سماء الفينيق “رحلتي إلى فلسطين” لأستاذ مفلح العدوان: دراسة
بلال أحمد شاه
قبل أن أقوم ببيان رحلة الأديب مفلح العدوان[1]، ينبغي لي أن أذكر هنا معنى الرحلة اللغوي والإصطلاحي، والدوافع والأسباب المهمة التي ارتحل بها الناس، وخاصة العرب في مختلف الزمان والمكان، وأهمية الرحلة ودورها في حياة الإنسان العلمية والثقافية، وأنواع الرحلة وأقسامها التي بيّنها العلماء والأدباء.
الرحلة لغةً:
الرحلة من مادة رحل بمعنى سار وانتقل، وقد جاء في لسان العرب: الترحيل والإرحال بمعنى الإشخاص والإزعاج، يقال رَحَل الرجل إذا سار ورحل رَحول، وقوم رُحّل أي يرتحلون كثيراً، ورجل رَحّال: عالم بذلك مُجيد له. والراحلة من الإبل: البعير القوي على الأسفار والأحمال. وناقة رحيلة: أي شديدة قوية على السير. وارتحل البعير رحلة: سار فمضى، ثم جرى ذلك في المنطق، حتى قيل: ارتحل القوم عن المكان ارتحالاً، ورحل عن المكان يرحل وهو راحل من قوم رُحّل: انتقل.
والترحّل والارتحال: الإنتقال، وهو: الرِّحلة والرُّحلة. الرِّحلة اسم للارتحال للمسير.
والرحيل: القوي على الارتحال والسير[2]، والأنثى رحيلة.
والمَرحلة: المنزلة يرتحل منها، وما بين المنزلتين مَرحلة.
الرحلة اصطلاحاً:
للرحلة تعريفات متعددة بألفاظ مختلفة عند العلماء والأدباء، فأقدم هناك بعض التعريفات التي عرّفها العلماء الماهرون والأدباء البارعون، وهي كالتالي:
عرّف بطرس البسطاني الرحلة بأنها “انتقال واحد أو جماعة من مكان إلى مكان أخر، لمقاصد مختلفة، وأسباب متعددة”[3].
وعرّف الإمام الغزالي الرحلة والسفر بأنه: “نوع حركة ومخالطة، فيه فوائد، وله آفات كما ذكرناه في كتاب الصحبة والعزلة، والفوائد الباعثة على السفر لا تخلو من هرب أو طلب”، فأوضحه بقوله “أن السفر وسيلة إلى الخلاص عن مهروب عنه أو الوصول إلى مطلوب والمرغوب فيه”[4].
وقال الدكتور صلاح الدين الشامي “تمثل الرحلة، سواء كانت برية أو بحرية في المفهوم العام، إنجازا أو فعلا أو فرديا أو جماعيا لما يعنيه اختراق حاجز المسافة، وإسقاط الفاصل المعين بين المكان والمكان الآخر، ويأتي هذا الإنجاز من أجل هدف معين، ويجاوب هذا الهدف إرادة الإنسان وحركة الحياة على الأرض بشكل مباشرا أو غير مباشر. وقد تكون الرحلة هواية تشبع حاجة الإنسان وترضيه، وقد تكون احترافا يخدم حاجة الإنسان ويشبعه، ولكنها تكون في الحالتين استجابة مباشرة لحوافز ودوافع محدد تدعو بكل الإلحاح للحركة والتنقل من مكان إلى مكان آخر”[5].
إن هذه التعريفات كلها تجمع على أن الرحلة في جوهرها حركة، وهذه الحركة ذات اكتساب خبرات عملية وفكرية ناجمة عن المخالطة.
وأما تعريف أدب الرحلة، فقد ورد تعريفه في معجم المصطلحات الأدبية: هو”مجموعة الآثار الأدبية التي تتناول انطباعات المؤلف عن عادات وسلوك وأخلاق، ولتسجيل دقيق للمناظر الطبيعة التي يشاهدها، أو يسرد مراحل رحلته مرحلة مرحلة، أو يجمع بين كل هذا في آن واحد”[6].
وقد عرفه الدكتور أنجيل بطرس بأن “أدب الرحلات هو ما يمكن أن يوصف بأدب الواقعية، وهي الرحلة التي يقوم بها رحال إلى بلد من بلاد العالم، ويدوّن وصفا لها يسجّل فيه مشاهداته، وانطباعاته بدرجة من الدقة والصدق وجمال الأسلوب[7].
الأسباب والدوافع للرحلة:
هناك أسباب مختلفة ودوافع متعددة للرحلة التي رحل بها الرحالون العرب. أذكر هنا بعضها المهم، لا على الحصر، وهي كالتالي:
أداء فريضة الحج والعمرة، وزيارة الحرمين الشريفين
التجارة
جمع الحديث من أفواه الرواة
طلب العلم
وصف البلدان والمدن والأقاليم
السفارة
طلب الرزق
حب الاستطلاع
هناك دوافع أخرى للرحلة مثل الرغبة في النقلة والتجول وما إلى ذالك. ويمكن لي أن أقول هنا، قد توجد أسباب متعددة لرحلة واحدة، وكذلك قد يوجد سبب واحدا فقط لرحلة، كما نشاهد في أكثر رحلات المحدثين، وهو طلب الحديث.
أنواع الرحلة:
قد اختلف العلماء والأدباء في بيان أنواع الرحلة وأقسامها، فقسم الدكتور شوقي ضيف في كتابه الشهير “الرحلات” أدب الرحلات إلى ثلاثة أقسام: الجغرافية، والبحرية، والبرية في الأمم والبلدان.
ونوّع الدكتور محمد الفاسي الرحلة في مقدمة تحقيقه لكتاب “الإكسير في فكاك الأسير” إلى خمسة عشر نوعا، وهي:
الرحلات الحجازية 2- الرحلات السياحية 3- الرحلات الرسمية 4- الرحلات الدراسية 5- الرحلات الأثرية 6- الرحلات الاستكشافية 7- الرحلات الزيارية 8- الرحلات السياسية 9- الرحلات العلمية 10- الرحلات المقامية 11- الرحلات البلدانية 12- الرحلات الخيالية 13- الرحلات الفهرسية 14- الرحلات العامة 15- الرحلات السفارية[8].
وقسمها الدكتور صلاح الدين الشامي في كتابه “الرحلة عين المبصرة” و”الإسلام والفكر الجغرافي” إلى ستة أنواع، منها ثلاث كانت قبل الإسلام، هي:
رحلة الحج 2- رحلة الحرب 3 رحلة السفارة.
وثلاثة أخرى أضافها الإسلام هي:
4- رحلة الحج 5- رحلة طلب العلم 6- رحلة التجول والطواف[9]
ولكن يجب هنا التنبيه على هذا التقسيم بأن رحلة الحج كانت مروجة أيضا في العصر الجاهلي وإن اختلف طبيعتها عن طبيعة رحلة الحج في العصر الإسلامي. وكذالك رحلة الحرب من الجاهلية سمّيت في الإسلام برحلة الجهاد.
هناك يمكن لي أن أقول بأن تقسيمات الرحلة المذكورة التي قسمها العلماء والأدباء مع اختلاف بيان أقسامها وأنواعها، هي باعتبار أغراض الرحلة ومقاصدها. وأفضل التقسيم لها، إن تُقسم الرحلة إلى أربعة أقسام، ثم تقسم هذه الأربعة إلى أنواع شتى بحيث الأغراض والمقاصد، وهذه الأربعة هي:
الرحلة البرية، وهي الرحلةالتي سجّلها الرحالون بعد طواف البلدان العربية وغير العربية بطريق البرّ، أو بطريق البرّ والبحر كليهما. وقيّد فيها مشاهداتهم، واكتشافاتهم، وأحاسيسهم.
الرحلة البحرية، وهي التي دوّنها الرحالون بعد جوال البلدان المختلفة العربية وغير العربية بطرق البحار فقط. وجمعوا فيها المعارف والمعلومات عن البحار وحيواناتها وأسماكها وأصدافها والأقوام الذين يسكنون على شواطئها. وصاغوا ذلك في أسلوب قصصي بديع.
الرحلة الجوية، وهي التي سجّلها الرحالة العلماء المهندسون بعد السفر إلى السماء، والقمر وغيرها بالمركبة الهوائية مثل الطائرات. كما أرسلت روسيا صارخا باسم “لونا” إلى القمر سنة 1959م، ونجحت بها أولاً بأخذ الصور من القمر. بيّنت أمام الناس حالات القمر وحركاتها.
الرحلة الخيالية، وهي التي سجّلها الكتّاب والأدباء الأخبارَ والأنبياء والقصص بدون الرحلة إلى أي بلد من البلدان، وبدون العلم الحقيقي عن الأشياء التي سجّلها في كتابه. بل كان الكتّاب يخيلون ويتصورون القصة في أذهانهم، فيكتبون القصة عن البلد والقوم والأشياء بحيث أنه رحل إلى هذا البلد، وشاهد قومه وأشياءه حقيقيا. ومثالها رحلات سندباد، رسالة الغفران للمعرّي، وحي بن يقضان لابن طفيل، وحديث عيسى بن هشام لمحمد المويلحي وغيرها.
وكذلك قسم العلماء والأدباء الرحالة والسياح، واختلفوا في تقسيمهم.
فالدكتور أحمد رمضان أحمد قسمهم في كتابه “الرحلة والرحالة المسلمون” إلى ثلاثة أقسام: رحالة جغرافيين، ورحالة مشارقة، ورحالة مغاربة.
وقسمهم الدكتور حسين فوزي في كتابه “حديث السندباد القديم” إلى فرق أربعة، وهي:
فريق جمع معارف غيره من معاصرين وقدماء، كالبيروني، والإدريسي، وأبي الفداء.
فريق تنقل في البلاد، ووصف ما رأى وعرف مثل التاجر سليمان، وأبي دلف، وابن جبير، وابن بطوطة.
فريق عني بحكم مقره أو وظيفته بتدوين ما سمعه من الرحالين والتجار، وما تحويه أضابير ديوانه من معارف، أمثال ابن خرداذبه، والجيهاني، وأبي زيد الحسن السيرفي.
فريق سافر إلى بعض الأصقاع، ولكنه لم يكتف بمشاهداته الشخصية، بل راح يضيف إليها ما طالعه في كتب غيره، أو سمعه في حلّه وترحاله من أفواه السفار وهواة المعارف الجغرافية، ومن هؤلاء المسعودي، البيروني، وياقوت الحموي.
الرحلات، أهميتها ودورها في حياة الإنسان العلمية والأدبية والثقافية
إن في القرآن الكريم آيات كثيرة تحث على أهمية السفر، وتدل على فضيلته، وتدعو إلى النقلة والرحلة. ومن ذلك قول الله تعالى: “قُل سِيروا في الأرضِ فانظروا كيف بدأ الخلقَ ثم يُنشئ النشأةَ الآخرة، إنّ اللهَ على كلِّ شيئ قدير”[10]، و”هو الذي جعل لكم الأرضَ ذَلولا فامشوا في مناكِبها وكُلوا من رزقه وإليه النُّشور”[11] و”أوَلم يَسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم كانوا أشدّ منهم قوةً وأثاروا الأرضَ وعمّروها أكثر مما عمّروها وجاءتهم رُسلُهم بالبينات فما كان اللهُ ليظلمهم ولكن أنفسهم يظلمون”[12]، وقوله عز وجلّ “أفلا ينظرون إلى الإبلِ كيف خُلقت، وإلى السّماء كيف رُفعت، وإلى الجبال كيف نُصبت، وإلى الأرض كيف سُطحت”[13].
لقد ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خطبة قس بن ساعدة بعكاظ وفيها قاله: “إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا”[14].
لقد استأثر أدب الرحلات باهتمام كثير من طبقات مثقفي العالم ماضيا وحاضرا، قديما وحديثا، وعني به العلماء البارزون والأدباء البارعون عبر مراحل التاريخ، وما زالت الرحلات إلى يومنا هذا مصدرا أساسيا للتعريف على أحوال الأمم وثقافات الشعوب، كما أن للرحلات أهميتها في اكتساب الخبرات، واقتباس المعارف في شتى المجالات، ولقد خلق الله تعالى الإنسان وألقى في قلوبه وأذهانه حب الاستطلاع ورغبة السير والسفر واكتشاف كل جديد. والرحلات مصدر للمؤرخ والجغرافي وعالم الاجتماع وفيها قدوة للمقتدي، وهي مصدر لا يمكن إغفاله أو تجاهله بالرغم مما يقال عن هذا المصدر أنه يرتبط في الغالب بالآراء والانطباعات الشخصية.
ويحرص كثير من الناس على الاهتمام بأدب الرحلات حيث إن الرحالة دائماً ينقل للقارئ صوراً وقصصاً وطرائف ومعلومات ومشاهدات لكل ما شاهد وسمع ورأى. ولقد حفل التراث العربي بالأقوال والأشعار والحكم والأمثال حول السفر والرحلات، وإن أدب الرحلات حينما يتصدى له العلماء والمفكرون فإنه يظل مخصبا ومفيدا وذا عطاء علمي غزير بحيث يبرز فيه الجانب التصويري والسياق الأدبي والتحقيق التاريخي والبحث الاجتماعي مع تطعيمه بمأثور الشعر والحكم مما تقتضيه المناسبة.
ويروي عن الإمام الشافعي قوله:
سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت وقوف الماء يفسده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
التبر كالتراب ملقي في أماكنه والعود في أرضه نوع من الحطب[15].
ولقد أوصت أعرابية ابنها في سفر، فقالت: يابُنيّ، إنك تجاور الغرباء وترحل عن الأصدقاء، ولعلك لا تلقي غير الأعداء، فخالط الناس بجميل البشر، واتق الله في العلانية والسر، ويقول أحد الشعراء في الأسفار:
سفر الفتى لمناطق وديار وتجول في سائر الأمصار
علم ومعرفة وفهم واسع وتجارب ورواية الأخبار[16].
وهكذا سيظل أدب الرحلات رافدا من روافد المعرفة والثقافة والأدب والتاريخ والجغرافية بحيث يحلق في أجواء مختلفة وخواطر متفرقة لا تقف عند الانسجام والمتعة فحسب، وإنما تهدف أيضاً إلى الأسوة والقدوة، وإلى العظة والعبرة، وإلى ما يترك أثرا خالدا يعود بالفائدة والأسوة الحسنة، ولقد قيل:
ويقول أبو تمام:
وطول مقام المرء في الحي مخلق لجيباجيته فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبّة إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد[17].
فلعب أدب الرحلات دورا بارزا كبيرا في تثقيف الإنسان علما وأدبا وثقافة، بحيث أنه قدّم صورة الغير لقرائه، ورسّخ مجموعة من الإنطباعات العامة والتصورات عن الشعوب الأخرى، صادقة كانت أم خاطئة.
وخلاصة القول إن أدب الرحلات يضم جميع نواحي الحياة تقريبا، إذ توجد فيه مادة وفيرة مما يهتم بها علماء التاريخ والجغرافيا والاجتماع والاقتصاد، وكذلك علماء الأديان والأدباء والقصّاصون. فالرحلات منابع ثرّة لمختلف العلوم والفنون، وهي بمجموعها سجل حقيقي لمختلف مظاهر الحياة ومفاهيم أهلها على مر الدهر. فالرحلة يطوي الأرض أثناء رحلته يغطي في نفس الوقت ملاحظة مظاهر مختلفة في الحياة، ويشاهدها أو يسمعها أحيانا وينقلها في رحلته.
فللرحلات قيمتان عظيمتان: قيمة علمية، وقيمة أدبية.
أما القيمة العلمية، فقد أتت مما تحتويه معظم هذه الرحلات من كثير من المعارف الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، مما يدوّنه الرحالة تدوين المعاين في غالب الأحيان من جراء اتصاله المباشر بالطبيعة وبالناس وبالحياة خلال رحلته. وإن هذا النوع من الكتب يسهم في تثقيف القاري وإثراء فكره وتأملاته عن الآخرين. وذلك إن كتاب الرحلات يصورون إلى حد كبير بعض ملامح حضارة العصر الذي قاموا فيه برحلاته، وثقافة البلدان التي ذهبوا إليها، وأحوال الشعوب التي اختلطوا بها. ولذلك تعتبر كتب الرحلات مصدرا أساسيا لوصف الثقافات الإنسانية.
فعلى سبيل المثال علم الجغرافية يدرس ظاهرات سطح الأرض الطبيعية والبشرية ويقوم منهجه في ذلك على تسجيل هذه الظاهرات وتفسيرها وتوزيعها على سطح الأرض. فإن الرحالة يدوّن مشاهداته الجغرافية فهو يصف الممالك والبلدان والأصقاع والأقاليم، والمدن والمسالك، ويتحدث عن المناخ والطبيعة، وعن ظاهرات توزيع السكان وغير ذلك، مما يعتبر من هذه الناحية مرجعا أساسيا معينا كبيرا للعلم الجغرافي الذي يضم هذه الموضوعات. ومثل ذلك ممكن أن يقال في الرحالة بالنسبة لباقي العلوم التي يتعرض لمجال دراساتها.
وأما القيمة الأدبية في الرحلات، فتتجلى في ما تعرض فيه موادها من أساليب ترتفع بها إلى عالم الأدب، وترقي بها إلى مستوى الخيال الفني، ويرغم ما يتسم به أدب الرحلات من تنوع في الأسلوب من السرد القصصي إلى الحوار وإلى الوصف غيره، فإن أبرز ما يميز أسلوب الكتابة القصصي المعتمد على السرد المشوق، بما يقفه من متعة ذهنية كبرى. وقد أفاد أدب الرحلة بغنى موضوعاته، في صرف أصحابه في غالب الأحيان، عن اللهو والعبث اللفظي والتكلف في تزويق العبارة، إيثارا للتعبير السهل المؤدي للغرض لنضجه بغنى تجربة صاحبه. ولا يعني أن الأسلوب في هذا الأدب قد تخلص من كل الصفات والعيوب الأسلوبية الأخرى، فهو يعتمد إلى السجع أحيانا، وهو ينحو منحي الجفاف والصراعة العلمية أحيانا أخرى خاصة في تناوله بشيئ من الطراوة والإخضرار يبقيانه غضا وعلى شيئ من اللين، فلقد أشار هذا الأدب اهتماما بالغا بسبب تنوعه وغنى مادته، فهو تارة علمي وتارة شعبي، وهو ظهور واقعي وأسطوري على السواء، تكمن فيه المتعة كما تكمن فيه الفائدة. لذا فهو يقدم لنا مادة دسمة متعددة الجوانب لا يوجد مثيل لها في أدب أي شعب معاصر للعرب.
وبهذه المميزات والخصائص المتعلقة بأسلوب أدب الرحلة وبموضوعه الشمولي الغني بما فيه من علم وأدب وخرافة وأسطورة يمكننا اعتباره نمطا خاصا من أنماط القول الأدبي، قد لا يرقي إلى مستوى الفن القائم بذاته كفن القصة أو الشعر أو المسرحية أو المقالة الأدبية مثلا، ففيه تجتمع أساليب هذه الفنون وموضوعاتها كلها من غير أن تضبطه معاييرها أو أن يخضع لمقاييسها.
ومن هنا تتطلب الدراسة منا أن نذكر عن رحلات الأديب مفلح العدوان، وقد سافر الأديب إلى مُدن وبلدان مختلفة لأغراض متنوعة و خاصة منها العلمية، وقد شارك في ندوة مناقشة لروايته “العتبات” في الإسكندرية، مصر، وسافر إلى دبئ (الإمارات العربية المتحدة)، والشارقة (الإمارات العربية المتحدة)، و إلى مدينة أدنيرة في إنجلترا، ومدينة أدنبرة في إسكتلندا شمال إنجلترا، وسافر إلى مدينة درهام شمال بريطانيا، وإلى مدينة كيبيك في كندا، وسافر إلى القاهرة في مصر، وإلى الكويت، وإلى البريطانية، وأسبانيا وإلى فلسطين. وله كتاب في رحلته إلى فلسطين بإسم “سماء الفينيق-رحلتي إلى فلسطين”. و نتحدث هنا عن كتابه “سماء الفينيق – رحلتي إلى فلسطين”.
يتخذ مفلح العدوان من كتابه “سماء الفينيق- رحلتي إلى فلسطين” قبة للحكاية تطل على مكونات الوقت الفلسطيني من حياة وذاكرة، السماء التي تحتضن أجنحة الفينيق جزء من رواية الأرض التي تصعد نحو علياء السرد بكل كبرياء وشموخ. في رحلة مفلح العدوان إلى فلسطين قادما من المملكة الأردنية الهاشمية تطل المدن بعفوية خاصة للبوح، ويصبح الوقت مسار سرد يستند إلى التاريخ والحاضر ضمن يوميات يصوغها بأسلوب مميز وهو ينتقل بين الأمكنة والمدن.
يقول د. إيهاب بسيسو في مقدمة الكتاب “سماء الفينيق”، إنها فلسطين كما يراها عشاقها الأوفياء توليفة بين التاريخ والأزمنة فيها صخب العزاة العابرين والراحلين وفيها همس الزيتون فوق المنحدرات ونقاء الروح في النصوص المقدسة. إنها فلسطين المشبعة بالقصص وعبق الأساطير تصون ملامحها كما تصون الجدات الذاكرة بالإصرار على تثبيت الحكاية. إنها فلسطين ملهمة الإبداع في الحياة اليومية المشتقة من فلسفة الصمود والتحدي رغم كل الصعوبات والعراقيل. ويقول “يلتقط مفلح العدوان مفاتيح السرد من شوق ذاتي ومعرفة وثقافة واسعة وتجربة مميزة في الكتابة، تزاوج بين الذاتي والعام، بين اليومي والذاكرة، لقد أراد لهذه الرحلة أن تكون بيان المثقف في مواجهة سياسيات العزل وأن تكون إحدى مرايا الواقع الفلسطيني بكل مكوناته التاريخية واليومية الإنسانية، فصاغ بيانا جديدا للحياة والإرادة في مواجهة جدار الفصل العنصري والاستيطان الاستعماري”. ثم يقول “في سماء الفينيق” مساحة للتأمل والحوار كي تستمر فلسطين كفعل يقاوم سياسات العزل والحواجز[18].
يوثق كتاب “سماء الفينيق” (رحلتي إلى فلسطين)، ألوانا من العلاقات الإنسانية بين الأردن وفلسطين في رصد متين لطبيعة الجغرافيا بينهما. تنوعت موضوعات الكتاب الذي قدمه د. خالد الكركي ما بين أدب الرحلات والشعر واللغة السردية، وطافت في فضاءات رحبة من رام الله وبيت لحم ونابلس مرورا بالخليل وأريحا ووصولا إلى القدس أيضاً، حيث رافقت النصوص استحضارات ذكية وعميقة للأسطورة والحكاية الشعبية والتاريخ، وأيضاً النصوص الإبداعية الموازية للقدماء. وتحضر في الكتاب الكثير من الحكايات الشعبية وعناوين من الموروث الغنائي فضلا عن حميمية المكان تجسدت بشاعرية في لغة تمزج بين الوصف الصحفي والبلاغة الأدبية الرفيعة بسماتها الجمالية ذات الأسلوب التشويقي البديع السلس فيها تطل مدن فلسطين بعفوية خاصة للبوح، ويصبح الوقت مسار سرد يستند إلى التاريخ والجغرافيا، ضمن يوميات تتنقل بين الأمكنة والمدن.
يقول الكاتب مفلح العدوان “إنها فلسطين، بعيداً عن كل ما يحدث حولنا من سياسيات آنية، ومواقف لحظية. إنها فلسطين، تلك التي نشأت على نشيدها “فلسطين داري” وهي مساحة نبض من “بلاد العرب أوطاني”، لكني حين زرتها، حين وطئت أرضها، حين يممت وجهي شطر مهابتها، كانت فلسطيني أنا، صرت أنا الوحيد الفلسطيني بين كل من حولي، عدت إلى نشأتها الأولى، تقمصت روح الأجداد”. ويضيف عبر صفحات كتابه “سأعود مرة أخرى إلى تلك البلاد، بلادنا فلسطين، ومعي إبريق زيت من الطفيلة لأنير به فانوساً في الحرم الإبراهيمي، وأحمل عنباً من عجلون لأعتقه في أديرة بيت لحم، وأوقد مشعل نار من الكرك أتوق لأن أعلقه على ذرى جبال نابلس، وأجدل سنبلة قمح من إربد لأقدمها لعيني جنين، سأحمل كل هذا وأكثر، وأصافح أصدقائي الذين عرفتهم، وكذالك الأحياء الذين لم ألتقهم، هم مني وأنا منهم، جداً وراء جدٍ، سلالة كنعانية الجذور، نبيطة المجد، عربية الهوى”[19].
ويكتب مفلح العدوان “بعد أن عبرت الجسر، وجزت المسافة التي لا تذكر، وأثناء ما نقلتني الحافلة إلى استراحة أريحا تداعت في الذهن ما كان يتحدث به كبارنا عن واقع الحال قبل الاحتلال، في هذه المساحة من الوطن فالذاكرة تشير هنا إلى أن قبيلة العدوان في الشونة الجنوبية نقل عن بوح الرواة ممن وعوا الحال قبل هذا الزمان حيث كانوا يقولون بأنه حين كان يموت أي واحد من الشونة الجنوبية والمناطق المجاورة كانت جنازته تسير باتجاه أريحا، وكانوا يدفنون موتاهم قريبا من مقام النبي موسى عليه السلام، هذا المقام الذي يبعد عن طريق أريحا القدس حوالي كيلومتر واحد ويعود تاريخه إلى عهد صلاح الدين الأيوبي، ويضم إضافة إلى القبر المفترض ذالك أن النبي موسى لا يعرف له قبر، وفقدت آثاره على جبل نيبو في مأدبا في الأردن بحسب العهد القديم، هناك مسجد وإسطبلات للخيل ومخبز قديم وآبار وعشرات الغرف وحوله تمتد مقبرة، يدفن بها من يوصي بذلك، ويرجح أن الذي بنى المقام هو القائد المملوكي الظاهر بيبرس الذي بنى المسجد والأروقة عام 1675م، وأوقف عليه كثير من العقارات والأراضي. هذه أولى حكايات الربط، هذه أول إشارة، حكاية دالة للمشترك الطيب دون زيف ولا تنظير ولا ادعاء”[20].
عندما نقرأ كتاب ونجد فيه أنفسنا، نحن من يتحدث، يصف، يصور ما جاء فيه، بالتأكيد سيكون أثره مذهل علينا، لا نقول أن ” سماء الفينيق” من أدب الرحلات فحسب، بل من أدب الوجدان والعاطفية، فهو يتحدث عن أريحا، ورام الله، ونابلس، والقدس، والخليل، وبيت لحم، ويعطي لمحة عن تاريخ ومكانة كل مدينة، ويربطها بكاتب أو أكثر، “حليل السكاكيني، محمود درويش، باسم خندقجي، سامح خضر، زياد خداش، يوسف الشايب، عز الدين المناصرة، إبراهيم طوقان وغيرهم، كل هذه يأتي من خلال مشاعر متقدة تجاه فلسطين وأهل فلسطين.
“ها أنا أصاحب طائر الفينيق، أرافقه ليدلني على فلسطين التي أحب، وأريد، فألوح من بعيد، للأشقاء هناك وهم يحرسون التاريخ والأمكنة والذاكرة، وأقبل أشجار الزيتون، وعتبات البيوت، ووجوه الجدات، ونقوش التفاصيل، مرددا :
جفرا وهي يا الرابح .. بين البساتين!
مجروح جرح الهوى .. يا من يداويني” ص 17، فالكاتب يجمع بين الجغرافيا والإنسان، فهم معا يقيمون و يشكلون شيئ جديد، مكون من الأرض والإنسان، فهو يتعاطى بحيوية وتفاعل بين رؤيته وعاطفته تجاه الأرض وأهلها.
من يدخل فلسطين أول مرة يصاب برعشة، فهي القريبة والبعيدة في آن، يُعبر الكاتب عن هذا الأمر : “وفتحت باب الجسر من الجهة الأخرى .. ها أنا في “هناك”.
استنشق أول فلسطين، أو إطلالة على مرآة روحي، هذا يعني أنني وطأت الأرض التي أحب … كانت الإطلالة الأولى، تحمل أعمق رعشة هزتني، وقرب البوابة، جلست على أول مقعد صادفته، وكأنني بلغت نشوة مقام الوصول، كأني وصلت، فجلست”، ص 20. هذه هي فلسطين، فلسطين التي نسمع بها وعنها، لكننا لا نستطيع دخولها.
الكاتب يفيض بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية قبل أن تكون مشاعر وطنية أو قومية، وقد استطاع أن يجمع بين مشاعره وبين ما كان قبل الاحتلال، بين ما يجب أن يكون بعد زوال الاحتلال، فيحدثنا عن العلاقة بين شرق النهر وغربه.
” كأنها مدينة واحدة، كان التحرك شرقاً – غرباً، لا بشكل طولي، غير منطقي، كما هو الحال الآن”، ص 14، الجميل في هذا المقطع أن الكاتب ربط بشكل موضوعي بين الجغرافيا، فالعلاقة بين مدن ضفتي النهر يجب أن تكون بشكل أفقي وليس طولي.
والكاتب لا يقدم فكرة جميلة فحسب، بل نجده يتألق في طريقة تقديمها:
“وأمام البرج كان حديث شيق مع كهل يشوي اللحم في محل صغير مقابل مسجد النصر، وكأنه حارس ذاكرة المكان. قال الكهل : الساعة أقدم من المسجد، فهي من عهد السلطان عبد الحميد، أما المسجد فقد أعاد بناءه الحسيني، وهو في الأصل من أيام صلاح الدين الأيوبي، كان قد بُني على أثر كنيسة بيزنطية”، ص 53، من يعرف نابلس يعرف أن الكاتب يتحدث عن ” أبو عمادة أبو حلاة” فهو حارس ذاكرة المكان، ليس في نابلس وباب الساحة فحسب، بل في يافا، وفي القدس، فهو من أقدم المناضلين الشيوعيين الفلسطينيين الذين واجهوا الاستعمار الإنجليزي والحركة الصهيونية، وذاكرته خصبة وحية بالعلاقة التاريخية بين ضفتي النهر، فقد شارك في الحملة الانتخابية ليعقوب زيادين في القدس والتي فاز فيها بمقعد نيابي، وكنا نتمنى على “يوسف الشايب” أن يعرف أكثر على “أبو عمادة أبو حلاة” ليثري مفلح العدوان معرفيا وتاريخيا وعاطفيا، هذه علاقة الفلسطيني بالمكان، وهذه علاقة الفلسطيني بكل من كان هنا.
ختم مفلح العدوان وقال : كتبت ما كتبت.. ولكنني ما زلت أشعر أنني لم أعبر إلا عن جزء ضئيل من زخم الحضور الفلسطيني، العربي، في تلك الرحلة كان معراجاً مهيبا مع الفينيق، لأزور القدس التي منعوني عنها، لكننا نملك ما هو أقوى منهم وأبقى، ذاكرتنا، وتاريخنا، وأساطيرنا، وإيماننا، وتصميمنا، هذا ما كان. فكان كتاب “سماء الفينيق”.
الهومش:
[1] . مفلح العدوان هو كاتب شهير أردني، وكاتب قصة قصيرة، ورواية، ومسرحية، ومعد برامج وثائقية وثقافية وتلفزيونية، إضافة إلى كونه كاتب وباحث البلدانيات. عُرضت أعماله المسرحية في أكثر من مهرجان مسرحي عربي، وفازت قصصه ومسرحياته وكتبه بجوائز أدبية وأكاديمية عربية ودولية. وله كتاب شهير في الرحلة بإسم “سماء الفينيق، رحلتي إلى فلسطين”.
[2] . ابن منظور، لسان العرب، ج 11، ص 276-280.
[3] . بطرس البستاني، دائرة المعارف، ج 8، ص 564.
[4] . الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 2، ص 245، 250، 260.
[5] . د. صلاح الدين الشامي، عالم الفكر، عدد يناير 1983م، الكويت، ص 13.
[6] . A dictionary of Literary Terms. Magdiwahba. Lebanon. P-577
[7] . د. أنجيل بطرس، الرحلة في الأدب الإنجليزي، مقال في مجلة “الهلال”، بيروت، عدد يوليو 1975م.
[8] . د. ناصر عبد الرزاق الموافي، الرحلة في الأدب العربي، ص 32، عن د. محمد الفاسي، مقدمة الإكسير في فكاك الأسير.
[9] . د. صلاح الدين الشامي، الرحلة عين المبصرة، والإسلام والفكر الجغرافي.
[10] . سورة العنكبوت، الآية: 20.
[11] . سورة الملك، الآية: 15.
[12] . سورة الروم، الآية: 9.
[13] . سورة الغاشية، الآية: 17-20.
[14] . د. أحمد رمضان أحمد، مقدمة الرحلة والرحالة المسلمون، ص 6.
[15] . د. عبد الحكم عبد اللطيف الصعيدي، الرحلة في الإسلام: أنواعها وآدابها، ص 22.
[16] . عبد الله بن حمد الحقيل، رحلة إلى إليابان، ص 1-2.
[17] . الخطيب التبريزي، شرح ديوان أبي تمام، ص 507-508.
[18] . د. إيهاب بسيسو، في تقديم الكتاب “سماء الفينيق لمفلح العدوان، منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية، 2017م، ص 3.
[19] . سماء الفينيق، مفلح العدوان، منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية، 2017م، ص 37-53.
[20] . العدوان في (سماء الفينيق)، ألوان من العلاقات الإنسانية بين الأردن وفلسطين، صحيفة الرأي، ثقافة وفنون، تاريخ النشر: الثلاثاء- 04-06-2019م.
بلال أحمد شاه
قبل أن أقوم ببيان رحلة الأديب مفلح العدوان[1]، ينبغي لي أن أذكر هنا معنى الرحلة اللغوي والإصطلاحي، والدوافع والأسباب المهمة التي ارتحل بها الناس، وخاصة العرب في مختلف الزمان والمكان، وأهمية الرحلة ودورها في حياة الإنسان العلمية والثقافية، وأنواع الرحلة وأقسامها التي بيّنها العلماء والأدباء.
الرحلة لغةً:
الرحلة من مادة رحل بمعنى سار وانتقل، وقد جاء في لسان العرب: الترحيل والإرحال بمعنى الإشخاص والإزعاج، يقال رَحَل الرجل إذا سار ورحل رَحول، وقوم رُحّل أي يرتحلون كثيراً، ورجل رَحّال: عالم بذلك مُجيد له. والراحلة من الإبل: البعير القوي على الأسفار والأحمال. وناقة رحيلة: أي شديدة قوية على السير. وارتحل البعير رحلة: سار فمضى، ثم جرى ذلك في المنطق، حتى قيل: ارتحل القوم عن المكان ارتحالاً، ورحل عن المكان يرحل وهو راحل من قوم رُحّل: انتقل.
والترحّل والارتحال: الإنتقال، وهو: الرِّحلة والرُّحلة. الرِّحلة اسم للارتحال للمسير.
والرحيل: القوي على الارتحال والسير[2]، والأنثى رحيلة.
والمَرحلة: المنزلة يرتحل منها، وما بين المنزلتين مَرحلة.
الرحلة اصطلاحاً:
للرحلة تعريفات متعددة بألفاظ مختلفة عند العلماء والأدباء، فأقدم هناك بعض التعريفات التي عرّفها العلماء الماهرون والأدباء البارعون، وهي كالتالي:
عرّف بطرس البسطاني الرحلة بأنها “انتقال واحد أو جماعة من مكان إلى مكان أخر، لمقاصد مختلفة، وأسباب متعددة”[3].
وعرّف الإمام الغزالي الرحلة والسفر بأنه: “نوع حركة ومخالطة، فيه فوائد، وله آفات كما ذكرناه في كتاب الصحبة والعزلة، والفوائد الباعثة على السفر لا تخلو من هرب أو طلب”، فأوضحه بقوله “أن السفر وسيلة إلى الخلاص عن مهروب عنه أو الوصول إلى مطلوب والمرغوب فيه”[4].
وقال الدكتور صلاح الدين الشامي “تمثل الرحلة، سواء كانت برية أو بحرية في المفهوم العام، إنجازا أو فعلا أو فرديا أو جماعيا لما يعنيه اختراق حاجز المسافة، وإسقاط الفاصل المعين بين المكان والمكان الآخر، ويأتي هذا الإنجاز من أجل هدف معين، ويجاوب هذا الهدف إرادة الإنسان وحركة الحياة على الأرض بشكل مباشرا أو غير مباشر. وقد تكون الرحلة هواية تشبع حاجة الإنسان وترضيه، وقد تكون احترافا يخدم حاجة الإنسان ويشبعه، ولكنها تكون في الحالتين استجابة مباشرة لحوافز ودوافع محدد تدعو بكل الإلحاح للحركة والتنقل من مكان إلى مكان آخر”[5].
إن هذه التعريفات كلها تجمع على أن الرحلة في جوهرها حركة، وهذه الحركة ذات اكتساب خبرات عملية وفكرية ناجمة عن المخالطة.
وأما تعريف أدب الرحلة، فقد ورد تعريفه في معجم المصطلحات الأدبية: هو”مجموعة الآثار الأدبية التي تتناول انطباعات المؤلف عن عادات وسلوك وأخلاق، ولتسجيل دقيق للمناظر الطبيعة التي يشاهدها، أو يسرد مراحل رحلته مرحلة مرحلة، أو يجمع بين كل هذا في آن واحد”[6].
وقد عرفه الدكتور أنجيل بطرس بأن “أدب الرحلات هو ما يمكن أن يوصف بأدب الواقعية، وهي الرحلة التي يقوم بها رحال إلى بلد من بلاد العالم، ويدوّن وصفا لها يسجّل فيه مشاهداته، وانطباعاته بدرجة من الدقة والصدق وجمال الأسلوب[7].
الأسباب والدوافع للرحلة:
هناك أسباب مختلفة ودوافع متعددة للرحلة التي رحل بها الرحالون العرب. أذكر هنا بعضها المهم، لا على الحصر، وهي كالتالي:
أداء فريضة الحج والعمرة، وزيارة الحرمين الشريفين
التجارة
جمع الحديث من أفواه الرواة
طلب العلم
وصف البلدان والمدن والأقاليم
السفارة
طلب الرزق
حب الاستطلاع
هناك دوافع أخرى للرحلة مثل الرغبة في النقلة والتجول وما إلى ذالك. ويمكن لي أن أقول هنا، قد توجد أسباب متعددة لرحلة واحدة، وكذلك قد يوجد سبب واحدا فقط لرحلة، كما نشاهد في أكثر رحلات المحدثين، وهو طلب الحديث.
أنواع الرحلة:
قد اختلف العلماء والأدباء في بيان أنواع الرحلة وأقسامها، فقسم الدكتور شوقي ضيف في كتابه الشهير “الرحلات” أدب الرحلات إلى ثلاثة أقسام: الجغرافية، والبحرية، والبرية في الأمم والبلدان.
ونوّع الدكتور محمد الفاسي الرحلة في مقدمة تحقيقه لكتاب “الإكسير في فكاك الأسير” إلى خمسة عشر نوعا، وهي:
الرحلات الحجازية 2- الرحلات السياحية 3- الرحلات الرسمية 4- الرحلات الدراسية 5- الرحلات الأثرية 6- الرحلات الاستكشافية 7- الرحلات الزيارية 8- الرحلات السياسية 9- الرحلات العلمية 10- الرحلات المقامية 11- الرحلات البلدانية 12- الرحلات الخيالية 13- الرحلات الفهرسية 14- الرحلات العامة 15- الرحلات السفارية[8].
وقسمها الدكتور صلاح الدين الشامي في كتابه “الرحلة عين المبصرة” و”الإسلام والفكر الجغرافي” إلى ستة أنواع، منها ثلاث كانت قبل الإسلام، هي:
رحلة الحج 2- رحلة الحرب 3 رحلة السفارة.
وثلاثة أخرى أضافها الإسلام هي:
4- رحلة الحج 5- رحلة طلب العلم 6- رحلة التجول والطواف[9]
ولكن يجب هنا التنبيه على هذا التقسيم بأن رحلة الحج كانت مروجة أيضا في العصر الجاهلي وإن اختلف طبيعتها عن طبيعة رحلة الحج في العصر الإسلامي. وكذالك رحلة الحرب من الجاهلية سمّيت في الإسلام برحلة الجهاد.
هناك يمكن لي أن أقول بأن تقسيمات الرحلة المذكورة التي قسمها العلماء والأدباء مع اختلاف بيان أقسامها وأنواعها، هي باعتبار أغراض الرحلة ومقاصدها. وأفضل التقسيم لها، إن تُقسم الرحلة إلى أربعة أقسام، ثم تقسم هذه الأربعة إلى أنواع شتى بحيث الأغراض والمقاصد، وهذه الأربعة هي:
الرحلة البرية، وهي الرحلةالتي سجّلها الرحالون بعد طواف البلدان العربية وغير العربية بطريق البرّ، أو بطريق البرّ والبحر كليهما. وقيّد فيها مشاهداتهم، واكتشافاتهم، وأحاسيسهم.
الرحلة البحرية، وهي التي دوّنها الرحالون بعد جوال البلدان المختلفة العربية وغير العربية بطرق البحار فقط. وجمعوا فيها المعارف والمعلومات عن البحار وحيواناتها وأسماكها وأصدافها والأقوام الذين يسكنون على شواطئها. وصاغوا ذلك في أسلوب قصصي بديع.
الرحلة الجوية، وهي التي سجّلها الرحالة العلماء المهندسون بعد السفر إلى السماء، والقمر وغيرها بالمركبة الهوائية مثل الطائرات. كما أرسلت روسيا صارخا باسم “لونا” إلى القمر سنة 1959م، ونجحت بها أولاً بأخذ الصور من القمر. بيّنت أمام الناس حالات القمر وحركاتها.
الرحلة الخيالية، وهي التي سجّلها الكتّاب والأدباء الأخبارَ والأنبياء والقصص بدون الرحلة إلى أي بلد من البلدان، وبدون العلم الحقيقي عن الأشياء التي سجّلها في كتابه. بل كان الكتّاب يخيلون ويتصورون القصة في أذهانهم، فيكتبون القصة عن البلد والقوم والأشياء بحيث أنه رحل إلى هذا البلد، وشاهد قومه وأشياءه حقيقيا. ومثالها رحلات سندباد، رسالة الغفران للمعرّي، وحي بن يقضان لابن طفيل، وحديث عيسى بن هشام لمحمد المويلحي وغيرها.
وكذلك قسم العلماء والأدباء الرحالة والسياح، واختلفوا في تقسيمهم.
فالدكتور أحمد رمضان أحمد قسمهم في كتابه “الرحلة والرحالة المسلمون” إلى ثلاثة أقسام: رحالة جغرافيين، ورحالة مشارقة، ورحالة مغاربة.
وقسمهم الدكتور حسين فوزي في كتابه “حديث السندباد القديم” إلى فرق أربعة، وهي:
فريق جمع معارف غيره من معاصرين وقدماء، كالبيروني، والإدريسي، وأبي الفداء.
فريق تنقل في البلاد، ووصف ما رأى وعرف مثل التاجر سليمان، وأبي دلف، وابن جبير، وابن بطوطة.
فريق عني بحكم مقره أو وظيفته بتدوين ما سمعه من الرحالين والتجار، وما تحويه أضابير ديوانه من معارف، أمثال ابن خرداذبه، والجيهاني، وأبي زيد الحسن السيرفي.
فريق سافر إلى بعض الأصقاع، ولكنه لم يكتف بمشاهداته الشخصية، بل راح يضيف إليها ما طالعه في كتب غيره، أو سمعه في حلّه وترحاله من أفواه السفار وهواة المعارف الجغرافية، ومن هؤلاء المسعودي، البيروني، وياقوت الحموي.
الرحلات، أهميتها ودورها في حياة الإنسان العلمية والأدبية والثقافية
إن في القرآن الكريم آيات كثيرة تحث على أهمية السفر، وتدل على فضيلته، وتدعو إلى النقلة والرحلة. ومن ذلك قول الله تعالى: “قُل سِيروا في الأرضِ فانظروا كيف بدأ الخلقَ ثم يُنشئ النشأةَ الآخرة، إنّ اللهَ على كلِّ شيئ قدير”[10]، و”هو الذي جعل لكم الأرضَ ذَلولا فامشوا في مناكِبها وكُلوا من رزقه وإليه النُّشور”[11] و”أوَلم يَسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم كانوا أشدّ منهم قوةً وأثاروا الأرضَ وعمّروها أكثر مما عمّروها وجاءتهم رُسلُهم بالبينات فما كان اللهُ ليظلمهم ولكن أنفسهم يظلمون”[12]، وقوله عز وجلّ “أفلا ينظرون إلى الإبلِ كيف خُلقت، وإلى السّماء كيف رُفعت، وإلى الجبال كيف نُصبت، وإلى الأرض كيف سُطحت”[13].
لقد ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خطبة قس بن ساعدة بعكاظ وفيها قاله: “إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا”[14].
لقد استأثر أدب الرحلات باهتمام كثير من طبقات مثقفي العالم ماضيا وحاضرا، قديما وحديثا، وعني به العلماء البارزون والأدباء البارعون عبر مراحل التاريخ، وما زالت الرحلات إلى يومنا هذا مصدرا أساسيا للتعريف على أحوال الأمم وثقافات الشعوب، كما أن للرحلات أهميتها في اكتساب الخبرات، واقتباس المعارف في شتى المجالات، ولقد خلق الله تعالى الإنسان وألقى في قلوبه وأذهانه حب الاستطلاع ورغبة السير والسفر واكتشاف كل جديد. والرحلات مصدر للمؤرخ والجغرافي وعالم الاجتماع وفيها قدوة للمقتدي، وهي مصدر لا يمكن إغفاله أو تجاهله بالرغم مما يقال عن هذا المصدر أنه يرتبط في الغالب بالآراء والانطباعات الشخصية.
ويحرص كثير من الناس على الاهتمام بأدب الرحلات حيث إن الرحالة دائماً ينقل للقارئ صوراً وقصصاً وطرائف ومعلومات ومشاهدات لكل ما شاهد وسمع ورأى. ولقد حفل التراث العربي بالأقوال والأشعار والحكم والأمثال حول السفر والرحلات، وإن أدب الرحلات حينما يتصدى له العلماء والمفكرون فإنه يظل مخصبا ومفيدا وذا عطاء علمي غزير بحيث يبرز فيه الجانب التصويري والسياق الأدبي والتحقيق التاريخي والبحث الاجتماعي مع تطعيمه بمأثور الشعر والحكم مما تقتضيه المناسبة.
ويروي عن الإمام الشافعي قوله:
سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت وقوف الماء يفسده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
التبر كالتراب ملقي في أماكنه والعود في أرضه نوع من الحطب[15].
ولقد أوصت أعرابية ابنها في سفر، فقالت: يابُنيّ، إنك تجاور الغرباء وترحل عن الأصدقاء، ولعلك لا تلقي غير الأعداء، فخالط الناس بجميل البشر، واتق الله في العلانية والسر، ويقول أحد الشعراء في الأسفار:
سفر الفتى لمناطق وديار وتجول في سائر الأمصار
علم ومعرفة وفهم واسع وتجارب ورواية الأخبار[16].
وهكذا سيظل أدب الرحلات رافدا من روافد المعرفة والثقافة والأدب والتاريخ والجغرافية بحيث يحلق في أجواء مختلفة وخواطر متفرقة لا تقف عند الانسجام والمتعة فحسب، وإنما تهدف أيضاً إلى الأسوة والقدوة، وإلى العظة والعبرة، وإلى ما يترك أثرا خالدا يعود بالفائدة والأسوة الحسنة، ولقد قيل:
ويقول أبو تمام:
وطول مقام المرء في الحي مخلق لجيباجيته فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبّة إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد[17].
فلعب أدب الرحلات دورا بارزا كبيرا في تثقيف الإنسان علما وأدبا وثقافة، بحيث أنه قدّم صورة الغير لقرائه، ورسّخ مجموعة من الإنطباعات العامة والتصورات عن الشعوب الأخرى، صادقة كانت أم خاطئة.
وخلاصة القول إن أدب الرحلات يضم جميع نواحي الحياة تقريبا، إذ توجد فيه مادة وفيرة مما يهتم بها علماء التاريخ والجغرافيا والاجتماع والاقتصاد، وكذلك علماء الأديان والأدباء والقصّاصون. فالرحلات منابع ثرّة لمختلف العلوم والفنون، وهي بمجموعها سجل حقيقي لمختلف مظاهر الحياة ومفاهيم أهلها على مر الدهر. فالرحلة يطوي الأرض أثناء رحلته يغطي في نفس الوقت ملاحظة مظاهر مختلفة في الحياة، ويشاهدها أو يسمعها أحيانا وينقلها في رحلته.
فللرحلات قيمتان عظيمتان: قيمة علمية، وقيمة أدبية.
أما القيمة العلمية، فقد أتت مما تحتويه معظم هذه الرحلات من كثير من المعارف الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، مما يدوّنه الرحالة تدوين المعاين في غالب الأحيان من جراء اتصاله المباشر بالطبيعة وبالناس وبالحياة خلال رحلته. وإن هذا النوع من الكتب يسهم في تثقيف القاري وإثراء فكره وتأملاته عن الآخرين. وذلك إن كتاب الرحلات يصورون إلى حد كبير بعض ملامح حضارة العصر الذي قاموا فيه برحلاته، وثقافة البلدان التي ذهبوا إليها، وأحوال الشعوب التي اختلطوا بها. ولذلك تعتبر كتب الرحلات مصدرا أساسيا لوصف الثقافات الإنسانية.
فعلى سبيل المثال علم الجغرافية يدرس ظاهرات سطح الأرض الطبيعية والبشرية ويقوم منهجه في ذلك على تسجيل هذه الظاهرات وتفسيرها وتوزيعها على سطح الأرض. فإن الرحالة يدوّن مشاهداته الجغرافية فهو يصف الممالك والبلدان والأصقاع والأقاليم، والمدن والمسالك، ويتحدث عن المناخ والطبيعة، وعن ظاهرات توزيع السكان وغير ذلك، مما يعتبر من هذه الناحية مرجعا أساسيا معينا كبيرا للعلم الجغرافي الذي يضم هذه الموضوعات. ومثل ذلك ممكن أن يقال في الرحالة بالنسبة لباقي العلوم التي يتعرض لمجال دراساتها.
وأما القيمة الأدبية في الرحلات، فتتجلى في ما تعرض فيه موادها من أساليب ترتفع بها إلى عالم الأدب، وترقي بها إلى مستوى الخيال الفني، ويرغم ما يتسم به أدب الرحلات من تنوع في الأسلوب من السرد القصصي إلى الحوار وإلى الوصف غيره، فإن أبرز ما يميز أسلوب الكتابة القصصي المعتمد على السرد المشوق، بما يقفه من متعة ذهنية كبرى. وقد أفاد أدب الرحلة بغنى موضوعاته، في صرف أصحابه في غالب الأحيان، عن اللهو والعبث اللفظي والتكلف في تزويق العبارة، إيثارا للتعبير السهل المؤدي للغرض لنضجه بغنى تجربة صاحبه. ولا يعني أن الأسلوب في هذا الأدب قد تخلص من كل الصفات والعيوب الأسلوبية الأخرى، فهو يعتمد إلى السجع أحيانا، وهو ينحو منحي الجفاف والصراعة العلمية أحيانا أخرى خاصة في تناوله بشيئ من الطراوة والإخضرار يبقيانه غضا وعلى شيئ من اللين، فلقد أشار هذا الأدب اهتماما بالغا بسبب تنوعه وغنى مادته، فهو تارة علمي وتارة شعبي، وهو ظهور واقعي وأسطوري على السواء، تكمن فيه المتعة كما تكمن فيه الفائدة. لذا فهو يقدم لنا مادة دسمة متعددة الجوانب لا يوجد مثيل لها في أدب أي شعب معاصر للعرب.
وبهذه المميزات والخصائص المتعلقة بأسلوب أدب الرحلة وبموضوعه الشمولي الغني بما فيه من علم وأدب وخرافة وأسطورة يمكننا اعتباره نمطا خاصا من أنماط القول الأدبي، قد لا يرقي إلى مستوى الفن القائم بذاته كفن القصة أو الشعر أو المسرحية أو المقالة الأدبية مثلا، ففيه تجتمع أساليب هذه الفنون وموضوعاتها كلها من غير أن تضبطه معاييرها أو أن يخضع لمقاييسها.
ومن هنا تتطلب الدراسة منا أن نذكر عن رحلات الأديب مفلح العدوان، وقد سافر الأديب إلى مُدن وبلدان مختلفة لأغراض متنوعة و خاصة منها العلمية، وقد شارك في ندوة مناقشة لروايته “العتبات” في الإسكندرية، مصر، وسافر إلى دبئ (الإمارات العربية المتحدة)، والشارقة (الإمارات العربية المتحدة)، و إلى مدينة أدنيرة في إنجلترا، ومدينة أدنبرة في إسكتلندا شمال إنجلترا، وسافر إلى مدينة درهام شمال بريطانيا، وإلى مدينة كيبيك في كندا، وسافر إلى القاهرة في مصر، وإلى الكويت، وإلى البريطانية، وأسبانيا وإلى فلسطين. وله كتاب في رحلته إلى فلسطين بإسم “سماء الفينيق-رحلتي إلى فلسطين”. و نتحدث هنا عن كتابه “سماء الفينيق – رحلتي إلى فلسطين”.
يتخذ مفلح العدوان من كتابه “سماء الفينيق- رحلتي إلى فلسطين” قبة للحكاية تطل على مكونات الوقت الفلسطيني من حياة وذاكرة، السماء التي تحتضن أجنحة الفينيق جزء من رواية الأرض التي تصعد نحو علياء السرد بكل كبرياء وشموخ. في رحلة مفلح العدوان إلى فلسطين قادما من المملكة الأردنية الهاشمية تطل المدن بعفوية خاصة للبوح، ويصبح الوقت مسار سرد يستند إلى التاريخ والحاضر ضمن يوميات يصوغها بأسلوب مميز وهو ينتقل بين الأمكنة والمدن.
يقول د. إيهاب بسيسو في مقدمة الكتاب “سماء الفينيق”، إنها فلسطين كما يراها عشاقها الأوفياء توليفة بين التاريخ والأزمنة فيها صخب العزاة العابرين والراحلين وفيها همس الزيتون فوق المنحدرات ونقاء الروح في النصوص المقدسة. إنها فلسطين المشبعة بالقصص وعبق الأساطير تصون ملامحها كما تصون الجدات الذاكرة بالإصرار على تثبيت الحكاية. إنها فلسطين ملهمة الإبداع في الحياة اليومية المشتقة من فلسفة الصمود والتحدي رغم كل الصعوبات والعراقيل. ويقول “يلتقط مفلح العدوان مفاتيح السرد من شوق ذاتي ومعرفة وثقافة واسعة وتجربة مميزة في الكتابة، تزاوج بين الذاتي والعام، بين اليومي والذاكرة، لقد أراد لهذه الرحلة أن تكون بيان المثقف في مواجهة سياسيات العزل وأن تكون إحدى مرايا الواقع الفلسطيني بكل مكوناته التاريخية واليومية الإنسانية، فصاغ بيانا جديدا للحياة والإرادة في مواجهة جدار الفصل العنصري والاستيطان الاستعماري”. ثم يقول “في سماء الفينيق” مساحة للتأمل والحوار كي تستمر فلسطين كفعل يقاوم سياسات العزل والحواجز[18].
يوثق كتاب “سماء الفينيق” (رحلتي إلى فلسطين)، ألوانا من العلاقات الإنسانية بين الأردن وفلسطين في رصد متين لطبيعة الجغرافيا بينهما. تنوعت موضوعات الكتاب الذي قدمه د. خالد الكركي ما بين أدب الرحلات والشعر واللغة السردية، وطافت في فضاءات رحبة من رام الله وبيت لحم ونابلس مرورا بالخليل وأريحا ووصولا إلى القدس أيضاً، حيث رافقت النصوص استحضارات ذكية وعميقة للأسطورة والحكاية الشعبية والتاريخ، وأيضاً النصوص الإبداعية الموازية للقدماء. وتحضر في الكتاب الكثير من الحكايات الشعبية وعناوين من الموروث الغنائي فضلا عن حميمية المكان تجسدت بشاعرية في لغة تمزج بين الوصف الصحفي والبلاغة الأدبية الرفيعة بسماتها الجمالية ذات الأسلوب التشويقي البديع السلس فيها تطل مدن فلسطين بعفوية خاصة للبوح، ويصبح الوقت مسار سرد يستند إلى التاريخ والجغرافيا، ضمن يوميات تتنقل بين الأمكنة والمدن.
يقول الكاتب مفلح العدوان “إنها فلسطين، بعيداً عن كل ما يحدث حولنا من سياسيات آنية، ومواقف لحظية. إنها فلسطين، تلك التي نشأت على نشيدها “فلسطين داري” وهي مساحة نبض من “بلاد العرب أوطاني”، لكني حين زرتها، حين وطئت أرضها، حين يممت وجهي شطر مهابتها، كانت فلسطيني أنا، صرت أنا الوحيد الفلسطيني بين كل من حولي، عدت إلى نشأتها الأولى، تقمصت روح الأجداد”. ويضيف عبر صفحات كتابه “سأعود مرة أخرى إلى تلك البلاد، بلادنا فلسطين، ومعي إبريق زيت من الطفيلة لأنير به فانوساً في الحرم الإبراهيمي، وأحمل عنباً من عجلون لأعتقه في أديرة بيت لحم، وأوقد مشعل نار من الكرك أتوق لأن أعلقه على ذرى جبال نابلس، وأجدل سنبلة قمح من إربد لأقدمها لعيني جنين، سأحمل كل هذا وأكثر، وأصافح أصدقائي الذين عرفتهم، وكذالك الأحياء الذين لم ألتقهم، هم مني وأنا منهم، جداً وراء جدٍ، سلالة كنعانية الجذور، نبيطة المجد، عربية الهوى”[19].
ويكتب مفلح العدوان “بعد أن عبرت الجسر، وجزت المسافة التي لا تذكر، وأثناء ما نقلتني الحافلة إلى استراحة أريحا تداعت في الذهن ما كان يتحدث به كبارنا عن واقع الحال قبل الاحتلال، في هذه المساحة من الوطن فالذاكرة تشير هنا إلى أن قبيلة العدوان في الشونة الجنوبية نقل عن بوح الرواة ممن وعوا الحال قبل هذا الزمان حيث كانوا يقولون بأنه حين كان يموت أي واحد من الشونة الجنوبية والمناطق المجاورة كانت جنازته تسير باتجاه أريحا، وكانوا يدفنون موتاهم قريبا من مقام النبي موسى عليه السلام، هذا المقام الذي يبعد عن طريق أريحا القدس حوالي كيلومتر واحد ويعود تاريخه إلى عهد صلاح الدين الأيوبي، ويضم إضافة إلى القبر المفترض ذالك أن النبي موسى لا يعرف له قبر، وفقدت آثاره على جبل نيبو في مأدبا في الأردن بحسب العهد القديم، هناك مسجد وإسطبلات للخيل ومخبز قديم وآبار وعشرات الغرف وحوله تمتد مقبرة، يدفن بها من يوصي بذلك، ويرجح أن الذي بنى المقام هو القائد المملوكي الظاهر بيبرس الذي بنى المسجد والأروقة عام 1675م، وأوقف عليه كثير من العقارات والأراضي. هذه أولى حكايات الربط، هذه أول إشارة، حكاية دالة للمشترك الطيب دون زيف ولا تنظير ولا ادعاء”[20].
عندما نقرأ كتاب ونجد فيه أنفسنا، نحن من يتحدث، يصف، يصور ما جاء فيه، بالتأكيد سيكون أثره مذهل علينا، لا نقول أن ” سماء الفينيق” من أدب الرحلات فحسب، بل من أدب الوجدان والعاطفية، فهو يتحدث عن أريحا، ورام الله، ونابلس، والقدس، والخليل، وبيت لحم، ويعطي لمحة عن تاريخ ومكانة كل مدينة، ويربطها بكاتب أو أكثر، “حليل السكاكيني، محمود درويش، باسم خندقجي، سامح خضر، زياد خداش، يوسف الشايب، عز الدين المناصرة، إبراهيم طوقان وغيرهم، كل هذه يأتي من خلال مشاعر متقدة تجاه فلسطين وأهل فلسطين.
“ها أنا أصاحب طائر الفينيق، أرافقه ليدلني على فلسطين التي أحب، وأريد، فألوح من بعيد، للأشقاء هناك وهم يحرسون التاريخ والأمكنة والذاكرة، وأقبل أشجار الزيتون، وعتبات البيوت، ووجوه الجدات، ونقوش التفاصيل، مرددا :
جفرا وهي يا الرابح .. بين البساتين!
مجروح جرح الهوى .. يا من يداويني” ص 17، فالكاتب يجمع بين الجغرافيا والإنسان، فهم معا يقيمون و يشكلون شيئ جديد، مكون من الأرض والإنسان، فهو يتعاطى بحيوية وتفاعل بين رؤيته وعاطفته تجاه الأرض وأهلها.
من يدخل فلسطين أول مرة يصاب برعشة، فهي القريبة والبعيدة في آن، يُعبر الكاتب عن هذا الأمر : “وفتحت باب الجسر من الجهة الأخرى .. ها أنا في “هناك”.
استنشق أول فلسطين، أو إطلالة على مرآة روحي، هذا يعني أنني وطأت الأرض التي أحب … كانت الإطلالة الأولى، تحمل أعمق رعشة هزتني، وقرب البوابة، جلست على أول مقعد صادفته، وكأنني بلغت نشوة مقام الوصول، كأني وصلت، فجلست”، ص 20. هذه هي فلسطين، فلسطين التي نسمع بها وعنها، لكننا لا نستطيع دخولها.
الكاتب يفيض بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية قبل أن تكون مشاعر وطنية أو قومية، وقد استطاع أن يجمع بين مشاعره وبين ما كان قبل الاحتلال، بين ما يجب أن يكون بعد زوال الاحتلال، فيحدثنا عن العلاقة بين شرق النهر وغربه.
” كأنها مدينة واحدة، كان التحرك شرقاً – غرباً، لا بشكل طولي، غير منطقي، كما هو الحال الآن”، ص 14، الجميل في هذا المقطع أن الكاتب ربط بشكل موضوعي بين الجغرافيا، فالعلاقة بين مدن ضفتي النهر يجب أن تكون بشكل أفقي وليس طولي.
والكاتب لا يقدم فكرة جميلة فحسب، بل نجده يتألق في طريقة تقديمها:
“وأمام البرج كان حديث شيق مع كهل يشوي اللحم في محل صغير مقابل مسجد النصر، وكأنه حارس ذاكرة المكان. قال الكهل : الساعة أقدم من المسجد، فهي من عهد السلطان عبد الحميد، أما المسجد فقد أعاد بناءه الحسيني، وهو في الأصل من أيام صلاح الدين الأيوبي، كان قد بُني على أثر كنيسة بيزنطية”، ص 53، من يعرف نابلس يعرف أن الكاتب يتحدث عن ” أبو عمادة أبو حلاة” فهو حارس ذاكرة المكان، ليس في نابلس وباب الساحة فحسب، بل في يافا، وفي القدس، فهو من أقدم المناضلين الشيوعيين الفلسطينيين الذين واجهوا الاستعمار الإنجليزي والحركة الصهيونية، وذاكرته خصبة وحية بالعلاقة التاريخية بين ضفتي النهر، فقد شارك في الحملة الانتخابية ليعقوب زيادين في القدس والتي فاز فيها بمقعد نيابي، وكنا نتمنى على “يوسف الشايب” أن يعرف أكثر على “أبو عمادة أبو حلاة” ليثري مفلح العدوان معرفيا وتاريخيا وعاطفيا، هذه علاقة الفلسطيني بالمكان، وهذه علاقة الفلسطيني بكل من كان هنا.
ختم مفلح العدوان وقال : كتبت ما كتبت.. ولكنني ما زلت أشعر أنني لم أعبر إلا عن جزء ضئيل من زخم الحضور الفلسطيني، العربي، في تلك الرحلة كان معراجاً مهيبا مع الفينيق، لأزور القدس التي منعوني عنها، لكننا نملك ما هو أقوى منهم وأبقى، ذاكرتنا، وتاريخنا، وأساطيرنا، وإيماننا، وتصميمنا، هذا ما كان. فكان كتاب “سماء الفينيق”.
الهومش:
[1] . مفلح العدوان هو كاتب شهير أردني، وكاتب قصة قصيرة، ورواية، ومسرحية، ومعد برامج وثائقية وثقافية وتلفزيونية، إضافة إلى كونه كاتب وباحث البلدانيات. عُرضت أعماله المسرحية في أكثر من مهرجان مسرحي عربي، وفازت قصصه ومسرحياته وكتبه بجوائز أدبية وأكاديمية عربية ودولية. وله كتاب شهير في الرحلة بإسم “سماء الفينيق، رحلتي إلى فلسطين”.
[2] . ابن منظور، لسان العرب، ج 11، ص 276-280.
[3] . بطرس البستاني، دائرة المعارف، ج 8، ص 564.
[4] . الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 2، ص 245، 250، 260.
[5] . د. صلاح الدين الشامي، عالم الفكر، عدد يناير 1983م، الكويت، ص 13.
[6] . A dictionary of Literary Terms. Magdiwahba. Lebanon. P-577
[7] . د. أنجيل بطرس، الرحلة في الأدب الإنجليزي، مقال في مجلة “الهلال”، بيروت، عدد يوليو 1975م.
[8] . د. ناصر عبد الرزاق الموافي، الرحلة في الأدب العربي، ص 32، عن د. محمد الفاسي، مقدمة الإكسير في فكاك الأسير.
[9] . د. صلاح الدين الشامي، الرحلة عين المبصرة، والإسلام والفكر الجغرافي.
[10] . سورة العنكبوت، الآية: 20.
[11] . سورة الملك، الآية: 15.
[12] . سورة الروم، الآية: 9.
[13] . سورة الغاشية، الآية: 17-20.
[14] . د. أحمد رمضان أحمد، مقدمة الرحلة والرحالة المسلمون، ص 6.
[15] . د. عبد الحكم عبد اللطيف الصعيدي، الرحلة في الإسلام: أنواعها وآدابها، ص 22.
[16] . عبد الله بن حمد الحقيل، رحلة إلى إليابان، ص 1-2.
[17] . الخطيب التبريزي، شرح ديوان أبي تمام، ص 507-508.
[18] . د. إيهاب بسيسو، في تقديم الكتاب “سماء الفينيق لمفلح العدوان، منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية، 2017م، ص 3.
[19] . سماء الفينيق، مفلح العدوان، منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية، 2017م، ص 37-53.
[20] . العدوان في (سماء الفينيق)، ألوان من العلاقات الإنسانية بين الأردن وفلسطين، صحيفة الرأي، ثقافة وفنون، تاريخ النشر: الثلاثاء- 04-06-2019م.
10/11/2024, 21:08 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الرابعة: قوانين الميراث تفضل الرجال على النساء ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:05 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثالثة: شهادة المرأة لا تساوي سوى نصف رجل ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:02 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثانية: المرأة لا تستطيع الطلاق ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:59 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الأولى: الإسلام يوجه الرجال لضرب زوجاتهم ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:54 من طرف Admin
» كتاب: المرأة في المنظور الإسلامي ـ إعداد لجنة من الباحثين
10/11/2024, 20:05 من طرف Admin
» كتاب: (درة العشاق) محمد صلى الله عليه وسلم ـ الشّاعر غازي الجَمـل
9/11/2024, 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
9/11/2024, 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin