إحسان الإحسان - 7 -
الفقهاء تلامذة الصوفية
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله:
[وكذلك من أعيان الفقهاء من جميع المذاهب تجد الفقيه بعد استكمال طلبه للعلم أو أثناء الطلب يلتمس وليا مرشدا يصقل قلبه بالإحسان.]:
لا شك أن الكلام هنا صحيح؛ لكنه ناشئ عن تصور مغلوط لجل المسلمين، يظنون به أن التقرب من الله يكون بتحصيل العلوم الشرعية على المعهود منها لدى العلماء المتخصصين. ويرون أن الفقه بالأحكام هو أساس هذا التحصيل الذي يأتي من بعده التخصص في الحديث أو في التفسير أو في أصول الدين. وقد جعل الأستاذ التصوف هنا تكميلا لفقه الفقهاء، من دون أن يشير إلى أن تعلم الفقه بالطريقة "الأكاديمية" ليس شرطا في التدين من الأصل، وإنما جاء ذلك بعد تراكم الأقوال على مدى الأعصر، وبعد دخول المناهج العقلية في الغربلة والترجيح. نعني من هذا أن التدين في أصله لا بد أن يكون ميسرا يستطيعه كل أحد، وإلا كان العمل معاكسا لأصل التيسير المنصوص عليه في الوحي. فمن القرآن قول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، ومن الحديث الشريف قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ. فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ.» [1]. وأما الواجب تعلمه من الفقه، على العباد، فهو ما تقوم به عبادتهم. وأول ما يتعلق به الفقه، الصلاة والمعاملات، ثم يأتي الصوم عند البلوغ. ويتعين فقه الزكاة على من تحقق لديهم النصاب من المال دون غيرهم. ويبقى فقه الحج إلى وقت إرادته، بحسب الاستطاعة. هذا كله من جهة التعين الشخصي؛ وأما من جهة الكفاية، فلا بد من تخصص بعض المسلمين من كل بلد، بجميع فروع الفقه، ليكونوا معلمين لغيرهم وقت اللزوم. غير أن الناس مع إيغالهم في الغفلة، نسوا أن الفقه وسيلة إلى التدين، وجعلوه التدين عينه أو شطره الأعظم. وصار الدين مع هؤلاء معلومات، يجمعها العبد طول عمره، وكأنه ذاهب إلى الآخرة لاجتياز امتحان التخرج. وذِكر الكاتب لعدم استغناء الفقهاء عن التتلمذ للصوفية، من دون تفصيل لمعنى الفقه عند الناس، يجعل الذهن ينصرف منهم إلى تكميل معلومات تتعلق بالإحسان، كما أشار هو رحمه الله. وهذا الالتباس نشأ عند الكاتب والناس من بعده، لعدم علمهم بمرتبة الإيمان، التي ينبغي أن تكون هي المرحلة الثانية من تديّن العبد، إن شمر لسلوك الطريق، وخرج عن زمرة القانعين بالمرتبة الأولى المشتركة. وببقاء معنى الإيمان مجهولا، سيكون الإحسان مجهولا أيضا؛ لأن الإحسان هو إحسانٌ (إتقان وإجادة) للإيمان نفسه. ولقد وقع الجهل بالإيمان، عندما اشتغل أصحاب مرتبة الإسلام به، من كونه معلومات (عقائد) صاغوها صياغة عقلية، ورتبوها ترتيبا خاصا بحسب كل فرقة، وظنوا أن ذلك يغني عن الترقي إلى المرتبة الثانية؛ بل إنهم لم يعلموا معنى الترقي من الأصل. فكان نشوء علم الكلام، إيذانا باكتفاء شطر كبير من الأمة بمرتبة الإسلام، من الناحية الذوقية العملية؛ بل إن إسلامهم ذاته قد شابه ما خاضوا فيه من العقائد بعقولهم، فنزلوا عن كمال مرتبة الإسلام الذي يتحقق في الغالب للعوام دونهم. وهذا من أعجب ما يحصل لعلماء الدين، وهم لا يشعرون؛ بل يستبعدونه ويحيلونه!... وعلى هذا، فمن اشتغل بالعقائد على طريقة المتكلمين لن يعلم الإحسان، وهو لم يؤمن الإيمان التفصيلي (إيمان المرتبة)؟!... لهذا سيبقى كلام الأستاذ عاما، لا ينفع كثيرا.
[هذا الإمام السيوطي جامع علوم عصره المتبحر المتفنن الذي نازع معاصريه الزعامة وقارعهم بعناده واعتداده بنفسه يلجأ إلى المشايخ الشاذلية يتخذهم قدوة وأدلة. كتب في «حسن المحاضرة» دعواه، وهو جدير بها رحمه الله: «رزقت التبحر في سبعة علوم التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع على طريقة العرب والبلغاء لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة. والذي أعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم الستة، سوى الفقه والنقول التي اطلعت عليها منها، لم يصل إليه ولا وقف عليه شخص من الأشخاص. فضلا عمن هو دونهم.]:
إيراد الكاتب لهذا الكلام، يدل على أنه ما زال مقيدا بالطريقة الأكاديمية التقليدية؛ وبهذا فإنه يكون جاهلا بالتدين في صورته الأصلية، وإن كان لا يخلو عنه. وهذا أمر يحصل لكثيرين، نعني أنهم يحلون في بعض المقامات من دون أن يعلموها، بسبب الخلط الذي هم عليه؛ بعكس من كانوا على الصورة البسيطة من التدين، التي كان عليها الصحابة، ويكون عليها الأميون. لهذا نحن هنا نتكلم عن الجانب العلمي، وبالصورة التي يُقدَّم فيها إلى الناس، لا بما يكونون عليه من تدين في الجانب العملي. ونعني مرة أخرى، أن المرء قد يكون على تدين سليم جزئيا، وإن كان هذا نادرا؛ ولكنه من جهة العلم لا بد أن يكون على معلومات مفككة ومبعثرة، كما هو شأن مقلدة الفقهاء والمتصوفة. وهذا الخلط والاجتزاء، سيجعلان الوصول إلى كمال التدين، ببلوغ معرفة الحق تعالى، والتي هي غاية الغايات، يشترط في نظر الناظر من هؤلاء، ما ذكره السيوطي من علوم، وما يظن كاتبنا أنه مشروط؛ بخلاف ما هو الأمر عليه عند إتيان العبد لأعمال الإسلام، على شوق إلى الله وصدق في معاملته سبحانه فحسب. وكأن الإنسان -لجهله- لا يعجبه في كثير من الأحيان أن يكون وصوله إلى الحق سهلا ميسرا؛ وقد أخبر الله عن قربه سبحانه، بأكثر مما يتوهم عبده. يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، ويقول سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]. وكأن العبد بإبعاده في تصور الطريق إلى الله، يستعيض عن التشريع الإلهي، بما يشرعه لنفسه جزئيا، عندما يعيد صياغة أعمال التقرب بحسب هواه. وقد يكون هذا العمل منه في الغالب، بدافع التنزيه غير الشرعي، فلا يكاد يُشعر به. وما رأينا من يفرق بين الطريقين سوى من تزكى على أيدي كبار شيوخ الصوفية. ولقد رأينا -رأي العين- من الأميين الواصلين، من صار بحرا في العلم من دون أن يشتغل بالعلوم أو يسلك طريقها؛ ورأينا احتياج العلماء في العرف إلى توجيهاته في علومهم، في مشهد قلّ من يصدق به من أهل زماننا. فهذا هو ما نسميه نحن التدين في صورته الأصلية، التي لا يُحتاج فيها إلا إلى الصدق في معاملة الله. وعلى هذا الأصل كان عمل الصحابة رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان؛ لا يشك في هذا، إلا من انطمست بصيرته!...
وأما قطع السيوطي -رحمه الله- بوصوله إلى مرتبة في العلم لم يصل إليها أحد من الأشخاص، فهو من صدق الجاهلين. نعني من هذا، أنه قد حكم على من يعلم من العلماء، أنهم لا يبلغون علمه في العلوم المذكورة؛ وهو -رحمه الله- أجل من أن يحكم بغير ما يعلم. ولكنه لم يعلم أن لله في كل زمان، أشخاصا لا يعرفون بالعلم بين الناس، يعلمون من دقائق العلم، ما لا يخطر له على بال. ولو أنه اتخذ قصة موسى مع الخضر -عليهما السلام- إماما في تبيّن أمور الزمان، لعلم أنه كان من فريق موسى؛ وأنه لا علم له بفريق الخضر من أهل زمانه. ولكن عدم العلم على التعيين، لا ينبغي معه إغفال العبد لما دل عليه القرآن، إن حالفه التوفيق. وهذا الذي نقول، هو من تنزيل المعاني القرآنية على الأزمنة كلها، بحيث لا يتخلف شيء منها في أي زمن من الأزمان. وهو علم عجيب، من أوتيه يكون كمن حضر تنزل القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الزمن الأول. ولا فرق بينه وبين الصحابة، إلا من جهة تغير صور التنزيل (المظاهر) فحسب.
[وأما علم الحساب فهو أعسر شيء علي وأبعده عن ذهني. وإذا نظرت في مسألة تتعلق به فكأنما أحاول جبلا أحمله. وقد كملت عندي آلات الاجتهاد»]:
نحن نُدرك تأثر السيوطي ببيئته العلمية، ونعرف له مكانته بحمد الله؛ لكن التدين الذي نتكلم عنه أبسط مما يدل عليه بكثير، وأنفع في التقرب إلى الله بما لا يقارن. ثم إن الاجتهاد الذي يعده فقهاء مرتبة الإسلام أعلى درجة في العلم، ليس هو كذلك؛ بل هو أعلى ما يكون عليه الفقيه (بالمعنى الاصطلاحي) وحده. وإنه يقع للمريدين في أول سلوكهم، ما لا يتمكن من بلوغه اجتهاد مجتهد. ولقد حدث للعبد الضعيف عند بداية سلوكي، في الأسابيع الأولى إن لم يكن في الأيام الأولى من ذكر ورد شيخي، وأنا في حوالي العشرين من عمري أو أزيد قليلا، أن صرت أتكلم في معنى الذات الذي يُدرك من وراء الصفات الحقية والخلقية. فظننت أني آخر من يعلم هذا وأن من سبقني بالزمان من المريدين، لا بد وأنهم سيجدون ما ظهر لي من المبادئ الأولى إلى جنب ما هم عليه. وقد كنت -بحمد الله- شديد الاحتقار لنفسي، لا أكاد أطيق أن أنسب إليها شيئا. وفي جلسة مع أخ لي في التربية، وقد آنسني لأبدي له ما عندي، ويبدو أنه كان مترقبا لفعل الذكر فيّ بعكسي أنا، من كان داخلا إلى مجال لا يعرف منه لا ظاهرا ولا باطنا. فلما بدأت أكلمه فيما ظهر لي، وأنا أتخوف أن يخطِّئني أو أن ينهرني وينهاني عما أخوض فيه (والكلام على كل حال فوق طوري حينئذ)، فوجئت به بعد مدة العرض (ولم تكن قصيرة) يقول: لم أفهم شيئا مما قلت. فسكتّ، وغيرنا مجرى الحديث. وأنا أقول الآن بعد ما يقرب من الأربعين سنة بعد الحادثة المذكورة، لو أني أعرض كلامي ذاك على أكبر علماء الأرض، ممن يعرفون بالعلم عند الناس، لما عقله. فكيف -بعد هذا- يعظَّم اجتهاد يكون وارد من واردات مريد مبتدئ أعلى منه!...
[ما بال مثل هذا الرجل المعتز بعلمه، المنفرد في عصره بالاطلاع الواسع، المؤلف المرموق، المقرب إلى «خليفة» عصره المتوكل على الله العباسي، المحسود من طرف فقهاء مصر، خاضوا ضده معارك حامية، يذهب إلى المشايخ أهل الطريق يخضع لهم ويتتلمذ؟ ألم يكفه ما في بطون الكتب من علم غزير؟ عبرة لك يا سيدي يا أخي يا حبيبي يا من ترشد الناس لقراءة كتب الصوفية. «تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية»، هذا عنوان كتاب السيوطي، وهو مطبوع. فابحث عنه عله يكون آخر ورقات تبحث فيها عن التربية الإحسانية، ولن تجد فيه إلا شهادة رجل صادق خشي كما تخشى أن يكتم شهادته، ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.]:
ليس السيوطي -على جلالة قدره- قدوة يُحتذى؛ فمن كان ناظرا، فلينظر إلى الصحابة رضي الله عنهم، كيف تلقوا العلم من معدنه صلى الله عليه وآله وسلم. هناك يبدو التديّن السليم المقرِّب إلى الله بأيسر الأسباب، قبل أن تمتاز صنوف العلم، وقبل أن يُبوّب الفقه. دائما كنت أشبه التدين لمن يسمع مني برضاع الرضيع من أمه، وأقول: هل يكون للرضيع علم بـ"الأم" ومرتبتها الوجودية منه (الأم بالنظر إلى الرضيع، كالوجود الواجب بالنظر إلى الإمكان؛ من جهة الدلالة، لا من جهة الحقيقة)؟... وهل يكون له علم بالثدي ووظيفته؟... وهل له علم بالحليب ومدى نفعه له؟... فيُجاب: لا. فأقول: كذلك التدين!... ينبغي أن تكون فيه مع إمام رباني، وأن تكون محتاجا مضطرا، لتأخذ منه بطريق الاستمداد، ما لا تعلم ترتيبه ولا صنفه ولا مدى نفعه في البداية. وكما أن الرضيع سيعلم ما كان عليه أمره عند تحقُّق نموه وكبره؛ فكذلك المتدين، سيعلم ما كان عليه عند مشارفته على النهاية. وأما الفقهاء الكسبيون (المشتغلون بعلوم الكسب)، هم في علومهم، كمن يطلب من الرضيع أن يتعلم كل ما سألنا عنه سابقا، ويزيد عليه بالتركيب الكيميائي للحليب، حتى يكون مؤهلا لالتقام ثدي أمه، وقبل أن يرتشف الرشفة الأولى. فقد يموت المسكين جوعا وظمأ قبل أن يتحقق له شيء من ذلك كله!... فلينظر المرء إلى مدى ابتعاد الناس عن السنة في التلقي؛ ولينظر كم تعسر التدين مع هذا الفهم السقيم!... فلو أخذنا توجيه الكاتب إلى قراءة الكتاب الفلاني، وإلى التشبه بفلان في تحصيل العلوم، ونظرنا في المقابل إلى الأمي الذي لا يُحسن ذلك من أصله، فإننا سنحكم على الأمي بعدم إمكان تحقيق أدنى مرتبة من القرب لديه. وهذا، بخلاف شمولية الدين لكل أصناف الناس، ومن غير تقسيم!... ولننظر إلى الصحابة المرضيين الذين كانوا جلهم أميين، وكيف أنهم صاروا من أعلم علماء الأمة؛ ولنسأل: ألسنا أمام نهجين في التعليم الديني متباينيْن؟... ألسنا قد ابتعدنا عن السنة في التعليم وفي التعلّم؟... ألم نخرج بالدين من دائرة ربانيته، حيث الأمر فيه بين الكاف والنون، إلى طريق أهل الفكر، حيث يُطلب من المرء تعلم عدة علوم إجرائية، من أجل بلوغ أهلية طلب علم من العلوم، ينبني في غالبه على الظن والتخمين!...
[تتلمذ خلق لا يكادون يحصون من الفقهاء في كل العصور للمشايخ من رجال الطريق. وتحدثوا عن مشايخهم، وقارنوا بين الفقهاء والصوفية وفاضلوا. استمع معي إلى حكم محدث بارز يقارن ويقوم، محدث تتلمذ للمشايخ الشاذلية كما تتلمذ السيوطي. إنه ابن حجر الهيثمي. قال: «فمستنبطو الفروع هم خيار سلف الأمة وعلماؤهم وعدولهم وأهل الفقه والمعرفة فيهم. فهم قوم غذوا بالتقوى وربوا بالهدى. أفنوا أعمارهم في استنباطها وتحقيقها بعد أن ميزوا صحيح الأحاديث من سقيمها وناسخها من منسوخها. فأصلوا أصولها ومهدوا فروعها. فجزاهم الله عن المسلمين خيرا وأحسن جزاءهم، كما جعلهم ورثة أنبيائه وحفاظ شرعه، ألحقنا الله بهم وجعلنا من تابعيهم بإحسان».]:
ابن حجر الهيتمي من كبار الفقهاء أهل النور!... فقد كانت تُقرأ علينا بعض أقواله، وكنا نجد لها نورا وبرهانا قلّما يكون للفقهاء؛ لكنه يدل على ما عرف هو من طريقه، ويظن أنه لا بد من السير فيه على خطواته. وهو معذور في هذا، لأنه صادق؛ والصادق لا يخبر إلا عن ذوقه. لكن الطريق في صورته الأصلية، وكما أوضحنا في الفقرة السابقة، أيسر من هذا وأوسع، من غير شك. والسؤال الآن هو: إن كنا قبلنا من الكاتب جمعه بين الغزالي وابن تيمية استثناء في هذا الكتاب، فكيف يجمع الآن بين ابن تيمية وابن حجر الهيتمي، وهو من يقول عن ابن تيمية: [وإياك أن تصغي إلى ما في كتب ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وغيرهما، ممن اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله! وكيف تجاوز هؤلاء الملحدون الحدود، وتعدوا الرسوم، وخرقوا سياج الشريعة والحقيقة، فظنوا بذلك أنهم على هدى من ربهم، وليسوا كذلك!] [2]؟... فهل غاب عن صاحبنا هذا التباعد بين الرجلين؟... أم إنه يريد الجمع بين ما لا يجتمع، لغرض من الأغراض؟... ومع كل هذا، فإننا نقول: كل ما نقله الأستاذ عن ابن حجر هو كلام عام لا يعول عليه.
[ويكتب عن العارفين الصوفية: «العارفون بالله الذين وفقهم الله لأفضل الأعمال، وحفظهم من سائر المخالفات في كل الأحوال. ثم كشف لهم الغطاء فعبدوه كأنهم يرونه، واشتغلوا بمحبته عما سواه. وأطلعهم على عجائب ملكه، وغرائب حكمه، وقربهم من حضرة قدسه، وأجلسهم على بساط أنسه، وملأ قلوبهم بصفات جماله وجلاله، وجعلها مطالع أنواره، ومعادن أسراره، وخزائن معارفه، وكنوز لطائفه. وأحيى بهم الدين، ونفع بهم المريدين، وأغاث بهم العباد، وأصلح بهم البلاد».]:
كل ما قاله ابن حجر عن العارفين، هو ينطبق على المريدين من طور النهاية فحسب؛ ويبقى العارفون من أهل التحقق مجهولين له وللكاتب من بعده. سمعت الكاتب مرة يقول، في إحدى حلقات برنامج "مراجعات" على قناة "الحوار" الفضائية، وبعد أن لقبه المحاور بـ"الشيخ": "إن الشيخ أمره عظيم، وما أنا إلا أستاذ؛ هذه كانت مهنتي، وأنا أحب أن ألقب بها" (أو ما في معناه). فأكبرت في الأستاذ عبد السلام صدقه، وعدم قبوله بلباس الثوب الزور. ولكن مع هذا، فأتباعه يعاملونه وكأنه ما قال ذلك ولا فاه به؛ وهم لا يعلمون أنهم في الحقيقة بذلك يكذبونه!... فكيف يُعظَّم الشخص ويُكذّب في الآن عينه!... لا نظن هذا يُستساغ إلا من قِبل عقلنا العربي المعتل!...
[ثم يتحدث عن الفقهاء ليعقد المقارنة فيقول: «علماء الظاهر الذين عرفوا رسوم العلوم الكسبية، وعويصات الوقائع الفعلية والقولية، وغرائب البراهين العقلية والنقلية، حتى حفظوا سياج الشرع من أن يلم به طارق، أو يخرقه مبتدع مارق. فالأولون (أي العارفون) أفضل، وإن كان للآخرين (الفقهاء حماة الشريعة) فضل عظيم، بل ربما كانوا أفضل من حيثية لا مطلقا».]:
كلام الهيتمي هنا صحيح ودقيق، لا يصدر إلا عن فقيه مثله. والحيثية التي يكون الفقهاء فيها أفضل من العارفين من غير الفقهاء (الجامعين)، هي اصطفاء الله لهم، ليكونوا نوابا عن الرسالة في الأمة. فهم حفاظ الشريعة وحراسها حقيقة، ومن دونهم يندثر الدين ويفسق الناس أو يكفرون. لكن هذا ما يكون عليه الأمر مع الفقهاء من أمثال الهيتمي نفسه، لا مع فقهاء زماننا، الذين صاروا أبخل من رجال البنوك، وأجهل من سفهاء الناس، وألأم من الشياطين، وأجود بالدين من التاجر بالبضاعة الفاسدة، وأشد طلبا للدنيا من الكافر الذي لا يؤمن بآخرة!... هيهات، هيهات!...
[الشهادة القولية الصادرة عن الفحول من علماء الأمة وأئمتها لها وزنها. والعبرة بالشهادة الفعلية أقوى وأبلغ. انقياد الفقهاء للمشايخ المربين، وانصياعهم لأمرهم، وتلقيهم بالتسليم والموافقة لتوجيهاتهم، ثم تعظيمهم لهم ومحبتهم إياهم واعترافهم بفضلهم تقرأ هذا في أثباتهم وفهارسهم، وفي كتب التاريخ والطبقات. فهل هي ظاهرة تدل على صبيانية رجال الإسلام أم هناك مادة نورانية لا تؤخذ من الكتب بل من قلوب أهل الصفاء والوفاء؟]:
يريد الكاتب أن يجعل لشهادة الشهداء محلا في استدلاله، لا يناسب إلا من كان أجنبيا عن الدين، أو تلقاه ممن عُسِّر عليه حتى صار يمشي على صراط معوج بدل الصراط المستقيم. وأما أهل الله، فليسوا في حاجة إلى شهادة أحد من المخلوقين؛ لأن الله هو من يشهد لهم كما شهدوا له. يقول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]؛ فشهادة الله للولي تدخل ضمن شهادة الله لنفسه أنه لا إله إلا هو. هم يعلمون هذا، ويعلمون كيف تكون هذه الشهادة، ويعلمون دلالتها لدى أهلها، لا عند غيرهم؛ أما الفقهاء، فلا يعلمون إلا الوجه الظاهر للكلام. وتكون شهادة الله للولي في نفسه أولا، ثم يَشهد له عند من شاء أن يُطلعه على خصوصية ذلك الولي، ثم يشهد له بإظهار فعله (فعل الله) من مظهره متى شاء سبحانه، وبإنفاذ إرادته (إرادة الله) عند إرادته.... فهل بعد شهادة الله يحتاج الولي أن يشهد له فقيه، وإن كان من مرتبة الهيتمي رضي الله عنه، أو ممن هو معظَّم في عين كاتبنا من سواه؟!...
[إن من لا حرقة في نفسه إلى معرفة الله لا يبحث، وإن بحث فلمجرد الاطلاع وإرضاء الفضول.]:
ونحن نقول: من كانت صفته الفضول وحب الاطلاع، لا يعد باحثا من الأصل؛ ولا يكون مؤهلا للسير في الطريق إلى الحق. وحتى من وجد شوقا إلى معرفة الحق وأصابته حرقته، فلن يبلغ حال من اصطفاهم الله واجتباهم ابتداء. وإنما الناس يقيسون بفكرهم، لذلك يعظمون من يقاسي شدائد الحيرة، على من تأتيه المنح وهو مستلق في بيته. ولو تنبهوا، لعلموا أن هذا الصنف من المقربين أقرب إلى حال الأنبياء عليهم السلام من غيرهم. ولكنه الفقه ومنطقه مرة أخرى...
[باحث عن الحق صارم ترك لنا بمجموع تاريخه وثروة فكره وثمين مؤلفاته شهادة بليغة كانت لأجيال المسلمين منذ تسعة قرون معينا لا ينضب من الفهم والاقتداء والانتقاد والأخذ والرد أيضا. إنه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه، الجبل الراسخ الذي لا يسع المفكر ولا العالم ولا الفقيه ولا الصوفي ولا السياسي ولا الباحث عن أسرار النفس البشرية ولا المؤرخ للفكر الإسلامي والإنساني أن يمروا به مر الكرام. بعضهم يقرأ نقدا لهذه الفكرة أو تلك النظرة من نظرات الغزالي وفكره فيسد عليه النقد الهدام بأنقاضه منافذ التمييز. إن أخطأ الغزالي في جزئية فالبشر معدن الخطأ. ويكون ماذا إن انتقده فلان أو علان؟ أنت ماذا جنت يداك، ماذا فعلت بحياتك يا من يلهو بقراءة جدل الرجال؟]:
أبو حامد حجة رضي الله عنه، لكن على المفكرين، لا على غيرهم من أهل التعليم الإلهي. وقد كان حريا بالكاتب، لو أنه كان يعلم قدر الغزالي، أن لا يجمع بينه وبين ابن تيمية في كتاب واحد؛ لأن معاملة العالم ميتا، كمعاملته حيا سواء بسواء. وهذا الخلط الذي لدى الكاتب، يجعل الناظر يشك في أمره: فإما هو جاهل بما يخوض فيه، وإما هو مغرض. والأمران معا، كنا نود أن ننزه الأستاذ عبد السلام عنهما؛ لو وجدنا ذريعة إلى ذلك...
[أبو حامد بحث واستقصى، ثم اضطر آخر الأمر لرجل يعلمه دينه. فماذا قال أبو حامد، وما يفيدني أنا ما شهد به أبو حامد في قضيتي مع ربي؟]:
أبو حامد رجع عن طريق الفقهاء بعد أن بلغ مداه، فكان أولى بالفقهاء أن يعتبروا به، لا أن يُدعى العوام إلى اقتفاء أثره؛ ولكن صاحبنا أخذته العادة بعيدا حتى عن القياس العقلي السليم.
[كتاب «المنقذ من الضلال» كتاب عظيم الفائدة على صغر حجمه. لخص فيه حجة الإسلام مسيرته وحيرته وأخطاءه وسلوكه. قال: «ثم إني لما فرغت من هذه العلوم (العلوم النقلية والعقلية في عصره قتلها دراسة ونقاشا) أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم لا تتم إلا بعلم وعمل. وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة، وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل إلى تخلية القلب عن غير الله، وتحليته بذكر الله. (…) فلم أزل أفكر فيه مدة، وأنا بعد على مقام الاختيار أصمم العزم على الخروج من بغداد، ومفارقة تلك الأحوال يوما (الأحوال التي كان فيها هي منصبه المرموق مدرسا في «النظامية» أكبر «جامعة» في بغداد وسمعته كفقيه تشد لفتواه الرحال). قال: وأحل العزم يوما، وأقدم فيه رجلا وأؤخر عنه أخرى. لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة إلا وتحمل عليها جند الشهوة حملة فتفترسها عشية. فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل! فلم يبق من العمر إلا القليل! وبين يديك السفر الطويل! وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل. فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية، وينجزم العزم على الهروب والفرار. ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حالة عارضة، إياك أن تطاوعها، فإنها سريعة الزوال. فإذا أعرضت عنها وتركت هذا الجاه العريض والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمن الصافي عن منازعة الخصوم، ربما التفتت إليه نفسك، ولا يتيسر لك المعاودة».]:
الفقهاء تلامذة الصوفية
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله:
[وكذلك من أعيان الفقهاء من جميع المذاهب تجد الفقيه بعد استكمال طلبه للعلم أو أثناء الطلب يلتمس وليا مرشدا يصقل قلبه بالإحسان.]:
لا شك أن الكلام هنا صحيح؛ لكنه ناشئ عن تصور مغلوط لجل المسلمين، يظنون به أن التقرب من الله يكون بتحصيل العلوم الشرعية على المعهود منها لدى العلماء المتخصصين. ويرون أن الفقه بالأحكام هو أساس هذا التحصيل الذي يأتي من بعده التخصص في الحديث أو في التفسير أو في أصول الدين. وقد جعل الأستاذ التصوف هنا تكميلا لفقه الفقهاء، من دون أن يشير إلى أن تعلم الفقه بالطريقة "الأكاديمية" ليس شرطا في التدين من الأصل، وإنما جاء ذلك بعد تراكم الأقوال على مدى الأعصر، وبعد دخول المناهج العقلية في الغربلة والترجيح. نعني من هذا أن التدين في أصله لا بد أن يكون ميسرا يستطيعه كل أحد، وإلا كان العمل معاكسا لأصل التيسير المنصوص عليه في الوحي. فمن القرآن قول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، ومن الحديث الشريف قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ. فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ.» [1]. وأما الواجب تعلمه من الفقه، على العباد، فهو ما تقوم به عبادتهم. وأول ما يتعلق به الفقه، الصلاة والمعاملات، ثم يأتي الصوم عند البلوغ. ويتعين فقه الزكاة على من تحقق لديهم النصاب من المال دون غيرهم. ويبقى فقه الحج إلى وقت إرادته، بحسب الاستطاعة. هذا كله من جهة التعين الشخصي؛ وأما من جهة الكفاية، فلا بد من تخصص بعض المسلمين من كل بلد، بجميع فروع الفقه، ليكونوا معلمين لغيرهم وقت اللزوم. غير أن الناس مع إيغالهم في الغفلة، نسوا أن الفقه وسيلة إلى التدين، وجعلوه التدين عينه أو شطره الأعظم. وصار الدين مع هؤلاء معلومات، يجمعها العبد طول عمره، وكأنه ذاهب إلى الآخرة لاجتياز امتحان التخرج. وذِكر الكاتب لعدم استغناء الفقهاء عن التتلمذ للصوفية، من دون تفصيل لمعنى الفقه عند الناس، يجعل الذهن ينصرف منهم إلى تكميل معلومات تتعلق بالإحسان، كما أشار هو رحمه الله. وهذا الالتباس نشأ عند الكاتب والناس من بعده، لعدم علمهم بمرتبة الإيمان، التي ينبغي أن تكون هي المرحلة الثانية من تديّن العبد، إن شمر لسلوك الطريق، وخرج عن زمرة القانعين بالمرتبة الأولى المشتركة. وببقاء معنى الإيمان مجهولا، سيكون الإحسان مجهولا أيضا؛ لأن الإحسان هو إحسانٌ (إتقان وإجادة) للإيمان نفسه. ولقد وقع الجهل بالإيمان، عندما اشتغل أصحاب مرتبة الإسلام به، من كونه معلومات (عقائد) صاغوها صياغة عقلية، ورتبوها ترتيبا خاصا بحسب كل فرقة، وظنوا أن ذلك يغني عن الترقي إلى المرتبة الثانية؛ بل إنهم لم يعلموا معنى الترقي من الأصل. فكان نشوء علم الكلام، إيذانا باكتفاء شطر كبير من الأمة بمرتبة الإسلام، من الناحية الذوقية العملية؛ بل إن إسلامهم ذاته قد شابه ما خاضوا فيه من العقائد بعقولهم، فنزلوا عن كمال مرتبة الإسلام الذي يتحقق في الغالب للعوام دونهم. وهذا من أعجب ما يحصل لعلماء الدين، وهم لا يشعرون؛ بل يستبعدونه ويحيلونه!... وعلى هذا، فمن اشتغل بالعقائد على طريقة المتكلمين لن يعلم الإحسان، وهو لم يؤمن الإيمان التفصيلي (إيمان المرتبة)؟!... لهذا سيبقى كلام الأستاذ عاما، لا ينفع كثيرا.
[هذا الإمام السيوطي جامع علوم عصره المتبحر المتفنن الذي نازع معاصريه الزعامة وقارعهم بعناده واعتداده بنفسه يلجأ إلى المشايخ الشاذلية يتخذهم قدوة وأدلة. كتب في «حسن المحاضرة» دعواه، وهو جدير بها رحمه الله: «رزقت التبحر في سبعة علوم التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع على طريقة العرب والبلغاء لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة. والذي أعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم الستة، سوى الفقه والنقول التي اطلعت عليها منها، لم يصل إليه ولا وقف عليه شخص من الأشخاص. فضلا عمن هو دونهم.]:
إيراد الكاتب لهذا الكلام، يدل على أنه ما زال مقيدا بالطريقة الأكاديمية التقليدية؛ وبهذا فإنه يكون جاهلا بالتدين في صورته الأصلية، وإن كان لا يخلو عنه. وهذا أمر يحصل لكثيرين، نعني أنهم يحلون في بعض المقامات من دون أن يعلموها، بسبب الخلط الذي هم عليه؛ بعكس من كانوا على الصورة البسيطة من التدين، التي كان عليها الصحابة، ويكون عليها الأميون. لهذا نحن هنا نتكلم عن الجانب العلمي، وبالصورة التي يُقدَّم فيها إلى الناس، لا بما يكونون عليه من تدين في الجانب العملي. ونعني مرة أخرى، أن المرء قد يكون على تدين سليم جزئيا، وإن كان هذا نادرا؛ ولكنه من جهة العلم لا بد أن يكون على معلومات مفككة ومبعثرة، كما هو شأن مقلدة الفقهاء والمتصوفة. وهذا الخلط والاجتزاء، سيجعلان الوصول إلى كمال التدين، ببلوغ معرفة الحق تعالى، والتي هي غاية الغايات، يشترط في نظر الناظر من هؤلاء، ما ذكره السيوطي من علوم، وما يظن كاتبنا أنه مشروط؛ بخلاف ما هو الأمر عليه عند إتيان العبد لأعمال الإسلام، على شوق إلى الله وصدق في معاملته سبحانه فحسب. وكأن الإنسان -لجهله- لا يعجبه في كثير من الأحيان أن يكون وصوله إلى الحق سهلا ميسرا؛ وقد أخبر الله عن قربه سبحانه، بأكثر مما يتوهم عبده. يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، ويقول سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]. وكأن العبد بإبعاده في تصور الطريق إلى الله، يستعيض عن التشريع الإلهي، بما يشرعه لنفسه جزئيا، عندما يعيد صياغة أعمال التقرب بحسب هواه. وقد يكون هذا العمل منه في الغالب، بدافع التنزيه غير الشرعي، فلا يكاد يُشعر به. وما رأينا من يفرق بين الطريقين سوى من تزكى على أيدي كبار شيوخ الصوفية. ولقد رأينا -رأي العين- من الأميين الواصلين، من صار بحرا في العلم من دون أن يشتغل بالعلوم أو يسلك طريقها؛ ورأينا احتياج العلماء في العرف إلى توجيهاته في علومهم، في مشهد قلّ من يصدق به من أهل زماننا. فهذا هو ما نسميه نحن التدين في صورته الأصلية، التي لا يُحتاج فيها إلا إلى الصدق في معاملة الله. وعلى هذا الأصل كان عمل الصحابة رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان؛ لا يشك في هذا، إلا من انطمست بصيرته!...
وأما قطع السيوطي -رحمه الله- بوصوله إلى مرتبة في العلم لم يصل إليها أحد من الأشخاص، فهو من صدق الجاهلين. نعني من هذا، أنه قد حكم على من يعلم من العلماء، أنهم لا يبلغون علمه في العلوم المذكورة؛ وهو -رحمه الله- أجل من أن يحكم بغير ما يعلم. ولكنه لم يعلم أن لله في كل زمان، أشخاصا لا يعرفون بالعلم بين الناس، يعلمون من دقائق العلم، ما لا يخطر له على بال. ولو أنه اتخذ قصة موسى مع الخضر -عليهما السلام- إماما في تبيّن أمور الزمان، لعلم أنه كان من فريق موسى؛ وأنه لا علم له بفريق الخضر من أهل زمانه. ولكن عدم العلم على التعيين، لا ينبغي معه إغفال العبد لما دل عليه القرآن، إن حالفه التوفيق. وهذا الذي نقول، هو من تنزيل المعاني القرآنية على الأزمنة كلها، بحيث لا يتخلف شيء منها في أي زمن من الأزمان. وهو علم عجيب، من أوتيه يكون كمن حضر تنزل القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الزمن الأول. ولا فرق بينه وبين الصحابة، إلا من جهة تغير صور التنزيل (المظاهر) فحسب.
[وأما علم الحساب فهو أعسر شيء علي وأبعده عن ذهني. وإذا نظرت في مسألة تتعلق به فكأنما أحاول جبلا أحمله. وقد كملت عندي آلات الاجتهاد»]:
نحن نُدرك تأثر السيوطي ببيئته العلمية، ونعرف له مكانته بحمد الله؛ لكن التدين الذي نتكلم عنه أبسط مما يدل عليه بكثير، وأنفع في التقرب إلى الله بما لا يقارن. ثم إن الاجتهاد الذي يعده فقهاء مرتبة الإسلام أعلى درجة في العلم، ليس هو كذلك؛ بل هو أعلى ما يكون عليه الفقيه (بالمعنى الاصطلاحي) وحده. وإنه يقع للمريدين في أول سلوكهم، ما لا يتمكن من بلوغه اجتهاد مجتهد. ولقد حدث للعبد الضعيف عند بداية سلوكي، في الأسابيع الأولى إن لم يكن في الأيام الأولى من ذكر ورد شيخي، وأنا في حوالي العشرين من عمري أو أزيد قليلا، أن صرت أتكلم في معنى الذات الذي يُدرك من وراء الصفات الحقية والخلقية. فظننت أني آخر من يعلم هذا وأن من سبقني بالزمان من المريدين، لا بد وأنهم سيجدون ما ظهر لي من المبادئ الأولى إلى جنب ما هم عليه. وقد كنت -بحمد الله- شديد الاحتقار لنفسي، لا أكاد أطيق أن أنسب إليها شيئا. وفي جلسة مع أخ لي في التربية، وقد آنسني لأبدي له ما عندي، ويبدو أنه كان مترقبا لفعل الذكر فيّ بعكسي أنا، من كان داخلا إلى مجال لا يعرف منه لا ظاهرا ولا باطنا. فلما بدأت أكلمه فيما ظهر لي، وأنا أتخوف أن يخطِّئني أو أن ينهرني وينهاني عما أخوض فيه (والكلام على كل حال فوق طوري حينئذ)، فوجئت به بعد مدة العرض (ولم تكن قصيرة) يقول: لم أفهم شيئا مما قلت. فسكتّ، وغيرنا مجرى الحديث. وأنا أقول الآن بعد ما يقرب من الأربعين سنة بعد الحادثة المذكورة، لو أني أعرض كلامي ذاك على أكبر علماء الأرض، ممن يعرفون بالعلم عند الناس، لما عقله. فكيف -بعد هذا- يعظَّم اجتهاد يكون وارد من واردات مريد مبتدئ أعلى منه!...
[ما بال مثل هذا الرجل المعتز بعلمه، المنفرد في عصره بالاطلاع الواسع، المؤلف المرموق، المقرب إلى «خليفة» عصره المتوكل على الله العباسي، المحسود من طرف فقهاء مصر، خاضوا ضده معارك حامية، يذهب إلى المشايخ أهل الطريق يخضع لهم ويتتلمذ؟ ألم يكفه ما في بطون الكتب من علم غزير؟ عبرة لك يا سيدي يا أخي يا حبيبي يا من ترشد الناس لقراءة كتب الصوفية. «تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية»، هذا عنوان كتاب السيوطي، وهو مطبوع. فابحث عنه عله يكون آخر ورقات تبحث فيها عن التربية الإحسانية، ولن تجد فيه إلا شهادة رجل صادق خشي كما تخشى أن يكتم شهادته، ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.]:
ليس السيوطي -على جلالة قدره- قدوة يُحتذى؛ فمن كان ناظرا، فلينظر إلى الصحابة رضي الله عنهم، كيف تلقوا العلم من معدنه صلى الله عليه وآله وسلم. هناك يبدو التديّن السليم المقرِّب إلى الله بأيسر الأسباب، قبل أن تمتاز صنوف العلم، وقبل أن يُبوّب الفقه. دائما كنت أشبه التدين لمن يسمع مني برضاع الرضيع من أمه، وأقول: هل يكون للرضيع علم بـ"الأم" ومرتبتها الوجودية منه (الأم بالنظر إلى الرضيع، كالوجود الواجب بالنظر إلى الإمكان؛ من جهة الدلالة، لا من جهة الحقيقة)؟... وهل يكون له علم بالثدي ووظيفته؟... وهل له علم بالحليب ومدى نفعه له؟... فيُجاب: لا. فأقول: كذلك التدين!... ينبغي أن تكون فيه مع إمام رباني، وأن تكون محتاجا مضطرا، لتأخذ منه بطريق الاستمداد، ما لا تعلم ترتيبه ولا صنفه ولا مدى نفعه في البداية. وكما أن الرضيع سيعلم ما كان عليه أمره عند تحقُّق نموه وكبره؛ فكذلك المتدين، سيعلم ما كان عليه عند مشارفته على النهاية. وأما الفقهاء الكسبيون (المشتغلون بعلوم الكسب)، هم في علومهم، كمن يطلب من الرضيع أن يتعلم كل ما سألنا عنه سابقا، ويزيد عليه بالتركيب الكيميائي للحليب، حتى يكون مؤهلا لالتقام ثدي أمه، وقبل أن يرتشف الرشفة الأولى. فقد يموت المسكين جوعا وظمأ قبل أن يتحقق له شيء من ذلك كله!... فلينظر المرء إلى مدى ابتعاد الناس عن السنة في التلقي؛ ولينظر كم تعسر التدين مع هذا الفهم السقيم!... فلو أخذنا توجيه الكاتب إلى قراءة الكتاب الفلاني، وإلى التشبه بفلان في تحصيل العلوم، ونظرنا في المقابل إلى الأمي الذي لا يُحسن ذلك من أصله، فإننا سنحكم على الأمي بعدم إمكان تحقيق أدنى مرتبة من القرب لديه. وهذا، بخلاف شمولية الدين لكل أصناف الناس، ومن غير تقسيم!... ولننظر إلى الصحابة المرضيين الذين كانوا جلهم أميين، وكيف أنهم صاروا من أعلم علماء الأمة؛ ولنسأل: ألسنا أمام نهجين في التعليم الديني متباينيْن؟... ألسنا قد ابتعدنا عن السنة في التعليم وفي التعلّم؟... ألم نخرج بالدين من دائرة ربانيته، حيث الأمر فيه بين الكاف والنون، إلى طريق أهل الفكر، حيث يُطلب من المرء تعلم عدة علوم إجرائية، من أجل بلوغ أهلية طلب علم من العلوم، ينبني في غالبه على الظن والتخمين!...
[تتلمذ خلق لا يكادون يحصون من الفقهاء في كل العصور للمشايخ من رجال الطريق. وتحدثوا عن مشايخهم، وقارنوا بين الفقهاء والصوفية وفاضلوا. استمع معي إلى حكم محدث بارز يقارن ويقوم، محدث تتلمذ للمشايخ الشاذلية كما تتلمذ السيوطي. إنه ابن حجر الهيثمي. قال: «فمستنبطو الفروع هم خيار سلف الأمة وعلماؤهم وعدولهم وأهل الفقه والمعرفة فيهم. فهم قوم غذوا بالتقوى وربوا بالهدى. أفنوا أعمارهم في استنباطها وتحقيقها بعد أن ميزوا صحيح الأحاديث من سقيمها وناسخها من منسوخها. فأصلوا أصولها ومهدوا فروعها. فجزاهم الله عن المسلمين خيرا وأحسن جزاءهم، كما جعلهم ورثة أنبيائه وحفاظ شرعه، ألحقنا الله بهم وجعلنا من تابعيهم بإحسان».]:
ابن حجر الهيتمي من كبار الفقهاء أهل النور!... فقد كانت تُقرأ علينا بعض أقواله، وكنا نجد لها نورا وبرهانا قلّما يكون للفقهاء؛ لكنه يدل على ما عرف هو من طريقه، ويظن أنه لا بد من السير فيه على خطواته. وهو معذور في هذا، لأنه صادق؛ والصادق لا يخبر إلا عن ذوقه. لكن الطريق في صورته الأصلية، وكما أوضحنا في الفقرة السابقة، أيسر من هذا وأوسع، من غير شك. والسؤال الآن هو: إن كنا قبلنا من الكاتب جمعه بين الغزالي وابن تيمية استثناء في هذا الكتاب، فكيف يجمع الآن بين ابن تيمية وابن حجر الهيتمي، وهو من يقول عن ابن تيمية: [وإياك أن تصغي إلى ما في كتب ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وغيرهما، ممن اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله! وكيف تجاوز هؤلاء الملحدون الحدود، وتعدوا الرسوم، وخرقوا سياج الشريعة والحقيقة، فظنوا بذلك أنهم على هدى من ربهم، وليسوا كذلك!] [2]؟... فهل غاب عن صاحبنا هذا التباعد بين الرجلين؟... أم إنه يريد الجمع بين ما لا يجتمع، لغرض من الأغراض؟... ومع كل هذا، فإننا نقول: كل ما نقله الأستاذ عن ابن حجر هو كلام عام لا يعول عليه.
[ويكتب عن العارفين الصوفية: «العارفون بالله الذين وفقهم الله لأفضل الأعمال، وحفظهم من سائر المخالفات في كل الأحوال. ثم كشف لهم الغطاء فعبدوه كأنهم يرونه، واشتغلوا بمحبته عما سواه. وأطلعهم على عجائب ملكه، وغرائب حكمه، وقربهم من حضرة قدسه، وأجلسهم على بساط أنسه، وملأ قلوبهم بصفات جماله وجلاله، وجعلها مطالع أنواره، ومعادن أسراره، وخزائن معارفه، وكنوز لطائفه. وأحيى بهم الدين، ونفع بهم المريدين، وأغاث بهم العباد، وأصلح بهم البلاد».]:
كل ما قاله ابن حجر عن العارفين، هو ينطبق على المريدين من طور النهاية فحسب؛ ويبقى العارفون من أهل التحقق مجهولين له وللكاتب من بعده. سمعت الكاتب مرة يقول، في إحدى حلقات برنامج "مراجعات" على قناة "الحوار" الفضائية، وبعد أن لقبه المحاور بـ"الشيخ": "إن الشيخ أمره عظيم، وما أنا إلا أستاذ؛ هذه كانت مهنتي، وأنا أحب أن ألقب بها" (أو ما في معناه). فأكبرت في الأستاذ عبد السلام صدقه، وعدم قبوله بلباس الثوب الزور. ولكن مع هذا، فأتباعه يعاملونه وكأنه ما قال ذلك ولا فاه به؛ وهم لا يعلمون أنهم في الحقيقة بذلك يكذبونه!... فكيف يُعظَّم الشخص ويُكذّب في الآن عينه!... لا نظن هذا يُستساغ إلا من قِبل عقلنا العربي المعتل!...
[ثم يتحدث عن الفقهاء ليعقد المقارنة فيقول: «علماء الظاهر الذين عرفوا رسوم العلوم الكسبية، وعويصات الوقائع الفعلية والقولية، وغرائب البراهين العقلية والنقلية، حتى حفظوا سياج الشرع من أن يلم به طارق، أو يخرقه مبتدع مارق. فالأولون (أي العارفون) أفضل، وإن كان للآخرين (الفقهاء حماة الشريعة) فضل عظيم، بل ربما كانوا أفضل من حيثية لا مطلقا».]:
كلام الهيتمي هنا صحيح ودقيق، لا يصدر إلا عن فقيه مثله. والحيثية التي يكون الفقهاء فيها أفضل من العارفين من غير الفقهاء (الجامعين)، هي اصطفاء الله لهم، ليكونوا نوابا عن الرسالة في الأمة. فهم حفاظ الشريعة وحراسها حقيقة، ومن دونهم يندثر الدين ويفسق الناس أو يكفرون. لكن هذا ما يكون عليه الأمر مع الفقهاء من أمثال الهيتمي نفسه، لا مع فقهاء زماننا، الذين صاروا أبخل من رجال البنوك، وأجهل من سفهاء الناس، وألأم من الشياطين، وأجود بالدين من التاجر بالبضاعة الفاسدة، وأشد طلبا للدنيا من الكافر الذي لا يؤمن بآخرة!... هيهات، هيهات!...
[الشهادة القولية الصادرة عن الفحول من علماء الأمة وأئمتها لها وزنها. والعبرة بالشهادة الفعلية أقوى وأبلغ. انقياد الفقهاء للمشايخ المربين، وانصياعهم لأمرهم، وتلقيهم بالتسليم والموافقة لتوجيهاتهم، ثم تعظيمهم لهم ومحبتهم إياهم واعترافهم بفضلهم تقرأ هذا في أثباتهم وفهارسهم، وفي كتب التاريخ والطبقات. فهل هي ظاهرة تدل على صبيانية رجال الإسلام أم هناك مادة نورانية لا تؤخذ من الكتب بل من قلوب أهل الصفاء والوفاء؟]:
يريد الكاتب أن يجعل لشهادة الشهداء محلا في استدلاله، لا يناسب إلا من كان أجنبيا عن الدين، أو تلقاه ممن عُسِّر عليه حتى صار يمشي على صراط معوج بدل الصراط المستقيم. وأما أهل الله، فليسوا في حاجة إلى شهادة أحد من المخلوقين؛ لأن الله هو من يشهد لهم كما شهدوا له. يقول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]؛ فشهادة الله للولي تدخل ضمن شهادة الله لنفسه أنه لا إله إلا هو. هم يعلمون هذا، ويعلمون كيف تكون هذه الشهادة، ويعلمون دلالتها لدى أهلها، لا عند غيرهم؛ أما الفقهاء، فلا يعلمون إلا الوجه الظاهر للكلام. وتكون شهادة الله للولي في نفسه أولا، ثم يَشهد له عند من شاء أن يُطلعه على خصوصية ذلك الولي، ثم يشهد له بإظهار فعله (فعل الله) من مظهره متى شاء سبحانه، وبإنفاذ إرادته (إرادة الله) عند إرادته.... فهل بعد شهادة الله يحتاج الولي أن يشهد له فقيه، وإن كان من مرتبة الهيتمي رضي الله عنه، أو ممن هو معظَّم في عين كاتبنا من سواه؟!...
[إن من لا حرقة في نفسه إلى معرفة الله لا يبحث، وإن بحث فلمجرد الاطلاع وإرضاء الفضول.]:
ونحن نقول: من كانت صفته الفضول وحب الاطلاع، لا يعد باحثا من الأصل؛ ولا يكون مؤهلا للسير في الطريق إلى الحق. وحتى من وجد شوقا إلى معرفة الحق وأصابته حرقته، فلن يبلغ حال من اصطفاهم الله واجتباهم ابتداء. وإنما الناس يقيسون بفكرهم، لذلك يعظمون من يقاسي شدائد الحيرة، على من تأتيه المنح وهو مستلق في بيته. ولو تنبهوا، لعلموا أن هذا الصنف من المقربين أقرب إلى حال الأنبياء عليهم السلام من غيرهم. ولكنه الفقه ومنطقه مرة أخرى...
[باحث عن الحق صارم ترك لنا بمجموع تاريخه وثروة فكره وثمين مؤلفاته شهادة بليغة كانت لأجيال المسلمين منذ تسعة قرون معينا لا ينضب من الفهم والاقتداء والانتقاد والأخذ والرد أيضا. إنه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه، الجبل الراسخ الذي لا يسع المفكر ولا العالم ولا الفقيه ولا الصوفي ولا السياسي ولا الباحث عن أسرار النفس البشرية ولا المؤرخ للفكر الإسلامي والإنساني أن يمروا به مر الكرام. بعضهم يقرأ نقدا لهذه الفكرة أو تلك النظرة من نظرات الغزالي وفكره فيسد عليه النقد الهدام بأنقاضه منافذ التمييز. إن أخطأ الغزالي في جزئية فالبشر معدن الخطأ. ويكون ماذا إن انتقده فلان أو علان؟ أنت ماذا جنت يداك، ماذا فعلت بحياتك يا من يلهو بقراءة جدل الرجال؟]:
أبو حامد حجة رضي الله عنه، لكن على المفكرين، لا على غيرهم من أهل التعليم الإلهي. وقد كان حريا بالكاتب، لو أنه كان يعلم قدر الغزالي، أن لا يجمع بينه وبين ابن تيمية في كتاب واحد؛ لأن معاملة العالم ميتا، كمعاملته حيا سواء بسواء. وهذا الخلط الذي لدى الكاتب، يجعل الناظر يشك في أمره: فإما هو جاهل بما يخوض فيه، وإما هو مغرض. والأمران معا، كنا نود أن ننزه الأستاذ عبد السلام عنهما؛ لو وجدنا ذريعة إلى ذلك...
[أبو حامد بحث واستقصى، ثم اضطر آخر الأمر لرجل يعلمه دينه. فماذا قال أبو حامد، وما يفيدني أنا ما شهد به أبو حامد في قضيتي مع ربي؟]:
أبو حامد رجع عن طريق الفقهاء بعد أن بلغ مداه، فكان أولى بالفقهاء أن يعتبروا به، لا أن يُدعى العوام إلى اقتفاء أثره؛ ولكن صاحبنا أخذته العادة بعيدا حتى عن القياس العقلي السليم.
[كتاب «المنقذ من الضلال» كتاب عظيم الفائدة على صغر حجمه. لخص فيه حجة الإسلام مسيرته وحيرته وأخطاءه وسلوكه. قال: «ثم إني لما فرغت من هذه العلوم (العلوم النقلية والعقلية في عصره قتلها دراسة ونقاشا) أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم لا تتم إلا بعلم وعمل. وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة، وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل إلى تخلية القلب عن غير الله، وتحليته بذكر الله. (…) فلم أزل أفكر فيه مدة، وأنا بعد على مقام الاختيار أصمم العزم على الخروج من بغداد، ومفارقة تلك الأحوال يوما (الأحوال التي كان فيها هي منصبه المرموق مدرسا في «النظامية» أكبر «جامعة» في بغداد وسمعته كفقيه تشد لفتواه الرحال). قال: وأحل العزم يوما، وأقدم فيه رجلا وأؤخر عنه أخرى. لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة إلا وتحمل عليها جند الشهوة حملة فتفترسها عشية. فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل! فلم يبق من العمر إلا القليل! وبين يديك السفر الطويل! وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل. فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية، وينجزم العزم على الهروب والفرار. ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حالة عارضة، إياك أن تطاوعها، فإنها سريعة الزوال. فإذا أعرضت عنها وتركت هذا الجاه العريض والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمن الصافي عن منازعة الخصوم، ربما التفتت إليه نفسك، ولا يتيسر لك المعاودة».]:
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin