في العهد النبوي
لا يتخيل أي باحث أن يثبت مثل هذه الأفكار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي يعلمه كل ناظر في السيرة النبوية أن الحرب على الإسلام قائمة منذ اليوم الأول للدعوة الإسلامية، وبينما كانت الحرب سافرة، وظاهرة، وتستعمل القوة والتعذيب، والقتل، ثم بدأت تتطور حسب نموّ ونجاح الدعوة الإسلامية، وسيطرتها على أرض لها تقيم عليها دولة، ولها جيش يدافع وينافح عن هذه الأمة الوليدة، تتطور الحرب على الإسلام بتجهيز الجيوش، فخاض أعداء الإسلام حروباً عديدة، وكلها هي انطلاق جيوش الكفر إلى عاصمة هذه الدولة للتخلص منها وإبادتها.
وعندما فشلت هذه الطريقة، بدأ أعداء هذا الدين يخططون لحرب هذه الدولة، والتخلص منها، ويصنعون الخطط السرية، ومحاولة ضرب هذه الدولة بالجيوش الظاهرة، وبالجيوش السرية، بين إرسال بعض الشخصيات لمحاولة التخلص من قائد هذه الأمة، وسيدها ونبيها صلى الله عليه وسلم الإمام الأعظم، وسيد الأولين والآخرين، وقدوة للخلق، ورسول رب العالمين.
وكان من أهم أصحاب هذه المحاولات اليهود، ومخططاتهم، ومحاولة الاتفاق مع كفار العرب، وكلها باءت بالفشل.
والذين سنتحدث عن كثير منهم في عصر الصحابة، ولا يمكن أن يشمل الصحابة هذا المفهوم، فليس كل مقصر، أو تارك لأمر هو عدو للإسلام، فقد يكون مثل هذا الحكم فيه كثير من القسوة، أو الشطط، وكان الأولى أن يوضع الحق في نصابه، ويدخل السيف في إهابه، ويطلق على الإنسان ما يستحقه في خطئه وصوابه، فإن المخالفات الشرعية تتفاوت، والذنوب فيها الصغائر والكبائر، والناس فيهم العاصي والفاجر، ومع هذا لا يوسمون بالكفر والمروق.
فإذا ورد في هذا البحث شيء من الإشارة إلى ما يعتبره بعضهم تقصيراً، أو هنات وقعت من بعض الصحابة، كما يتخيلون، فإنما وردت لتبيان مدى الشطط الذي وقع فيه كثير من هؤلاء الذين أطلقوا ألفاظ المروق، والبعد عن سير الخط الإسلامي الصحيح، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فقد كان الأولى بهم أن يهتموا بإصلاح هؤلاء الناس، وتقريبهم من الحق، وإرشادهم إلى سبل السلام، دون أن يثيروهم بمثل هذه الأحكام، فيبعدوهم عن الحق وأصحابه، ولن يجدوا بين هذا الصنف من الناس من قال لحاكمه كما قال ذلك الرجل: لو وجدنا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا، ومع ما قال هذا الرجل من إجحاف وشطط، فإن جواب عمر رضي الله عنه كان: الحمد للَّه الذي جعل فِي الرعية من يقوم اعوجاج عمر.
وصحيح أننا لن نجد صدراً رحباً في العصر الحديث كصدر عمر رضي الله عنه، فتلك أمة لن يتكرر جيلها، ولكننا نستطيع أن نهدئ الكثيرين ممن يسلون السيوف أسوة بهذا الرجل الذي قال ما قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
والصحابة y أجمعون، التزموا حكم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحكامه.
وأما المنافقون، والخوارج، فهم الذين حكموا على أنفسهم بالمروق، أو الخروج.
الفترة المكية:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ب قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: يَا صَبَاحَاهْ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، قَالُوا: مَا لَكَ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ، أَوْ يُمَسِّيكُمْ، أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾»([9]).
وفي كتب السيرة تبيان لما بعد هذه الحادثة، فيرون «أن أبا لهب ظن أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن ينزع عما يكرهون إلى ما يحبون، فقال له: هؤلاء عمومتك، وبنو عمومتك، فتكلم بما تريد، واترك الصبأة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب طاقة، وإن أحق من أخذك، وحبسك أسرتك، وبنو أبيك، إن أقمت على أمرك، فهو أيسر عليك من أن تثب عليك بطون قريش، وتمدها العرب، فما رأيت يا ابن أخي أحداً قط جاء بني أبيه وقومه بشر ما جئتهم به، وعند ذلك أنزل اللَّه تعالى تَبَّتْ [المسد: الآية 1] ...»([10]).
ومن هنا بدأت تكبر الأمور في رأس أبي لهب، حتى أصبحت حقداً يملأ قلبه، ولما «كانت رقية [ابنة رسول اللَّه r] تحت [ابنه] عتبة، ... وأختها أم كلثوم تحت ابنه عتيبة...
قال ابن سعد: وكان تزوجها قبل النبوة، .. فلما نزلت ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ بعدما أنذر صلى الله عليه وسلم، قال لهما أبوهما -أبو لهب-: رأسي من رؤوسكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد، ففارقاهما، ولم يكونا دخلا بهما»([11]).
لهذا الحد وصل حقد أبي لهب، بعد أن أحب ابن أخيه محمداً، ففرح عند ولادته، وأطلق حرية مولاته ثويبة، وخطب لابنيه بنتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من حبه له، ولكن لما زُرع الحقد والضغن في قلبه على ابن أخيه، وعلى كل ما يمت به، حمل لواء الحرب عليه جهاراً نهاراً، حتى كان هو الكافر الوحيد الذي ورد ذكره بكنيته (أبي لهب) في القرآن، ولم يذكر غيره لا بكنية، ولا اسم، وأدى حقده وحربه على فرض تطليق أولاده من ابنتي أخيه، لقطع أي صلة بينه وبين ابن أخيه صلى الله عليه وسلم.
وأمر آخر، هو أن هذا الدين لم يرتبط بقبيلة، أو عشيرة، أو عائلة، فأبو لهب هاشمي، وهو أخو عبد اللَّه والد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه حمل الضغن والحقد على ابن أخيه، وله زوج أموية هي أخت أبي سفيان زعيم بني أمية، فهما عائلتان في قريش تتقاربان في النسب فيما بينهما أكثر من جميع بطون قريش، فهاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخوه عبد شمس جد أبي سفيان، ولذلك كثر التزاوج بينهما، فزينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم زوجها أموي قبل الإسلام، وأبو لهب زوجه أموية، وجدة عثمان بن عفان الأموي البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وعثمان تزوج ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم رقية، وأم كلثوم، وتزوج النبي الهاشمي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان الأموي، إذاً هذا التلاحم العجيب في النسب والقرابة بين الأمويين والهاشميين، لم يجعل أبا لهب المتزوج من أموية القبول بالإسلام، بل كان أبو لهب من أفظع من حارب الدعوة في عصر النبوة الأول، والأعجب من هذا أن العباسيين، وهم بنو العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين انقلبوا على بني أمية، وتخلصوا من حكمهم، ومنهم، وكان هذا بأثر من دعوة الشعوبيين الذين تزيوا بزي آل محمد، دون نظر إلى رحم وقرابة، ولذلك نرى أبا لهب هنا كان أشد عداوة من بني مخزوم منافسي الهاشميين، وستظل الأمة الإسلامية تعاني بين وقت وآخر من قريب لرجال الدولة القائمة فيناجزها، ويحاربها، فليست عداوة أبي لهب هي النهاية، بل هي البداية لأناس سيأتون بعد ذلك، ويحملون أمثال هذه الإحن التي تغلغلت في نفس أبي لهب، وأبي جهل، ويكونون نخراً في جسدها أكثر من أعدائها الحقيقيين.
وروى البيهقي وابن أبي شيبة وغيرهما: «قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: إِنَّ أَوَّلَ يَوْمٍ عَرَفْتُ فِيهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي كُنْتُ أَمْشِي مَعَ أَبِي جَهْلٍ بِمَكَّةَ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، هَلُمَّ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ، وَإِلَى كِتَابِهِ، أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا أَنْتَ بِمُنْتَهٍ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا، هَلْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ نَشْهَدَ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ، فَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ، قَالَ: فَانْصَرَفَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ مَا يَقُولُ حَقٌّ، وَلَكِنْ بَنِي قصِيٍّ قَالُوا: فِينَا الْحِجَابَةُ، فَقُلْنَا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالُوا: فِينَا الْقِرَى، فَقُلْنَا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالُوا: فِينَا النَّدْوَةُ، فَقُلْنَا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالُوا: فِينَا السِّقَايَةُ، فَقُلْنَا نَعَمْ، ثُمَّ أَطْعَمُوا وَأَطْعَمْنَا حَتَّى إِذَا تَحَاكَّتِ الرُّكَبُ قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ، وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ»([12]).
وأورد ابن كثير «روى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ، وَأَبَا سُفْيَانَ، وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْمَعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ، فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا لِيَسْتَمِعَ مِنْهُ، وَكُلٌّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا أَصْبَحُوا، وَطَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ، فَتَلَاوَمُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَعُودُوا، فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ، لَأَوْقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ انصرفوا، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ، عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى مَجْلِسِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مِثْلَ مَا قَالُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا.
فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ، أَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيق، فَقَالُوا: لَا نَبْرَح حَتَّى نتعاهد أَلا نَعُودَ.
فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَفَرَّقُوا.
فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، أَخَذَ عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ، وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا، وَأَعْرِفُ مَا يُرَاد بهَا، [وَأَشْيَاء لَا أعرفهَا وَلَا أعرف مَا يُرَادُ بِهَا] فَقَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ.
ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: مَاذَا سَمِعْتُ؟ ! تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ، أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إِذَا تَجَاثَيْنَا عَلَى الرُّكَبِ، وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ! فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ! وَاللَّهِ لَا نَسْمَعُ بِهِ أَبَدًا، وَلَا نُصَدِّقُهُ»([13]).
وهنا نلحظ الإحن التي وقرت في قلب أبي جهل، وكثير من أفراد عشيرته مخزوم، كيف لم يقبل أن يسبقهم واحد من بني هاشم، فلا يستطيعون إدراكه، لأن ما جاء به ليس بإمكان بشر الوصول إليه؟
إذن تبدأ الإحن والعداوة منذ اليوم الأول لدعوة الإسلام، فكبراء أهل مكة، لم يقبلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس منهم، وأنهم وجدوا في أنفسهم أن يأتيهم فقير بني عبد المطلب بمثل هذا الأمر، وهم لا يستطيعون أن يفعلوا ما فعل ابن عبد المطلب، فأخذتهم العزة بالإثم، وقويت إحنهم ضد بني المطلب، وضد فتاهم الذي جاء بأمر لا يستطيعونه، فقد كانوا يسابقونهم في الكرم، والوفادة، والإطعام، وغير ذلك من الفضائل، أما النبوة، فلا إمكان للمسابقة فيها، وهذا ما وقع فيه بنو حنيفة، وغيرهم من قبائل العرب التي بدأت تنافس القرشيين بالمتنبئين، فوقر في قلوبهم الحسد، والبغض، واستشرى في نفوسهم، هذا قبل أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين شوكة، أو دولة، فكيف إذا بنوا لأنفسهم دولة، وأصبحوا أمة لها قوتها، وسطوتها؟.
قال الزرقاني في شرح السيرة النبوية: «مر عدوّ اللَّه أبو جهل بـ(سُمَيّة بنت خياط) إحدى السابقات، كانت سابع سبعة في الإسلام، أم عمار بن ياسر، وهي تعذب، هي وابناها عمار، وعبد اللَّه، وأبوهما ياسر بن عامر؛ كما رواه البلاذري عن أم هانئ، قالت: فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة)، فمات ياسر في العذاب، وأُعطيت سمية لأبي جهل، فطعنها في فرجها، بحربة، وهي عجوز كبيرة، فقتلها، ورمى عبد اللَّه فسقط، وقد روى ابن سعد بسند صحيح عن مجاهد أن سمية أول شهداء الإسلام.
وروى ابن عبد البر عن ابن مسعود: أن أبا جهل طعن بحربة في فخذ سمية أم عمار، حتى بلغت فرجها، فماتت، فقال عمار: يا رسول اللَّه! بلغ منا، أو بلغ منها العذاب كل مبلغ، فقال صلى الله عليه وسلم: (اصبر أبا اليقظان، اللهم لا تعذب من آل ياسر أحداً بالنار)، وأما عمار، ففرّج اللَّه عنه بعد طول تعذيبه؛ فقد جاء أنه كان يُعذَّب حتى لا يدري ما يقول، ورئي في ظهره أثر كالمخيط، فسئل، فقال: هذا ما كانت تذبني قريش في رمضاء مكة، وجاء أنهم أحرقوه بالنار، فمر صلى الله عليه وسلم فأمر يده عليه، وقال: (يا نار كوني بردًا وسلامًا على عمار، كما كنت على إبراهيم)»([14]).
فهذه الأنواع من التعذيب ليست تعذيباً سياسياً، أو عقدياً فقط، بل هي أقرب إلى الحقد، والتشفي، وتعلّم كل أعداء هذه الأمة من أبي جهل، وأضرابه أن تكون الحرب على هذه الدعوة حرباً تعتمد على الإخلال بالشرف، والمروءة، والأعراض، لأنها في المقام الأول حقد على الدعوة، وحقد على أصحابها، وهذه الأنواع من الأحقاد – برأيهم – أشد الأنواع قهراً، وأشد الأنواع قتلاً للنفوس، والعزة الإنسانية، فاستعملها الأعداء في كل وقت، ومع كل طائفة مؤمنة على مدار التاريخ، وما تزال، وهي القانون العام، والأهم في التعذيب، ليبلغوا إلى مآربهم عن طريق الأعراض بالاغتصاب، والفجور في أعراض الأمة.
بل بلغ الحقد، والإحن عند أبي جهل، أن يقرر قتل النبي مباشرة، ولكن بطريقة عجيبة، تخفي هذا الحقد الغائر في قلبه، «فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالَ: فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى، لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ، وَهَوْلًا، وَأَجْنِحَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوً) قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ U - لَا نَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ شَيْءٌ بَلَغَهُ -: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى، أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [العلق: 7]- يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ - ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى، كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ، فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ، كَلَّا لَا تُطِعْهُ﴾ [العلق: 14]، زَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ فِي حَدِيثِهِ قَالَ: وَأَمَرَهُ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَزَادَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ [العلق: 17]»، يَعْنِي قَوْمَه([15]).
فهل هذا عمل المحارب، أم عمل الحاقد، يريد أن يقضي على صاحب الدعوة، وكل تاريخ الإسلام مبني على هذه النظرة، الحقد يتبعه الإبادة والقتل لأهل هذه الدعوة، بل وفي الأكثر كانت تبدأ برأس الأمة، ففي عهد النبي تعرض صلى الله عليه وسلم لمحاولات اغتيال بلغت عدداً كبيراً، وكلها لم تنجح؛ لأن النظرة كانت أن قتل صاحب الدعوة يعني قتل الدعوة، وهذا ما تنبه له الصحابي الجليل أنس بن النضر([16])، وهذا ما سنراه في استشهاد الخلفاء الثلاثة: عمر، وعثمان، وعلي y.
وهنا نجد أن أبا جهل وأضرابه من رؤوس الكفر كيف كانوا يحاولون إظهار حقدهم، ليس على الضعفاء فقط، كما فعلوا بآل ياسر، بل أظهروه على قائد الدعوة نفسه، ولذلك كانوا يحاولون بأي طريق إذلاله أمام أتباعه، وأمام كل الدنيا، ليسلبوه الاحترام، والهيبة بين الناس، فـ«عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالْأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلَا جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ، فَيَأْخُذُهُ، فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ، فَأَخَذَهُ، فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، قَالَ: فَاسْتَضْحَكُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ، مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ، فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ، فَجَاءَتْ، وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ، رَفَعَ صَوْتَهُ، ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «اللهُمَّ، عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمُ الضِّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: (اللهُمَّ، عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ)، وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ، فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ - قَلِيبِ بَدْرٍ - قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ [السبيعي تابعي مخضرم، وهو من رواة هذا الحديث]: «الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ غَلَطٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ»([17])، ولذلك أعاد الإمام مسلم رواية أخرى لأبي إسحق، فيها تصحيح لاسم الوليد الذي هو ابن عتبة، وليس ابن عقبة، فقال: «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، إِذْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِسَلَا جَزُورٍ، فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ، فَأَخَذَتْهُ عَنْ ظَهْرِهِ، وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ، فَقَالَ: (اللهُمَّ، عَلَيْكَ الْمَلَأَ مِنْ قُرَيْشٍ: أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ - أَوْ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ) شُعْبَةُ الشَّاكُّ -، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، فَأُلْقُوا فِي بِئْرٍ، غَيْرَ أَنَّ أُمَيَّةَ - أَوْ أُبَيًّا - تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ فَلَمْ يُلْقَ فِي الْبِئْرِ»([18]).
وهنا نرى أثر هذه الحادثة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائد المسلمين، كيف جعلته يدعو عليهم هذا الدعاء، بما يوازي حقدهم، وغِلّهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى المسلمين.
ونلاحظ أنه منذ بدايات الدعوة، كان المشركون يجتمعون لبحث أمر هذه الدعوة، وأمر صاحبها، وهي ما سيقوم به أعداء الدعوة الذين يملأ الحقد قلوبهم، وكراهية الدين نفوسهم، مع أنهم كلهم يؤمنون بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن أخلاقه، وسيرته، ولكن اجتماعاتهم كانت تدل على هذه الإحن التي تملأ نفوسهم، «فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: اجْتَمَعَ قُرَيْشٌ يَوْمًا فَقَالُوا: انْظُرُوا أَعْلَمَكُمْ بِالسِّحْرِ، وَالْكِهَانَةِ، وَالشِّعْرِ، فَلْيَأْتِ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَ أَمْرَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، فَلْيُكَلِّمْهُ، وَلْيَنْظُرْ مَاذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ.
فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا غَيْرَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ.
فَقَالُوا: أَنْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ.
فَأَتَاهُ عُتْبَةُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَقَالَ: أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ: فَإِن كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنْكَ، فَقَدْ عَبَدُوا الْآلِهَةَ الَّتِي عِبْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، فَتَكَلَّمْ حَتَّى نَسْمَعَ قَوْلَكَ، إِنَّا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا سَخْلَةً قَطُّ أَشْأَمَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْكَ، فَرَّقْتَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَّ أَمْرَنَا، وَعِبْتَ دِينَنَا، وَفَضَحْتَنَا فِي الْعَرَبِ، حَتَّى لَقَدْ طَارَ فِيهِمْ أَنَّ فِي قُرَيْشٍ سَاحِرًا، وَأَنَّ فِي قُرَيْشٍ كَاهِنًا، وَاللَّهِ مَا نَنْتَظِرُ إِلَّا مِثْلَ صَيْحَةِ الْحُبْلَى أَنْ يَقُومَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ حَتَّى نَتَفَانَى... فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ شَيْئًا أَرَى أَنَّكُمْ تُكَلِّمُونَهُ إِلَّا كَلَّمْتُهُ.
قَالُوا: فَهَلْ أَجَابَكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.
ثُمَّ قَالَ: لَا وَالَّذِي نَصَبَهَا بَنِيَّةً، مَا فَهِمْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَ، غَيْرَ أَنَّهُ أَنْذَرَكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ.
قَالُوا: وَيْلَكَ! يُكَلِّمُكَ الرَّجُلُ بِالْعَرَبِيَّةِ، لَا تَدْرِي مَا قَالَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا فَهِمْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَ غَيْرَ ذِكْرِ الصَّاعِقَةِ ...
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ يَا عُتْبَةُ مَا جِئْنَا إِلَّا أَنَّكَ صَبَوْتَ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَأَعْجَبَكَ أَمْرُهُ، فَإِنْ كَانَ بِكَ حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا يُغْنِيك عَن طَعَام مُحَمَّد، فَغَضِبَ، وَأَقْسَمَ بِاللَّهِ لَا يُكَلِّمُ مُحَمَّدًا أَبَدًا»([19]).
وهكذا نرى أن الأمر ليس فرداً واحداً تبنى الحرب على الإسلام، والحقد عليه، وعلى أصحابه، بل كل الزعماء الموجودين في مكة كانوا متآمرين، مع ملاحظة أن أبا سفيان لم يُذكر حضوره في كل هذه المؤتمرات.
وروى ابن إسحاق، وأبو يعلى الموصلي، وغيرهما بإسناد قوي عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: جَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ هَذَا قَدْ آذَانَا فِي نَادِينَا، وَمَسْجِدِنَا، فَانْهَهُ عَنَّا، فَقَالَ: يَا عَقِيلُ، انْطَلِقْ فَائْتِنِي بِمُحَمَّدٍ، فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ مِنْ حِفْشٍ، أَوْ كِبْسٍ، يَقُولُ بَيْتٌ صَغِيرٌ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ، قَالَ أَبُو طَالِبٍ: إِنَّ بَنِي عَمِّكَ هَؤُلَاءِ قَدْ زَعَمُوا أَنَّكَ تُؤْذِيهِمْ فِي نَادِيهِمْ، وَمَسْجِدِهِمْ، فَانْتَهِ عَنْ أَذَاهُمْ، فَحَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: (أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (فَمَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ، عَلَى أَنْ تَسْتَشْعِلُوا مِنْهَا شُعْلَةً)، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللَّهِ مَا كَذَبَنَا ابْنُ أَخِي قَطُّ، فَارْجِعُوا»([20]).
لا يتخيل أي باحث أن يثبت مثل هذه الأفكار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي يعلمه كل ناظر في السيرة النبوية أن الحرب على الإسلام قائمة منذ اليوم الأول للدعوة الإسلامية، وبينما كانت الحرب سافرة، وظاهرة، وتستعمل القوة والتعذيب، والقتل، ثم بدأت تتطور حسب نموّ ونجاح الدعوة الإسلامية، وسيطرتها على أرض لها تقيم عليها دولة، ولها جيش يدافع وينافح عن هذه الأمة الوليدة، تتطور الحرب على الإسلام بتجهيز الجيوش، فخاض أعداء الإسلام حروباً عديدة، وكلها هي انطلاق جيوش الكفر إلى عاصمة هذه الدولة للتخلص منها وإبادتها.
وعندما فشلت هذه الطريقة، بدأ أعداء هذا الدين يخططون لحرب هذه الدولة، والتخلص منها، ويصنعون الخطط السرية، ومحاولة ضرب هذه الدولة بالجيوش الظاهرة، وبالجيوش السرية، بين إرسال بعض الشخصيات لمحاولة التخلص من قائد هذه الأمة، وسيدها ونبيها صلى الله عليه وسلم الإمام الأعظم، وسيد الأولين والآخرين، وقدوة للخلق، ورسول رب العالمين.
وكان من أهم أصحاب هذه المحاولات اليهود، ومخططاتهم، ومحاولة الاتفاق مع كفار العرب، وكلها باءت بالفشل.
والذين سنتحدث عن كثير منهم في عصر الصحابة، ولا يمكن أن يشمل الصحابة هذا المفهوم، فليس كل مقصر، أو تارك لأمر هو عدو للإسلام، فقد يكون مثل هذا الحكم فيه كثير من القسوة، أو الشطط، وكان الأولى أن يوضع الحق في نصابه، ويدخل السيف في إهابه، ويطلق على الإنسان ما يستحقه في خطئه وصوابه، فإن المخالفات الشرعية تتفاوت، والذنوب فيها الصغائر والكبائر، والناس فيهم العاصي والفاجر، ومع هذا لا يوسمون بالكفر والمروق.
فإذا ورد في هذا البحث شيء من الإشارة إلى ما يعتبره بعضهم تقصيراً، أو هنات وقعت من بعض الصحابة، كما يتخيلون، فإنما وردت لتبيان مدى الشطط الذي وقع فيه كثير من هؤلاء الذين أطلقوا ألفاظ المروق، والبعد عن سير الخط الإسلامي الصحيح، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فقد كان الأولى بهم أن يهتموا بإصلاح هؤلاء الناس، وتقريبهم من الحق، وإرشادهم إلى سبل السلام، دون أن يثيروهم بمثل هذه الأحكام، فيبعدوهم عن الحق وأصحابه، ولن يجدوا بين هذا الصنف من الناس من قال لحاكمه كما قال ذلك الرجل: لو وجدنا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا، ومع ما قال هذا الرجل من إجحاف وشطط، فإن جواب عمر رضي الله عنه كان: الحمد للَّه الذي جعل فِي الرعية من يقوم اعوجاج عمر.
وصحيح أننا لن نجد صدراً رحباً في العصر الحديث كصدر عمر رضي الله عنه، فتلك أمة لن يتكرر جيلها، ولكننا نستطيع أن نهدئ الكثيرين ممن يسلون السيوف أسوة بهذا الرجل الذي قال ما قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
والصحابة y أجمعون، التزموا حكم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحكامه.
وأما المنافقون، والخوارج، فهم الذين حكموا على أنفسهم بالمروق، أو الخروج.
الفترة المكية:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ب قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: يَا صَبَاحَاهْ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، قَالُوا: مَا لَكَ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ، أَوْ يُمَسِّيكُمْ، أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾»([9]).
وفي كتب السيرة تبيان لما بعد هذه الحادثة، فيرون «أن أبا لهب ظن أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن ينزع عما يكرهون إلى ما يحبون، فقال له: هؤلاء عمومتك، وبنو عمومتك، فتكلم بما تريد، واترك الصبأة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب طاقة، وإن أحق من أخذك، وحبسك أسرتك، وبنو أبيك، إن أقمت على أمرك، فهو أيسر عليك من أن تثب عليك بطون قريش، وتمدها العرب، فما رأيت يا ابن أخي أحداً قط جاء بني أبيه وقومه بشر ما جئتهم به، وعند ذلك أنزل اللَّه تعالى تَبَّتْ [المسد: الآية 1] ...»([10]).
ومن هنا بدأت تكبر الأمور في رأس أبي لهب، حتى أصبحت حقداً يملأ قلبه، ولما «كانت رقية [ابنة رسول اللَّه r] تحت [ابنه] عتبة، ... وأختها أم كلثوم تحت ابنه عتيبة...
قال ابن سعد: وكان تزوجها قبل النبوة، .. فلما نزلت ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ بعدما أنذر صلى الله عليه وسلم، قال لهما أبوهما -أبو لهب-: رأسي من رؤوسكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد، ففارقاهما، ولم يكونا دخلا بهما»([11]).
لهذا الحد وصل حقد أبي لهب، بعد أن أحب ابن أخيه محمداً، ففرح عند ولادته، وأطلق حرية مولاته ثويبة، وخطب لابنيه بنتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من حبه له، ولكن لما زُرع الحقد والضغن في قلبه على ابن أخيه، وعلى كل ما يمت به، حمل لواء الحرب عليه جهاراً نهاراً، حتى كان هو الكافر الوحيد الذي ورد ذكره بكنيته (أبي لهب) في القرآن، ولم يذكر غيره لا بكنية، ولا اسم، وأدى حقده وحربه على فرض تطليق أولاده من ابنتي أخيه، لقطع أي صلة بينه وبين ابن أخيه صلى الله عليه وسلم.
وأمر آخر، هو أن هذا الدين لم يرتبط بقبيلة، أو عشيرة، أو عائلة، فأبو لهب هاشمي، وهو أخو عبد اللَّه والد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه حمل الضغن والحقد على ابن أخيه، وله زوج أموية هي أخت أبي سفيان زعيم بني أمية، فهما عائلتان في قريش تتقاربان في النسب فيما بينهما أكثر من جميع بطون قريش، فهاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخوه عبد شمس جد أبي سفيان، ولذلك كثر التزاوج بينهما، فزينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم زوجها أموي قبل الإسلام، وأبو لهب زوجه أموية، وجدة عثمان بن عفان الأموي البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وعثمان تزوج ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم رقية، وأم كلثوم، وتزوج النبي الهاشمي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان الأموي، إذاً هذا التلاحم العجيب في النسب والقرابة بين الأمويين والهاشميين، لم يجعل أبا لهب المتزوج من أموية القبول بالإسلام، بل كان أبو لهب من أفظع من حارب الدعوة في عصر النبوة الأول، والأعجب من هذا أن العباسيين، وهم بنو العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين انقلبوا على بني أمية، وتخلصوا من حكمهم، ومنهم، وكان هذا بأثر من دعوة الشعوبيين الذين تزيوا بزي آل محمد، دون نظر إلى رحم وقرابة، ولذلك نرى أبا لهب هنا كان أشد عداوة من بني مخزوم منافسي الهاشميين، وستظل الأمة الإسلامية تعاني بين وقت وآخر من قريب لرجال الدولة القائمة فيناجزها، ويحاربها، فليست عداوة أبي لهب هي النهاية، بل هي البداية لأناس سيأتون بعد ذلك، ويحملون أمثال هذه الإحن التي تغلغلت في نفس أبي لهب، وأبي جهل، ويكونون نخراً في جسدها أكثر من أعدائها الحقيقيين.
وروى البيهقي وابن أبي شيبة وغيرهما: «قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: إِنَّ أَوَّلَ يَوْمٍ عَرَفْتُ فِيهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي كُنْتُ أَمْشِي مَعَ أَبِي جَهْلٍ بِمَكَّةَ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، هَلُمَّ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ، وَإِلَى كِتَابِهِ، أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا أَنْتَ بِمُنْتَهٍ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا، هَلْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ نَشْهَدَ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ، فَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ، قَالَ: فَانْصَرَفَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ مَا يَقُولُ حَقٌّ، وَلَكِنْ بَنِي قصِيٍّ قَالُوا: فِينَا الْحِجَابَةُ، فَقُلْنَا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالُوا: فِينَا الْقِرَى، فَقُلْنَا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالُوا: فِينَا النَّدْوَةُ، فَقُلْنَا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالُوا: فِينَا السِّقَايَةُ، فَقُلْنَا نَعَمْ، ثُمَّ أَطْعَمُوا وَأَطْعَمْنَا حَتَّى إِذَا تَحَاكَّتِ الرُّكَبُ قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ، وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ»([12]).
وأورد ابن كثير «روى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ، وَأَبَا سُفْيَانَ، وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْمَعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ، فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا لِيَسْتَمِعَ مِنْهُ، وَكُلٌّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا أَصْبَحُوا، وَطَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ، فَتَلَاوَمُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَعُودُوا، فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ، لَأَوْقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ انصرفوا، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ، عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى مَجْلِسِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مِثْلَ مَا قَالُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا.
فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ، أَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيق، فَقَالُوا: لَا نَبْرَح حَتَّى نتعاهد أَلا نَعُودَ.
فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَفَرَّقُوا.
فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، أَخَذَ عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ، وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا، وَأَعْرِفُ مَا يُرَاد بهَا، [وَأَشْيَاء لَا أعرفهَا وَلَا أعرف مَا يُرَادُ بِهَا] فَقَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ.
ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: مَاذَا سَمِعْتُ؟ ! تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ، أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إِذَا تَجَاثَيْنَا عَلَى الرُّكَبِ، وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ! فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ! وَاللَّهِ لَا نَسْمَعُ بِهِ أَبَدًا، وَلَا نُصَدِّقُهُ»([13]).
وهنا نلحظ الإحن التي وقرت في قلب أبي جهل، وكثير من أفراد عشيرته مخزوم، كيف لم يقبل أن يسبقهم واحد من بني هاشم، فلا يستطيعون إدراكه، لأن ما جاء به ليس بإمكان بشر الوصول إليه؟
إذن تبدأ الإحن والعداوة منذ اليوم الأول لدعوة الإسلام، فكبراء أهل مكة، لم يقبلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس منهم، وأنهم وجدوا في أنفسهم أن يأتيهم فقير بني عبد المطلب بمثل هذا الأمر، وهم لا يستطيعون أن يفعلوا ما فعل ابن عبد المطلب، فأخذتهم العزة بالإثم، وقويت إحنهم ضد بني المطلب، وضد فتاهم الذي جاء بأمر لا يستطيعونه، فقد كانوا يسابقونهم في الكرم، والوفادة، والإطعام، وغير ذلك من الفضائل، أما النبوة، فلا إمكان للمسابقة فيها، وهذا ما وقع فيه بنو حنيفة، وغيرهم من قبائل العرب التي بدأت تنافس القرشيين بالمتنبئين، فوقر في قلوبهم الحسد، والبغض، واستشرى في نفوسهم، هذا قبل أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين شوكة، أو دولة، فكيف إذا بنوا لأنفسهم دولة، وأصبحوا أمة لها قوتها، وسطوتها؟.
قال الزرقاني في شرح السيرة النبوية: «مر عدوّ اللَّه أبو جهل بـ(سُمَيّة بنت خياط) إحدى السابقات، كانت سابع سبعة في الإسلام، أم عمار بن ياسر، وهي تعذب، هي وابناها عمار، وعبد اللَّه، وأبوهما ياسر بن عامر؛ كما رواه البلاذري عن أم هانئ، قالت: فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة)، فمات ياسر في العذاب، وأُعطيت سمية لأبي جهل، فطعنها في فرجها، بحربة، وهي عجوز كبيرة، فقتلها، ورمى عبد اللَّه فسقط، وقد روى ابن سعد بسند صحيح عن مجاهد أن سمية أول شهداء الإسلام.
وروى ابن عبد البر عن ابن مسعود: أن أبا جهل طعن بحربة في فخذ سمية أم عمار، حتى بلغت فرجها، فماتت، فقال عمار: يا رسول اللَّه! بلغ منا، أو بلغ منها العذاب كل مبلغ، فقال صلى الله عليه وسلم: (اصبر أبا اليقظان، اللهم لا تعذب من آل ياسر أحداً بالنار)، وأما عمار، ففرّج اللَّه عنه بعد طول تعذيبه؛ فقد جاء أنه كان يُعذَّب حتى لا يدري ما يقول، ورئي في ظهره أثر كالمخيط، فسئل، فقال: هذا ما كانت تذبني قريش في رمضاء مكة، وجاء أنهم أحرقوه بالنار، فمر صلى الله عليه وسلم فأمر يده عليه، وقال: (يا نار كوني بردًا وسلامًا على عمار، كما كنت على إبراهيم)»([14]).
فهذه الأنواع من التعذيب ليست تعذيباً سياسياً، أو عقدياً فقط، بل هي أقرب إلى الحقد، والتشفي، وتعلّم كل أعداء هذه الأمة من أبي جهل، وأضرابه أن تكون الحرب على هذه الدعوة حرباً تعتمد على الإخلال بالشرف، والمروءة، والأعراض، لأنها في المقام الأول حقد على الدعوة، وحقد على أصحابها، وهذه الأنواع من الأحقاد – برأيهم – أشد الأنواع قهراً، وأشد الأنواع قتلاً للنفوس، والعزة الإنسانية، فاستعملها الأعداء في كل وقت، ومع كل طائفة مؤمنة على مدار التاريخ، وما تزال، وهي القانون العام، والأهم في التعذيب، ليبلغوا إلى مآربهم عن طريق الأعراض بالاغتصاب، والفجور في أعراض الأمة.
بل بلغ الحقد، والإحن عند أبي جهل، أن يقرر قتل النبي مباشرة، ولكن بطريقة عجيبة، تخفي هذا الحقد الغائر في قلبه، «فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالَ: فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى، لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ، وَهَوْلًا، وَأَجْنِحَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوً) قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ U - لَا نَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ شَيْءٌ بَلَغَهُ -: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى، أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [العلق: 7]- يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ - ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى، كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ، فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ، كَلَّا لَا تُطِعْهُ﴾ [العلق: 14]، زَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ فِي حَدِيثِهِ قَالَ: وَأَمَرَهُ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَزَادَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ [العلق: 17]»، يَعْنِي قَوْمَه([15]).
فهل هذا عمل المحارب، أم عمل الحاقد، يريد أن يقضي على صاحب الدعوة، وكل تاريخ الإسلام مبني على هذه النظرة، الحقد يتبعه الإبادة والقتل لأهل هذه الدعوة، بل وفي الأكثر كانت تبدأ برأس الأمة، ففي عهد النبي تعرض صلى الله عليه وسلم لمحاولات اغتيال بلغت عدداً كبيراً، وكلها لم تنجح؛ لأن النظرة كانت أن قتل صاحب الدعوة يعني قتل الدعوة، وهذا ما تنبه له الصحابي الجليل أنس بن النضر([16])، وهذا ما سنراه في استشهاد الخلفاء الثلاثة: عمر، وعثمان، وعلي y.
وهنا نجد أن أبا جهل وأضرابه من رؤوس الكفر كيف كانوا يحاولون إظهار حقدهم، ليس على الضعفاء فقط، كما فعلوا بآل ياسر، بل أظهروه على قائد الدعوة نفسه، ولذلك كانوا يحاولون بأي طريق إذلاله أمام أتباعه، وأمام كل الدنيا، ليسلبوه الاحترام، والهيبة بين الناس، فـ«عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالْأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلَا جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ، فَيَأْخُذُهُ، فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ، فَأَخَذَهُ، فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، قَالَ: فَاسْتَضْحَكُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ، مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ، فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ، فَجَاءَتْ، وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ، رَفَعَ صَوْتَهُ، ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «اللهُمَّ، عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمُ الضِّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: (اللهُمَّ، عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ)، وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ، فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ - قَلِيبِ بَدْرٍ - قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ [السبيعي تابعي مخضرم، وهو من رواة هذا الحديث]: «الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ غَلَطٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ»([17])، ولذلك أعاد الإمام مسلم رواية أخرى لأبي إسحق، فيها تصحيح لاسم الوليد الذي هو ابن عتبة، وليس ابن عقبة، فقال: «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، إِذْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِسَلَا جَزُورٍ، فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ، فَأَخَذَتْهُ عَنْ ظَهْرِهِ، وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ، فَقَالَ: (اللهُمَّ، عَلَيْكَ الْمَلَأَ مِنْ قُرَيْشٍ: أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ - أَوْ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ) شُعْبَةُ الشَّاكُّ -، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، فَأُلْقُوا فِي بِئْرٍ، غَيْرَ أَنَّ أُمَيَّةَ - أَوْ أُبَيًّا - تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ فَلَمْ يُلْقَ فِي الْبِئْرِ»([18]).
وهنا نرى أثر هذه الحادثة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائد المسلمين، كيف جعلته يدعو عليهم هذا الدعاء، بما يوازي حقدهم، وغِلّهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى المسلمين.
ونلاحظ أنه منذ بدايات الدعوة، كان المشركون يجتمعون لبحث أمر هذه الدعوة، وأمر صاحبها، وهي ما سيقوم به أعداء الدعوة الذين يملأ الحقد قلوبهم، وكراهية الدين نفوسهم، مع أنهم كلهم يؤمنون بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن أخلاقه، وسيرته، ولكن اجتماعاتهم كانت تدل على هذه الإحن التي تملأ نفوسهم، «فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: اجْتَمَعَ قُرَيْشٌ يَوْمًا فَقَالُوا: انْظُرُوا أَعْلَمَكُمْ بِالسِّحْرِ، وَالْكِهَانَةِ، وَالشِّعْرِ، فَلْيَأْتِ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَ أَمْرَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، فَلْيُكَلِّمْهُ، وَلْيَنْظُرْ مَاذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ.
فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا غَيْرَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ.
فَقَالُوا: أَنْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ.
فَأَتَاهُ عُتْبَةُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَقَالَ: أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ: فَإِن كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنْكَ، فَقَدْ عَبَدُوا الْآلِهَةَ الَّتِي عِبْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، فَتَكَلَّمْ حَتَّى نَسْمَعَ قَوْلَكَ، إِنَّا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا سَخْلَةً قَطُّ أَشْأَمَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْكَ، فَرَّقْتَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَّ أَمْرَنَا، وَعِبْتَ دِينَنَا، وَفَضَحْتَنَا فِي الْعَرَبِ، حَتَّى لَقَدْ طَارَ فِيهِمْ أَنَّ فِي قُرَيْشٍ سَاحِرًا، وَأَنَّ فِي قُرَيْشٍ كَاهِنًا، وَاللَّهِ مَا نَنْتَظِرُ إِلَّا مِثْلَ صَيْحَةِ الْحُبْلَى أَنْ يَقُومَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ حَتَّى نَتَفَانَى... فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ شَيْئًا أَرَى أَنَّكُمْ تُكَلِّمُونَهُ إِلَّا كَلَّمْتُهُ.
قَالُوا: فَهَلْ أَجَابَكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.
ثُمَّ قَالَ: لَا وَالَّذِي نَصَبَهَا بَنِيَّةً، مَا فَهِمْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَ، غَيْرَ أَنَّهُ أَنْذَرَكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ.
قَالُوا: وَيْلَكَ! يُكَلِّمُكَ الرَّجُلُ بِالْعَرَبِيَّةِ، لَا تَدْرِي مَا قَالَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا فَهِمْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَ غَيْرَ ذِكْرِ الصَّاعِقَةِ ...
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ يَا عُتْبَةُ مَا جِئْنَا إِلَّا أَنَّكَ صَبَوْتَ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَأَعْجَبَكَ أَمْرُهُ، فَإِنْ كَانَ بِكَ حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا يُغْنِيك عَن طَعَام مُحَمَّد، فَغَضِبَ، وَأَقْسَمَ بِاللَّهِ لَا يُكَلِّمُ مُحَمَّدًا أَبَدًا»([19]).
وهكذا نرى أن الأمر ليس فرداً واحداً تبنى الحرب على الإسلام، والحقد عليه، وعلى أصحابه، بل كل الزعماء الموجودين في مكة كانوا متآمرين، مع ملاحظة أن أبا سفيان لم يُذكر حضوره في كل هذه المؤتمرات.
وروى ابن إسحاق، وأبو يعلى الموصلي، وغيرهما بإسناد قوي عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: جَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ هَذَا قَدْ آذَانَا فِي نَادِينَا، وَمَسْجِدِنَا، فَانْهَهُ عَنَّا، فَقَالَ: يَا عَقِيلُ، انْطَلِقْ فَائْتِنِي بِمُحَمَّدٍ، فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ مِنْ حِفْشٍ، أَوْ كِبْسٍ، يَقُولُ بَيْتٌ صَغِيرٌ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ، قَالَ أَبُو طَالِبٍ: إِنَّ بَنِي عَمِّكَ هَؤُلَاءِ قَدْ زَعَمُوا أَنَّكَ تُؤْذِيهِمْ فِي نَادِيهِمْ، وَمَسْجِدِهِمْ، فَانْتَهِ عَنْ أَذَاهُمْ، فَحَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: (أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (فَمَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ، عَلَى أَنْ تَسْتَشْعِلُوا مِنْهَا شُعْلَةً)، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللَّهِ مَا كَذَبَنَا ابْنُ أَخِي قَطُّ، فَارْجِعُوا»([20]).
اليوم في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
اليوم في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
اليوم في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
اليوم في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
اليوم في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
اليوم في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin