فتن ومحن في العصر الأول 2
حسن حسن فرحات
بدأت محاولات تتذرع بالإصلاح للدولة الإسلامية الناشئة التي بدأت تتوسع في نواحي العالم، وأقاليمه، وهذه المحاولات منها ما كان يعتمد على تأويل آيات القرآن، والأحاديث النبوية كما يفهمها أصحابها الذين لم يفقهوا، ولم يتفقهوا على الصحابة الكرام، فجاءت تأويلاتهم بعيدة عن حقيقة النص القرآن، وحقيقة النص النبوي، ومن هذه الحركات من كان أصحابها إما مغترّين، وتابعين لشخصيات تظن بنفسها الإيمان الحق، وغيرها على باطل، وإما فرق يهمها ضرب الإسلام، ووقف توسعه وتقدمه، وانفراط عقد دولته، وهم الأكثر، ومنها من كان أصحابها هم أعداء هذه الأمة، ويريدون تقويض دولتها وإزالتها، ومن هذه المحاولات:
فتنة الخوارج:
سبق وذكرت أن ما حدث بين معاوية وعلي ب قد يعتبره بعضهم خروجاً على الإمام، مع أنه لم يبايع أصلاً، ولم ينكث بيعته، فهو يعترف بعلي إماماً بعد الأخذ بثأر عثمان، كما جاء في الروايات، فإن الخوارج بجميع فرقهم، وأصنافهم، كانوا جنوداً لعلي رضي الله عنه، وأتباعاً له، وهم الذين قبلوا التحكيم، بل ألجؤوا علياً إليه، ثم كفّروه بقبوله لهذا التحكيم، وطلبوا منه أن يتوب من كفره بسبب قبوله التحكيم، كما فعلوا بأنفسهم من تكفير وتوبة، ولذلك تكون حركات الخوارج أول الحركات طعناً في نظام الحكم في الإسلام، بعد حركات الغوغاء، والفوضويين على عثمان رضي الله عنه، والذين يريدون تقويض دولة الإسلام بقتل إمام المسلمين، ونشر الفوضى في ديار الإسلام، وهذا ما حصل بعد قتلهم لإمام المسلمين عثمان رضي الله عنه، وفرّق ابن تيمية : بين الخوارج، وبين أهل الجمل وصفين، فيقول: «وَأَمَّا جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ: الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ، وَبَيْنَ: أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين، وَغَيْرِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين، مِمَّنْ يُعَدُّ مِنْ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَالْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِين، وَعَلَيْهِ نُصُوصُ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ: مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَحْمَد، وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ... وَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه مَسْرُورًا لِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَيَرْوِي الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ رضي الله عنه فِي الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ؛ وَأَمَّا قِتَالُ صَفِّينَ، فَذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ نَصٌّ؛ وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَآهُ، وَكَانَ أَحْيَانًا يَحْمَدُ مَنْ لَمْ يَرَ الْقِتَالَ»([91]).
وكثرت أسماء المحاربين لعلي، والخارجين عليه، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وَهَؤُلَاءِ الْخَوَارِجُ لَهُمْ أَسْمَاءٌ يُقَالُ لَهُمْ: الحرورية؛ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِمَكَانِ يُقَالُ لَهُ حَرُورَاءُ، وَيُقَالُ لَهُمْ أَهْلُ النهروان: لِأَنَّ عَلِيًّا قَاتَلَهُمْ هُنَاكَ، وَمِنْ أَصْنَافِهِمْ: الإباضية، أَتْبَاعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إبَاضٍ، والأزارقة: أَتْبَاعُ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ، والنَّجَدَاتُ: أَصْحَابُ نَجْدَةَ الحروري»، ويتميز هؤلاء الخوارج بتوسيع دائرة التكفير، حتى تشمل كل مرتكب لذنب يعتبرونه هم كبيرة، ويتابع العلامة ابن تيمية :: «وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ كَفَّرَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِالذُّنُوبِ، بَلْ بِمَا يَرَوْنَهُ هُمْ مِنْ الذُّنُوبِ، وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَلِكَ، فَكَانُوا كَمَا نَعَتَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ)، وَكَفَّرُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَعُثْمَانَ بْنَ عفان، وَمَنْ وَالَاهُمَا، وَقَتَلُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مُسْتَحِلِّينَ لِقَتْلِهِ، قَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ المرادي مِنْهُمْ، وَكَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْخَوَارِجِ مُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ، لَكِنْ كَانُوا جُهَّالًا، فَارَقُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ؛ فَقَالَ هَؤُلَاءِ: مَا النَّاسُ إلَّا مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ؛ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ فَعَلَ جَمِيعَ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرَكَ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ، ثُمَّ جَعَلُوا كُلَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ كَذَلِكَ، فَقَالُوا: إنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَنَحْوَهُمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَظَلَمُوا، فَصَارُوا كُفَّارًا»([92]).
فاستشهاد الإمام عثمان رضي الله عنه أدى إلى خروج علي إلى العراق، بعد أن كان مركز الدولة في المدينة، ليحمي عائشة أم المؤمنين من قتلة عثمان رضي الله عنه الذين خرجوا إلى هناك، وإصرارهم على التغيير الذي يريدونه، ولم تفلح محاولات الصحابة: عائشة، وطلحة، والزبير y وغيرهم من المسلمين، ويقول ابن تيمية :: «لَمَّا قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عفان، وَسَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى الْعِرَاقِ، وَحَصَلَ بَيْنَ الْأُمَّةِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ، ثُمَّ يَوْمَ صفين مَا هُوَ مَشْهُورٌ: خَرَجَتْ الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدّ أَخْبَرَ بِهِمْ، وَذَكَرَ حُكْمَهُمْ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ، وَهَذِهِ الْعَشَرَةُ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مُوَافَقَةً لِأَحْمَدَ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْهَا عِدَّةَ أَوْجُهٍ، وَرَوَى أَحَادِيثَهُمْ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ».
فهؤلاء الخوارج لا يمكن أن يكونوا دعاة إصلاح، وخبرهم من أخبار النبوة، وفيهم أحاديث كثيرة كما ذكر العلامة ابن تيمية، ويتابع: «وَمِنْ أَصَحِّ حَدِيثِهِمْ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، فَوَاَللَّهِ لَأَنْ أَخِرَّ مِن السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ، وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ: أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةِ فِي أَدَمٍ مَقْرُوضٍ، لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا، فَقَالَ: فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلَاءِ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً؟) قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمِّرُ الْإِزَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ: (وَيْلَك، أَوَلَسْت أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ)، قَالَ: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: (لَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي) قَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ؛ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ)، قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ فَقَالَ: (إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضئضئ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ)، قَالَ: أَظُنُّهُ قَالَ: (لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنهُمْ قَتْلَ عَادٍ)، اللَّفْظُ لِمُسْلِمِ»([93]).
ومن هنا كان من الخطأ أن نضع حركات المرتدين، والغوغاء أهل الفتنة قتلة عثمان، والخوارج الذين كانوا شوكة في خاصرة الإسلام، من عهد علي رضي الله عنه إلى أواخر العهد الأموي أن نضع هذه الحركات في باب الإصلاح، إنما هي حركات إفساد، وحرب على الدولة الإسلامية الفتية.
وبذلك تكون أول بداية للتأثر بهذه الإحن التي وغرت الصدور فأدت إلى قتل عثمان رضي الله عنه، وأدت كذلك إلى نقل دار الخلافة من المدينة المنورة التي كان الحصن للحصين للدولة الإسلامية، فانتقلت إلى الكوفة في العراق، وبذلك تشتت أمر المسلمين، كما تشتت العواصم، فبعدها انتقلت من الكوفة إلى دمشق، ثم انتقلت من دمشق إلى العراق، وفي العراق تنقلت بين البصرة، وبغداد، وسامراء، ثم بغداد، وبعدها إلى القاهرة، ثم إستانبول، إلى أن تم القضاء عليها في بداية القرن العشرين، في القرن الثالث عشر الهجري.
إذن فمن الممكن أن نشير إلى اتفاق أهل الإسلام منذ عهد الصحابة y، وإلى عهدنا، أن الخوارج هم أول فتنة حربية تعرض لها إمام حاكم للمسلمين، دون خلاف في ذلك، وكذلك التابعين ومن بعدهم من الأئمة، والعلماء، ولذلك أطلقوا عليهم اسم الخوارج، واتفقوا كذلك على أن علياً رضي الله عنه كان محقاً في حربهم؛ لأنهم أصلاً ليسوا دعاة إصلاح، وكذلك من جاء بعده من بني أمية كانوا محقين في حروبهم لهم، وأن هؤلاء الخوارج كانوا شوكة تقضّ مضاجع المسلمين.
وأفكار هؤلاء الخوارج في تكفير المسلمين بدأت تتسرب إلى نفوس الناشئة في كل عصر، حتى وصلت إلى عصرنا، ولم يقتصر هؤلاء الناشئة على التكفير، بل كفّروا من لم يكفّر مَن كفّروهم أيضاً، بل كفّر كثير منهم من لم يعتقد معتقدهم، وبذلك بدأت الأمة في العصر الحديث تصحو على صيحات الخوارج بالتكفير، وبدأت هذه الصيحات تطرق كل الأبواب، وتنتشر بين أفراد من طلبة العلم، خصوصاً إذا علمنا أن هؤلاء الطلبة بضاعتهم في الفقه مزجاة، ونظرتهم إلى الاختلافات العلمية بين العلماء والفقهاء قاصرة، وثقتهم بكثير من أهل العلم معدومة، إلا بأنفسهم، وأفكارهم، وآرائهم التي أصبحت – بزعمهم – عقيدة المسلمين الحقة، وبذلك يبوء الخوارج الأُوَل بإثم من جاء بعدهم، وتقمص آراءهم، أو بعض آرائهم، فالسمات بين الفريقين مشتركة، بزيادة جهل في فهم النصوص، والخروج إلى معان ليست فيها، فأهل العلم في عصر الخوارج الأول هم الصحابة والتابعون، فشن الخوارج عليهم الحروب العسكرية، والعقدية، فقاتلوهم وكفّرهم، وكفّروا عوام المسلمين، فقتلوا من استطاعوا، ونهبوا دورهم، وأموالهم، وسبوا نساءهم، وكان أحدهم يفعل ذلك وهو يقول كما يذكر الإمام المبرد في الكامل: «قال أبو العباس: وكان في جملة الخوارج لدد، واحتجاج، على كثرة خطبائهم وشعرائهم، ونفاذ بصيرتهم، وتوطين أنفسهم على الموت، فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح، فجعل يسعى فيه إلى قاتله، وهو يقول: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾»([94])، وهذا ما نشاهده من فعل أغلمة الخوارج هؤلاء، وبذلك يكون أعداء الإسلام استطاعوا أن يجلبوا المحن إلى هذه الأمة باسم الدين، فالفكر الخارجي هذا كان يستعمله أعداء الإسلام في كل عصر، وإلى الآن، نجد صوره ظاهرة باسم أن الصحابة رجال، يخطئون ويصيبون، ثم يبدأ قائلهم بانتهاك أعراض الصحابة الكرام، يختار من الصحابة من يلائمه لنهش عرضه حسب المكان، والزمان، والإنسان الذي يخاطبه.
ب- في العصر الأموي:
إن الفتنة التي عصفت بالأمة في نهاية عصر الراشدين، وكان نتيجتها استشهاد الإمام عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب ب، وحدوث معركتين عظيمتين بين المؤمنين: الجمل، وصفين، هذه الفتنة جعلت عدداً من الناس ينظرون إلى الحكم الأموي نظرة تختلف عن نظرتهم إلى الخلفاء الراشدين، فمنهم من بقي مؤيداً، ومناصراً للإمام القائم، كائناً من كان، قال الحافظ ابن حجر ؒ: «كَانَ رَأْيُ مُعَاوِيَةَ فِي الْخِلَافَةِ تَقْدِيمُ الْفَاضِلِ فِي الْقُوَّةِ وَالرَّأْيِ وَالْمَعْرِفَةِ عَلَى الْفَاضِلِ فِي السَّبَقِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ وَالْعِبَادَةِ، فَلِهَذَا أَطْلَقَ أَنَّهُ أَحَقُّ، وَرَأْيُ ابن عُمَرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يُبَايَعُ الْمَفْضُولُ إِلَّا إِذَا خُشِيَ الْفِتْنَةُ؛ وَلِهَذَا بَايَعَ بَعْدَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ ابْنَهُ يَزِيدَ، وَنَهَى بَنِيهِ عَنْ نَقْضِ بَيْعَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفِتَنِ، وَبَايَعَ بَعْدَ ذَلِكَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَان.
فَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِي هِرَاقَةُ الدِّمَاء،ِ وَأَنْ يُحْمَلَ قَوْلِي عَلَى غَيْرِ الَّذِي أَرَدْتُ قَوْلُهُ»([95]).
ومنهم من كان منعزلاً بنفسه، لا يقدم لهم عوناً، ولا يرفع عليهم سيفاً، أو أن يكون عليهم معيناً، ومنهم من كان يرى أنهم ليسوا أهلاً للإمامة، فنابذهم، أو دعا لمنابذتهم، وأكثر الأمة، وهم السواد الأعظم الذين لم تخدعهم الشعارات، فقبلوا حكمهم، وجاهدوا معهم.
ولذلك نحاول هنا الاستطلاع على هذه الأقسام، لنرى مدى صحة الطريق التي يمكن أن يتبينها المسلم في حياته، والمنهاج الذي يجب أن يتبعه، دون اقتراب من نهج الذين يحاولون دائماً أن يعيدونا إلى مربع الفتنة، لأن هذا هو عمل أصحاب الإحن، وهو إذكاء القلوب بما يحرق الإجساد والنفوس؛ للقضاء على جذوة الإيمان الصحيح الصريح، وتغليفه بإيمان زائف، يتزيى بزي الطاعة، وهو كله فتنة، وإنفاذ لأهل الإحن، للغوص في تفتيت الأمة بالمحن والبلاءات.
دعاوى الإصلاح، وإعادة الحق:
وأهلها هم الذين ينابذون الإمام (الحاكم) ولهم أهداف، وطرق لتحقيق هذه الأهداف، ولقادتهم وأئمتهم أيضاً أهداف، وطرق خاصة لتحقيقها، وليس كل الأئمة (الحكام) يصلون إلى ما وصل إليه الإمام الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، بل ولن يصلوا إلى قريب منه، وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن عقول المطالبين بالحق بقوة السلاح، ولا عن عقول المسلمين خلال التاريخ منذ استشهاد عثمان، وحتى يرث اللَّه الأرض ومن عليها، لأن عثمان رضي الله عنه تخرّج من مدرسة النبوة مباشرة، فأُشرب الأدب النبوي، والأخلاق النبوية، وعُجنت نفسُه وقلبُه وذاته بها، ولم يتخلّ عنها، ولم يرضخ للغوغاء والسفلة، وكلفه ذلك دمه الزكي الذي سال على كتاب الله، فاستشهد رضي الله عنه صائماً تالياً ذاكراً.
والناس على مدار التاريخ الإسلامي يريدون حاكماً يحمل مواصفات شخصيتين: عمر بن الخطاب في شدته وقوته، وعثمان بن عفان في عفوه وكرمه، ولينه مع خصومه، وعدم البطش بهم، ويحاكم هؤلاء الناس حكامهم على هذين المعيارين، فإذا كان هيناً ليّنا، اعتبروه ضعيفاً، وقالوا له: كن كعمر بن الخطاب قوياً يرهبه الناس، وإذا كان جباراً بطاشاً فتاكاً، قالوا له: كن كعثمان بن عفان عفواً سهلاً، يتحمل رعيته، وعلى ما يبدو أن هذه النظرة بدأت تنمو منذ عهد معاوية رضي الله عنه، وإن كان معاوية قد استطاع أن يكون قريباً من هاتين الشخصيتين معاً في أكثر أوقاته وأحواله، إلا أنه خرج عنهما في بعض ساعاته، وهي نادرة، وأما من جاؤوا بعده رضي الله عنه لم يستطع أحدهم أن يكون واحداً منهما، فما بالك بهما معاً، والناس ما زالوا ينتظرون من حكامهم هذه المواصفات، ويغيب عن بالهم أن نظرة الحاكم – عادلاً كان أم ظالماً، مسلماً كان أم كافراً – هو أن يستتب له الحكم، ليحقق ما يريد، إلا ما يروى عن معاوية بن يزيد بن معاوية، يقول ابن كثير :: «بُويِعَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ- وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ- فِي رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا نَاسِكًا، وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ، قِيلَ: إِنَّهُ مَكَثَ فِي الْمُلْكِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ شَهْرَيْنِ، وَقِيلَ شَهْرًا ونصف شهر، وقيل ثلاثة أشهر وعشرون يَوْمًا، وَقِيلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فاللَّه أَعْلَمُ»([96])، فلم يعهد له يزيد، ولا أخذ له بيعة، وإنما كعادة العرب قبل الإسلام، الملك ابنه ملك، والأمير ابنه أمير، وقد رأينا ذلك مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما اقترحوا عليه أن يكون ابنه خليفة من بعده، فلم ينكر الفكرة، ولكنه أشفق على أحد من أهله وولده أن يحمل هذا العبء الثقيل، فقال: «حسب آل الخطاب أن يليها واحد منهم؛ فإن كان خيراً فقد أصبنا منه، وإن كان رزءاً فقد قمنا بنصيبنا فيه»، ولما جاء أهل الشام ليؤمروا معاوية بن يزيد، فرفض هذه البيعة، ويحاول المؤرخون أن يعللوا ذلك عن ضعفه الذي اعترف به في قوله لمن بايعوه كما ذكر ابن كثير $: «ويروى أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ هَذَا نَادَى فِي النَّاسِ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ذَاتَ يَوْمٍ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ أَمْرَكُمْ وَأَنَا ضَعِيفٌ عَنْهُ، فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ تَرَكْتُهَا لِرَجُلٍ قَوِيٍّ كَمَا تَرَكَهَا الصِّدِّيقُ لِعُمَرَ، وَإِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا شُورَى فِي سِتَّةٍ مِنْكُمْ كَمَا تَرَكَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مَنْ هُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ، وَقَدْ تَرَكْتُ لَكُمْ أَمْرَكُمْ، فَوَلُّوا عَلَيْكُمْ مَنْ يَصْلُحُ لَكُمْ، ثُمَّ نَزَلَ وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى»([97]).
وهذه الرواية ليست ثابتة بهذه الطريقة، لأن ابن كثير : ذكرها بصيغة التضعيف، ولم يذكر لها سنداً، والطبري : لم يذكر شيئاً عن هذا الموضوع، وإنما قال «بويع لمعاوية بن يزيد» دون ذكر لأي إسناد، وهذا مخالف لطريقة الطبري في سرد رواياته حيث ترك الإسناد، وحتى لم يذكر مصدره لا إسناداً ولا خبراًـ حتى خليفة بن خياط رحمه اللَّه ذكرها بطريقة غريبة فقال: «واستُخلف ابْنه مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة»([98]).
ويؤيد هذا ما قاله ابن حبان في صحيحه دون ىإسناد وإنما من خلال سرده للتاريخ: «ثُمَّ بُويِعَ ابْنُهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ يَوْمَ النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَمَاتَ يَوْمَ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً»([99]).
بينما ذكر الطبراني بإسناده (وهو مقبول عند المحدثين): «حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، ثنا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، ثنا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بَايَعَ أَهْلُ الشَّامِ كُلُّهُمْ ابْنَ الزُّبَيْرِ إِلَّا أَهْلَ الْأَرْدُنِّ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رُءُوسُ بَنِي أُمَيَّةَ وَنَاسٌ مِنِ أَهْلِ الشَّامِ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَفِيهِمْ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ الْمُلْكَ كَانَ فِينَا أَهْلَ الشَّامِ فَيُنْقَلُ ذَلِكَ إِلَى الْحِجَازِ لَا نَرْضَى بِذَلِكَ»([100]).
فلم يزل مروان بالشام حتى مات يزيد بن معاوية وقد كان عقد لابنه معاوية بن يزيد بالعهد بعده، فبايع له الناس وأتته بيعة الآفاق»([101]).
وهذه الرواية تؤيد ما ذكره خليفة بن خياط دون إسناد حيث قال: «وفيهَا [أي سنة أربع وستين] مَاتَ يَزِيد بْن مُعَاوِيَة بحوارين من بِلَاد حمص، وَصلى عَلَيْهِ ابْنه مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة لَيْلَة الْبَدْر فِي شهر ربيع الأول، وَأمه مَيْسُونُ ابْنة بجدل الْكَلْبِيَّة، وَمَات [أي يزيد] وَهُوَ ابْن ثَمَان وَثَلَاثِينَ سنة، وَقَالُوا ابْن بضع وَأَرْبَعين سنة، وَكَانَت ولَايَته ثَلَاث سِنِين وَتِسْعَة أشهر، واثنتين وَعشْرين يَوْمًا، واستُخلف ابْنه مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، فَأقر عُمَّال أَبِيه، وَلم يول أحداً، وَلم يزل مَرِيضاً حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ ابْن إِحْدَى وَعشْرين سنة، وَيُقَال عشْرين سنة، وَصلى عَلَيْهِ الْوَلِيد بْن عتبَة بْن أَبِي سُفْيَان، وَكَانَت ولَايَته نَحواً من شهر وَنصف، وَيُقَال مَاتَ مُعَاوِيَة بعد أَبِيه يَزِيد بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَهُوَ ابْن ثَمَان عشرَة سنة »([102]).
وأيد هذه الروايات ابن عساكر بقوله: «فلم يزل مروان بالشام حتى مات يزيد بن معاوية وقد كان عقد لابنه معاوية بن يزيد بالعهد بعده فبايع له الناس وأتته بيعة الآفاق»([103]).
وقد تكون رواية البلاذري أقرب إلى القبول: «ومات يزيد بْن معاوية، وبويع لابنه معاوية بْن يزيد، وهو أَبُو ليلى فنادى: الصلاة جامعة، ثُمَّ تبرأ منَ الخلافة وجلس في بيته ومات بعد شهرين»([104]).
فهو هنا يذكر البيعة بصيغة المجهول، والذي يقوي أنها لم تكن بيعة بالطريقة التي يراها أصحاب الإحن بأنها بيعة على طريقة معاوية رضي الله عنه لابنه يزيد، لأن منطقة الشام كلها لم تدخل في هذه البيعة إن صحت، هكذا تذكر أكثر كتب التاريخ، أن المنطقة كلها خرجت عن السيطرة الأموية إلا قليلاً من منطقة الأردن، وهي بعيدة عن دمشق وما حولها، والذي أعادها للسيطرة الأموية هو مروان بن الحكم.
وكما نرى أن معاوية هذا : ضعيف باعترافه كما ذكروا، وهذا هو الذي ذكره أبو بكر أيضاً رضي الله عنه، فلم يقل المؤرخون عن أبي بكر إنه ضعيف، كما قالوا عن معاوية بن يزيد، مع أننا نلاحظ من هذا النص فهم معاوية الرائع لاختيار الحاكم، عندما ربطها بأبي بكر وعمر، ثم أحالها إلى الشورى، وهو لم يأت إلى هذا المقام عن أي طريق من هذه الطرق، ولذلك هرب من هذا الأمر، وكأنه : يريد أن يثبّت أنها لم تصله بالوراثة، وإلا لكان له بيعة، ولما استطاع الفكاك منها، وفي أذهان الناس أن الحكم ليس وراثياً، وقد اتهموا جده معاوية بهذا، فأرجعهم إلى الطريقة الصحيحة لاختيار الحاكم.
وأرى أن ما مُدح به معاوية بن يزيد لتركه الخلافة لوثة جاءت من الآثار الرافضية في التاريخ قديماً، وفي فهمه حديثاً، وهذا سنراه في عدة أحوال في تاريخنا، فمدحهم لعمر بن العزيز على حساب كل حكام بني أمية، حتى سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وقدموه على خلافة الحسن بن علي ب، فقالوا عنه الخليفة الراشد الخامس، وأظن أن مؤرخي المسلمين تماهوا مع مؤرخي الروافض فوقعوا في براثنهم، وكالوا المديح والمدائح في عمر بن عبد العزيز :، وأغفلوا ذكر الحسن ومعاوية ب، مع النظرة الأولى تدحض هذه الفكرة، لأن الحسن بن علي هو كما يرى كثير من الروافض أنه من الأئمة، إلا أنهم يغصّون بذكره، وكثيرون منهم يخرجونه من طائفة الأئمة المعصومين؟!.
والمديح هنا لمعاوية الثاني : من هذا الباب، من باب محاولة النيل من الخلافة الأموية باستثناءات يدّعونها، مما أدى إلى وقوع الكثيرين ممن كتبوا التاريخ، أو يتكلمون في التاريخ، فوقعوا في النيل من كل بني أمية عدا الاستثناءات لذر الرماد في العيون، وهذا هو الحقد والإحن التي تملأ نفوس أعداء الإسلام بتشويه التاريخ.
ولذلك – أعود بعد هذا الاستطراد – إلى ما كنا فيه، فالحاكم – غالباً - لا يترك كرسيه – صالحاً كان أم فاسداً – فالصالح يريد أن يقدم لأمته ما يستطيع من إصلاح وخير، ويخشى أن يكون مَنْ بعده فاسداً، أو فاسقاً، أو لا يستطيع حمل الأمانة، ويخشى أن تعم الفوضى، ففي تلك الأيام لم يكن هناك مجالس نيابية يعترف بها الشعب لاختيار الحاكم وانتخابه، فيخشى أن يسود الهرج بين الناس، فينتقل الناس من مفسدة إلى مفسدة من أجل مصلحة، وأما الإمام الفاسد، فلتعلقه بأمور الدنيا، وحبه للملك والتملك، وشهوة السلطان، يتعلق بالحكم، فيضرب، ويقتل، ويسفك الدماء في سبيل الحفاظ عليه ما استطاع.
وبما أن غالب الحكام سيدافعون عن سلطانهم، ولو أن كل حاكم ترك سلطانه، لا يذود عنه الخائضين والمارقين، لأصبحت الأمة في هرج مرج، يسوسهم الشذاذ والأفاقون، فعلى العلماء، والقوّاد والعاملين والناصحين أن يضعوا هذا الأمر في حسابهم، ولا تدفعهم الحمية والغيرة والحماس إلى عدم التبصر، فينطلقون بالأمة إلى مصير غير محسوب، وغير معروف، خاصة وأن أئمة بني أمية كانوا لا يقبلون رفع راية غير راية الإسلام، ولم يخرجوا عن الإسلام في مختلف حيوات مواطنيهم وشعوبهم، ومناداتهم ودفع الناس إلى رفع راية الجهاد، مع فساد أخلاق بعض منهم – إن صح -، إلا أنهم تركوا الناس وأفكارهم ومعتقداتهم، وتدينهم، وأقاموا الأحكام في القضاء والحياة العامة، وحتى في السياسة، وكان همّ هؤلاء الخلفاء هو قوة الدولة، وقوة سيطرتها على أقاليمها، ورفع راية العدل في الأحكام، واتباع السنن، وإقامة الجهاد في سبيل الله، كما سنرى ذلك من خلال استعراضنا في السطور القادمة، وبقي الأعداء وأصحاب الإحن متربصين لهذه الأمة الفتية، ويستغلّون كل حادثة، أو فكرة لنشرها بين العامة، وفي أيامنا أصبحت هذه الأفكار تسود بين الخاصة، وكثير من أهل العلم.
وقد اعتمد أعداء هذا الدين في تلبيسهم على المسلمين منذ استشهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على فكرة التوريث بتولية عهد من الخليفة القائم، لمن بعده بعد وفاته، وجعلوها ديدنهم لينالوا من خلفاء المسلمين، وقد أدرك كثير من الصحابة والتابعين هذه اللعبة القذرة التي تولاها هؤلاء المشعبذون المارقون باسم الشورى، ولذلك نجد أن علماءنا لما كتبوا في الأحكام السلطانية ذكروا كيفية إقامة الخليفة، وكيف يمكن أن يكون له أشكال، وأرى أن هذه الصور التي يذكرها هؤلاء العلماء يُقصد بها أن كل مرحلة، أو وضع تاريخي، أو ظرف معين يمكن أن يتبع إحداها في تنصيب الإمام، لتبقى وحدة الأمة هي الأمر المهم في هذا الباب، والعلماء في كتبهم الأحكام السلطانية ذكروا أن للإمام أن يعهد لرجل بعده، دون ذكر للشورى، يقول الإمام أبو يعلى :: «ويجوز للإمام أن يعهد إلى إمام بعده، ولا يحتاج في ذلك إلى شهادة أهل الحل والعقد، وذلك لأن أبا بكر عهد إلى عمر ب، وعمر عهد إلى ستة من الصحابة y، ولم يعتبرا في حال العهد شهادة أهل الحل والعقد»([105]).
ويؤيد هذا ويقدم له الشرح الأوفى إمام الحرمين الجويني : فيقول: «فَأَمَّا مَنْ يُوَلِّيهِ الْعَهْدَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَهَذَا إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَوَزَرُ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ، وَكَهْفُ الْعَالِمِينَ، وَأَصْلُ تَوْلِيَةِ الْعَهْدِ ثَابِتٌ قَطْعًا مُسْتَنِدٌ إِلَى إِجْمَاعِ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا عَهِدَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ب وَوَلَّاهُ الْإِمَامَةَ بَعْدَهُ، لَمْ يُبْدِ أَحَدٌ مِنْ صَحْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَكِيرًا، ثُمَّ اعْتَقَدَ كَافَّةُ عُلَمَاءِ الدِّينِ تَوْلِيَةَ الْعَهْدِ مَسْلَكًا فِي إِثْبَاتِ الْإِمَامَةِ فِي حَقِّ الْمَعْهُودِ إِلَيْهِ الْمُوَلَّى، وَلَمْ يَنْفِ أَحَدٌ أَصْلَهَا أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ مَنْ تَرَدَّدَ وَتَبَلَّدَ، فَفِي صِفَةِ الْمُوَلَّى أَوِ الْمُوَلِّي، فَأَمَّا أَصْلُ الْعَهْدِ، فَثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ»([106]).
وهذه الصيغة يتظاهر هؤلاء الذين تحوك في قلوبهم الإحن بقبولها، ويقفزون مباشرة إلى فكرة التوريث، التي ما هي إلى في بعض صورها تقع تحت هذه الصورة، وهي اختيار الخليفة المتقدم للخليفة المتأخر، فيعينه، وهي الصورة نفسها التي قام بها أبو بكر رضي الله عنه عندما اختار عمر خليفة من بعده، مع أنه كان يسأل الناس القادمين إلى المدينة دائماً عمن يرونه صالحاً للأمر بعده [أي بعد أبي بكر]، وعمر قام بنفس الأمر، ولكنه وسع الدائرة قليلاً، فجعلها ضمن ستة، ولكن هؤلاء الأعداء يحتجون بأن معاوية جعله في ابنه، وليس في غير ابنه، مع أن التاريخ يذكر لنا أن عملية اختيار ابنه كانت بعد مناقشة بينه وبين أصحابه حول هذا الموضوع، وكيف أنه هو عرض عليهم أربعة يختار واحداً منهم، ليس فيهم ابنه يزيد، وإنما هم: الحسين بن علي، وعبد اللَّه بن الزبير، وعبد اللَّه بن عباس، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وبعد حوار حول الأصلح من بين هؤلاء للحكم، وليس الأصلح بالتقوى والعبادة والمنزلة، لأن الحكم دائماً له أحكامه الخاصة به، وهذا ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما يختار أمراءه وقواده، فلم يكن يقدم فيهم أحبهم إليه، وأتقاهم، وإنما كان يقدم الصالح للعمل الذي سيوكله إليه، لأن كل عمل له مواصفات خاصة لمن يتقلده، ولذلك قال لأبي ذر رضي الله عنه: كما يروي أَبو ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا)([107]).
ولذلك لا ينظر من الأفضل في الصلاح والتقوى والمكانة، بقدر ما ينظر لمصلحة الأمة في تسيير أمورها، ومسيرة جهادها، وهذا ما سنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندما اختار عمرو بن العاص رضي الله عنه بعد إسلامه بقليل لقيادة سرية فيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو أول الناس إسلامهم، وأحب الناس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأحس عمرو بن العاص أن مكانته قد وصلت إلى مرتقى عالياً، قد يدنو من مقام أبي بكر رضي الله عنه، فذهب يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الناس إليه، ليرى مكانته أين، فعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ فِي ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَسَأَلَهُ أَصْحَابُهُ أَنْ يُوقِدُوا نَارًا، فَمَنَعَهُمْ، فَكَلَّمُوا أَبَا بَكْرٍ، فَكَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يُوقِدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ نَارًا إِلَّا قَذَفْتُهُ فِيهَا، قَالَ: فَلَقُوا الْعَدُوَّ فَهَزَمُوهُمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ، فَمَنَعَهُمْ فَلَمَّا انْصَرَفَ ذَلِكَ الْجَيْشُ، ذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَشَكَوْهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ آذَنَ لَهُمْ أَنْ يُوقِدُوا نَارًا، فَيَرَى عَدُوُّهُمْ قِلَّتَهُمْ، وَكَرِهْتُ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ، فَيَكُونُ لَهُمْ مَدَدٌ فَيُعْطِفُوا عَلَيْهِمْ، فَحَمِدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (لِمَ؟)، قَالَ: لَأُحِبُّ مَنْ تُحِبُّ، قَالَ: (عَائِشَةُ)، قَالَ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: (أَبُو بَكْرٍ)([108]).
وفي الصحيحن: عن عَمْرُو بْنُ العَاصِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلاَسِلِ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (عَائِشَةُ)، فَقُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ فَقَالَ: (أَبُوهَا)، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ) فَعَدَّ رِجَالًا»([109]).
وعلق الحافظ ابن حجر على رواية الصحيح هذه فقال: «قَوْلُهُ [أي عمرو بن العاص]: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ زَادَ فِي رِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: يَا رَسُولَ الله، فَأَحبهُ، أخرجه ابن عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ إِسْمَاعِيل عَن قيس وَقع عِنْد ابن سَعْدٍ سَبَبُ هَذَا السُّؤَالِ، وَأَنَّهُ وَقَعَ فِي نَفْسِ عَمْرٍو لَمَّا أَمَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْجَيْشِ، وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عِنْدَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ عَلَيْهِمْ، فَسَأَلَهُ لِذَلِكَ، قَوْلُهُ: فَقُلْتُ مِنَ الرِّجَالِ، فِي رِوَايَة قيس بن أبي حَازِم عَن عَمْرو عِنْد ابن خُزَيْمَة وابن حِبَّانَ، قُلْتُ: إِنِّي لَسْتُ أَعْنِي النِّسَاءَ، إِنِّي أعني الرِّجَال، وَفِي حَدِيث أنس عِنْد ابن حِبَّانَ أَيْضًا: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مِنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (عَائِشَةُ)، قِيلَ لَهُ: لَيْسَ عَنْ أَهْلِكَ نَسْأَلُكَ، وَعُرِفَ بِحَدِيثِ عُمَرَ اسْمُ السَّائِلِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، قَوْلُهُ: فَقُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ)، فَعَدَّ رِجَالًا، زَادَ فِي الْمَغَازِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: فَسَكَتُّ مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي فِي آخِرِهِمْ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَيُّ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ؟ قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَتْ: عُمَرُ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَتْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ فَسَكَتَتْ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ بَعْضُ الرِّجَالِ الَّذِينَ أُبْهِمُوا فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِأَبِي عُبَيْدَةَ »([110]).
وموطن الشاهد في هذه المسألة أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لما أعطي قيادة معركة لجنود فيهم أبو بكر وعمر، ظن ارتفاع مكانته فوق هؤلاء الجنود عند النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه اكتشف مكانته من خلال سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الموضوع، والمقصود أن اختيار الخليفة أو القائد، لا لمكانة أو فضل، بل لقيادة ودراية في الأمور المطلوبة في القائد أو الخليفة.
والمشكلة التي اتُّهم فيها معاوية رضي الله عنه أنه اختار ابنه، وهنا تبرز مسألة الأحقاد والإحن التي وغرت صدور هؤلاء الحاقدين، الذي يريدون لهذا الدين أن يندثر، فبدؤوا منذ عهد معاوية رضي الله عنه، وما يزالون، وينعق بأقوالهم كثيرون من أهل العلم، والفكر في العصر الحاضر، دون أن يدركوا ما هم فيه من تنفيذ أحقاد هؤلاء، حتى أصبح الإسلام في محنة دائمة، ترى فيه كثيراً من علمائه، ومفكريه، يلهجون، ويجترون ما يقوله هؤلاء السبئية، وأتباعهم، وهم لا يدركون أن معاوية عندما بحث الأمر مع بعض الصحابة، أمر من يكون بعده، اقترح أربعة أسماء ليس فيهم ابنه يزيد، ولكن اقتراح يزيد كان من غيره، والذي اقترح اسم يزيد لا لفضل يزيد على من اقترحهم معاوية رضي الله عنه، وإنما للقوة التي يملكها يزيد، فيستطيع بسببها أن يخضع من يريد الانفصال عن جسد الدولة، ويمزقها، لأنهم كلهم كانوا يتوقعون زيادة الاضطرابات بعد موت معاوية رضي الله عنه، فالخوارج ما يزالون يقاتلون الدولة، والروافض ما زالوا يسيرون بدعاويهم بين أفراد الأمة، وينقلونها من مكان إلى مكان، منادين بالثورة على الإمام الظالم المتعدي على الإمامة [؟؟!!]، والمنطقة الوحيدة التي كانت بعيدة عن هذه الدعوات الخارجية، والسبئية هي بلاد الشام، ولذلك كان رأي من أشار على معاوية باستخلاف يزيد، لأنه يملك جيشاً متوازناً، موحداً، وأقنعوه أن علياً رضي الله عنه وهو أفضل من معاوية وأبيه، وباقي المسلمين في ذلك الوقت، ولكنه لم يملك هذا الجيش المتوازن، بل كان جيشه ممزقاً مضطرباً، ولم يكن أصحابه يطيعونه، وقد ذكر أبو حنيفة الدينوري عن علي رضي الله عنه أنه: «كتب كتاباً، ودفعه إلى رجل، وأمره أن يقرأه على الناس يوم الجمعة إذا فرغوا من الصلاة، وكانت نسخته: (بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من عبد اللَّه علي أمير المؤمنين إلى شيعته من أهل الكوفة، سلام عليكم، أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، من تركه ألبسه اللَّه الذلة، وشمله بالصغار، وسيم الخسف وسيل الضيم، وإني قد دعوتكم إلى جهاد هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، واجترأ عليهم عدوهم، هذا أخو بني عامر قد ورد الأنبار، وقتل، فينزع حجلها من رجلها، وقلائدها من عنقها، وقد انصرفوا موفورين، ما كلم رجل منهم كلما، فلو أن أحداً مات من هذا أسفاً ما كان عندي ملوماً، بل كان جديراً، يا عجباً من أمر يميت القلوب، ويجتلب الهم، ويسعر الأحزان من اجتماع القوم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، فبعداً لكم وسحقاً، قد صرتم غرضاً، تُرمون، ولا تَرمون، ويُغار عليكم ولا تغيرون، ويُعصى اللَّه فترضون، إذا قلت لكم سيروا في الشتاء، قلتم: كيف نغزو في هذا القر، والصر، وإن قلت لكم: سيروا في الصيف، قلتم: حتى ينصرم عنا حمارة القيظ، وكل هذا فرار من الموت، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون، فأنتم واللَّه من السيف أفر، والذي نفسي بيده، ما من ذلك تهربون، ولكن من السيف تحيدون، يا أشباه الرجال، ولا رجال، ويا أحلام الأطفال، وعقول ربات الحجال، أما واللَّه لوددت أن اللَّه أخرجني من بين أظهركم، وقبضني إلى رحمته من بينكم، ووددت أن لم أركم، ولم أعرفكم، فقد واللَّه ملأتم صدري غيظاً، وجرعتموني الأمرّين أنفاساً، وأفسدتم على رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب.
للَّه أبوهم، هل كان فيهم رجل أشد لها مراساً، وأطول مقاساة مني ؟ ولقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا (ذا) اليوم قد جنفت الستين، لا، ولكن لا رأي لمن لا يطاع)»([111]).
إذن هذا رأي من أشار على معاوية باستخلاف يزيد، لأن الجيش الذي لا يستطيع سيدنا علي رضي الله عنه قيادته بقوة، ولا يملك طاعته بقناعة، وإخلاص، فستكون دولته مهزوزة مضطربة، لا بسبب فشل القائد، بل بسبب اضطراب المقود، وامتلاؤه بهؤلاء الأفاقين من أتباع ابن سبأ، وأعداء الإسلام المتظاهرين باتباعهم لهذا الدين، وهؤلاء اعتبروا استخلاف يزيد مطعناً، وأنه جعلها كسروية هرقلية [كما يتشدقون دائماً]، ويحتجون بفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما رفض وضع ابنه عبد اللَّه مع أصحاب الشورى، ولكن رفض عمر الفكرة عندما طلبوها منه من أجل الهرقلية أو فكرة التوريث التي اختلقوها، وقد رويت هذه القصة بصورة متعددة، وهذه بعضها:
رواية البخاري :: «فَقَالُوا: أَوْصِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، اسْتَخْلِفْ، قَالَ: مَا أَجِدُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلاَءِ النَّفَرِ، أَوِ الرَّهْطِ، الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَسَمَّى: عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَقَالَ: يَشْهَدُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ - كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ - فَإِنْ أَصَابَتِ الإِمْرَةُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ، وَلاَ خِيَانَةٍ»([112]).
حسن حسن فرحات
بدأت محاولات تتذرع بالإصلاح للدولة الإسلامية الناشئة التي بدأت تتوسع في نواحي العالم، وأقاليمه، وهذه المحاولات منها ما كان يعتمد على تأويل آيات القرآن، والأحاديث النبوية كما يفهمها أصحابها الذين لم يفقهوا، ولم يتفقهوا على الصحابة الكرام، فجاءت تأويلاتهم بعيدة عن حقيقة النص القرآن، وحقيقة النص النبوي، ومن هذه الحركات من كان أصحابها إما مغترّين، وتابعين لشخصيات تظن بنفسها الإيمان الحق، وغيرها على باطل، وإما فرق يهمها ضرب الإسلام، ووقف توسعه وتقدمه، وانفراط عقد دولته، وهم الأكثر، ومنها من كان أصحابها هم أعداء هذه الأمة، ويريدون تقويض دولتها وإزالتها، ومن هذه المحاولات:
فتنة الخوارج:
سبق وذكرت أن ما حدث بين معاوية وعلي ب قد يعتبره بعضهم خروجاً على الإمام، مع أنه لم يبايع أصلاً، ولم ينكث بيعته، فهو يعترف بعلي إماماً بعد الأخذ بثأر عثمان، كما جاء في الروايات، فإن الخوارج بجميع فرقهم، وأصنافهم، كانوا جنوداً لعلي رضي الله عنه، وأتباعاً له، وهم الذين قبلوا التحكيم، بل ألجؤوا علياً إليه، ثم كفّروه بقبوله لهذا التحكيم، وطلبوا منه أن يتوب من كفره بسبب قبوله التحكيم، كما فعلوا بأنفسهم من تكفير وتوبة، ولذلك تكون حركات الخوارج أول الحركات طعناً في نظام الحكم في الإسلام، بعد حركات الغوغاء، والفوضويين على عثمان رضي الله عنه، والذين يريدون تقويض دولة الإسلام بقتل إمام المسلمين، ونشر الفوضى في ديار الإسلام، وهذا ما حصل بعد قتلهم لإمام المسلمين عثمان رضي الله عنه، وفرّق ابن تيمية : بين الخوارج، وبين أهل الجمل وصفين، فيقول: «وَأَمَّا جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ: الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ، وَبَيْنَ: أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين، وَغَيْرِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين، مِمَّنْ يُعَدُّ مِنْ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَالْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِين، وَعَلَيْهِ نُصُوصُ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ: مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَحْمَد، وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ... وَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه مَسْرُورًا لِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَيَرْوِي الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ رضي الله عنه فِي الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ؛ وَأَمَّا قِتَالُ صَفِّينَ، فَذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ نَصٌّ؛ وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَآهُ، وَكَانَ أَحْيَانًا يَحْمَدُ مَنْ لَمْ يَرَ الْقِتَالَ»([91]).
وكثرت أسماء المحاربين لعلي، والخارجين عليه، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وَهَؤُلَاءِ الْخَوَارِجُ لَهُمْ أَسْمَاءٌ يُقَالُ لَهُمْ: الحرورية؛ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِمَكَانِ يُقَالُ لَهُ حَرُورَاءُ، وَيُقَالُ لَهُمْ أَهْلُ النهروان: لِأَنَّ عَلِيًّا قَاتَلَهُمْ هُنَاكَ، وَمِنْ أَصْنَافِهِمْ: الإباضية، أَتْبَاعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إبَاضٍ، والأزارقة: أَتْبَاعُ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ، والنَّجَدَاتُ: أَصْحَابُ نَجْدَةَ الحروري»، ويتميز هؤلاء الخوارج بتوسيع دائرة التكفير، حتى تشمل كل مرتكب لذنب يعتبرونه هم كبيرة، ويتابع العلامة ابن تيمية :: «وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ كَفَّرَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِالذُّنُوبِ، بَلْ بِمَا يَرَوْنَهُ هُمْ مِنْ الذُّنُوبِ، وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَلِكَ، فَكَانُوا كَمَا نَعَتَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ)، وَكَفَّرُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَعُثْمَانَ بْنَ عفان، وَمَنْ وَالَاهُمَا، وَقَتَلُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مُسْتَحِلِّينَ لِقَتْلِهِ، قَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ المرادي مِنْهُمْ، وَكَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْخَوَارِجِ مُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ، لَكِنْ كَانُوا جُهَّالًا، فَارَقُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ؛ فَقَالَ هَؤُلَاءِ: مَا النَّاسُ إلَّا مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ؛ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ فَعَلَ جَمِيعَ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرَكَ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ، ثُمَّ جَعَلُوا كُلَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ كَذَلِكَ، فَقَالُوا: إنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَنَحْوَهُمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَظَلَمُوا، فَصَارُوا كُفَّارًا»([92]).
فاستشهاد الإمام عثمان رضي الله عنه أدى إلى خروج علي إلى العراق، بعد أن كان مركز الدولة في المدينة، ليحمي عائشة أم المؤمنين من قتلة عثمان رضي الله عنه الذين خرجوا إلى هناك، وإصرارهم على التغيير الذي يريدونه، ولم تفلح محاولات الصحابة: عائشة، وطلحة، والزبير y وغيرهم من المسلمين، ويقول ابن تيمية :: «لَمَّا قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عفان، وَسَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى الْعِرَاقِ، وَحَصَلَ بَيْنَ الْأُمَّةِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ، ثُمَّ يَوْمَ صفين مَا هُوَ مَشْهُورٌ: خَرَجَتْ الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدّ أَخْبَرَ بِهِمْ، وَذَكَرَ حُكْمَهُمْ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ، وَهَذِهِ الْعَشَرَةُ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مُوَافَقَةً لِأَحْمَدَ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْهَا عِدَّةَ أَوْجُهٍ، وَرَوَى أَحَادِيثَهُمْ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ».
فهؤلاء الخوارج لا يمكن أن يكونوا دعاة إصلاح، وخبرهم من أخبار النبوة، وفيهم أحاديث كثيرة كما ذكر العلامة ابن تيمية، ويتابع: «وَمِنْ أَصَحِّ حَدِيثِهِمْ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، فَوَاَللَّهِ لَأَنْ أَخِرَّ مِن السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ، وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ: أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةِ فِي أَدَمٍ مَقْرُوضٍ، لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا، فَقَالَ: فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلَاءِ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً؟) قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمِّرُ الْإِزَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ: (وَيْلَك، أَوَلَسْت أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ)، قَالَ: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: (لَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي) قَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ؛ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ)، قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ فَقَالَ: (إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضئضئ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ)، قَالَ: أَظُنُّهُ قَالَ: (لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنهُمْ قَتْلَ عَادٍ)، اللَّفْظُ لِمُسْلِمِ»([93]).
ومن هنا كان من الخطأ أن نضع حركات المرتدين، والغوغاء أهل الفتنة قتلة عثمان، والخوارج الذين كانوا شوكة في خاصرة الإسلام، من عهد علي رضي الله عنه إلى أواخر العهد الأموي أن نضع هذه الحركات في باب الإصلاح، إنما هي حركات إفساد، وحرب على الدولة الإسلامية الفتية.
وبذلك تكون أول بداية للتأثر بهذه الإحن التي وغرت الصدور فأدت إلى قتل عثمان رضي الله عنه، وأدت كذلك إلى نقل دار الخلافة من المدينة المنورة التي كان الحصن للحصين للدولة الإسلامية، فانتقلت إلى الكوفة في العراق، وبذلك تشتت أمر المسلمين، كما تشتت العواصم، فبعدها انتقلت من الكوفة إلى دمشق، ثم انتقلت من دمشق إلى العراق، وفي العراق تنقلت بين البصرة، وبغداد، وسامراء، ثم بغداد، وبعدها إلى القاهرة، ثم إستانبول، إلى أن تم القضاء عليها في بداية القرن العشرين، في القرن الثالث عشر الهجري.
إذن فمن الممكن أن نشير إلى اتفاق أهل الإسلام منذ عهد الصحابة y، وإلى عهدنا، أن الخوارج هم أول فتنة حربية تعرض لها إمام حاكم للمسلمين، دون خلاف في ذلك، وكذلك التابعين ومن بعدهم من الأئمة، والعلماء، ولذلك أطلقوا عليهم اسم الخوارج، واتفقوا كذلك على أن علياً رضي الله عنه كان محقاً في حربهم؛ لأنهم أصلاً ليسوا دعاة إصلاح، وكذلك من جاء بعده من بني أمية كانوا محقين في حروبهم لهم، وأن هؤلاء الخوارج كانوا شوكة تقضّ مضاجع المسلمين.
وأفكار هؤلاء الخوارج في تكفير المسلمين بدأت تتسرب إلى نفوس الناشئة في كل عصر، حتى وصلت إلى عصرنا، ولم يقتصر هؤلاء الناشئة على التكفير، بل كفّروا من لم يكفّر مَن كفّروهم أيضاً، بل كفّر كثير منهم من لم يعتقد معتقدهم، وبذلك بدأت الأمة في العصر الحديث تصحو على صيحات الخوارج بالتكفير، وبدأت هذه الصيحات تطرق كل الأبواب، وتنتشر بين أفراد من طلبة العلم، خصوصاً إذا علمنا أن هؤلاء الطلبة بضاعتهم في الفقه مزجاة، ونظرتهم إلى الاختلافات العلمية بين العلماء والفقهاء قاصرة، وثقتهم بكثير من أهل العلم معدومة، إلا بأنفسهم، وأفكارهم، وآرائهم التي أصبحت – بزعمهم – عقيدة المسلمين الحقة، وبذلك يبوء الخوارج الأُوَل بإثم من جاء بعدهم، وتقمص آراءهم، أو بعض آرائهم، فالسمات بين الفريقين مشتركة، بزيادة جهل في فهم النصوص، والخروج إلى معان ليست فيها، فأهل العلم في عصر الخوارج الأول هم الصحابة والتابعون، فشن الخوارج عليهم الحروب العسكرية، والعقدية، فقاتلوهم وكفّرهم، وكفّروا عوام المسلمين، فقتلوا من استطاعوا، ونهبوا دورهم، وأموالهم، وسبوا نساءهم، وكان أحدهم يفعل ذلك وهو يقول كما يذكر الإمام المبرد في الكامل: «قال أبو العباس: وكان في جملة الخوارج لدد، واحتجاج، على كثرة خطبائهم وشعرائهم، ونفاذ بصيرتهم، وتوطين أنفسهم على الموت، فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح، فجعل يسعى فيه إلى قاتله، وهو يقول: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾»([94])، وهذا ما نشاهده من فعل أغلمة الخوارج هؤلاء، وبذلك يكون أعداء الإسلام استطاعوا أن يجلبوا المحن إلى هذه الأمة باسم الدين، فالفكر الخارجي هذا كان يستعمله أعداء الإسلام في كل عصر، وإلى الآن، نجد صوره ظاهرة باسم أن الصحابة رجال، يخطئون ويصيبون، ثم يبدأ قائلهم بانتهاك أعراض الصحابة الكرام، يختار من الصحابة من يلائمه لنهش عرضه حسب المكان، والزمان، والإنسان الذي يخاطبه.
ب- في العصر الأموي:
إن الفتنة التي عصفت بالأمة في نهاية عصر الراشدين، وكان نتيجتها استشهاد الإمام عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب ب، وحدوث معركتين عظيمتين بين المؤمنين: الجمل، وصفين، هذه الفتنة جعلت عدداً من الناس ينظرون إلى الحكم الأموي نظرة تختلف عن نظرتهم إلى الخلفاء الراشدين، فمنهم من بقي مؤيداً، ومناصراً للإمام القائم، كائناً من كان، قال الحافظ ابن حجر ؒ: «كَانَ رَأْيُ مُعَاوِيَةَ فِي الْخِلَافَةِ تَقْدِيمُ الْفَاضِلِ فِي الْقُوَّةِ وَالرَّأْيِ وَالْمَعْرِفَةِ عَلَى الْفَاضِلِ فِي السَّبَقِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ وَالْعِبَادَةِ، فَلِهَذَا أَطْلَقَ أَنَّهُ أَحَقُّ، وَرَأْيُ ابن عُمَرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يُبَايَعُ الْمَفْضُولُ إِلَّا إِذَا خُشِيَ الْفِتْنَةُ؛ وَلِهَذَا بَايَعَ بَعْدَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ ابْنَهُ يَزِيدَ، وَنَهَى بَنِيهِ عَنْ نَقْضِ بَيْعَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفِتَنِ، وَبَايَعَ بَعْدَ ذَلِكَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَان.
فَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِي هِرَاقَةُ الدِّمَاء،ِ وَأَنْ يُحْمَلَ قَوْلِي عَلَى غَيْرِ الَّذِي أَرَدْتُ قَوْلُهُ»([95]).
ومنهم من كان منعزلاً بنفسه، لا يقدم لهم عوناً، ولا يرفع عليهم سيفاً، أو أن يكون عليهم معيناً، ومنهم من كان يرى أنهم ليسوا أهلاً للإمامة، فنابذهم، أو دعا لمنابذتهم، وأكثر الأمة، وهم السواد الأعظم الذين لم تخدعهم الشعارات، فقبلوا حكمهم، وجاهدوا معهم.
ولذلك نحاول هنا الاستطلاع على هذه الأقسام، لنرى مدى صحة الطريق التي يمكن أن يتبينها المسلم في حياته، والمنهاج الذي يجب أن يتبعه، دون اقتراب من نهج الذين يحاولون دائماً أن يعيدونا إلى مربع الفتنة، لأن هذا هو عمل أصحاب الإحن، وهو إذكاء القلوب بما يحرق الإجساد والنفوس؛ للقضاء على جذوة الإيمان الصحيح الصريح، وتغليفه بإيمان زائف، يتزيى بزي الطاعة، وهو كله فتنة، وإنفاذ لأهل الإحن، للغوص في تفتيت الأمة بالمحن والبلاءات.
دعاوى الإصلاح، وإعادة الحق:
وأهلها هم الذين ينابذون الإمام (الحاكم) ولهم أهداف، وطرق لتحقيق هذه الأهداف، ولقادتهم وأئمتهم أيضاً أهداف، وطرق خاصة لتحقيقها، وليس كل الأئمة (الحكام) يصلون إلى ما وصل إليه الإمام الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، بل ولن يصلوا إلى قريب منه، وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن عقول المطالبين بالحق بقوة السلاح، ولا عن عقول المسلمين خلال التاريخ منذ استشهاد عثمان، وحتى يرث اللَّه الأرض ومن عليها، لأن عثمان رضي الله عنه تخرّج من مدرسة النبوة مباشرة، فأُشرب الأدب النبوي، والأخلاق النبوية، وعُجنت نفسُه وقلبُه وذاته بها، ولم يتخلّ عنها، ولم يرضخ للغوغاء والسفلة، وكلفه ذلك دمه الزكي الذي سال على كتاب الله، فاستشهد رضي الله عنه صائماً تالياً ذاكراً.
والناس على مدار التاريخ الإسلامي يريدون حاكماً يحمل مواصفات شخصيتين: عمر بن الخطاب في شدته وقوته، وعثمان بن عفان في عفوه وكرمه، ولينه مع خصومه، وعدم البطش بهم، ويحاكم هؤلاء الناس حكامهم على هذين المعيارين، فإذا كان هيناً ليّنا، اعتبروه ضعيفاً، وقالوا له: كن كعمر بن الخطاب قوياً يرهبه الناس، وإذا كان جباراً بطاشاً فتاكاً، قالوا له: كن كعثمان بن عفان عفواً سهلاً، يتحمل رعيته، وعلى ما يبدو أن هذه النظرة بدأت تنمو منذ عهد معاوية رضي الله عنه، وإن كان معاوية قد استطاع أن يكون قريباً من هاتين الشخصيتين معاً في أكثر أوقاته وأحواله، إلا أنه خرج عنهما في بعض ساعاته، وهي نادرة، وأما من جاؤوا بعده رضي الله عنه لم يستطع أحدهم أن يكون واحداً منهما، فما بالك بهما معاً، والناس ما زالوا ينتظرون من حكامهم هذه المواصفات، ويغيب عن بالهم أن نظرة الحاكم – عادلاً كان أم ظالماً، مسلماً كان أم كافراً – هو أن يستتب له الحكم، ليحقق ما يريد، إلا ما يروى عن معاوية بن يزيد بن معاوية، يقول ابن كثير :: «بُويِعَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ- وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ- فِي رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا نَاسِكًا، وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ، قِيلَ: إِنَّهُ مَكَثَ فِي الْمُلْكِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ شَهْرَيْنِ، وَقِيلَ شَهْرًا ونصف شهر، وقيل ثلاثة أشهر وعشرون يَوْمًا، وَقِيلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فاللَّه أَعْلَمُ»([96])، فلم يعهد له يزيد، ولا أخذ له بيعة، وإنما كعادة العرب قبل الإسلام، الملك ابنه ملك، والأمير ابنه أمير، وقد رأينا ذلك مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما اقترحوا عليه أن يكون ابنه خليفة من بعده، فلم ينكر الفكرة، ولكنه أشفق على أحد من أهله وولده أن يحمل هذا العبء الثقيل، فقال: «حسب آل الخطاب أن يليها واحد منهم؛ فإن كان خيراً فقد أصبنا منه، وإن كان رزءاً فقد قمنا بنصيبنا فيه»، ولما جاء أهل الشام ليؤمروا معاوية بن يزيد، فرفض هذه البيعة، ويحاول المؤرخون أن يعللوا ذلك عن ضعفه الذي اعترف به في قوله لمن بايعوه كما ذكر ابن كثير $: «ويروى أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ هَذَا نَادَى فِي النَّاسِ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ذَاتَ يَوْمٍ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ أَمْرَكُمْ وَأَنَا ضَعِيفٌ عَنْهُ، فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ تَرَكْتُهَا لِرَجُلٍ قَوِيٍّ كَمَا تَرَكَهَا الصِّدِّيقُ لِعُمَرَ، وَإِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا شُورَى فِي سِتَّةٍ مِنْكُمْ كَمَا تَرَكَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مَنْ هُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ، وَقَدْ تَرَكْتُ لَكُمْ أَمْرَكُمْ، فَوَلُّوا عَلَيْكُمْ مَنْ يَصْلُحُ لَكُمْ، ثُمَّ نَزَلَ وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى»([97]).
وهذه الرواية ليست ثابتة بهذه الطريقة، لأن ابن كثير : ذكرها بصيغة التضعيف، ولم يذكر لها سنداً، والطبري : لم يذكر شيئاً عن هذا الموضوع، وإنما قال «بويع لمعاوية بن يزيد» دون ذكر لأي إسناد، وهذا مخالف لطريقة الطبري في سرد رواياته حيث ترك الإسناد، وحتى لم يذكر مصدره لا إسناداً ولا خبراًـ حتى خليفة بن خياط رحمه اللَّه ذكرها بطريقة غريبة فقال: «واستُخلف ابْنه مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة»([98]).
ويؤيد هذا ما قاله ابن حبان في صحيحه دون ىإسناد وإنما من خلال سرده للتاريخ: «ثُمَّ بُويِعَ ابْنُهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ يَوْمَ النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَمَاتَ يَوْمَ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً»([99]).
بينما ذكر الطبراني بإسناده (وهو مقبول عند المحدثين): «حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، ثنا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، ثنا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بَايَعَ أَهْلُ الشَّامِ كُلُّهُمْ ابْنَ الزُّبَيْرِ إِلَّا أَهْلَ الْأَرْدُنِّ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رُءُوسُ بَنِي أُمَيَّةَ وَنَاسٌ مِنِ أَهْلِ الشَّامِ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَفِيهِمْ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ الْمُلْكَ كَانَ فِينَا أَهْلَ الشَّامِ فَيُنْقَلُ ذَلِكَ إِلَى الْحِجَازِ لَا نَرْضَى بِذَلِكَ»([100]).
فلم يزل مروان بالشام حتى مات يزيد بن معاوية وقد كان عقد لابنه معاوية بن يزيد بالعهد بعده، فبايع له الناس وأتته بيعة الآفاق»([101]).
وهذه الرواية تؤيد ما ذكره خليفة بن خياط دون إسناد حيث قال: «وفيهَا [أي سنة أربع وستين] مَاتَ يَزِيد بْن مُعَاوِيَة بحوارين من بِلَاد حمص، وَصلى عَلَيْهِ ابْنه مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة لَيْلَة الْبَدْر فِي شهر ربيع الأول، وَأمه مَيْسُونُ ابْنة بجدل الْكَلْبِيَّة، وَمَات [أي يزيد] وَهُوَ ابْن ثَمَان وَثَلَاثِينَ سنة، وَقَالُوا ابْن بضع وَأَرْبَعين سنة، وَكَانَت ولَايَته ثَلَاث سِنِين وَتِسْعَة أشهر، واثنتين وَعشْرين يَوْمًا، واستُخلف ابْنه مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، فَأقر عُمَّال أَبِيه، وَلم يول أحداً، وَلم يزل مَرِيضاً حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ ابْن إِحْدَى وَعشْرين سنة، وَيُقَال عشْرين سنة، وَصلى عَلَيْهِ الْوَلِيد بْن عتبَة بْن أَبِي سُفْيَان، وَكَانَت ولَايَته نَحواً من شهر وَنصف، وَيُقَال مَاتَ مُعَاوِيَة بعد أَبِيه يَزِيد بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَهُوَ ابْن ثَمَان عشرَة سنة »([102]).
وأيد هذه الروايات ابن عساكر بقوله: «فلم يزل مروان بالشام حتى مات يزيد بن معاوية وقد كان عقد لابنه معاوية بن يزيد بالعهد بعده فبايع له الناس وأتته بيعة الآفاق»([103]).
وقد تكون رواية البلاذري أقرب إلى القبول: «ومات يزيد بْن معاوية، وبويع لابنه معاوية بْن يزيد، وهو أَبُو ليلى فنادى: الصلاة جامعة، ثُمَّ تبرأ منَ الخلافة وجلس في بيته ومات بعد شهرين»([104]).
فهو هنا يذكر البيعة بصيغة المجهول، والذي يقوي أنها لم تكن بيعة بالطريقة التي يراها أصحاب الإحن بأنها بيعة على طريقة معاوية رضي الله عنه لابنه يزيد، لأن منطقة الشام كلها لم تدخل في هذه البيعة إن صحت، هكذا تذكر أكثر كتب التاريخ، أن المنطقة كلها خرجت عن السيطرة الأموية إلا قليلاً من منطقة الأردن، وهي بعيدة عن دمشق وما حولها، والذي أعادها للسيطرة الأموية هو مروان بن الحكم.
وكما نرى أن معاوية هذا : ضعيف باعترافه كما ذكروا، وهذا هو الذي ذكره أبو بكر أيضاً رضي الله عنه، فلم يقل المؤرخون عن أبي بكر إنه ضعيف، كما قالوا عن معاوية بن يزيد، مع أننا نلاحظ من هذا النص فهم معاوية الرائع لاختيار الحاكم، عندما ربطها بأبي بكر وعمر، ثم أحالها إلى الشورى، وهو لم يأت إلى هذا المقام عن أي طريق من هذه الطرق، ولذلك هرب من هذا الأمر، وكأنه : يريد أن يثبّت أنها لم تصله بالوراثة، وإلا لكان له بيعة، ولما استطاع الفكاك منها، وفي أذهان الناس أن الحكم ليس وراثياً، وقد اتهموا جده معاوية بهذا، فأرجعهم إلى الطريقة الصحيحة لاختيار الحاكم.
وأرى أن ما مُدح به معاوية بن يزيد لتركه الخلافة لوثة جاءت من الآثار الرافضية في التاريخ قديماً، وفي فهمه حديثاً، وهذا سنراه في عدة أحوال في تاريخنا، فمدحهم لعمر بن العزيز على حساب كل حكام بني أمية، حتى سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وقدموه على خلافة الحسن بن علي ب، فقالوا عنه الخليفة الراشد الخامس، وأظن أن مؤرخي المسلمين تماهوا مع مؤرخي الروافض فوقعوا في براثنهم، وكالوا المديح والمدائح في عمر بن عبد العزيز :، وأغفلوا ذكر الحسن ومعاوية ب، مع النظرة الأولى تدحض هذه الفكرة، لأن الحسن بن علي هو كما يرى كثير من الروافض أنه من الأئمة، إلا أنهم يغصّون بذكره، وكثيرون منهم يخرجونه من طائفة الأئمة المعصومين؟!.
والمديح هنا لمعاوية الثاني : من هذا الباب، من باب محاولة النيل من الخلافة الأموية باستثناءات يدّعونها، مما أدى إلى وقوع الكثيرين ممن كتبوا التاريخ، أو يتكلمون في التاريخ، فوقعوا في النيل من كل بني أمية عدا الاستثناءات لذر الرماد في العيون، وهذا هو الحقد والإحن التي تملأ نفوس أعداء الإسلام بتشويه التاريخ.
ولذلك – أعود بعد هذا الاستطراد – إلى ما كنا فيه، فالحاكم – غالباً - لا يترك كرسيه – صالحاً كان أم فاسداً – فالصالح يريد أن يقدم لأمته ما يستطيع من إصلاح وخير، ويخشى أن يكون مَنْ بعده فاسداً، أو فاسقاً، أو لا يستطيع حمل الأمانة، ويخشى أن تعم الفوضى، ففي تلك الأيام لم يكن هناك مجالس نيابية يعترف بها الشعب لاختيار الحاكم وانتخابه، فيخشى أن يسود الهرج بين الناس، فينتقل الناس من مفسدة إلى مفسدة من أجل مصلحة، وأما الإمام الفاسد، فلتعلقه بأمور الدنيا، وحبه للملك والتملك، وشهوة السلطان، يتعلق بالحكم، فيضرب، ويقتل، ويسفك الدماء في سبيل الحفاظ عليه ما استطاع.
وبما أن غالب الحكام سيدافعون عن سلطانهم، ولو أن كل حاكم ترك سلطانه، لا يذود عنه الخائضين والمارقين، لأصبحت الأمة في هرج مرج، يسوسهم الشذاذ والأفاقون، فعلى العلماء، والقوّاد والعاملين والناصحين أن يضعوا هذا الأمر في حسابهم، ولا تدفعهم الحمية والغيرة والحماس إلى عدم التبصر، فينطلقون بالأمة إلى مصير غير محسوب، وغير معروف، خاصة وأن أئمة بني أمية كانوا لا يقبلون رفع راية غير راية الإسلام، ولم يخرجوا عن الإسلام في مختلف حيوات مواطنيهم وشعوبهم، ومناداتهم ودفع الناس إلى رفع راية الجهاد، مع فساد أخلاق بعض منهم – إن صح -، إلا أنهم تركوا الناس وأفكارهم ومعتقداتهم، وتدينهم، وأقاموا الأحكام في القضاء والحياة العامة، وحتى في السياسة، وكان همّ هؤلاء الخلفاء هو قوة الدولة، وقوة سيطرتها على أقاليمها، ورفع راية العدل في الأحكام، واتباع السنن، وإقامة الجهاد في سبيل الله، كما سنرى ذلك من خلال استعراضنا في السطور القادمة، وبقي الأعداء وأصحاب الإحن متربصين لهذه الأمة الفتية، ويستغلّون كل حادثة، أو فكرة لنشرها بين العامة، وفي أيامنا أصبحت هذه الأفكار تسود بين الخاصة، وكثير من أهل العلم.
وقد اعتمد أعداء هذا الدين في تلبيسهم على المسلمين منذ استشهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على فكرة التوريث بتولية عهد من الخليفة القائم، لمن بعده بعد وفاته، وجعلوها ديدنهم لينالوا من خلفاء المسلمين، وقد أدرك كثير من الصحابة والتابعين هذه اللعبة القذرة التي تولاها هؤلاء المشعبذون المارقون باسم الشورى، ولذلك نجد أن علماءنا لما كتبوا في الأحكام السلطانية ذكروا كيفية إقامة الخليفة، وكيف يمكن أن يكون له أشكال، وأرى أن هذه الصور التي يذكرها هؤلاء العلماء يُقصد بها أن كل مرحلة، أو وضع تاريخي، أو ظرف معين يمكن أن يتبع إحداها في تنصيب الإمام، لتبقى وحدة الأمة هي الأمر المهم في هذا الباب، والعلماء في كتبهم الأحكام السلطانية ذكروا أن للإمام أن يعهد لرجل بعده، دون ذكر للشورى، يقول الإمام أبو يعلى :: «ويجوز للإمام أن يعهد إلى إمام بعده، ولا يحتاج في ذلك إلى شهادة أهل الحل والعقد، وذلك لأن أبا بكر عهد إلى عمر ب، وعمر عهد إلى ستة من الصحابة y، ولم يعتبرا في حال العهد شهادة أهل الحل والعقد»([105]).
ويؤيد هذا ويقدم له الشرح الأوفى إمام الحرمين الجويني : فيقول: «فَأَمَّا مَنْ يُوَلِّيهِ الْعَهْدَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَهَذَا إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَوَزَرُ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ، وَكَهْفُ الْعَالِمِينَ، وَأَصْلُ تَوْلِيَةِ الْعَهْدِ ثَابِتٌ قَطْعًا مُسْتَنِدٌ إِلَى إِجْمَاعِ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا عَهِدَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ب وَوَلَّاهُ الْإِمَامَةَ بَعْدَهُ، لَمْ يُبْدِ أَحَدٌ مِنْ صَحْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَكِيرًا، ثُمَّ اعْتَقَدَ كَافَّةُ عُلَمَاءِ الدِّينِ تَوْلِيَةَ الْعَهْدِ مَسْلَكًا فِي إِثْبَاتِ الْإِمَامَةِ فِي حَقِّ الْمَعْهُودِ إِلَيْهِ الْمُوَلَّى، وَلَمْ يَنْفِ أَحَدٌ أَصْلَهَا أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ مَنْ تَرَدَّدَ وَتَبَلَّدَ، فَفِي صِفَةِ الْمُوَلَّى أَوِ الْمُوَلِّي، فَأَمَّا أَصْلُ الْعَهْدِ، فَثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ»([106]).
وهذه الصيغة يتظاهر هؤلاء الذين تحوك في قلوبهم الإحن بقبولها، ويقفزون مباشرة إلى فكرة التوريث، التي ما هي إلى في بعض صورها تقع تحت هذه الصورة، وهي اختيار الخليفة المتقدم للخليفة المتأخر، فيعينه، وهي الصورة نفسها التي قام بها أبو بكر رضي الله عنه عندما اختار عمر خليفة من بعده، مع أنه كان يسأل الناس القادمين إلى المدينة دائماً عمن يرونه صالحاً للأمر بعده [أي بعد أبي بكر]، وعمر قام بنفس الأمر، ولكنه وسع الدائرة قليلاً، فجعلها ضمن ستة، ولكن هؤلاء الأعداء يحتجون بأن معاوية جعله في ابنه، وليس في غير ابنه، مع أن التاريخ يذكر لنا أن عملية اختيار ابنه كانت بعد مناقشة بينه وبين أصحابه حول هذا الموضوع، وكيف أنه هو عرض عليهم أربعة يختار واحداً منهم، ليس فيهم ابنه يزيد، وإنما هم: الحسين بن علي، وعبد اللَّه بن الزبير، وعبد اللَّه بن عباس، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وبعد حوار حول الأصلح من بين هؤلاء للحكم، وليس الأصلح بالتقوى والعبادة والمنزلة، لأن الحكم دائماً له أحكامه الخاصة به، وهذا ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما يختار أمراءه وقواده، فلم يكن يقدم فيهم أحبهم إليه، وأتقاهم، وإنما كان يقدم الصالح للعمل الذي سيوكله إليه، لأن كل عمل له مواصفات خاصة لمن يتقلده، ولذلك قال لأبي ذر رضي الله عنه: كما يروي أَبو ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا)([107]).
ولذلك لا ينظر من الأفضل في الصلاح والتقوى والمكانة، بقدر ما ينظر لمصلحة الأمة في تسيير أمورها، ومسيرة جهادها، وهذا ما سنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندما اختار عمرو بن العاص رضي الله عنه بعد إسلامه بقليل لقيادة سرية فيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو أول الناس إسلامهم، وأحب الناس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأحس عمرو بن العاص أن مكانته قد وصلت إلى مرتقى عالياً، قد يدنو من مقام أبي بكر رضي الله عنه، فذهب يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الناس إليه، ليرى مكانته أين، فعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ فِي ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَسَأَلَهُ أَصْحَابُهُ أَنْ يُوقِدُوا نَارًا، فَمَنَعَهُمْ، فَكَلَّمُوا أَبَا بَكْرٍ، فَكَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يُوقِدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ نَارًا إِلَّا قَذَفْتُهُ فِيهَا، قَالَ: فَلَقُوا الْعَدُوَّ فَهَزَمُوهُمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ، فَمَنَعَهُمْ فَلَمَّا انْصَرَفَ ذَلِكَ الْجَيْشُ، ذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَشَكَوْهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ آذَنَ لَهُمْ أَنْ يُوقِدُوا نَارًا، فَيَرَى عَدُوُّهُمْ قِلَّتَهُمْ، وَكَرِهْتُ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ، فَيَكُونُ لَهُمْ مَدَدٌ فَيُعْطِفُوا عَلَيْهِمْ، فَحَمِدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (لِمَ؟)، قَالَ: لَأُحِبُّ مَنْ تُحِبُّ، قَالَ: (عَائِشَةُ)، قَالَ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: (أَبُو بَكْرٍ)([108]).
وفي الصحيحن: عن عَمْرُو بْنُ العَاصِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلاَسِلِ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (عَائِشَةُ)، فَقُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ فَقَالَ: (أَبُوهَا)، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ) فَعَدَّ رِجَالًا»([109]).
وعلق الحافظ ابن حجر على رواية الصحيح هذه فقال: «قَوْلُهُ [أي عمرو بن العاص]: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ زَادَ فِي رِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: يَا رَسُولَ الله، فَأَحبهُ، أخرجه ابن عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ إِسْمَاعِيل عَن قيس وَقع عِنْد ابن سَعْدٍ سَبَبُ هَذَا السُّؤَالِ، وَأَنَّهُ وَقَعَ فِي نَفْسِ عَمْرٍو لَمَّا أَمَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْجَيْشِ، وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عِنْدَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ عَلَيْهِمْ، فَسَأَلَهُ لِذَلِكَ، قَوْلُهُ: فَقُلْتُ مِنَ الرِّجَالِ، فِي رِوَايَة قيس بن أبي حَازِم عَن عَمْرو عِنْد ابن خُزَيْمَة وابن حِبَّانَ، قُلْتُ: إِنِّي لَسْتُ أَعْنِي النِّسَاءَ، إِنِّي أعني الرِّجَال، وَفِي حَدِيث أنس عِنْد ابن حِبَّانَ أَيْضًا: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مِنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (عَائِشَةُ)، قِيلَ لَهُ: لَيْسَ عَنْ أَهْلِكَ نَسْأَلُكَ، وَعُرِفَ بِحَدِيثِ عُمَرَ اسْمُ السَّائِلِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، قَوْلُهُ: فَقُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ)، فَعَدَّ رِجَالًا، زَادَ فِي الْمَغَازِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: فَسَكَتُّ مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي فِي آخِرِهِمْ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَيُّ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ؟ قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَتْ: عُمَرُ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَتْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ فَسَكَتَتْ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ بَعْضُ الرِّجَالِ الَّذِينَ أُبْهِمُوا فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِأَبِي عُبَيْدَةَ »([110]).
وموطن الشاهد في هذه المسألة أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لما أعطي قيادة معركة لجنود فيهم أبو بكر وعمر، ظن ارتفاع مكانته فوق هؤلاء الجنود عند النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه اكتشف مكانته من خلال سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الموضوع، والمقصود أن اختيار الخليفة أو القائد، لا لمكانة أو فضل، بل لقيادة ودراية في الأمور المطلوبة في القائد أو الخليفة.
والمشكلة التي اتُّهم فيها معاوية رضي الله عنه أنه اختار ابنه، وهنا تبرز مسألة الأحقاد والإحن التي وغرت صدور هؤلاء الحاقدين، الذي يريدون لهذا الدين أن يندثر، فبدؤوا منذ عهد معاوية رضي الله عنه، وما يزالون، وينعق بأقوالهم كثيرون من أهل العلم، والفكر في العصر الحاضر، دون أن يدركوا ما هم فيه من تنفيذ أحقاد هؤلاء، حتى أصبح الإسلام في محنة دائمة، ترى فيه كثيراً من علمائه، ومفكريه، يلهجون، ويجترون ما يقوله هؤلاء السبئية، وأتباعهم، وهم لا يدركون أن معاوية عندما بحث الأمر مع بعض الصحابة، أمر من يكون بعده، اقترح أربعة أسماء ليس فيهم ابنه يزيد، ولكن اقتراح يزيد كان من غيره، والذي اقترح اسم يزيد لا لفضل يزيد على من اقترحهم معاوية رضي الله عنه، وإنما للقوة التي يملكها يزيد، فيستطيع بسببها أن يخضع من يريد الانفصال عن جسد الدولة، ويمزقها، لأنهم كلهم كانوا يتوقعون زيادة الاضطرابات بعد موت معاوية رضي الله عنه، فالخوارج ما يزالون يقاتلون الدولة، والروافض ما زالوا يسيرون بدعاويهم بين أفراد الأمة، وينقلونها من مكان إلى مكان، منادين بالثورة على الإمام الظالم المتعدي على الإمامة [؟؟!!]، والمنطقة الوحيدة التي كانت بعيدة عن هذه الدعوات الخارجية، والسبئية هي بلاد الشام، ولذلك كان رأي من أشار على معاوية باستخلاف يزيد، لأنه يملك جيشاً متوازناً، موحداً، وأقنعوه أن علياً رضي الله عنه وهو أفضل من معاوية وأبيه، وباقي المسلمين في ذلك الوقت، ولكنه لم يملك هذا الجيش المتوازن، بل كان جيشه ممزقاً مضطرباً، ولم يكن أصحابه يطيعونه، وقد ذكر أبو حنيفة الدينوري عن علي رضي الله عنه أنه: «كتب كتاباً، ودفعه إلى رجل، وأمره أن يقرأه على الناس يوم الجمعة إذا فرغوا من الصلاة، وكانت نسخته: (بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من عبد اللَّه علي أمير المؤمنين إلى شيعته من أهل الكوفة، سلام عليكم، أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، من تركه ألبسه اللَّه الذلة، وشمله بالصغار، وسيم الخسف وسيل الضيم، وإني قد دعوتكم إلى جهاد هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، واجترأ عليهم عدوهم، هذا أخو بني عامر قد ورد الأنبار، وقتل، فينزع حجلها من رجلها، وقلائدها من عنقها، وقد انصرفوا موفورين، ما كلم رجل منهم كلما، فلو أن أحداً مات من هذا أسفاً ما كان عندي ملوماً، بل كان جديراً، يا عجباً من أمر يميت القلوب، ويجتلب الهم، ويسعر الأحزان من اجتماع القوم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، فبعداً لكم وسحقاً، قد صرتم غرضاً، تُرمون، ولا تَرمون، ويُغار عليكم ولا تغيرون، ويُعصى اللَّه فترضون، إذا قلت لكم سيروا في الشتاء، قلتم: كيف نغزو في هذا القر، والصر، وإن قلت لكم: سيروا في الصيف، قلتم: حتى ينصرم عنا حمارة القيظ، وكل هذا فرار من الموت، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون، فأنتم واللَّه من السيف أفر، والذي نفسي بيده، ما من ذلك تهربون، ولكن من السيف تحيدون، يا أشباه الرجال، ولا رجال، ويا أحلام الأطفال، وعقول ربات الحجال، أما واللَّه لوددت أن اللَّه أخرجني من بين أظهركم، وقبضني إلى رحمته من بينكم، ووددت أن لم أركم، ولم أعرفكم، فقد واللَّه ملأتم صدري غيظاً، وجرعتموني الأمرّين أنفاساً، وأفسدتم على رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب.
للَّه أبوهم، هل كان فيهم رجل أشد لها مراساً، وأطول مقاساة مني ؟ ولقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا (ذا) اليوم قد جنفت الستين، لا، ولكن لا رأي لمن لا يطاع)»([111]).
إذن هذا رأي من أشار على معاوية باستخلاف يزيد، لأن الجيش الذي لا يستطيع سيدنا علي رضي الله عنه قيادته بقوة، ولا يملك طاعته بقناعة، وإخلاص، فستكون دولته مهزوزة مضطربة، لا بسبب فشل القائد، بل بسبب اضطراب المقود، وامتلاؤه بهؤلاء الأفاقين من أتباع ابن سبأ، وأعداء الإسلام المتظاهرين باتباعهم لهذا الدين، وهؤلاء اعتبروا استخلاف يزيد مطعناً، وأنه جعلها كسروية هرقلية [كما يتشدقون دائماً]، ويحتجون بفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما رفض وضع ابنه عبد اللَّه مع أصحاب الشورى، ولكن رفض عمر الفكرة عندما طلبوها منه من أجل الهرقلية أو فكرة التوريث التي اختلقوها، وقد رويت هذه القصة بصورة متعددة، وهذه بعضها:
رواية البخاري :: «فَقَالُوا: أَوْصِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، اسْتَخْلِفْ، قَالَ: مَا أَجِدُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلاَءِ النَّفَرِ، أَوِ الرَّهْطِ، الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَسَمَّى: عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَقَالَ: يَشْهَدُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ - كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ - فَإِنْ أَصَابَتِ الإِمْرَةُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ، وَلاَ خِيَانَةٍ»([112]).
اليوم في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
اليوم في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
اليوم في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
اليوم في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
اليوم في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
اليوم في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin