي يشربها في المدينة، وما أدري في أي إناء، أو ثلاجة وضعها فيها لتبقى معه أياماً طويلة، ولا يذوب ثلجها، لأنه شرب خمراً بعد انتهاء المعركة، وقد أخذ الطريق معه إلى المدينة أياماً عدة، والمعركة لم تبدأ يوم وصل المدينة، بل أمهلهم ثلاثة أيام، ثم حدثت المعركة، ثم شاب خمره بهذا الثلج الذي حمله معه من دمشق، وثغرة أخرى غريبة أن علياً زين العابدين كان مع مروان بن الحكم الذي يودّه ويحبه([196])، وهذه المعركة بينها وبين معركة كربلاء سنتان، والروايات التي اعتمدها عدد من المحدثين أن عمر علي بن الحسين في كربلاء كان ثلاثاً وعشرين سنة، ورجح هذا ابن كثير وغيره، ثم يقولون إنه لم يقتل في كربلاء لأنه كان صغيراً، وما أدري ماذا يقصدون بأنه كان صغيراً، مع أنهم يقولون إن أكثر جنودها من أبناء الصحابة، وعلي هذا ابن الحسين بن علي، والحسين ليس من الصحابة الكبار، بل من صغارهم، ومثله في السن عبد الله بن حنظلة، والنعمان بن بشير، فقد كان عمره وعمر الحسين وابن حنظلة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أقل من ثماني سنوات، وأكبرهم عبد اللَّه بن الزبير الذي هو أول مولود للمهاجرين في المدينة، فأين الصحابة الكثيرون الذين قتلوا في هذه الوقعة، وقد كان أكثر المحاربين في تلك الأيام صغار السن، خصوصاً إذا تذكرنا إرجاف المنافقين بإمارة أسامة بن زيد الذي كان قريباً من الثامنة عشرة في غزو الروم، وفي الصحابيين الصغيرين رافع بن خديج، وسمرة بن جندب، يقول ابن كثير: «وَكَانَ قَدْ رَدَّ يَوْمَئِذٍ [غزوة أحد] سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ، وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَهُمَا ابْنَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ رَافِعًا رَامٍ؟
فَأَجَازَهُ.
فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ سَمُرَةَ يَصْرَعُ رَافِعًا!
فَأَجَازَهُ»([197]).
ثم يقولون تُرك زين العابدين لصغره، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وهذه من عجائب الروايات التي قد تكون سبباً في غياب حقائق تاريخية، وظهور مغالاة مقابلها.
وأختم النقول بقول التميمي ؒ: «فَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا آخَرَ يَقُولُ فِيهِ: إنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قُدْوَةٌ لأَنَّهُ خَتَنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَاتِبُهُ، وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدْ بَايَعَ لابْنِهِ، فَلَمَّا قَرَأَ سَعِيدٌ الْكِتَابَ قَالَ: كَذَبَ وَاللَّهِ، مَا مُعَاوِيَةُ بِقُدْوَةٍ فِي هَذَا، وَكفى بِمُعَاوِيَة ابْنه وَمَا أَحْدَثَ فِي الإِسْلامِ ،قَتَلَةُ أَهْلِ الْحَرَّةِ، وأباح الْمَدِينَةَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ لَا أُبَايِعُهُ وَاللَّهِ» ([198])، وهذه الرواية فيها آفات منها أن أحد رواتها داود بن يحيى، وهو صاحب أحاديث موضوعة، فهو وضاع غير ثقة، مع أنه يرويها عن رجل لم يسمّه، وإنما قال: «عن أبي محمد شيخ من أهل المدينة» أي هو مجهول، فمثل هذا الإسناد لا تقوم به رواية.
قال الحافظ ابن حجر ؒ: «وأخرج أبو بكر بن أبي خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بن أسماء سمعت أشياخ أهل المدينة يتحدثون أن معاوية لما احتضر، دعا يزيد فقال له: إن لك من أهل المدينة يوماً، فإن فعلوا، فارمهم بمسلم بن عقبة، فإني عرفت نصيحته، فلما ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة وجماعة، فأكرمهم وأجازهم، فرجع فحرض الناس على يزيد، وعابه، ودعاهم إلى خلع يزيد، فأجابوه، فبلغ يزيد، فجهز إليهم مسلم بن عقبة، فاستقبلهم أهل المدينة بجموع كثيرة، فهابهم أهل الشام وكرهوا قتالهم، فلما نشب القتال سمعوا في جوف المدينة التكبير، وذلك أن بني حارثة أدخلوا قوماً من الشاميين من جانب الخندق، فترك أهل المدينة القتال، ودخلوا المدينة خوفاً على أهلهم، فكانت الهزيمة، وقتل من قتل، وبايع مسلم الناس على أنهم خول ليزيد يحكم في دمائهم وأموالهم وأهلهم بما شاء»([199]).
نتائج المأساة:
وعلى كل حال نقول:
1- إن مأساة الحرة كانت كبيرة، وأكبر منها مأساة قتل الحسين رضي الله عنه، وأكبر منها مأساة قتل علي رضي الله عنه، وأكبر من ذلك كله مأساة قتل عثمان رضي الله عنه، ولذلك كان رأي ابن عمر رضي الله عنه إن صحت الرواية – أن وقعة الحرة كانت انتقاماً للتقاعس عن نصرة عثمان رضي الله عنه، بعدم الدفاع عنه، وبعدم أخذ الثأر له، «قال المدائني عن عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ التَّمِيمِيِّ قَالَا: لَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الْحَرَّةِ صَاحَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: بِعُثْمَانَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ»([200]).
2- وكان لوقعة الحرة نتائج سيئة على أهل المدينة، ونكتة سوداء في تاريخ يزيد بن معاوية، وتاريخ الذين أثاروه، وثاروا عليه، وتاريخ الذين ما زالوا يحملون في قلوبهم كثيراً من النظرات السوداء نحو التاريخ الإسلامي، وقد زرع هذه النظرات كثير من المؤرخين القدامى، الذين كانوا إما من الروافض، أو من أعداء الإسلام الذين بدؤوا بتنفيذ مآربهم منذ اغتيال الصحابي العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم أتبعوه بالتضحية بالصحابي العظيم عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومن بعد ذلك انتقلوا من فكرة قتل ولي أمر المسلمين إلى اغتيال الخط الإسلامي، والفكر الإسلامي، والعقيدة الإسلامية، فظهرت بأسلوب أفكار، وتنظيمات، وإعداد لإضلال الأمة، متبعين كل طريق ناعم، وخفيف، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه.
ولذلك نجد بيننا كثيرين ممن يدعون أنهم مثقفون، أو علماء يتنقّصون الصحابة، أو بعضهم، ويعتبرون التاريخ الإسلامي تاريخ طغيان، وظلم، واستبداد.
3- ولما انتهت المعركة، وذهب الخبر [البشارة كما يدّعون] إلى يزيد بانتهائها: «لَمْ يخرج أحد مِنْ آلِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَيَّامَ الْحَرَّةِ... وَرَوَى الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ بَعَثَ رَوْحَ بْنَ زنباع إلى يزيد بِبِشَارَةِ الْحَرَّةِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِمَا وَقَعَ قَالَ:
«وا قوماه».
ثُمَّ دَعَا الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ الْفِهْرِيَّ فَقَالَ لَهُ:
تَرَى مَا لَقِيَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ؟ فَمَا الَّذِي يَجْبرُهُمْ؟
قَالَ: الطَّعَامُ وَالْأَعْطِيَة.
فَأَمَرَ بِحَمْلِ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ أَعْطِيَتَهُ، وَهَذَا خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ كَذَبَةُ الرَّوَافِضِ»([201]).
والجملة الأخيرة في هذه الرواية من الإمام ابن كثير :، فهو الذي نقل الخبر، وعلّق عليه.
4- وإن الخروج بالسيف على سلطان – عادلاً، أو جائراً، أو فاسقاً، ولا أقول كافراً، أو ملحداً، أو محارباً للإسلام والمسلمين، فذاك له حكم آخر- لا يأتي بخير، مع التنبه إلى أننا نتكلم عن السلطان المسلم، لا عن سلطان ملحد، يأمر بالكفر، ويمنع الإسلام، أو سلطان لا يقيم للإسلام وزناً، ولا يقبل فيه حكماً: لا قولاً ولا عملاً، وإنما همه الحرب على الإسلام، ولكنه الإحن التي تدخل في القلوب تجعل من الحاكم المسلم كافراً مشركاً، أو فاسقاً فاجراً لتؤلب عليه الناس، لتضيع الأمة باسم حرب الظلم.
5- إذا غضب سلطان – كائناً من كان، مسلماً أو غير مسلم – انتقم انتقاماً قد لا يكون فيه رحمة أو شفقة، لأنه يريد تثبيت أركان الدولة (حكمه)، وكل الحكام في التاريخ يعاملون بهذه الطريقة أنهم استطاعوا قمع الخارجين، وأصحاب الفتنة، إلا في تاريخ المسلمين، يعبرون الأمر أمر طغيان واستبداد، لا أمر إدارة للدولة، وقوة بأسٍ لسلطانها، وينسبون هذا الظلم والبطش بسبب اعتماد هؤلاء الحكام على الإسلام، وأما غيرهم من الحكام، فهذا يدل على صلاح الحاكم، وقوة سلطته، وإحكام إدارته، وعظمة شخصيته التي حافظت على قوة السلطة، وأمن البلاد.
6- الذين خرجوا على السلطان في هذه الفترة ينظرون إلى الأمر من زاوية واحدة ضيقة، وإن كان ظاهرها كبيراً واسعاً، وهي إقامة حكم اللَّه، وإنفاذ أحكامه، ونحن نقول هي زاوية ضيقة؛ لأنهم لا يحسبون لأرواح العامة، وأموالهم، وأعراضهم أي حساب، ويتعلقون بنصوص وردت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويؤولونها إلى محاربة السلطان، واستبدال الحاكم بغض النظر عن دينه، وشدته في الحفاظ على بيضة الدين، وينطلقون بالتشنيع، والتفظيع، وإثارة العامة، كما رأينا قبل وقعة الحرة، كيف أنهم وصفوا يزيد بشرب الخمر، واللهو، والسماع، وإهمال هذا الدين، وأن هؤلاء الذين تأسست أوائلهم في عهد عمر رضي الله عنه فقتلوه، وزادت قوتهم، واستفحل شرهم، وانتظم أمرهم، فاستطاعوا تفكيك المجتمع ضد عثمان، فقتلوه رضي الله عنه، ثم في عهد عليّ كيف نخروا في جيشه، وكيف استطاعوا أن يوقعوا بينه وبين عدد من الصحابة، وفي عهد معاوية رضخوا قليلاً، وتظاهروا بالزوال، وبقوا ينخرون في جسد الدولة سراً بنشر الأكاذيب والخرافات حول الإمام، ومواصفات الإمام، وفي عهد يزيد انقلبوا أسوداً، واستطاعوا تجييش الأمة في مناطقها المتعددة باسم إعادة الشورى، وإزالة الكسروية والهرقلية، ونحن هنا لسنا في معرض الدفاع عن يزيد، أو اتهامه، فقد ذهب إلى ربه، وسينال جزاء أعماله، إلا أننا لاحظنا من خلال مناقشة محمد بن الحنفية ؒ للثائرين كيف كان ينكر عليهم هذه المحاولات، حتى عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنه، روي عنه أنه قال لما سمع ببيعة يزيد: «إن كان خيراً رضينا، وإن كان بلاء صبرنا»([202]).
ولو أن هؤلاء الثائرين رحمهم اللَّه، توجهوا إلى الدعوة إلى الخير، وإلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لكان أولى لهم، ولكن ليقضي اللَّه أمراً كان مفعولاً.
7- عندما يغضب السلطان، لا يعرف إلا تثبيت حكمه (كرسيه)، ولذلك لا يأبه لقرابة، أو صحبة، أو رحم، بل ينطلق في بطشه حتى النهاية، قال المدائني: «وَأَبَاحَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ ثلاثة أيام، يقتلون من وجدوا من النَّاسَ، وَيَأْخُذُونَ الْأَمْوَالَ، فَأَرْسَلَتْ سُعْدَى بِنْتُ عَوْفٍ المرية إلى مسلم بن عقبة تقول له:
أَنَا بِنْتُ عَمِّكَ، فَمُرْ أَصْحَابَكَ أَنْ لَا يتعرضوا لإبلنا بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا.
فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا تَبْدَؤُوا إلا بأخذ إبلها أولاً.
وجاءته امرأة فقالت: أَنَا مَوْلَاتُكَ، وَابْنِي فِي الْأُسَارَى.
فَقَالَ: عَجِّلُوهُ لها.
فضربت عنقه.
وقال: أعطوها رأسه، أما ترضين ألا يقتل حَتَّى تَتَكَلَّمِي فِي ابْنِكِ؟»([203]).
وهذه رواية المدائني بلا إسناد، وهو معروف أنه كان يرسل كلامه غير مسند، وضعفه المحدثون، ولكن يرون أنه في التاريخ صدوق، وأظن أن مثل هذه الرواية تحتاج إلى من يساعد المدائني فيها حتى تقف على قدميها، ونعتبرها مقبولة صحيحة.
8- قدّر مؤرخون عدد القتلى في مأساة الحرة سبعمائة من وجوه الناس، من أولاد المهاجرين والأنصار، ومن غير المعروفين أحراراً وعبيداً، وإن وردت بعض الروايات التي تذكر آلاف القتلى، ومئات الشهداء من الصحابة والتابعين، وقام المؤرخ العظيم خليفة بن خياط بذكر من استشهد في الحرة، فعدد قتلى كل عشيرة من العشائر في المدينة، ومن جيش يزيد، وبعد أن ذكر أعدادهم واحداً واحداً، ختم الأسماء بنتيجة التعداد فقال: «فَجَمِيع من أُصِيب من الْأَنْصَار مائَة رجل وَثَلَاثَة وَسَبْعُونَ رجلا، وَجَمِيع من أُصِيب من قُرَيْش وَالْأَنْصَار ثَلَاث مائَة رجل وَسِتَّة رجال، قَالَ أَبُو الْحسن كانت وقْعَة الْحرَّة لثلاث بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ([204]).
9- مأساة الحرة هذه وقعت في أواخر عهد الصحابة، والأمراء والقواد الذين قادوها مع كل ما يظهر من بعضهم صلف وشناعة، فقد كان عندهم شيء من الدين الذي يضبط، ويقيّد بعض تصرفاتهم، حتى في أحلك ساعات المأساة، فلما جيء بعلي بن الحسين (زين العابدين) إلى مسلم بن عقبة:
قَالَ لَهُ مسلم بن عقبة: قم إلى هاهنا فاجلس، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ.
وَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْصَانِي بِكَ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ شَغَلُونِي عنك.
ثم قال لعلي بن الحسين: لعل أهلك فزعوا؟
فقال: إِي وَاللَّهِ.
فَأَمَرَ بِدَابَّتِهِ فَأُسْرِجَتْ، ثُمَّ حَمَلَهُ عَلَيْهَا حَتَّى رَدَّهُ إِلَى مَنْزِلِهِ مُكَرَّمًا»([205]).
هذه بعض صفات من قاموا بمأساة الحرة، فكيف بالحكام من بعدهم، أو في عصرنا، مع ضعف الوازع الديني، أو فقده عند كثير منهم، أو فقد الدين نفسه، فليتق اللَّه من يريد إقامة حكم اللَّه، وليتق اللَّه من يريد إظهار المعروف، وإماتة المنكر، فمن كان آمراً بالمعروف، فليكن أمره بمعروف، ومن كان ناهياً عن منكر، فليكن نهيه بغير منكر.
د-حركة التوابين:
كان سليمان بن صرد رضي الله عنه «ممّن كاتب الحسين، ثم تخلّف عنه، ثم قدم هو والمسيب بن نجبة في آخرين، فخرجوا في الطلب بدمه وهم أربعة آلاف، فالتقاهم عبيد اللَّه بن زياد بعين الوردة بعسكر مروان، فقتل سليمان ومن معه»([206]).
وهذا العدد الذي ذكره الحافظ، وهو أربعة آلاف، هو ما تبقى من الجنود الذين تجمعوا لأخذ ثأر الحسين بن علي رضي الله عنه، فقد ذكر الواقدي «لما خرج الناس إلى النخيلة، كانوا قليلاً، فلم تعجب سليمان قلتُّهم، فأرسل حكيم بن منقذ فنادى في الكوفة بأعلى صوته: يا ثارات الحسين، فلم يزل ينادى حتى بلغ المسجد الأعظم، فسمع الناس فخرجوا إلى النخيلة، وخرج أشراف الكوفة، فكانوا قريباً من عشرين ألفاً، أو يزيدون، في ديوان سليمان بن صرد، فلما عزم على المسير بهم، لم يصف معه منهم سوى أربعة آلاف»([207]).
وهي مع ذلك من رواية الواقدي، وهو متهم، وقد كان خروج هؤلاء ثأراً للحسين بن علي، كما زعموا، وليس طمعاً في إزالة الدولة أو الحكم، وإن كان هذا الأمر في معايير عصرنا يعتبره الكثيرون ثورة على الدولة، لأنهم كانوا يفكرون بالانتقام من قتلة الحسين فقط، ولذلك قال رجل منهم هو عبد اللَّه بن سعد: «إِنَّمَا خَرَجْنَا نَطْلُبُ بِدَمِ الْحُسَيْنِ، وَقَتَلَتِهِ كُلِّهِمْ بِالْكُوفَةِ؛ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَشْرَافُ الْقَبَائِلِ، فَقَالُوا: لَقَدْ جَاءَ بِرَأْيٍ، وَمَا نَلْقَى إِنْ سِرْنَا إِلَى الشَّامِ إِلَّا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: أَنَا أَرَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ، وَعَبَّأَ الْجُنُودَ وَقَالَ: لَا أَمَانَ لَهُ عِنْدِي دُونَ أَنْ يَسْتَسْلِمَ فَأَمْضِي فِيهِ حُكْمِي، فَسِيرُوا إِلَيْهِ»([208]).
وهذه الرواية التي اختارها الإمام الذهبي، بينما أورد الطبري رواية الرافضي أبي مخنف لوط بن يحيى، وفيها: «فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ، وعنده رؤوس أَصْحَابه جلوس حوله: إني قَدْ رأيت رأياً، إن يكن صواباً فاللَّه وفّق، وإن يكن ليس بصواب، فمن قبلي، فإني مَا آلوكم ونفسي نصحاً، خطأ كَانَ أم صواباً، إنما خرجنا نطلب بدم الْحُسَيْن، وقتلة الْحُسَيْن كلهم بالكوفة، مِنْهُمْ عُمَر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص، ورؤوس الأرباع، وأشراف القبائل، فأنى نذهب هاهنا، وندع الأقتال، والأوتار! فَقَالَ سُلَيْمَان بن صرد: فماذا ترون؟ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لقد جَاءَ برأي، وإن ما ذكر لكما ذكر، واللَّه مَا نلقى من قتلة الْحُسَيْن إن نحن مضينا نحو الشام غير ابن زياد، وما طلبتنا إلا هاهنا بالمصر»([209]).
وعلى هذا تكون حركة التوابين حركة اجتهادية للانتقام من قتلة الحسين، فهي جريمة كبرى، لا يحتملها الناس، ومع أنها ليست خروجاً على الحاكم، أو طلباً لتغيير الخليفة، فأهله لم ينادوا بهذا، ولم يحملوا شعاراً سياسياً لتغيير الحاكم، أو الخروج عليه، بل هي سقوط في فتنة الإصلاح، وإعادة الحق، والانتقام من القاتل الظالم، فقبع هؤلاء في مناطق العراق، المناطق التي فيها قتلة الحسين، ومخذّلوه، فهؤلاء التوابون حاولوا الأخذ بثأره من قاتليه، وماتوا رحمهم اللَّه دون هذا الأمر.
ويلاحظ أنهم لم يحققوا طلبتهم، لأن الأمير الذي يطلبون هو الذي قتلهم، والخليفة الذي نصب هذا الأمير، هو الخليفة الذي أمرهم بقتالهم، وبالتالي مات خلق كثير من جراء هذه الفتنة، ولم يحقق أصحابها أهدافهم، وأرى أن السبب في هذه الفتن أن الإنسان عندما يجتهد دون النظر في السياسة العامة للأمة، ومصلحة الدولة، وهو يعلم أن هذا النظام القائم هو الذي حافظ على إقامة الدين، ورفع راية الجهاد في سبيل الله، عندما يكون الإنسان في هذه النظرة المحدودة، يجعل الثأر لإنسان واحد، أهم من دولة تقوم بأمر الدين، وبذلك يكون وقع في براثن من أقاموا هذه الدعوات والدعايات للنيل من قوة الإسلام، وقوة دولته، ولم تكن هذه الدولة إلا التي تقوم بأمر الإسلام الذي يدعي هذا المجتهد في الثأر لدم إنسان مهما علا أمره، ولا يهمه أمر هذه الأمة، ولا أمر مستقبلها، والأولى كان اللجوء إلى طريقة لإقامة الحق غير هذه الطريقة التي قد تُلحِق بالذي يثأر له أنفساً كثيرة.
والاجتهاد في مثل هذه الأمور خطير جداً، خصوصاً إذا صدر عن أمر بعيد عن الفقه والسياسة الشرعية، واعتماده على بعض الشعارات التي يرددها أعداء هذه الأمة لينالوا منها، فتكون نتائجه سلبية قد تودي بالأمة، أو بفريق كبير منها إلى مآس، ومواجع لا حدّ لها.
هـ- فتنة المختار بن عبيد الثقفي:
على رأي ما ورد في الآثار عن أسماء بنت أبي بكر ل أن المختار هو المقصود بالحديث الذي روته أسماء بنت أبي بكر تخاطب به الحجاج بن يوسف: «أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَنَا «أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا، وَمُبِيرًا» فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ»([210]).
قال الإمام ابن عبد البر: «ولد المختار عام الهجرة، وليست له صحبة، ولا رواية، وأخباره أخبار غير مرضية، حكاها عنه ثقات مثل: سويد بْن غفلة، والشعبي، وغيرهما، وذلك مذ طلب الإمارة إِلَى أن قتله مصعب بْن الزُّبَيْر بالكوفة سنة سبع وسبعين، وَكَانَ قبل ذلك معدوداً فِي أهل الفضل والخير، يرائي بذلك كله، ويكتم الفسق، فظهر منه مَا كَانَ يضمر، والله أعلم، إلى أن فاق ابْن الزُّبَيْر وطلب الإمارة، وَكَانَ المختار يتزين بطلب دم الحسين رضوان اللَّه عَلَيْهِ، إلا أنه كَانَ بينه وبين الشعبي مَا يوجب ألا يقبل قول بعضهم فِي بعض.
والمختار معدود في أهل الفضل والدين إلى أن طلب الإمارة، وادعى أنه رَسُول مُحَمَّد ابْن الحنفية في طلب دم الحسين» ([211]).
وقال الصلاح الصفدي: «ويقال: كان أول أمره خارجيًّا، ثم صار زيديًّا، ثم صار رافضيًّا»([212])، وقال الحافظ ابن حجر: «وقتل المختارُ محمدَ بنَ عمار بن ياسر ظلماً، لأنه سأله أن يحدّث عن أبيه بحديث كذب، فلم يفعل فقتله... قد شهد عليه بدعوى النبوة، والكذب الصّريح جماعة من أهل البيت... وكان المختار قد خرج يطلب بثأر الحسين، فاجتمع عليه بشر كثير من الشيعة بالكوفة، فغلب عليها، وتطلّب قتلة الحسين فقتلهم ... فلذلك أحبّ المختارَ كثيرٌ من المسلمين، فإنه أبلى في ذلك بلاء حسناً، قال: وكان يرسل المال إلى ابن عمر... وكان أول أمر المختار أن ابن الزبير أرسله إلى الكوفة ليؤكد له أمر بيعته، وولى عبد اللَّه بن مطيع إمرة الكوفة، فأظهر المختار أنّ ابن الزبير دعا في السرّ للطّلب بدم الحسين، ثم أراد تأكيد أمره، فادّعى أنّ محمّد بن الحنفية هو المهديّ الّذي سيخرج في آخر الزمان، وأنه أمره أن يدعو الناس إلى بيعته، وزوّر على لسانه كتاباً، فدخل في طاعته جمع جمّ، فتقوّى بهم، وتتبّع قتلة الحسين، فقتلهم، فقوي أمره بمن يحبّ أهل البيت... ثم قوى مصعب بن الزبير أمير البصرة عن أخيه عبد اللَّه بن الزّبير على المختار بكثير من أهل الكوفة، ممّن كان دخل في طاعة المختار، ورجع عنه لما تبيّن له من تخليطه وأكاذيبه... فلما التقى المختار ومصعب خذل المختار أولئك الذين كانوا معه، فحوصر المختار في القصر إلى أن قتل هو ومن معه»([213]).
وقد ذكر الذهبي عن الصحابي أبي الطفيل عامر بن واثلة أنه حمل راية المختار لما ظهر في العراق([214])، حيث كانت بدايته مقبولة في الثأر لدم الحسين.
وبعد انكشاف حقيقة المختار بدأت دولته بالزوال، وكأنها لم تكن قد ظهرت، «وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِزَوَالِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ فِي نفسه صادقاً، بل كان كاذباً يزعم أنَّ الوحي يأتيه على يد جبريل.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عيسى القارئ، أبو عمير بن السدي، عن رفاعة القبابي قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْمُخْتَارِ فَأَلْقَى لِي وِسَادَةً، وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ أَخِي جِبْرِيلَ قَامَ عَنْ هَذِهِ لَأَلْقَيْتُهَا لَكَ، قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ: فَذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ أَخِي عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَمَّنَ مُؤْمِنًا على دمه فقتله، فأنا من القاتل بريء).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ عَلَى رَأْسِ الْمُخْتَارِ، فَلَمَّا عَرَفْتُ كَذِبَهُ هَمَمْتُ أَنْ أَسُلَّ سَيْفِي فَأَضْرِبَ عنقه، فذكرت حديثاً حدثناه عمرو بْنُ الْحَمِقِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ أَمَّنَ رَجُلًا عَلَى نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ أُعْطِيَ لِوَاءَ غَدْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ غَيْرِ وجه»([215]).
وتقدم حَديث مسلم: «أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا، وَمُبِيرًا» فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ»([216]).
قال الإمام ابن كثير: «وقد ذكر الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْكَذَّابَ هُوَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عبيد، وكان يظهر التشيع، ويبطن الكهانة، وأسرّ إلى أخصائه أنه يوحى إليه، وكان ما أدري هل كَانَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ أَمْ لَا؟ وَكَانَ قَدْ وُضع له كرسي يعظم، ويحف به الرجال، وَيُسْتَرُ بِالْحَرِيرِ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْبِغَالِ، وَكَانَ يُضَاهِي بِهِ تَابُوتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ، ولا شك أَنَّهُ كَانَ ضَالًّا مُضِلًّا، أَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ منه، بعد ما انْتَقَمَ بِهِ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بعضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: 129]» ([217]).
دروس من المأساة:
- إلباس الطامعين في الحكم بعض المظاهر الخادعة لعوام المسلمين، فينادون بشعارات تتناسب مع عواطف هؤلاء العوام، كدعوة الانتقام للحسين رضي الله عنه، أو الانتقام لآل البيت [وهذه الخرافة ما زالت إلى اليوم عالقة عند كثيرين، وهي أيضاً ما زالت حجة للسذّج من دارس التاريخ(كما يدّعون) والمثقفين العلماء!]، وحقيقة مطالبهم هي الحصول على الحكم، ولذلك نرى أن الصحابي الجليل أبا الطفيل رضي الله عنه لما اكتشف زيف دعوة المختار، تركها وانخذل عنها.
- إزهاق أرواح أفراد الأمة طمعاً بالحكم من قبل الطامعين والمغامرين.
- دعوات الثائرين تعتمد على مشاعر العوام، والغوغاء، لاستغلال اندفاعهم في القتال معهم.
- بطش الحكام بالمناوئين، والمخالفين مهما كان عددهم، أو نوعهم.
- دعوة المختار كانت ثورة على الثورة، فهي ثورة على عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، قبل أن تكون ثورة على بني أمية، إلا أنها اتكأت في خداعها للجماهير على الانتصار لآل البيت ضد الأمويين، ثم انقلبت على الزبيريين، وهذه الثورة أكبر دليل على مدى تغلغل الدعايات السبئية الرافضية بين أصحاب هذه الثورات.
و- عبد الله بن الزبير:
عبد الله بن الزبير رضي الله عنه من صغار الصحابة، فهو أول مولود للمهاجرين في المدينة، «ولد عام الهجرة، وحفظ عن النبيّ رضي الله عنه وهو صغير، وحدّث عنه بجملة من الحديث ... وهو أحد العبادلة، وأحد الشجعان من الصحابة، وأحد من ولي الخلافة منهم(؟!)... وبويع بالخلافة سنة أربع وستين عقب موت يزيد بن معاوية، ولم يتخلف عنه إلا بعض أهل الشام، وهو أول مولود ولد للمهاجرين بعد الهجرة، وحنكه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي البخاري عن ابن عباس أنه وصف ابن الزّبير فقال: عفيف الإسلام، قارئ القرآن، أبوه حواريّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأمّه بنت الصديق، وجدّته صفية عمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعمة أبيه خديجة بنت خويلد.
... كان ابن الزبير إذا قام للصلاة كأنه عمود... وشهد فتح إفريقية، وكان البشير بالفتح إلى عثمان... وشهد الدار، وكان يقاتل عن عثمان، ثم شهد الجمل مع عائشة... ثم اعتزل ابن الزبير حروب علي ومعاوية، ثم بايع لمعاوية»([218]).
وعندما طلب معاوية رضي الله عنه أن تؤخذ البيعة لابنه يزيد، أُخبر أن عبد اللَّه بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد اللَّه بن الزبير، خرجوا من المدينة عائذين بالكعبة من بيعة يزيد بن معاوية، قال: فلما قدم معاوية مكة، تلقاه عبد اللَّه بن الزبير بالتنعيم، فضاحكه معاوية، وسأله عن الأموال، ولم يعرض بشيء من الأمر الذي بلغه، ثم لقي عبد اللَّه بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فتفاوضا معه في أمر يزيد، ثم دعا معاوية ابن الزبير.
فقال له: هذا صنيعك، أنت استزللت هذين الرجلين، وسننت هذا الأمر، وإنما أنت ثعلب رواغ، لا تخرج من جحر إلا دخلت في آخر.
فقال ابن الزبير:
ليس بي شقاق، ولكن أكره أن أبايع رجلين، أيكما أطيع بعد أن أعطيكما العهود والمواثيق؟ فإن كنت مللت الإمارة فبايع ليزيد، فنحن نبايعه معك...([219]).
وبعد وفاة معاوية رضي الله عنه، أخذت البيعة له في كل الأمصار: «لما أَبْطَأَ عبد اللَّه بن الزبير عَن بيعَة يزِيد بن مُعَاوِيَة، وتخلف، وخشي مِنْهُم، لحق بمَكَّة؛ ليمتنع بِالْحرم، وَجمع موَالِيه، وَجعل يظْهر عيب يزِيد بن مُعَاوِيَة، ويشتمه، وَيذكر شربه الْخمر، وَغير ذَلِك، ويجتمع النَّاس إِلَيْهِ، فَيقوم فيهم بَين الْأَيَّام، فيذكر مساوئ بني أُميَّة، فيطنب فِي ذَلِك»([220]).
فَقَالُوا: بَلْ نُحَارِبُ.
فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا، بَلْ سَالِمُوا، وَنَجْعَلُ جَدَّنَا وَقُوَّتَنَا عَلَى هَذَا الْمُلْحِدِ- يَعْنِي ابْنَ الزبير- .
فقالوا: يَا عَدُوَّ اللَّهِ! لَوْ أَرَدْتَ ذَلِكَ لَمَا مَكَّنَّاكَ مِنْهُ، أَنَحْنُ نَذَرُكُمْ تَذْهَبُونَ فَتُلْحِدُونَ فِي بيت اللَّه الحرام؟
ثم تهيأوا لِلْقِتَالِ، وَقَدْ كَانُوا اتَّخِذُوا خَنْدَقًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ابن عُقْبَةَ، وَجَعَلُوا جَيْشَهُمْ أَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ عَلَى كُلِّ ربع أمير، وجعلوا أجمل الْأَرْبَاعِ الرُّبُعَ الَّذِي فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْهَزَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَيْهَا، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ مِنَ السَّادَاتِ وَالْأَعْيَانِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ، وَبَنُونَ لَهُ سَبْعَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلُ، وَأَخُوهُ لِأُمِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَقَدْ مَرَّ بِهِ مروان وهو مجندل فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ فَكَمْ مِنْ سَارِيَةٍ قَدْ رَأَيْتُكَ تُطِيلُ عِنْدَهَا الْقِيَامَ وَالسُّجُودَ»([195]).
ومن عجائب هذه الرواية مع ما فيها من ثغرات، حيث تتابع أن مسلم بن عقبة هذا نقل معه ثلجاً من دمشق؟! ليشوب به الخمرة التي يشربها في المدينة، وما أدري في أي إناء، أو ثلاجة وضعها فيها لتبقى معه أياماً طويلة، ولا يذوب ثلجها، لأنه شرب خمراً بعد انتهاء المعركة، وقد أخذ الطريق معه إلى المدينة أياماً عدة، والمعركة لم تبدأ يوم وصل المدينة، بل أمهلهم ثلاثة أيام، ثم حدثت المعركة، ثم شاب خمره بهذا الثلج الذي حمله معه من دمشق، وثغرة أخرى غريبة أن علياً زين العابدين كان مع مروان بن الحكم الذي يودّه ويحبه([196])، وهذه المعركة بينها وبين معركة كربلاء سنتان، والروايات التي اعتمدها عدد من المحدثين أن عمر علي بن الحسين في كربلاء كان ثلاثاً وعشرين سنة، ورجح هذا ابن كثير وغيره، ثم يقولون إنه لم يقتل في كربلاء لأنه كان صغيراً، وما أدري ماذا يقصدون بأنه كان صغيراً، مع أنهم يقولون إن أكثر جنودها من أبناء الصحابة، وعلي هذا ابن الحسين بن علي، والحسين ليس من الصحابة الكبار، بل من صغارهم، ومثله في السن عبد الله بن حنظلة، والنعمان بن بشير، فقد كان عمره وعمر الحسين وابن حنظلة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أقل من ثماني سنوات، وأكبرهم عبد اللَّه بن الزبير الذي هو أول مولود للمهاجرين في المدينة، فأين الصحابة الكثيرون الذين قتلوا في هذه الوقعة، وقد كان أكثر المحاربين في تلك الأيام صغار السن، خصوصاً إذا تذكرنا إرجاف المنافقين بإمارة أسامة بن زيد الذي كان قريباً من الثامنة عشرة في غزو الروم، وفي الصحابيين الصغيرين رافع بن خديج، وسمرة بن جندب، يقول ابن كثير: «وَكَانَ قَدْ رَدَّ يَوْمَئِذٍ [غزوة أحد] سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ، وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَهُمَا ابْنَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ رَافِعًا رَامٍ؟
فَأَجَازَهُ.
فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ سَمُرَةَ يَصْرَعُ رَافِعًا!
فَأَجَازَهُ»([197]).
ثم يقولون تُرك زين العابدين لصغره، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وهذه من عجائب الروايات التي قد تكون سبباً في غياب حقائق تاريخية، وظهور مغالاة مقابلها.
وأختم النقول بقول التميمي ؒ: «فَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا آخَرَ يَقُولُ فِيهِ: إنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قُدْوَةٌ لأَنَّهُ خَتَنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَاتِبُهُ، وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدْ بَايَعَ لابْنِهِ، فَلَمَّا قَرَأَ سَعِيدٌ الْكِتَابَ قَالَ: كَذَبَ وَاللَّهِ، مَا مُعَاوِيَةُ بِقُدْوَةٍ فِي هَذَا، وَكفى بِمُعَاوِيَة ابْنه وَمَا أَحْدَثَ فِي الإِسْلامِ ،قَتَلَةُ أَهْلِ الْحَرَّةِ، وأباح الْمَدِينَةَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ لَا أُبَايِعُهُ وَاللَّهِ» ([198])، وهذه الرواية فيها آفات منها أن أحد رواتها داود بن يحيى، وهو صاحب أحاديث موضوعة، فهو وضاع غير ثقة، مع أنه يرويها عن رجل لم يسمّه، وإنما قال: «عن أبي محمد شيخ من أهل المدينة» أي هو مجهول، فمثل هذا الإسناد لا تقوم به رواية.
قال الحافظ ابن حجر ؒ: «وأخرج أبو بكر بن أبي خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بن أسماء سمعت أشياخ أهل المدينة يتحدثون أن معاوية لما احتضر، دعا يزيد فقال له: إن لك من أهل المدينة يوماً، فإن فعلوا، فارمهم بمسلم بن عقبة، فإني عرفت نصيحته، فلما ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة وجماعة، فأكرمهم وأجازهم، فرجع فحرض الناس على يزيد، وعابه، ودعاهم إلى خلع يزيد، فأجابوه، فبلغ يزيد، فجهز إليهم مسلم بن عقبة، فاستقبلهم أهل المدينة بجموع كثيرة، فهابهم أهل الشام وكرهوا قتالهم، فلما نشب القتال سمعوا في جوف المدينة التكبير، وذلك أن بني حارثة أدخلوا قوماً من الشاميين من جانب الخندق، فترك أهل المدينة القتال، ودخلوا المدينة خوفاً على أهلهم، فكانت الهزيمة، وقتل من قتل، وبايع مسلم الناس على أنهم خول ليزيد يحكم في دمائهم وأموالهم وأهلهم بما شاء»([199]).
نتائج المأساة:
وعلى كل حال نقول:
1- إن مأساة الحرة كانت كبيرة، وأكبر منها مأساة قتل الحسين رضي الله عنه، وأكبر منها مأساة قتل علي رضي الله عنه، وأكبر من ذلك كله مأساة قتل عثمان رضي الله عنه، ولذلك كان رأي ابن عمر رضي الله عنه إن صحت الرواية – أن وقعة الحرة كانت انتقاماً للتقاعس عن نصرة عثمان رضي الله عنه، بعدم الدفاع عنه، وبعدم أخذ الثأر له، «قال المدائني عن عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ التَّمِيمِيِّ قَالَا: لَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الْحَرَّةِ صَاحَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: بِعُثْمَانَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ»([200]).
2- وكان لوقعة الحرة نتائج سيئة على أهل المدينة، ونكتة سوداء في تاريخ يزيد بن معاوية، وتاريخ الذين أثاروه، وثاروا عليه، وتاريخ الذين ما زالوا يحملون في قلوبهم كثيراً من النظرات السوداء نحو التاريخ الإسلامي، وقد زرع هذه النظرات كثير من المؤرخين القدامى، الذين كانوا إما من الروافض، أو من أعداء الإسلام الذين بدؤوا بتنفيذ مآربهم منذ اغتيال الصحابي العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم أتبعوه بالتضحية بالصحابي العظيم عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومن بعد ذلك انتقلوا من فكرة قتل ولي أمر المسلمين إلى اغتيال الخط الإسلامي، والفكر الإسلامي، والعقيدة الإسلامية، فظهرت بأسلوب أفكار، وتنظيمات، وإعداد لإضلال الأمة، متبعين كل طريق ناعم، وخفيف، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه.
ولذلك نجد بيننا كثيرين ممن يدعون أنهم مثقفون، أو علماء يتنقّصون الصحابة، أو بعضهم، ويعتبرون التاريخ الإسلامي تاريخ طغيان، وظلم، واستبداد.
3- ولما انتهت المعركة، وذهب الخبر [البشارة كما يدّعون] إلى يزيد بانتهائها: «لَمْ يخرج أحد مِنْ آلِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَيَّامَ الْحَرَّةِ... وَرَوَى الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ بَعَثَ رَوْحَ بْنَ زنباع إلى يزيد بِبِشَارَةِ الْحَرَّةِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِمَا وَقَعَ قَالَ:
«وا قوماه».
ثُمَّ دَعَا الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ الْفِهْرِيَّ فَقَالَ لَهُ:
تَرَى مَا لَقِيَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ؟ فَمَا الَّذِي يَجْبرُهُمْ؟
قَالَ: الطَّعَامُ وَالْأَعْطِيَة.
فَأَمَرَ بِحَمْلِ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ أَعْطِيَتَهُ، وَهَذَا خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ كَذَبَةُ الرَّوَافِضِ»([201]).
والجملة الأخيرة في هذه الرواية من الإمام ابن كثير :، فهو الذي نقل الخبر، وعلّق عليه.
4- وإن الخروج بالسيف على سلطان – عادلاً، أو جائراً، أو فاسقاً، ولا أقول كافراً، أو ملحداً، أو محارباً للإسلام والمسلمين، فذاك له حكم آخر- لا يأتي بخير، مع التنبه إلى أننا نتكلم عن السلطان المسلم، لا عن سلطان ملحد، يأمر بالكفر، ويمنع الإسلام، أو سلطان لا يقيم للإسلام وزناً، ولا يقبل فيه حكماً: لا قولاً ولا عملاً، وإنما همه الحرب على الإسلام، ولكنه الإحن التي تدخل في القلوب تجعل من الحاكم المسلم كافراً مشركاً، أو فاسقاً فاجراً لتؤلب عليه الناس، لتضيع الأمة باسم حرب الظلم.
5- إذا غضب سلطان – كائناً من كان، مسلماً أو غير مسلم – انتقم انتقاماً قد لا يكون فيه رحمة أو شفقة، لأنه يريد تثبيت أركان الدولة (حكمه)، وكل الحكام في التاريخ يعاملون بهذه الطريقة أنهم استطاعوا قمع الخارجين، وأصحاب الفتنة، إلا في تاريخ المسلمين، يعبرون الأمر أمر طغيان واستبداد، لا أمر إدارة للدولة، وقوة بأسٍ لسلطانها، وينسبون هذا الظلم والبطش بسبب اعتماد هؤلاء الحكام على الإسلام، وأما غيرهم من الحكام، فهذا يدل على صلاح الحاكم، وقوة سلطته، وإحكام إدارته، وعظمة شخصيته التي حافظت على قوة السلطة، وأمن البلاد.
6- الذين خرجوا على السلطان في هذه الفترة ينظرون إلى الأمر من زاوية واحدة ضيقة، وإن كان ظاهرها كبيراً واسعاً، وهي إقامة حكم اللَّه، وإنفاذ أحكامه، ونحن نقول هي زاوية ضيقة؛ لأنهم لا يحسبون لأرواح العامة، وأموالهم، وأعراضهم أي حساب، ويتعلقون بنصوص وردت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويؤولونها إلى محاربة السلطان، واستبدال الحاكم بغض النظر عن دينه، وشدته في الحفاظ على بيضة الدين، وينطلقون بالتشنيع، والتفظيع، وإثارة العامة، كما رأينا قبل وقعة الحرة، كيف أنهم وصفوا يزيد بشرب الخمر، واللهو، والسماع، وإهمال هذا الدين، وأن هؤلاء الذين تأسست أوائلهم في عهد عمر رضي الله عنه فقتلوه، وزادت قوتهم، واستفحل شرهم، وانتظم أمرهم، فاستطاعوا تفكيك المجتمع ضد عثمان، فقتلوه رضي الله عنه، ثم في عهد عليّ كيف نخروا في جيشه، وكيف استطاعوا أن يوقعوا بينه وبين عدد من الصحابة، وفي عهد معاوية رضخوا قليلاً، وتظاهروا بالزوال، وبقوا ينخرون في جسد الدولة سراً بنشر الأكاذيب والخرافات حول الإمام، ومواصفات الإمام، وفي عهد يزيد انقلبوا أسوداً، واستطاعوا تجييش الأمة في مناطقها المتعددة باسم إعادة الشورى، وإزالة الكسروية والهرقلية، ونحن هنا لسنا في معرض الدفاع عن يزيد، أو اتهامه، فقد ذهب إلى ربه، وسينال جزاء أعماله، إلا أننا لاحظنا من خلال مناقشة محمد بن الحنفية ؒ للثائرين كيف كان ينكر عليهم هذه المحاولات، حتى عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنه، روي عنه أنه قال لما سمع ببيعة يزيد: «إن كان خيراً رضينا، وإن كان بلاء صبرنا»([202]).
ولو أن هؤلاء الثائرين رحمهم اللَّه، توجهوا إلى الدعوة إلى الخير، وإلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لكان أولى لهم، ولكن ليقضي اللَّه أمراً كان مفعولاً.
7- عندما يغضب السلطان، لا يعرف إلا تثبيت حكمه (كرسيه)، ولذلك لا يأبه لقرابة، أو صحبة، أو رحم، بل ينطلق في بطشه حتى النهاية، قال المدائني: «وَأَبَاحَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ ثلاثة أيام، يقتلون من وجدوا من النَّاسَ، وَيَأْخُذُونَ الْأَمْوَالَ، فَأَرْسَلَتْ سُعْدَى بِنْتُ عَوْفٍ المرية إلى مسلم بن عقبة تقول له:
أَنَا بِنْتُ عَمِّكَ، فَمُرْ أَصْحَابَكَ أَنْ لَا يتعرضوا لإبلنا بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا.
فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا تَبْدَؤُوا إلا بأخذ إبلها أولاً.
وجاءته امرأة فقالت: أَنَا مَوْلَاتُكَ، وَابْنِي فِي الْأُسَارَى.
فَقَالَ: عَجِّلُوهُ لها.
فضربت عنقه.
وقال: أعطوها رأسه، أما ترضين ألا يقتل حَتَّى تَتَكَلَّمِي فِي ابْنِكِ؟»([203]).
وهذه رواية المدائني بلا إسناد، وهو معروف أنه كان يرسل كلامه غير مسند، وضعفه المحدثون، ولكن يرون أنه في التاريخ صدوق، وأظن أن مثل هذه الرواية تحتاج إلى من يساعد المدائني فيها حتى تقف على قدميها، ونعتبرها مقبولة صحيحة.
8- قدّر مؤرخون عدد القتلى في مأساة الحرة سبعمائة من وجوه الناس، من أولاد المهاجرين والأنصار، ومن غير المعروفين أحراراً وعبيداً، وإن وردت بعض الروايات التي تذكر آلاف القتلى، ومئات الشهداء من الصحابة والتابعين، وقام المؤرخ العظيم خليفة بن خياط بذكر من استشهد في الحرة، فعدد قتلى كل عشيرة من العشائر في المدينة، ومن جيش يزيد، وبعد أن ذكر أعدادهم واحداً واحداً، ختم الأسماء بنتيجة التعداد فقال: «فَجَمِيع من أُصِيب من الْأَنْصَار مائَة رجل وَثَلَاثَة وَسَبْعُونَ رجلا، وَجَمِيع من أُصِيب من قُرَيْش وَالْأَنْصَار ثَلَاث مائَة رجل وَسِتَّة رجال، قَالَ أَبُو الْحسن كانت وقْعَة الْحرَّة لثلاث بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ([204]).
9- مأساة الحرة هذه وقعت في أواخر عهد الصحابة، والأمراء والقواد الذين قادوها مع كل ما يظهر من بعضهم صلف وشناعة، فقد كان عندهم شيء من الدين الذي يضبط، ويقيّد بعض تصرفاتهم، حتى في أحلك ساعات المأساة، فلما جيء بعلي بن الحسين (زين العابدين) إلى مسلم بن عقبة:
قَالَ لَهُ مسلم بن عقبة: قم إلى هاهنا فاجلس، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ.
وَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْصَانِي بِكَ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ شَغَلُونِي عنك.
ثم قال لعلي بن الحسين: لعل أهلك فزعوا؟
فقال: إِي وَاللَّهِ.
فَأَمَرَ بِدَابَّتِهِ فَأُسْرِجَتْ، ثُمَّ حَمَلَهُ عَلَيْهَا حَتَّى رَدَّهُ إِلَى مَنْزِلِهِ مُكَرَّمًا»([205]).
هذه بعض صفات من قاموا بمأساة الحرة، فكيف بالحكام من بعدهم، أو في عصرنا، مع ضعف الوازع الديني، أو فقده عند كثير منهم، أو فقد الدين نفسه، فليتق اللَّه من يريد إقامة حكم اللَّه، وليتق اللَّه من يريد إظهار المعروف، وإماتة المنكر، فمن كان آمراً بالمعروف، فليكن أمره بمعروف، ومن كان ناهياً عن منكر، فليكن نهيه بغير منكر.
د-حركة التوابين:
كان سليمان بن صرد رضي الله عنه «ممّن كاتب الحسين، ثم تخلّف عنه، ثم قدم هو والمسيب بن نجبة في آخرين، فخرجوا في الطلب بدمه وهم أربعة آلاف، فالتقاهم عبيد اللَّه بن زياد بعين الوردة بعسكر مروان، فقتل سليمان ومن معه»([206]).
وهذا العدد الذي ذكره الحافظ، وهو أربعة آلاف، هو ما تبقى من الجنود الذين تجمعوا لأخذ ثأر الحسين بن علي رضي الله عنه، فقد ذكر الواقدي «لما خرج الناس إلى النخيلة، كانوا قليلاً، فلم تعجب سليمان قلتُّهم، فأرسل حكيم بن منقذ فنادى في الكوفة بأعلى صوته: يا ثارات الحسين، فلم يزل ينادى حتى بلغ المسجد الأعظم، فسمع الناس فخرجوا إلى النخيلة، وخرج أشراف الكوفة، فكانوا قريباً من عشرين ألفاً، أو يزيدون، في ديوان سليمان بن صرد، فلما عزم على المسير بهم، لم يصف معه منهم سوى أربعة آلاف»([207]).
وهي مع ذلك من رواية الواقدي، وهو متهم، وقد كان خروج هؤلاء ثأراً للحسين بن علي، كما زعموا، وليس طمعاً في إزالة الدولة أو الحكم، وإن كان هذا الأمر في معايير عصرنا يعتبره الكثيرون ثورة على الدولة، لأنهم كانوا يفكرون بالانتقام من قتلة الحسين فقط، ولذلك قال رجل منهم هو عبد اللَّه بن سعد: «إِنَّمَا خَرَجْنَا نَطْلُبُ بِدَمِ الْحُسَيْنِ، وَقَتَلَتِهِ كُلِّهِمْ بِالْكُوفَةِ؛ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَشْرَافُ الْقَبَائِلِ، فَقَالُوا: لَقَدْ جَاءَ بِرَأْيٍ، وَمَا نَلْقَى إِنْ سِرْنَا إِلَى الشَّامِ إِلَّا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: أَنَا أَرَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ، وَعَبَّأَ الْجُنُودَ وَقَالَ: لَا أَمَانَ لَهُ عِنْدِي دُونَ أَنْ يَسْتَسْلِمَ فَأَمْضِي فِيهِ حُكْمِي، فَسِيرُوا إِلَيْهِ»([208]).
وهذه الرواية التي اختارها الإمام الذهبي، بينما أورد الطبري رواية الرافضي أبي مخنف لوط بن يحيى، وفيها: «فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ، وعنده رؤوس أَصْحَابه جلوس حوله: إني قَدْ رأيت رأياً، إن يكن صواباً فاللَّه وفّق، وإن يكن ليس بصواب، فمن قبلي، فإني مَا آلوكم ونفسي نصحاً، خطأ كَانَ أم صواباً، إنما خرجنا نطلب بدم الْحُسَيْن، وقتلة الْحُسَيْن كلهم بالكوفة، مِنْهُمْ عُمَر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص، ورؤوس الأرباع، وأشراف القبائل، فأنى نذهب هاهنا، وندع الأقتال، والأوتار! فَقَالَ سُلَيْمَان بن صرد: فماذا ترون؟ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لقد جَاءَ برأي، وإن ما ذكر لكما ذكر، واللَّه مَا نلقى من قتلة الْحُسَيْن إن نحن مضينا نحو الشام غير ابن زياد، وما طلبتنا إلا هاهنا بالمصر»([209]).
وعلى هذا تكون حركة التوابين حركة اجتهادية للانتقام من قتلة الحسين، فهي جريمة كبرى، لا يحتملها الناس، ومع أنها ليست خروجاً على الحاكم، أو طلباً لتغيير الخليفة، فأهله لم ينادوا بهذا، ولم يحملوا شعاراً سياسياً لتغيير الحاكم، أو الخروج عليه، بل هي سقوط في فتنة الإصلاح، وإعادة الحق، والانتقام من القاتل الظالم، فقبع هؤلاء في مناطق العراق، المناطق التي فيها قتلة الحسين، ومخذّلوه، فهؤلاء التوابون حاولوا الأخذ بثأره من قاتليه، وماتوا رحمهم اللَّه دون هذا الأمر.
ويلاحظ أنهم لم يحققوا طلبتهم، لأن الأمير الذي يطلبون هو الذي قتلهم، والخليفة الذي نصب هذا الأمير، هو الخليفة الذي أمرهم بقتالهم، وبالتالي مات خلق كثير من جراء هذه الفتنة، ولم يحقق أصحابها أهدافهم، وأرى أن السبب في هذه الفتن أن الإنسان عندما يجتهد دون النظر في السياسة العامة للأمة، ومصلحة الدولة، وهو يعلم أن هذا النظام القائم هو الذي حافظ على إقامة الدين، ورفع راية الجهاد في سبيل الله، عندما يكون الإنسان في هذه النظرة المحدودة، يجعل الثأر لإنسان واحد، أهم من دولة تقوم بأمر الدين، وبذلك يكون وقع في براثن من أقاموا هذه الدعوات والدعايات للنيل من قوة الإسلام، وقوة دولته، ولم تكن هذه الدولة إلا التي تقوم بأمر الإسلام الذي يدعي هذا المجتهد في الثأر لدم إنسان مهما علا أمره، ولا يهمه أمر هذه الأمة، ولا أمر مستقبلها، والأولى كان اللجوء إلى طريقة لإقامة الحق غير هذه الطريقة التي قد تُلحِق بالذي يثأر له أنفساً كثيرة.
والاجتهاد في مثل هذه الأمور خطير جداً، خصوصاً إذا صدر عن أمر بعيد عن الفقه والسياسة الشرعية، واعتماده على بعض الشعارات التي يرددها أعداء هذه الأمة لينالوا منها، فتكون نتائجه سلبية قد تودي بالأمة، أو بفريق كبير منها إلى مآس، ومواجع لا حدّ لها.
هـ- فتنة المختار بن عبيد الثقفي:
على رأي ما ورد في الآثار عن أسماء بنت أبي بكر ل أن المختار هو المقصود بالحديث الذي روته أسماء بنت أبي بكر تخاطب به الحجاج بن يوسف: «أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَنَا «أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا، وَمُبِيرًا» فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ»([210]).
قال الإمام ابن عبد البر: «ولد المختار عام الهجرة، وليست له صحبة، ولا رواية، وأخباره أخبار غير مرضية، حكاها عنه ثقات مثل: سويد بْن غفلة، والشعبي، وغيرهما، وذلك مذ طلب الإمارة إِلَى أن قتله مصعب بْن الزُّبَيْر بالكوفة سنة سبع وسبعين، وَكَانَ قبل ذلك معدوداً فِي أهل الفضل والخير، يرائي بذلك كله، ويكتم الفسق، فظهر منه مَا كَانَ يضمر، والله أعلم، إلى أن فاق ابْن الزُّبَيْر وطلب الإمارة، وَكَانَ المختار يتزين بطلب دم الحسين رضوان اللَّه عَلَيْهِ، إلا أنه كَانَ بينه وبين الشعبي مَا يوجب ألا يقبل قول بعضهم فِي بعض.
والمختار معدود في أهل الفضل والدين إلى أن طلب الإمارة، وادعى أنه رَسُول مُحَمَّد ابْن الحنفية في طلب دم الحسين» ([211]).
وقال الصلاح الصفدي: «ويقال: كان أول أمره خارجيًّا، ثم صار زيديًّا، ثم صار رافضيًّا»([212])، وقال الحافظ ابن حجر: «وقتل المختارُ محمدَ بنَ عمار بن ياسر ظلماً، لأنه سأله أن يحدّث عن أبيه بحديث كذب، فلم يفعل فقتله... قد شهد عليه بدعوى النبوة، والكذب الصّريح جماعة من أهل البيت... وكان المختار قد خرج يطلب بثأر الحسين، فاجتمع عليه بشر كثير من الشيعة بالكوفة، فغلب عليها، وتطلّب قتلة الحسين فقتلهم ... فلذلك أحبّ المختارَ كثيرٌ من المسلمين، فإنه أبلى في ذلك بلاء حسناً، قال: وكان يرسل المال إلى ابن عمر... وكان أول أمر المختار أن ابن الزبير أرسله إلى الكوفة ليؤكد له أمر بيعته، وولى عبد اللَّه بن مطيع إمرة الكوفة، فأظهر المختار أنّ ابن الزبير دعا في السرّ للطّلب بدم الحسين، ثم أراد تأكيد أمره، فادّعى أنّ محمّد بن الحنفية هو المهديّ الّذي سيخرج في آخر الزمان، وأنه أمره أن يدعو الناس إلى بيعته، وزوّر على لسانه كتاباً، فدخل في طاعته جمع جمّ، فتقوّى بهم، وتتبّع قتلة الحسين، فقتلهم، فقوي أمره بمن يحبّ أهل البيت... ثم قوى مصعب بن الزبير أمير البصرة عن أخيه عبد اللَّه بن الزّبير على المختار بكثير من أهل الكوفة، ممّن كان دخل في طاعة المختار، ورجع عنه لما تبيّن له من تخليطه وأكاذيبه... فلما التقى المختار ومصعب خذل المختار أولئك الذين كانوا معه، فحوصر المختار في القصر إلى أن قتل هو ومن معه»([213]).
وقد ذكر الذهبي عن الصحابي أبي الطفيل عامر بن واثلة أنه حمل راية المختار لما ظهر في العراق([214])، حيث كانت بدايته مقبولة في الثأر لدم الحسين.
وبعد انكشاف حقيقة المختار بدأت دولته بالزوال، وكأنها لم تكن قد ظهرت، «وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِزَوَالِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ فِي نفسه صادقاً، بل كان كاذباً يزعم أنَّ الوحي يأتيه على يد جبريل.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عيسى القارئ، أبو عمير بن السدي، عن رفاعة القبابي قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْمُخْتَارِ فَأَلْقَى لِي وِسَادَةً، وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ أَخِي جِبْرِيلَ قَامَ عَنْ هَذِهِ لَأَلْقَيْتُهَا لَكَ، قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ: فَذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ أَخِي عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَمَّنَ مُؤْمِنًا على دمه فقتله، فأنا من القاتل بريء).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ عَلَى رَأْسِ الْمُخْتَارِ، فَلَمَّا عَرَفْتُ كَذِبَهُ هَمَمْتُ أَنْ أَسُلَّ سَيْفِي فَأَضْرِبَ عنقه، فذكرت حديثاً حدثناه عمرو بْنُ الْحَمِقِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ أَمَّنَ رَجُلًا عَلَى نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ أُعْطِيَ لِوَاءَ غَدْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ غَيْرِ وجه»([215]).
وتقدم حَديث مسلم: «أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا، وَمُبِيرًا» فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ»([216]).
قال الإمام ابن كثير: «وقد ذكر الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْكَذَّابَ هُوَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عبيد، وكان يظهر التشيع، ويبطن الكهانة، وأسرّ إلى أخصائه أنه يوحى إليه، وكان ما أدري هل كَانَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ أَمْ لَا؟ وَكَانَ قَدْ وُضع له كرسي يعظم، ويحف به الرجال، وَيُسْتَرُ بِالْحَرِيرِ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْبِغَالِ، وَكَانَ يُضَاهِي بِهِ تَابُوتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ، ولا شك أَنَّهُ كَانَ ضَالًّا مُضِلًّا، أَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ منه، بعد ما انْتَقَمَ بِهِ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بعضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: 129]» ([217]).
دروس من المأساة:
- إلباس الطامعين في الحكم بعض المظاهر الخادعة لعوام المسلمين، فينادون بشعارات تتناسب مع عواطف هؤلاء العوام، كدعوة الانتقام للحسين رضي الله عنه، أو الانتقام لآل البيت [وهذه الخرافة ما زالت إلى اليوم عالقة عند كثيرين، وهي أيضاً ما زالت حجة للسذّج من دارس التاريخ(كما يدّعون) والمثقفين العلماء!]، وحقيقة مطالبهم هي الحصول على الحكم، ولذلك نرى أن الصحابي الجليل أبا الطفيل رضي الله عنه لما اكتشف زيف دعوة المختار، تركها وانخذل عنها.
- إزهاق أرواح أفراد الأمة طمعاً بالحكم من قبل الطامعين والمغامرين.
- دعوات الثائرين تعتمد على مشاعر العوام، والغوغاء، لاستغلال اندفاعهم في القتال معهم.
- بطش الحكام بالمناوئين، والمخالفين مهما كان عددهم، أو نوعهم.
- دعوة المختار كانت ثورة على الثورة، فهي ثورة على عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، قبل أن تكون ثورة على بني أمية، إلا أنها اتكأت في خداعها للجماهير على الانتصار لآل البيت ضد الأمويين، ثم انقلبت على الزبيريين، وهذه الثورة أكبر دليل على مدى تغلغل الدعايات السبئية الرافضية بين أصحاب هذه الثورات.
و- عبد الله بن الزبير:
عبد الله بن الزبير رضي الله عنه من صغار الصحابة، فهو أول مولود للمهاجرين في المدينة، «ولد عام الهجرة، وحفظ عن النبيّ رضي الله عنه وهو صغير، وحدّث عنه بجملة من الحديث ... وهو أحد العبادلة، وأحد الشجعان من الصحابة، وأحد من ولي الخلافة منهم(؟!)... وبويع بالخلافة سنة أربع وستين عقب موت يزيد بن معاوية، ولم يتخلف عنه إلا بعض أهل الشام، وهو أول مولود ولد للمهاجرين بعد الهجرة، وحنكه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي البخاري عن ابن عباس أنه وصف ابن الزّبير فقال: عفيف الإسلام، قارئ القرآن، أبوه حواريّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأمّه بنت الصديق، وجدّته صفية عمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعمة أبيه خديجة بنت خويلد.
... كان ابن الزبير إذا قام للصلاة كأنه عمود... وشهد فتح إفريقية، وكان البشير بالفتح إلى عثمان... وشهد الدار، وكان يقاتل عن عثمان، ثم شهد الجمل مع عائشة... ثم اعتزل ابن الزبير حروب علي ومعاوية، ثم بايع لمعاوية»([218]).
وعندما طلب معاوية رضي الله عنه أن تؤخذ البيعة لابنه يزيد، أُخبر أن عبد اللَّه بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد اللَّه بن الزبير، خرجوا من المدينة عائذين بالكعبة من بيعة يزيد بن معاوية، قال: فلما قدم معاوية مكة، تلقاه عبد اللَّه بن الزبير بالتنعيم، فضاحكه معاوية، وسأله عن الأموال، ولم يعرض بشيء من الأمر الذي بلغه، ثم لقي عبد اللَّه بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فتفاوضا معه في أمر يزيد، ثم دعا معاوية ابن الزبير.
فقال له: هذا صنيعك، أنت استزللت هذين الرجلين، وسننت هذا الأمر، وإنما أنت ثعلب رواغ، لا تخرج من جحر إلا دخلت في آخر.
فقال ابن الزبير:
ليس بي شقاق، ولكن أكره أن أبايع رجلين، أيكما أطيع بعد أن أعطيكما العهود والمواثيق؟ فإن كنت مللت الإمارة فبايع ليزيد، فنحن نبايعه معك...([219]).
وبعد وفاة معاوية رضي الله عنه، أخذت البيعة له في كل الأمصار: «لما أَبْطَأَ عبد اللَّه بن الزبير عَن بيعَة يزِيد بن مُعَاوِيَة، وتخلف، وخشي مِنْهُم، لحق بمَكَّة؛ ليمتنع بِالْحرم، وَجمع موَالِيه، وَجعل يظْهر عيب يزِيد بن مُعَاوِيَة، ويشتمه، وَيذكر شربه الْخمر، وَغير ذَلِك، ويجتمع النَّاس إِلَيْهِ، فَيقوم فيهم بَين الْأَيَّام، فيذكر مساوئ بني أُميَّة، فيطنب فِي ذَلِك»([220]).
اليوم في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
اليوم في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
اليوم في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
اليوم في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
اليوم في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
اليوم في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin