إحسان الإحسان - 22 -
محبة رسول الله هي العروة الوثقى
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾. اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.]
[صلى الله على من قرنَ محبته واستحقاق المزيد من المحبة والمغفرة باتباعه حيث قال: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾. اللهم صل وسلم تسليما كثيرا على محمد وآله وصحبه الذي جعلت طاعته من طاعتك، ومعصيته والتولي عنه كفرا، وبيعته من بيعتك، ومحبته من محبتك، عبدك ونبيك ورسولك ومصطفاك من خلقك، العروة الوثقى وثوق كتابك الذي أنزلت، الحبل الممدود بينك وبين أحبابك وأصفيائك وأوليائك، سندا متصلا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي". ورواه أيضا الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.]:
هذه المقدمة لا يمكن أن يختلف عليها مسلمان من حيث المبدأ؛ ولكن عند تنزيل المعاني، على ما جرت العادة، يقع الاختلاف. والدليل هو اختلاف أهل السنة والشيعة، مع كون الجميع حريصين على محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومدعين لها. وأما الحديث المذكور، فقد تكلمنا عنه قليلا في الجزء السابق، وبيّنا أن الترابط بين مصاديق المحبة في التراتب الوارد لازم. وهكذا تكون علامة حب الله، حب نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا يقصي الكتابيين الذين يزعمون أنهم محبون لله، ومع ذلك يُنكرون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويؤذونه. ومحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقتضي محبة أهل بيته؛ وهذا يقصي النواصب الذين يؤذون العترة الشريفة وهم يزعمون أنهم من أهل السنة. سنة من؟!...
[لا فاصل بين حب الله وحب رسول الله وحب أهل بيت رسول الله، وإن تنوعت النعمة. وأعظم نعم الله علينا الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم. اللهم لك الحمد على ما تغذونا به من نعمك، ولك الحمد على نعمتك العظمى محمد حبيبك.]:
كما قلنا سابقا، ليس الاختلاف على المبدأ وإنما على التنزيل. وربما سنجد ما يجعلنا نتبيّن -إن شاء الله- مخالفة الناس للمبدأ، عند دخول الهوى والضلال عليهم.
[ولا حدود للتفاني في محبة الشخص الكريم على الله حتى يكون أحب إلينا من الناس أجمعين ومن أنفسنا. روى البخاري عن عبد الله بن هشام قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب. فقال له عمر: يا رسول الله! لأنت أحبُّ إلي من كل شيء إلا نفسي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده، حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك!" فقال عمر: فإنه الآن والله لأنْتَ أحبُّ إلي من نفسي! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر!".]:
هذا الحديث، على كثرة ما يُذكر على الألسن، قليل من الناس من يروز به إيمانه. ولو فعلوا، لوجدوا أنفسهم -في معظمهم- على نقص لا يخفى. بل إن جل متأخري المسلمين، لا يبلغون ضُعف الإيمان الذي كان عليه عمر رضي الله عنه قبل أن يترقى. ونعني من هذا، أن كثيرا من المسلمين وربما الإسلاميين، لا يحبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم المحبة اللائقة به؛ بل ينظرون إليه وكأنه لا يفضلهم إلا قليلا. وكأن الفكر الديمقراطي دخل على الناس دينهم، فما عادوا يقرون بمرتبة لأحد...
وما دل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «الآن يا عمر!»، هو علامة كمال إيمان العبد. وما استحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلك الدرجة من المحبة، إلا لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ كما أخبر الله تعالى في قوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]. ولم يكن أولى بالمؤمنين من أنفسهم، إلا لأنه أصلهم من جهة حقيقته؛ والأصل يسبق دائما على الفرع في المرتبة، حيث كانا. ذلك لأن أحكام الشرع، تعتبر الحقائق: فهي إن أعلت أحدا، فلِعلو مرتبته عند الله؛ وإن أنزلته في الاعتبار، فلنزوله في الحقيقة. وهذا أمر لا خبر للفقهاء عنه، ما داموا لا يعلمون الأحكام من جهة باطنها. ولهذا السبب، كان ينبغي عليهم الرجوع إلى الربانيين، عند انبهام الحكم الشرعي عليهم، ليدلّوهم عليه من جهة باطنه، لا من جهة الاستنباط المعلوم لديهم وحدها.
[مَلَكَ والله ناصيةَ التوفيق من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما،]:
عبارة: «من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما»، وردت في حديث متفق عليه، ومروي عن أنس رضي الله عنه. ومع ذلك فقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تثنية الضمير عند ذكر الله ورسوله في حديث آخر. فعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِم رضي الله عنهٍ، أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ! قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ!»[1]. ولعل السبب في ذلك، هو عدم علم الخطيب بحقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي سيجعل التثنية منه تثنية ذات، وهي محال. وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من مرتبة علمه بالله الفريدة، فإنه يعلم مناط التثنية في الكلام، ولا يغيّر من المعنى لديه أن يُفرد أو يثنّي. وكل من تعلم التوحيد الخاص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يُخاف عليه عند الكلام، بخلاف غيره ممن يتبعون الألفاظ وما تعطيه في العادة. وأما الكاتب، فنشك أن له علما بالتوحيد الخاص، وهو من يتبع ابن تيمية في جل ما يقول. وعلى هذا، فإن كان يأخذ تثنية الضمير على ما تعطيه اللغة وحدها، فإنه يكون بئس المتكلم والكاتب هو أيضا؛ لأنه يدل على باطل ويتصور باطلا.
[وذاق حلاوة الإيمان، وأشرف على مشارف الإحسان، ودحض مزاعم الشيطان الذي يزعم أن التفاني في حب الذات المحمدية غلو. يا شيطان، هذه أنوار حبه الشريف المنيف فهل من محيص!]:
استعمال الكاتب للفظ "الذات" ونسبته إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يحتاج إلى توضيح. فإن كان يستعمل الكلمة على ما تعطيه لدى المغاربة، الذين يقصدون منها الشخص من كونه جسما وروحا، فلا بأس منه؛ وإن كان يستعمل الكلمة بإزاء الذات الإلهية، فهو شرك. ولعل ما سيأتي من الكتاب سيفصح عن معتقد الكاتب في هذه المسألة، لنثبته ونبني عليه في ردودنا. نقول هذا، لأن ابن تيمية مشرك في هذه المسألة، وأتباعه كلهم مشركون؛ ولو أنهم لم يخوضوا فيما هو فوق طورهم، لشملهم العفو الإلهي كما يشمل العامة من المسلمين. ولكنهم بكلامهم فيما لا يعلمون سيُحاسبون وربما يُعاقبون، إن لم يغفر الله لهم. وذلك لأن ابن تيمية، لم يتمكن من تصور الذات الإلهية على غير ما يعلم من ذوات المخلوقات، لضعف عقله. ومن هنا دخل عليه التجسيم، وإن بالغ في التنزيه بحسب ما يتصور هو منه. ولو علم أن الخلق هم من يُقاسون على الحق، لا العكس، لسكت أو لطلب علم ذلك عند أهله. ولكنه مقامه، دعاه إليه فلبّى، من دون أن يعلم حقيقة ما هو عليه؛ كما حدث مع إبليس عندما دعاه مقامه، فرفض السجود لآدم. ولهذا السبب كنا -نحن- نحذّر من اتباع ابن تيمية في ضلالاته، وإن كانت تبدو في أعين من هم مثله أو دونه علما، مترابطة ومؤصَّلة. وخلاصة القول في المسألة، هو أن الذات الإلهية لا ذات معها؛ وإنما هي مظاهر الأسماء تتعدد بتعددها. وشتان ما بين الأمرين، لمن كان له تمييز...
[كان عند الصحابة رضي الله عنهم من المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغ بهم أن يفتدوه بالمهج، ومن التعظيم والهيبة لذلك الجناب ما يُخرس الألسن ويغض الأبصار ويُطوِّق الأنفس بِحَرَس من جلاله صلى الله عليه وسلم وجماله. إنه رسول الله! وكفى.]:
يظن الكاتب أنه بهذه العبارات قد أصبح كالصحابة في العلم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو يظن أنه -على الأقل- قاربهم، أو على نهجهم يسير؛ وهيهات!... كان ينبغي عليه أن يخبرنا لمَ كان الصحابة يعظمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل ذلك التعظيم، مع أن ثقافتهم لم تكن تعطي ذلك؛ وهم من لم يعرفوا تعظيم الملوك، كما عرفته سائر الأمم المجاورة!... ونحن نقول -وهذا من علوم مرتبة الإحسان التي أفرد الكاتب لها هذا الكتاب زعما- لولا أن الصحابة المرضيين، كانوا يشهدون الحق فيه صلى الله عليه وآله وسلم، من كونه وجه الله المذكور في الكتاب، لما صدر منهم تجاهه ما صدر، وهم من لم يعتادوا تعظيم البشر كما أسلفنا. وإن تقرر هذا، فأين الكاتب من هذا الشهود السُّنّيّ؟ وأين دلالته عليه؟!...
[وكان عند التابعين والسلف الصالحين من محبته وتعظيمه مثلُ ما كان عند الصحابة. ذكر القاضي عياض رحمه الله في "الشفاء" أن مَالكاً رحمه الله سئل عن أيوب السختياني فقال: "ما حدثتكم عن أحدٍ إلا وأيوب أفضل منه. قال: وحج حجتين، فكنت أرمُقه فلا أسمع منه غير أنه إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه.]:
لقد أجاب الكاتب عن سؤالنا السابق، عند إتيانه بكلام مالك عن أيوب السختياني. فهو يأتي بكلام العوام (عوام في المعرفة وإن كانوا علماء)، في أحوال العوام؛ وهذا يجعلنا نعلم أنه على محبة العوام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى علمهم. ولقد كان ينبغي له -والكتاب كتاب إحسان- أن يأتي بما هو من محبة الكبار من أهل الله، أو على الأقل بمحبة أهل الإحسان. وحبذا لو زان ذلك بذكر أحوال كبار الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن لم يكن فبذكر أحوال من دونهم من الصحابة، لعلنا نخرج من هذه النظرة النمطية التي يرسخها الفقهاء بين الناس؛ حتى أصبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقيها أكبر في نظر العموم، وأصبح الصحابة كحال عوامنا من كل زمان. فنزل الدين بهذه الصورة الشائهة، إلى ما لا مزيد عليه!... فإنا لله وإنا إليه راجعون!...
[قال عياض: "وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعُب ذلك على جلسائه. فقيل له يوما في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيتُ لما أنكرتم عليَّ ما ترون: لقد كنت أرى محمد بن المنكدر، وكان سيد القراء، لا نكاد نَسأله عن حديث أبدا إلا بكى حتى نرحمه. ولقد كنت أرى جعفر بن محمد (وهو الإمام جعفر الصادق من آل البيت)، وكان كثير الدُّعَابَة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهَارة. ولقد اختلفتُ إليه زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إمّا مصليا، وإما صامتا، وإما يقرأ القرآن. ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعُباد الذين يخشون الله".]:
كلام القاضي عياض فيه خلط، لأنه يخلط بين أحوال مالك وأحوال جعفر الصادق عليه السلام، وهما من مرتبتين مختلفتين. وهذا النقل من الكاتب، لا يدل إلا على خلطه في نفسه، ما دام لم يعرض لما ذكرنا، ولا فصل القول فيه. فهو يكتفي من الجميع بتغير اللون أو بالبكاء، ولا يعلم أنه شتان بين باك وباك!... واعتبار جعفر الصادق "من العلماء والعُباد الذين يخشون الله"، إن لم يفصّل القول في معنى "علمه" عليه السلام، أو معنى "عبادته"، هو سوء أدب معه لا ثناء؛ لأنه سيُقارن إلى من هم دونه. وإن الضرر الناتج عن الخلط في المراتب، حتى يصير الأدنى شبيها للأعلى ومشاركا له في الصفة، قد استمر في الأمة قرونا، وتسبب لها في اختلاط صفوفها، وبالتالي في فساد نظامها. وإنه قد آن الأوان لإعادة الأمور إلى نصابها، بإعادة ترتيب الأشخاص والكلام، بحسب ما يعطيه العلم بالمراتب، إن كنا نريد العودة إلى أصل الحال؛ خصوصا ونحن نترقب مقدم زمن الخلافة الخاتمة الموعودة، والتي ستكون أشبه بحال الناس زمن النبوة ذاتها.
[قال مالك: "ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيُنظَر إلى لونه كأنه نَزَفَ منه الدم، وقد جفَّ لسانه في فمه هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.]:
ولقد حدث معنا منذ سنوات عديدة، أن كنت في ليلة ذكر مع فقراء ينتسبون إلى طريقة معروفة، وكان ذلك بحضور شيخهم. فأخذ الشيخ يتكلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على عادة الوعاظ؛ فأخذَنا الحال وكأنني بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فوجدت من التعظيم ما جعلني أجري، وقد جفّت مني منابع الحياة. ولولا فضل الله علي، لمتّ من ذلك. وقد أخبرني من كان حاضرا، بأن لوني قد صار شديد البياض، وكأنه لا أثر للدم فيه. نقول هذا، لنؤكد ما ذكره مالك عمن رآهم يعظمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا كله بعض ما كان يجده الصّدّيق رضي الله عنه، وهو من اختاره الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، بما لم يبلغه غيره. ونعني من هذا، أن الناس لو اجتمعوا يبحثون أحوال أبي بكر رضي الله عنه، لأعجزتهم من علوها وعِظمها. وكل من يعلم ما نشير إليه هنا، لا بد له من رحمة أبي بكر رضي الله عنه والإشفاق عليه، وإن كان أصغر منه كحالنا نحن. وهذا الباب من العلم -وهو تابع لعلم المحبة- لو فُتح للناس لذهلوا به عن أنفسهم، حتى إنهم لا يشعرون بالقيامة إن هي قامت عليهم؛ وهذا حقيقة لا مبالغة أو مجازا!...
[ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع. ولقد رأيت الزُّهري، وكان لَمِنْ أهْنَإ الناس وأقربِهم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفَك ولا عرفته. ولقد كنت آتي صفوان بن سُلَيم، وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه".]:
إن تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يكون على قدر المعرفة به؛ وكل هؤلاء الذين يأتي الكاتب بهم إما هم من عوام العلماء أو من العُبّاد. وهؤلاء في الأزمنة الماضية كانوا على خير، لا كأهل زماننا الذين صار الإيمان لديهم نظريا فكريا في الغالب. ولقد كنت أرى سيدي ابن الطاهر، وهو يهمّ أن يقرأ في كتاب "دلائل الخيرات"، فأجده يضع الكتاب سريعا وهو يبكي، ولا يستطيع المتابعة. غير أن سيدي ابن الطاهر كانت له معرفة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، تفوق ما كان عليه من ذُكر آنفا. ولقد افترقنا لسنين قبل وفاته -رضي الله عنه- وانقطعت بيننا أسباب الظاهر، إلى أن أُخبرت بوفاته؛ فرأيته في واقعة وهو في ضيافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يلبس جلبابا من سندس يشع نورا، ووجهه في أحسن صورة على هيئة الكهل ودون سنه التي بلغها في دنياه؛ فخاطبته: "انتقلت من دون أن تخبرنا؟!"، فعلمت من حاله ما ذكرت، وكأنه أخبرني من دون كلام؛ ثم صار يتحدث عن أولئك الذين كانوا يُنكرون ولايته في حياته، وينسبون علومه إلى مطالعاته في كتب القوم (وقد كان على أميته قد تعلم شيئا من القراءة من غير أن يكتب). وعلى كل حال فإن في كل زمان قوما يخصهم الله بمحبة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم المحبة الخاصة. وهؤلاء يحبون بهذه المحبة كل المخلوقات، لكونها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدرت، من جهة الحقيقة. لكن محبتهم متنوعة بتنوع الأحكام وبتنوع المراتب. وهذا أمر يعطيهم من السعة، ما لا يتمكن أحد من الإحاطة به من جهة العلم؛ لذلك يبقون مجهولين بين الناس وإن عُرفوا. وإن هم انتقلوا عن الدنيا، لا يفقدهم الناس في الغالب بسبب تحقق غربتهم؛ وسرعان ما يطويهم النسيان. ومن يشتهر منهم فإما لنزول في المرتبة، أو لظهورٍ لهم من وجه آخر، لا من هذا. وكل هذا من أثر المحبة، التي تعطي الفناء، الذي يعطي بدوره الانمحاء الذي سميناه غربة هنا.
[هذه بعض الصور لأهل الإيمان الأولين.]:
صدق الكاتب في إخباره عمن ذكرهم في كلامه بأنهم أهل إيمان. وهذا يعني أنه كان ينبغي أن يأتي في مثل هذه الأمور بأحوال أهل العيان من أصحاب الإحسان، إن لم تكن له دراية بأحوال الواصلين من العارفين والمتحققين.
[ومن أصدق المعايير على تردّي إيماننا ذبول زهرة الحب الإلهي النبوي في قلوبنا. حالت أكداس الكتب والتفاريع بيننا وبين المعين الفياض، حالت بيننا وبين الوراثة القلبية لأولئك الرجال انقطاعات الفتنة. واحتفظ الصوفية رضي الله عنهم بالتعلق الشديد بجناب النبوة.]:
وصف الكاتب لحال البعد من المتأخرين صحيح، لأن القوم قد أخطأوا الطريق، واستعاضوا عنه بالفكر بأنواعه. فوقعوا فيما وقعت فيه الأمم السابقة من انقطاع باطني، لا ينقص معه إلا تحريف العقيدة بالكلية. وهذه آفة حفظ الله عموم الأمة منها، ببركة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم؛ وإلا لكانت الحال هي الحال على التمام. وأما الصوفية الأحقاء، فهم كما ذكر الكاتب، يجعلون محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيلتهم إلى ربهم. فأثابهم الله عنها ما لا يخطر على بال أحد، من الأحوال السَّنية ومن العلوم المخزونة. لذلك هم يدلون على طريق جربوه وعرفوا صوابه، بعكس ما يتوهمه الناس فيهم من تعصب للمذهب، يقيسونه على ما يعلمونه من حال غيرهم من أهل الفرق والمذاهب.
[قال الناطق بلسان الصفوة المحبين شيخ الإسلام ابن القيم نضر الله وجهه:]:
هذا انتكاس من الكاتب، لأن ابن القيم لا ينطق بلسان الصفوة؛ ولا هو منهم. بل هو من عوام الفقهاء الذين خاضوا فيما يُحسنون وفيما لا يُحسنون؛ لأسباب منها شيوع الغفلة العامة في أزمنتهم، وفي تلك التي بعدها.
["فهذا العلم (يعني علم القلوب، علم الأولياء) الصافي المتلقّى من مشكاة الوحي والنبوة يُهذب صاحبَه لسلوك طريق العبودية. وحقيقتها التأدب بآداب رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، وتحكيمُه باطنا وظاهرا، والوقوفُ معه حيث وقف بك، والمسيرُ معه حيث سار بك، بحيث تجعله بمنزلة شيخك الذي قد ألقيت إليه أمرك كلَّه سرَّه وظاهره (...) وتعلق قلبك بقلبه الكريم، وروحانيتك بروحانيته، كما يُعَلِّق المريد روحانيته بروحانية شيخه".]:
الكلام لابن القيم، وهو منكوس أيضا؛ لأنه يقيس التعلق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم على التعلق بالشيخ، والعكس هو الصواب. ولكنه إلى جانب جهله الذي أثبتناه، يغمز الصوفية من وجه خفي، يريد أن يقول منه: إن اتخاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيخا في السلوك، يُغني عن اتخاذ الشيخ بالمعنى المعهود لديهم. وهذا مكر في الكلام، لا يمت إلى العلم بصلة. وإن الناس ما اتخذوا الشيوخ إلا بإذن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة، وليوصلوهم إلى حضرته بعد أن يصلحوا لها، من جهة أخرى. ولكن صاحبنا يسير وفق ما يعطيه نظره، لا ما يعطيه العلم الشرعي وحده. ولولا أن الكاتب على نهجه يسير، ما كان يأتي بمثل هذا الكلام السطحي والخالي من النور.
وإن كل ما أخبر به عن كيفية التعلق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قلبا بقلب وروحانية بروحانية... هو من التنظير المؤسس على الإيمان المجمل؛ وأما أهل الطريق، فإنهم يعلمون ذلك من طريق الذوق والوجدان، ويؤيدهم الله في ذلك بفهم القرآن من الوجه الذي لا يخطر لأهل اللغة على بال، وإن بقوا معه العمر كله يتدبرونه. وهذه هي علامة القبول للعبد، والشهادة بأنه على المحجة البيضاء يسير. ولو علم الناس هذا الذي نذكره، لزهدوا في كل الدرجات العلمية التي يشهد لهم فيها أشباه العلماء، ولطلبوا من يأخذ بأيديهم في طريق الكمال؛ ولكنها الغفلة وإيثار العاجلة!...
[لكن أنى لك بذلك التعلق بالقلب الأسمى والجناب الأحمى ونفسك في الحضيض، عديمُ الإرادة، ساقط الهمة! عليك بمحبة العوام واسأل ربك أن يقيض لك روحانية عارف تطير بك همتها بأجنحة المحبة إلى رحاب الوحي والنبوة.]:
الكلام صحيح، وهو يصدق على الكاتب قبل غيره!...
[إن تَوَلِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصلاة عليه الدائمة، وحب آل البيت المطهرين، وتولي صحابته، لَمِمَّا يقرب المسافات للمريد الطالب.]:
هذا الكلام عام، ينطبق على عوام المسلمين أكثر من غيرهم؛ أو هو من طور المريدين. وأما المحبة الحق، فإنها تأتي بعد المعرفة بالمحبوب؛ وهي معاكسة لما يدل عليه الكاتب. ومعرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تُقتبس من أهلها الذين لا يدل عليهم الكاتب إلا دلالة باهتة، سرعان ما يتراجع عنها بعودته إلى ابن تيمية وتلميذه. وهذا الفعل من الكاتب، كمن يحث الناس على السفر، ولا يأتيهم إلا بأضعف المراكب، التي توشك أن تعود عليهم عبئا، إن هم غامروا بالسفر على متنها.
[واختلف العلماء فيمن هم أهل بيته الذين جاءت في محبتهم وموالاتهم أحاديث صحيحة تذكرنا الله وتناشدنا الله فيهم وفي القرآن. فمن قائل إنهم الآل الذين تحرم عليهم الصدقة من بني هاشم. ومن قائل إنهم ذريته وأزواجه. ومن قائل إنهم أمته عامة. ومن قائل إنهم أتقياء أمته خاصة. وحديث الترمذي يخصص عليا وفاطمة والسبطين الكريمين الحسن والحسين. وعند مسلم أن زيد بن أرقم رضي الله عنه عرَّف أهل البيت بأنهم: "من حُرم الصدقة بعده، وهم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس". والموفّق من يوالي الله ورسوله والأهل الخاصين والعامين، محبة متصلة ممتدة تربطه برباط المودة والرحمة بمن أحبهم الله وأمر بمحبتهم.]:
هذا المعنى صحيح، وإن لم يحسن الكاتب الإبانة عنه. وهو أن على العبد محبة الآل بحسب المراتب. فيبدأ بمن ذُكروا في الأحاديث بصفاتهم وبأعيانهم، وينتهي إلى كل متق من الأمة؛ بل إلى الأمة بجميع أفرادها، من كونها منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه المحبة العامة، لا تحصل إلا بمحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة. لكن ينبغي أن نفرق هنا بين صنفين من هذه المحبة: الأول، وهو ما يتبع فيه الناس الأوامر التكليفية. وهذا الصنف هو ما يعلمه الفقهاء، ويظنونه "المحبة" كلها. والثاني، وهو ما يكون بعد المعرفة بالمحبوب؛ وهذا لا يخضع للأمر بالمعنى المتعارف عليه، إنما يعمل تلقائيا، فيجد المحب به نفسه محبا لكل ما له صلة بالمحبوب، من غير تكلف. وهذا الصنف الثاني، لا يُعلم إلا ذوقا؛ وأهله هم أهل المحبة حقيقة.
[كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فردا متفردا في التوقف في قضية التوسل والتبرك. كان همه أن يُنزِّه جناب الألوهية عن الشرك، وأن يبرز مكانة الوحي والنبوة ويرفعها عن تقديس المشايخ.]:
هذا الكلام جهل محض، لأن ابن تيمية لا قدم له في التوحيد الخاص؛ بل هو قد نزل عن التوحيد العام، فأصبح أقل من العامة الذين لا صلة لهم بالعلم؛ وهذا أمر يجهله عوام العلماء. وتنزيه الله لا يكون بالنفس، ومن دون معرفة به سبحانه. وكل تنزيه من هذا القبيل، لا يُعد تنزيها، بل يصير تطفلا على العلم ودخولا في الجهل. ولمثل هؤلاء يقول الله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180]؛ أي: تنزه الله عن تنزيه من ينزهه بنفسه وما يعطيه عقله. وأما الشيوخ إن كانوا ربانيين، فإنهم يأخذون العباد إلى التوحيد الخاص، الذي لم يشم له ابن تيمية رائحة. فكيف يكون الدال على التوحيد الخاص مظنة إشراك!... لولا أن ابن تيمية ومن تابعه قد انعكس عندهم النظر وانقلبت في أعينهم الحقائق!...
وابن تيمية من مرتبته، لا خبر له عن الصنف الثاني من المحبة، الذي ذكرناه في الفقرة السابقة؛ وكذلك الكاتب، لا يختلف عنه. وهذا يدل على أن الرجلين، لم يعلما من المحبة إلا ما دلّ عليه التكليف. والتكليف هو بداية الطريق، حتى إذا انتهى العبد إلى المعرفة، علم أصل التكليف؛ وعلم أنه لو كان العباد على معرفة تامة من بدايتهم، لما احتاجوا إلى خطاب تكليفي يأمرهم بمحبة من تعود إليه المحبة عود لزوم، وتتعلق به تعلق ضرورة.
[هو عندنا من عدول الأمة الذين حاولوا مجتهدين في طاعة الله أن يدفعوا عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.]:
لا يسعنا إلا أن نقول كذب الكاتب!... وأين ابن تيمية من العدالة، وهو من جاوز طوره وهتك ستر الأدب مع الله ورسوله!... وكيف يدفع عن الدين تحريف الغالين وهو منهم!... أم كيف يرد انتحال المبطلين وهو رأسهم!... أم كيف يتجنب تأويل الجاهلين وهو أسوأهم!... إن العبد (الكاتب) بجهله يوقع نفسه فيما لا مخرج له منه، وقد كان يظن أنه لم يأت بكبير، لحسن ظنه بمن ذاع صيته في الآفاق وعُرف بالعلم. ونسي أن الأمر له براهين، وأن للبراهين معايير، وأن العلم الذي عند الناس ليس هو العلم الذي لله، وأنه لا يصح إلا ما وافق علم الله من علم الناس؛ وإلا انقطع الدين بالناس وصار وضعيا، كما حدث مع جل المتأخرين. وانقطاع الدين الذي لم يكن يريد الإقرار به قوم من مدة قصيرة، ما لبث أن أسفر عن باطنه عندما صرنا نرى الناس يُعلنون الكفر ولا يجدون غضاضة في ذلك؛ وصرنا نجد من بينهم من يجهد في إثبات حقهم في الكفر وفي إعلانه، وكأن الأمر لا يتعلق بشريعة أو وحي نزل من عند الله. فهل بقي للمشككين من أمثال ابن تيمية، ما يشفع لهم، وقد ظهرت ثمرات طريقهم (وإن كانت غير مباشرة أو على ارتباط عكسي) كفرا وإلحادا؟!...
[لكنه قال في التوسل والزيارة للقبر الكريم مقالا شَاذّاً رده عليه جمهور العلماء. ما أحسن عفا الله عنه الحفاظَ على حبل المحبة الواصل بين الله والناس عبر الشخص الكريم صلى الله عليه وسلم.]:
القول الشاذ الذي يشير إليه الكاتب، هو إفتاء التعيس بحرمة شد الرحال إلى القبر النبوي الشريف. والسؤال للكاتب الآن هو: كيف يكون هذا من أهل محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟!... ومتى صار القاطع محبا في عرف العوام والخواص جميعا؟!... ولو افترضنا أن ابن تيمية من العوام الذين لا يعلمون قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلمَ يؤتى به نموذجا لأهل المحبة ومشيخة الإسلام، ويُترك مِن الرجال مَن لا يبلغ أقدامهم علما وعملا وحالا؟!... إلا أن يكون الغرض الإضلال، المنبني على الخلط والإبهام، لئلا يعلم الناس مواطئ أقدامهم، فتتحقق الغاية الشيطانية منهم!...
إن ابن تيمية من شدة سوئه، أراد إعادة صياغة الدين كله، بما يُعطيه فهمه المعوجّ، وبعيدا عن الهدي النبوي الذي لا ينبغي لأحد تجاوزه في الاعتبار. فكان بهذا، أكبر الضالين والمضلين من هذه الأمة، وإن بدا -كما توهم الكاتب- أنه حريص على الدين غيور. وهذا التستّر لا ينطلي إلا على من لا نور له، ممن تأخذه العبارات بعيدا عن حقيقة الناطق بها. وأما أهل النور، فإنهم يعرفونه من أول كلمة يفوه بها، أو بمجرد وقوع نظرهم عليه، أو وصول خبره إليهم.
[إنه يتحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما يتحدث عن الأموات. ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي تعرض عليه أعمالنا ويدعو لنا. فارقنا جسدُه الشريف، فهو في القبر ثاوٍ لا يعتدى عليه التراب، والروح رَفرافة حاضرة يملأ نورها الخافقين.]:
هذا الكلام يدل على أن الكاتب أفضل حالا من ابن تيمية، وإن كان على أحوال العوام باقيا. فلمَ يصرّ على الإتيان بكلامه وتصويبه أو الاعتذار له؟... أليس هذا منطقا معكوسا؟!... أم إنها حسابات السياسة والعمل الحركي؟... فإن كان الأمر كذلك، فأي دين يبقى مع الكاتب وإمامه، وهما يؤولان بالمرء إلى أن يصير مواليا لأهل الضلال، مؤْثرا لهم على أهل الحق!...
[روى ابن خزيمة وصححه وابن حبان في صحيحه والحاكم وغيرهم حديث حياة النبي صلى الله عليه وسلم. ورواية ابن ماجه لهذا الحديث عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة، فإنه يوم مشهود، تشهده الملائكة، وإن أحدا لا يصلي عليّ إلا عُرِضَتْ عليّ صلاته حتى يفرُغ منها". قال: قلت: وبعد الموت؟ قال: "وبعد الموت، إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". وأخرج البزار بسند صحيح عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: "حياتي خير لكم تُحدثون ويَحْدُث لكم. ووفاتي خير لكم، تُعرض علي أعمالكم فما رأيتُ من خير حمدت الله، وما رأيتُ من شر استغفرت الله لكم".]:
إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما علّم عموم الأمة، هو يعلّم خواصها؛ فلا يظن أحد أن هذا الذي وردت به الأحاديث هو أقصى ما يُعلم منه صلى الله عليه وآله وسلم. فحياته صلى الله عليه وآله وسلم، هي أصل حياة العالم؛ علم ذلك من علمه وجهله من جهله. وكلامنا هنا من وجه حقيقته عليه السلام، لا من وجه شخصه الآدمي. وهذه الحياة التي له، والتي هي أصل كل حياة بعدها، ليست إلا حياة الله ذاته؛ ومن كانت حياته على ما ذكرنا، فلا يعلم أحد حقيقة ما هو عليه في قبره. وكل ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من عرض صلاة المصلين عليه، ومن تحريم جسده الشريف على الأرض، هو من مراعاته صلى الله عليه وآله وسلم لمرتبة السامع العقلية؛ وإلا فإن الأمر أعلى من ذلك من جهة العبارة، كما بيّنّا. ولو أن الأولياء تكلموا بما يعلمون في هذه المسألة، لما أطاق الناس قولهم، ولاختلط على كثير منهم أمر الألوهية بأمر النبوة، كما يحدث وقتيا لبعض الأولياء قبل رسوخهم، أو كما حدث للنصارى مع عيسى عليه السلام.
[كرِهَ الإمام مالك رحمه الله أن يقال: "زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم"، لأن كلمة قبر تتنافى مع إجلال من هو عند الله أجل وأعظم قدرا من الشهداء الأحياء عند ربهم يرزقون فرحين، يكفر من رد إخبارَ الله عنهم بذلك وقال إنهم أموات.]:
هذا من الأدب الظاهر، المناسب لمرتبة مالك رضي الله عنه. أما الخواص، فلا يضرهم أن يقولوا "قبر النبي" لأنهم يعلمون عمن يتكلمون، ويعلمون ما يقصدون. وأدبهم الباطن، هو مقدم في الاعتبار على أدب الظاهر الذي يكون عليه العوام. غير أن الكلام فيما يتعلق بالباطن، يحرم على غير أهله؛ فيبقى مجهولا لكل من أراد أن يقارنه بما ورد من شؤون العلماء والعبّاد. لهذا، فإن كل جهد الأستاذ عبد السلام في هذا الكتاب، لا طائل من ورائه، بما أنه لا يضيف شيئا إلى المقلدين. وأما إن كان يروم من البداية ترسيخ ما الناس عليه فحسب -وإن كان خلاف ما يدل عليه عنوان الكتاب- فإنه سيكون عندئذ قد وفّى بما انبرى له، بغض النظر عن تحقق الفائدة. ومذهبنا نحن في مجال التأليف، هو أن المصنف لا ينبغي له أن يكتب في علم من العلوم، إلا إن كان سيضيف فيه شيئا، ولو من باب جمع المتفرق، أو تفصيل المجمل، أو غير ذلك مما لا يعتبر تجديدا بالمعنى التام.
[قال الحافظ: "ألْزموا ابن تيمية بتحريم شد الرحال إلى زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكَرْنا صورة ذلك. وفي شرح ذلك من الطرفين طولٌ. وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية (...). الزيارة من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال. وإن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع والله الهادي إلى الصواب".]:
الحافظ هو ابن حجر العسقلاني، والكلام المنقول من كتابه "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، هو للكرماني. وأما إنكار ابن تيمية وغيره من الفقهاء لشد الرحال إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلالتزامهم ظاهر النصوص وعدم إدراكهم لمعاني الأحكام من وجهها الرباني. وذلك لأنهم لما سمعوا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى.»[2]، توهموا أن النهي يعم كل ما سوى ما ذُكر، بما في ذلك القبر الشريف؛ والأمر في الحقيقة يخص شد الرحال إلى المساجد بقصد الصلاة فيها؛ ولا اعتبار فيه لزيارة القبور عموما، أو لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم خصوصا. والسبب هو أن زيارة قبور الأنبياء والصالحين، من القربات التي لا يتطرق إليها الشك من الأصل. وهذا يجعل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أعلاها، من وجه الحكم الفقهي العام. وأما لمن كان يعلم خصوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويعلم بعضا من قدره عند الله، فإنه يجعلها في مقدمة قرباته. إذ لولا فضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما عرف عبد الله، ولا عرف طريقا إلى عبادته سبحانه، من وجهها المشروع كما هو ثابت شرعا؛ ومن وجهها غير المشروع، كما يعطيه سريان الحقيقة في الوجود.
وإن دخول ابن تيمية في مسألة شد الرحال إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هي من فضوله، وجرأته على الله ورسوله؛ عند ظنه أنه بكل أحكام الدين عليم. ولقد وقع في هذه الآفة، بسبب عدم تأدبه على شيخ يوقفه على نقصه وعيبه. وعندما يغيب شيخ التربية، يحضر إبليس الذي ينفخ في العبد، حتى يتركه لا يرى على الأرض أحدا أعلم من نفسه في نظر نفسه. ولو كان ابن تيمية على أدنى نور، لأدرك الفرق بين زيارة المسجد وزيارة القبر النبوي في الوهلة الأولى؛ ولكنه كغيره من المحجوبين، لا يستطيع مجاوزة الألفاظ عند نظره في الكلام؛ وهذه الآفة هي مما يشترك معه فيها الكاتب نفسه. ولولا هذا الاشتراك في الصفة، ما ألزمنا الكاتب بالرجوع إلى أقوال ابن تيمية المرة بعد الأخرى؛ خصوصا وأن الكلام هنا هو عن محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث كان ينبغي أن يُؤتى بكلام المحبين فيها، لا بكلام الأجانب.
محبة رسول الله هي العروة الوثقى
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾. اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.]
[صلى الله على من قرنَ محبته واستحقاق المزيد من المحبة والمغفرة باتباعه حيث قال: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾. اللهم صل وسلم تسليما كثيرا على محمد وآله وصحبه الذي جعلت طاعته من طاعتك، ومعصيته والتولي عنه كفرا، وبيعته من بيعتك، ومحبته من محبتك، عبدك ونبيك ورسولك ومصطفاك من خلقك، العروة الوثقى وثوق كتابك الذي أنزلت، الحبل الممدود بينك وبين أحبابك وأصفيائك وأوليائك، سندا متصلا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي". ورواه أيضا الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.]:
هذه المقدمة لا يمكن أن يختلف عليها مسلمان من حيث المبدأ؛ ولكن عند تنزيل المعاني، على ما جرت العادة، يقع الاختلاف. والدليل هو اختلاف أهل السنة والشيعة، مع كون الجميع حريصين على محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومدعين لها. وأما الحديث المذكور، فقد تكلمنا عنه قليلا في الجزء السابق، وبيّنا أن الترابط بين مصاديق المحبة في التراتب الوارد لازم. وهكذا تكون علامة حب الله، حب نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا يقصي الكتابيين الذين يزعمون أنهم محبون لله، ومع ذلك يُنكرون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويؤذونه. ومحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقتضي محبة أهل بيته؛ وهذا يقصي النواصب الذين يؤذون العترة الشريفة وهم يزعمون أنهم من أهل السنة. سنة من؟!...
[لا فاصل بين حب الله وحب رسول الله وحب أهل بيت رسول الله، وإن تنوعت النعمة. وأعظم نعم الله علينا الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم. اللهم لك الحمد على ما تغذونا به من نعمك، ولك الحمد على نعمتك العظمى محمد حبيبك.]:
كما قلنا سابقا، ليس الاختلاف على المبدأ وإنما على التنزيل. وربما سنجد ما يجعلنا نتبيّن -إن شاء الله- مخالفة الناس للمبدأ، عند دخول الهوى والضلال عليهم.
[ولا حدود للتفاني في محبة الشخص الكريم على الله حتى يكون أحب إلينا من الناس أجمعين ومن أنفسنا. روى البخاري عن عبد الله بن هشام قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب. فقال له عمر: يا رسول الله! لأنت أحبُّ إلي من كل شيء إلا نفسي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده، حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك!" فقال عمر: فإنه الآن والله لأنْتَ أحبُّ إلي من نفسي! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر!".]:
هذا الحديث، على كثرة ما يُذكر على الألسن، قليل من الناس من يروز به إيمانه. ولو فعلوا، لوجدوا أنفسهم -في معظمهم- على نقص لا يخفى. بل إن جل متأخري المسلمين، لا يبلغون ضُعف الإيمان الذي كان عليه عمر رضي الله عنه قبل أن يترقى. ونعني من هذا، أن كثيرا من المسلمين وربما الإسلاميين، لا يحبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم المحبة اللائقة به؛ بل ينظرون إليه وكأنه لا يفضلهم إلا قليلا. وكأن الفكر الديمقراطي دخل على الناس دينهم، فما عادوا يقرون بمرتبة لأحد...
وما دل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «الآن يا عمر!»، هو علامة كمال إيمان العبد. وما استحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلك الدرجة من المحبة، إلا لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ كما أخبر الله تعالى في قوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]. ولم يكن أولى بالمؤمنين من أنفسهم، إلا لأنه أصلهم من جهة حقيقته؛ والأصل يسبق دائما على الفرع في المرتبة، حيث كانا. ذلك لأن أحكام الشرع، تعتبر الحقائق: فهي إن أعلت أحدا، فلِعلو مرتبته عند الله؛ وإن أنزلته في الاعتبار، فلنزوله في الحقيقة. وهذا أمر لا خبر للفقهاء عنه، ما داموا لا يعلمون الأحكام من جهة باطنها. ولهذا السبب، كان ينبغي عليهم الرجوع إلى الربانيين، عند انبهام الحكم الشرعي عليهم، ليدلّوهم عليه من جهة باطنه، لا من جهة الاستنباط المعلوم لديهم وحدها.
[مَلَكَ والله ناصيةَ التوفيق من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما،]:
عبارة: «من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما»، وردت في حديث متفق عليه، ومروي عن أنس رضي الله عنه. ومع ذلك فقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تثنية الضمير عند ذكر الله ورسوله في حديث آخر. فعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِم رضي الله عنهٍ، أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ! قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ!»[1]. ولعل السبب في ذلك، هو عدم علم الخطيب بحقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي سيجعل التثنية منه تثنية ذات، وهي محال. وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من مرتبة علمه بالله الفريدة، فإنه يعلم مناط التثنية في الكلام، ولا يغيّر من المعنى لديه أن يُفرد أو يثنّي. وكل من تعلم التوحيد الخاص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يُخاف عليه عند الكلام، بخلاف غيره ممن يتبعون الألفاظ وما تعطيه في العادة. وأما الكاتب، فنشك أن له علما بالتوحيد الخاص، وهو من يتبع ابن تيمية في جل ما يقول. وعلى هذا، فإن كان يأخذ تثنية الضمير على ما تعطيه اللغة وحدها، فإنه يكون بئس المتكلم والكاتب هو أيضا؛ لأنه يدل على باطل ويتصور باطلا.
[وذاق حلاوة الإيمان، وأشرف على مشارف الإحسان، ودحض مزاعم الشيطان الذي يزعم أن التفاني في حب الذات المحمدية غلو. يا شيطان، هذه أنوار حبه الشريف المنيف فهل من محيص!]:
استعمال الكاتب للفظ "الذات" ونسبته إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يحتاج إلى توضيح. فإن كان يستعمل الكلمة على ما تعطيه لدى المغاربة، الذين يقصدون منها الشخص من كونه جسما وروحا، فلا بأس منه؛ وإن كان يستعمل الكلمة بإزاء الذات الإلهية، فهو شرك. ولعل ما سيأتي من الكتاب سيفصح عن معتقد الكاتب في هذه المسألة، لنثبته ونبني عليه في ردودنا. نقول هذا، لأن ابن تيمية مشرك في هذه المسألة، وأتباعه كلهم مشركون؛ ولو أنهم لم يخوضوا فيما هو فوق طورهم، لشملهم العفو الإلهي كما يشمل العامة من المسلمين. ولكنهم بكلامهم فيما لا يعلمون سيُحاسبون وربما يُعاقبون، إن لم يغفر الله لهم. وذلك لأن ابن تيمية، لم يتمكن من تصور الذات الإلهية على غير ما يعلم من ذوات المخلوقات، لضعف عقله. ومن هنا دخل عليه التجسيم، وإن بالغ في التنزيه بحسب ما يتصور هو منه. ولو علم أن الخلق هم من يُقاسون على الحق، لا العكس، لسكت أو لطلب علم ذلك عند أهله. ولكنه مقامه، دعاه إليه فلبّى، من دون أن يعلم حقيقة ما هو عليه؛ كما حدث مع إبليس عندما دعاه مقامه، فرفض السجود لآدم. ولهذا السبب كنا -نحن- نحذّر من اتباع ابن تيمية في ضلالاته، وإن كانت تبدو في أعين من هم مثله أو دونه علما، مترابطة ومؤصَّلة. وخلاصة القول في المسألة، هو أن الذات الإلهية لا ذات معها؛ وإنما هي مظاهر الأسماء تتعدد بتعددها. وشتان ما بين الأمرين، لمن كان له تمييز...
[كان عند الصحابة رضي الله عنهم من المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغ بهم أن يفتدوه بالمهج، ومن التعظيم والهيبة لذلك الجناب ما يُخرس الألسن ويغض الأبصار ويُطوِّق الأنفس بِحَرَس من جلاله صلى الله عليه وسلم وجماله. إنه رسول الله! وكفى.]:
يظن الكاتب أنه بهذه العبارات قد أصبح كالصحابة في العلم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو يظن أنه -على الأقل- قاربهم، أو على نهجهم يسير؛ وهيهات!... كان ينبغي عليه أن يخبرنا لمَ كان الصحابة يعظمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل ذلك التعظيم، مع أن ثقافتهم لم تكن تعطي ذلك؛ وهم من لم يعرفوا تعظيم الملوك، كما عرفته سائر الأمم المجاورة!... ونحن نقول -وهذا من علوم مرتبة الإحسان التي أفرد الكاتب لها هذا الكتاب زعما- لولا أن الصحابة المرضيين، كانوا يشهدون الحق فيه صلى الله عليه وآله وسلم، من كونه وجه الله المذكور في الكتاب، لما صدر منهم تجاهه ما صدر، وهم من لم يعتادوا تعظيم البشر كما أسلفنا. وإن تقرر هذا، فأين الكاتب من هذا الشهود السُّنّيّ؟ وأين دلالته عليه؟!...
[وكان عند التابعين والسلف الصالحين من محبته وتعظيمه مثلُ ما كان عند الصحابة. ذكر القاضي عياض رحمه الله في "الشفاء" أن مَالكاً رحمه الله سئل عن أيوب السختياني فقال: "ما حدثتكم عن أحدٍ إلا وأيوب أفضل منه. قال: وحج حجتين، فكنت أرمُقه فلا أسمع منه غير أنه إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه.]:
لقد أجاب الكاتب عن سؤالنا السابق، عند إتيانه بكلام مالك عن أيوب السختياني. فهو يأتي بكلام العوام (عوام في المعرفة وإن كانوا علماء)، في أحوال العوام؛ وهذا يجعلنا نعلم أنه على محبة العوام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى علمهم. ولقد كان ينبغي له -والكتاب كتاب إحسان- أن يأتي بما هو من محبة الكبار من أهل الله، أو على الأقل بمحبة أهل الإحسان. وحبذا لو زان ذلك بذكر أحوال كبار الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن لم يكن فبذكر أحوال من دونهم من الصحابة، لعلنا نخرج من هذه النظرة النمطية التي يرسخها الفقهاء بين الناس؛ حتى أصبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقيها أكبر في نظر العموم، وأصبح الصحابة كحال عوامنا من كل زمان. فنزل الدين بهذه الصورة الشائهة، إلى ما لا مزيد عليه!... فإنا لله وإنا إليه راجعون!...
[قال عياض: "وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعُب ذلك على جلسائه. فقيل له يوما في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيتُ لما أنكرتم عليَّ ما ترون: لقد كنت أرى محمد بن المنكدر، وكان سيد القراء، لا نكاد نَسأله عن حديث أبدا إلا بكى حتى نرحمه. ولقد كنت أرى جعفر بن محمد (وهو الإمام جعفر الصادق من آل البيت)، وكان كثير الدُّعَابَة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهَارة. ولقد اختلفتُ إليه زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إمّا مصليا، وإما صامتا، وإما يقرأ القرآن. ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعُباد الذين يخشون الله".]:
كلام القاضي عياض فيه خلط، لأنه يخلط بين أحوال مالك وأحوال جعفر الصادق عليه السلام، وهما من مرتبتين مختلفتين. وهذا النقل من الكاتب، لا يدل إلا على خلطه في نفسه، ما دام لم يعرض لما ذكرنا، ولا فصل القول فيه. فهو يكتفي من الجميع بتغير اللون أو بالبكاء، ولا يعلم أنه شتان بين باك وباك!... واعتبار جعفر الصادق "من العلماء والعُباد الذين يخشون الله"، إن لم يفصّل القول في معنى "علمه" عليه السلام، أو معنى "عبادته"، هو سوء أدب معه لا ثناء؛ لأنه سيُقارن إلى من هم دونه. وإن الضرر الناتج عن الخلط في المراتب، حتى يصير الأدنى شبيها للأعلى ومشاركا له في الصفة، قد استمر في الأمة قرونا، وتسبب لها في اختلاط صفوفها، وبالتالي في فساد نظامها. وإنه قد آن الأوان لإعادة الأمور إلى نصابها، بإعادة ترتيب الأشخاص والكلام، بحسب ما يعطيه العلم بالمراتب، إن كنا نريد العودة إلى أصل الحال؛ خصوصا ونحن نترقب مقدم زمن الخلافة الخاتمة الموعودة، والتي ستكون أشبه بحال الناس زمن النبوة ذاتها.
[قال مالك: "ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيُنظَر إلى لونه كأنه نَزَفَ منه الدم، وقد جفَّ لسانه في فمه هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.]:
ولقد حدث معنا منذ سنوات عديدة، أن كنت في ليلة ذكر مع فقراء ينتسبون إلى طريقة معروفة، وكان ذلك بحضور شيخهم. فأخذ الشيخ يتكلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على عادة الوعاظ؛ فأخذَنا الحال وكأنني بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فوجدت من التعظيم ما جعلني أجري، وقد جفّت مني منابع الحياة. ولولا فضل الله علي، لمتّ من ذلك. وقد أخبرني من كان حاضرا، بأن لوني قد صار شديد البياض، وكأنه لا أثر للدم فيه. نقول هذا، لنؤكد ما ذكره مالك عمن رآهم يعظمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا كله بعض ما كان يجده الصّدّيق رضي الله عنه، وهو من اختاره الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، بما لم يبلغه غيره. ونعني من هذا، أن الناس لو اجتمعوا يبحثون أحوال أبي بكر رضي الله عنه، لأعجزتهم من علوها وعِظمها. وكل من يعلم ما نشير إليه هنا، لا بد له من رحمة أبي بكر رضي الله عنه والإشفاق عليه، وإن كان أصغر منه كحالنا نحن. وهذا الباب من العلم -وهو تابع لعلم المحبة- لو فُتح للناس لذهلوا به عن أنفسهم، حتى إنهم لا يشعرون بالقيامة إن هي قامت عليهم؛ وهذا حقيقة لا مبالغة أو مجازا!...
[ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع. ولقد رأيت الزُّهري، وكان لَمِنْ أهْنَإ الناس وأقربِهم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفَك ولا عرفته. ولقد كنت آتي صفوان بن سُلَيم، وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه".]:
إن تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يكون على قدر المعرفة به؛ وكل هؤلاء الذين يأتي الكاتب بهم إما هم من عوام العلماء أو من العُبّاد. وهؤلاء في الأزمنة الماضية كانوا على خير، لا كأهل زماننا الذين صار الإيمان لديهم نظريا فكريا في الغالب. ولقد كنت أرى سيدي ابن الطاهر، وهو يهمّ أن يقرأ في كتاب "دلائل الخيرات"، فأجده يضع الكتاب سريعا وهو يبكي، ولا يستطيع المتابعة. غير أن سيدي ابن الطاهر كانت له معرفة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، تفوق ما كان عليه من ذُكر آنفا. ولقد افترقنا لسنين قبل وفاته -رضي الله عنه- وانقطعت بيننا أسباب الظاهر، إلى أن أُخبرت بوفاته؛ فرأيته في واقعة وهو في ضيافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يلبس جلبابا من سندس يشع نورا، ووجهه في أحسن صورة على هيئة الكهل ودون سنه التي بلغها في دنياه؛ فخاطبته: "انتقلت من دون أن تخبرنا؟!"، فعلمت من حاله ما ذكرت، وكأنه أخبرني من دون كلام؛ ثم صار يتحدث عن أولئك الذين كانوا يُنكرون ولايته في حياته، وينسبون علومه إلى مطالعاته في كتب القوم (وقد كان على أميته قد تعلم شيئا من القراءة من غير أن يكتب). وعلى كل حال فإن في كل زمان قوما يخصهم الله بمحبة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم المحبة الخاصة. وهؤلاء يحبون بهذه المحبة كل المخلوقات، لكونها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدرت، من جهة الحقيقة. لكن محبتهم متنوعة بتنوع الأحكام وبتنوع المراتب. وهذا أمر يعطيهم من السعة، ما لا يتمكن أحد من الإحاطة به من جهة العلم؛ لذلك يبقون مجهولين بين الناس وإن عُرفوا. وإن هم انتقلوا عن الدنيا، لا يفقدهم الناس في الغالب بسبب تحقق غربتهم؛ وسرعان ما يطويهم النسيان. ومن يشتهر منهم فإما لنزول في المرتبة، أو لظهورٍ لهم من وجه آخر، لا من هذا. وكل هذا من أثر المحبة، التي تعطي الفناء، الذي يعطي بدوره الانمحاء الذي سميناه غربة هنا.
[هذه بعض الصور لأهل الإيمان الأولين.]:
صدق الكاتب في إخباره عمن ذكرهم في كلامه بأنهم أهل إيمان. وهذا يعني أنه كان ينبغي أن يأتي في مثل هذه الأمور بأحوال أهل العيان من أصحاب الإحسان، إن لم تكن له دراية بأحوال الواصلين من العارفين والمتحققين.
[ومن أصدق المعايير على تردّي إيماننا ذبول زهرة الحب الإلهي النبوي في قلوبنا. حالت أكداس الكتب والتفاريع بيننا وبين المعين الفياض، حالت بيننا وبين الوراثة القلبية لأولئك الرجال انقطاعات الفتنة. واحتفظ الصوفية رضي الله عنهم بالتعلق الشديد بجناب النبوة.]:
وصف الكاتب لحال البعد من المتأخرين صحيح، لأن القوم قد أخطأوا الطريق، واستعاضوا عنه بالفكر بأنواعه. فوقعوا فيما وقعت فيه الأمم السابقة من انقطاع باطني، لا ينقص معه إلا تحريف العقيدة بالكلية. وهذه آفة حفظ الله عموم الأمة منها، ببركة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم؛ وإلا لكانت الحال هي الحال على التمام. وأما الصوفية الأحقاء، فهم كما ذكر الكاتب، يجعلون محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيلتهم إلى ربهم. فأثابهم الله عنها ما لا يخطر على بال أحد، من الأحوال السَّنية ومن العلوم المخزونة. لذلك هم يدلون على طريق جربوه وعرفوا صوابه، بعكس ما يتوهمه الناس فيهم من تعصب للمذهب، يقيسونه على ما يعلمونه من حال غيرهم من أهل الفرق والمذاهب.
[قال الناطق بلسان الصفوة المحبين شيخ الإسلام ابن القيم نضر الله وجهه:]:
هذا انتكاس من الكاتب، لأن ابن القيم لا ينطق بلسان الصفوة؛ ولا هو منهم. بل هو من عوام الفقهاء الذين خاضوا فيما يُحسنون وفيما لا يُحسنون؛ لأسباب منها شيوع الغفلة العامة في أزمنتهم، وفي تلك التي بعدها.
["فهذا العلم (يعني علم القلوب، علم الأولياء) الصافي المتلقّى من مشكاة الوحي والنبوة يُهذب صاحبَه لسلوك طريق العبودية. وحقيقتها التأدب بآداب رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، وتحكيمُه باطنا وظاهرا، والوقوفُ معه حيث وقف بك، والمسيرُ معه حيث سار بك، بحيث تجعله بمنزلة شيخك الذي قد ألقيت إليه أمرك كلَّه سرَّه وظاهره (...) وتعلق قلبك بقلبه الكريم، وروحانيتك بروحانيته، كما يُعَلِّق المريد روحانيته بروحانية شيخه".]:
الكلام لابن القيم، وهو منكوس أيضا؛ لأنه يقيس التعلق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم على التعلق بالشيخ، والعكس هو الصواب. ولكنه إلى جانب جهله الذي أثبتناه، يغمز الصوفية من وجه خفي، يريد أن يقول منه: إن اتخاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيخا في السلوك، يُغني عن اتخاذ الشيخ بالمعنى المعهود لديهم. وهذا مكر في الكلام، لا يمت إلى العلم بصلة. وإن الناس ما اتخذوا الشيوخ إلا بإذن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة، وليوصلوهم إلى حضرته بعد أن يصلحوا لها، من جهة أخرى. ولكن صاحبنا يسير وفق ما يعطيه نظره، لا ما يعطيه العلم الشرعي وحده. ولولا أن الكاتب على نهجه يسير، ما كان يأتي بمثل هذا الكلام السطحي والخالي من النور.
وإن كل ما أخبر به عن كيفية التعلق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قلبا بقلب وروحانية بروحانية... هو من التنظير المؤسس على الإيمان المجمل؛ وأما أهل الطريق، فإنهم يعلمون ذلك من طريق الذوق والوجدان، ويؤيدهم الله في ذلك بفهم القرآن من الوجه الذي لا يخطر لأهل اللغة على بال، وإن بقوا معه العمر كله يتدبرونه. وهذه هي علامة القبول للعبد، والشهادة بأنه على المحجة البيضاء يسير. ولو علم الناس هذا الذي نذكره، لزهدوا في كل الدرجات العلمية التي يشهد لهم فيها أشباه العلماء، ولطلبوا من يأخذ بأيديهم في طريق الكمال؛ ولكنها الغفلة وإيثار العاجلة!...
[لكن أنى لك بذلك التعلق بالقلب الأسمى والجناب الأحمى ونفسك في الحضيض، عديمُ الإرادة، ساقط الهمة! عليك بمحبة العوام واسأل ربك أن يقيض لك روحانية عارف تطير بك همتها بأجنحة المحبة إلى رحاب الوحي والنبوة.]:
الكلام صحيح، وهو يصدق على الكاتب قبل غيره!...
[إن تَوَلِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصلاة عليه الدائمة، وحب آل البيت المطهرين، وتولي صحابته، لَمِمَّا يقرب المسافات للمريد الطالب.]:
هذا الكلام عام، ينطبق على عوام المسلمين أكثر من غيرهم؛ أو هو من طور المريدين. وأما المحبة الحق، فإنها تأتي بعد المعرفة بالمحبوب؛ وهي معاكسة لما يدل عليه الكاتب. ومعرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تُقتبس من أهلها الذين لا يدل عليهم الكاتب إلا دلالة باهتة، سرعان ما يتراجع عنها بعودته إلى ابن تيمية وتلميذه. وهذا الفعل من الكاتب، كمن يحث الناس على السفر، ولا يأتيهم إلا بأضعف المراكب، التي توشك أن تعود عليهم عبئا، إن هم غامروا بالسفر على متنها.
[واختلف العلماء فيمن هم أهل بيته الذين جاءت في محبتهم وموالاتهم أحاديث صحيحة تذكرنا الله وتناشدنا الله فيهم وفي القرآن. فمن قائل إنهم الآل الذين تحرم عليهم الصدقة من بني هاشم. ومن قائل إنهم ذريته وأزواجه. ومن قائل إنهم أمته عامة. ومن قائل إنهم أتقياء أمته خاصة. وحديث الترمذي يخصص عليا وفاطمة والسبطين الكريمين الحسن والحسين. وعند مسلم أن زيد بن أرقم رضي الله عنه عرَّف أهل البيت بأنهم: "من حُرم الصدقة بعده، وهم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس". والموفّق من يوالي الله ورسوله والأهل الخاصين والعامين، محبة متصلة ممتدة تربطه برباط المودة والرحمة بمن أحبهم الله وأمر بمحبتهم.]:
هذا المعنى صحيح، وإن لم يحسن الكاتب الإبانة عنه. وهو أن على العبد محبة الآل بحسب المراتب. فيبدأ بمن ذُكروا في الأحاديث بصفاتهم وبأعيانهم، وينتهي إلى كل متق من الأمة؛ بل إلى الأمة بجميع أفرادها، من كونها منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه المحبة العامة، لا تحصل إلا بمحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة. لكن ينبغي أن نفرق هنا بين صنفين من هذه المحبة: الأول، وهو ما يتبع فيه الناس الأوامر التكليفية. وهذا الصنف هو ما يعلمه الفقهاء، ويظنونه "المحبة" كلها. والثاني، وهو ما يكون بعد المعرفة بالمحبوب؛ وهذا لا يخضع للأمر بالمعنى المتعارف عليه، إنما يعمل تلقائيا، فيجد المحب به نفسه محبا لكل ما له صلة بالمحبوب، من غير تكلف. وهذا الصنف الثاني، لا يُعلم إلا ذوقا؛ وأهله هم أهل المحبة حقيقة.
[كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فردا متفردا في التوقف في قضية التوسل والتبرك. كان همه أن يُنزِّه جناب الألوهية عن الشرك، وأن يبرز مكانة الوحي والنبوة ويرفعها عن تقديس المشايخ.]:
هذا الكلام جهل محض، لأن ابن تيمية لا قدم له في التوحيد الخاص؛ بل هو قد نزل عن التوحيد العام، فأصبح أقل من العامة الذين لا صلة لهم بالعلم؛ وهذا أمر يجهله عوام العلماء. وتنزيه الله لا يكون بالنفس، ومن دون معرفة به سبحانه. وكل تنزيه من هذا القبيل، لا يُعد تنزيها، بل يصير تطفلا على العلم ودخولا في الجهل. ولمثل هؤلاء يقول الله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180]؛ أي: تنزه الله عن تنزيه من ينزهه بنفسه وما يعطيه عقله. وأما الشيوخ إن كانوا ربانيين، فإنهم يأخذون العباد إلى التوحيد الخاص، الذي لم يشم له ابن تيمية رائحة. فكيف يكون الدال على التوحيد الخاص مظنة إشراك!... لولا أن ابن تيمية ومن تابعه قد انعكس عندهم النظر وانقلبت في أعينهم الحقائق!...
وابن تيمية من مرتبته، لا خبر له عن الصنف الثاني من المحبة، الذي ذكرناه في الفقرة السابقة؛ وكذلك الكاتب، لا يختلف عنه. وهذا يدل على أن الرجلين، لم يعلما من المحبة إلا ما دلّ عليه التكليف. والتكليف هو بداية الطريق، حتى إذا انتهى العبد إلى المعرفة، علم أصل التكليف؛ وعلم أنه لو كان العباد على معرفة تامة من بدايتهم، لما احتاجوا إلى خطاب تكليفي يأمرهم بمحبة من تعود إليه المحبة عود لزوم، وتتعلق به تعلق ضرورة.
[هو عندنا من عدول الأمة الذين حاولوا مجتهدين في طاعة الله أن يدفعوا عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.]:
لا يسعنا إلا أن نقول كذب الكاتب!... وأين ابن تيمية من العدالة، وهو من جاوز طوره وهتك ستر الأدب مع الله ورسوله!... وكيف يدفع عن الدين تحريف الغالين وهو منهم!... أم كيف يرد انتحال المبطلين وهو رأسهم!... أم كيف يتجنب تأويل الجاهلين وهو أسوأهم!... إن العبد (الكاتب) بجهله يوقع نفسه فيما لا مخرج له منه، وقد كان يظن أنه لم يأت بكبير، لحسن ظنه بمن ذاع صيته في الآفاق وعُرف بالعلم. ونسي أن الأمر له براهين، وأن للبراهين معايير، وأن العلم الذي عند الناس ليس هو العلم الذي لله، وأنه لا يصح إلا ما وافق علم الله من علم الناس؛ وإلا انقطع الدين بالناس وصار وضعيا، كما حدث مع جل المتأخرين. وانقطاع الدين الذي لم يكن يريد الإقرار به قوم من مدة قصيرة، ما لبث أن أسفر عن باطنه عندما صرنا نرى الناس يُعلنون الكفر ولا يجدون غضاضة في ذلك؛ وصرنا نجد من بينهم من يجهد في إثبات حقهم في الكفر وفي إعلانه، وكأن الأمر لا يتعلق بشريعة أو وحي نزل من عند الله. فهل بقي للمشككين من أمثال ابن تيمية، ما يشفع لهم، وقد ظهرت ثمرات طريقهم (وإن كانت غير مباشرة أو على ارتباط عكسي) كفرا وإلحادا؟!...
[لكنه قال في التوسل والزيارة للقبر الكريم مقالا شَاذّاً رده عليه جمهور العلماء. ما أحسن عفا الله عنه الحفاظَ على حبل المحبة الواصل بين الله والناس عبر الشخص الكريم صلى الله عليه وسلم.]:
القول الشاذ الذي يشير إليه الكاتب، هو إفتاء التعيس بحرمة شد الرحال إلى القبر النبوي الشريف. والسؤال للكاتب الآن هو: كيف يكون هذا من أهل محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟!... ومتى صار القاطع محبا في عرف العوام والخواص جميعا؟!... ولو افترضنا أن ابن تيمية من العوام الذين لا يعلمون قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلمَ يؤتى به نموذجا لأهل المحبة ومشيخة الإسلام، ويُترك مِن الرجال مَن لا يبلغ أقدامهم علما وعملا وحالا؟!... إلا أن يكون الغرض الإضلال، المنبني على الخلط والإبهام، لئلا يعلم الناس مواطئ أقدامهم، فتتحقق الغاية الشيطانية منهم!...
إن ابن تيمية من شدة سوئه، أراد إعادة صياغة الدين كله، بما يُعطيه فهمه المعوجّ، وبعيدا عن الهدي النبوي الذي لا ينبغي لأحد تجاوزه في الاعتبار. فكان بهذا، أكبر الضالين والمضلين من هذه الأمة، وإن بدا -كما توهم الكاتب- أنه حريص على الدين غيور. وهذا التستّر لا ينطلي إلا على من لا نور له، ممن تأخذه العبارات بعيدا عن حقيقة الناطق بها. وأما أهل النور، فإنهم يعرفونه من أول كلمة يفوه بها، أو بمجرد وقوع نظرهم عليه، أو وصول خبره إليهم.
[إنه يتحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما يتحدث عن الأموات. ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي تعرض عليه أعمالنا ويدعو لنا. فارقنا جسدُه الشريف، فهو في القبر ثاوٍ لا يعتدى عليه التراب، والروح رَفرافة حاضرة يملأ نورها الخافقين.]:
هذا الكلام يدل على أن الكاتب أفضل حالا من ابن تيمية، وإن كان على أحوال العوام باقيا. فلمَ يصرّ على الإتيان بكلامه وتصويبه أو الاعتذار له؟... أليس هذا منطقا معكوسا؟!... أم إنها حسابات السياسة والعمل الحركي؟... فإن كان الأمر كذلك، فأي دين يبقى مع الكاتب وإمامه، وهما يؤولان بالمرء إلى أن يصير مواليا لأهل الضلال، مؤْثرا لهم على أهل الحق!...
[روى ابن خزيمة وصححه وابن حبان في صحيحه والحاكم وغيرهم حديث حياة النبي صلى الله عليه وسلم. ورواية ابن ماجه لهذا الحديث عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة، فإنه يوم مشهود، تشهده الملائكة، وإن أحدا لا يصلي عليّ إلا عُرِضَتْ عليّ صلاته حتى يفرُغ منها". قال: قلت: وبعد الموت؟ قال: "وبعد الموت، إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". وأخرج البزار بسند صحيح عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: "حياتي خير لكم تُحدثون ويَحْدُث لكم. ووفاتي خير لكم، تُعرض علي أعمالكم فما رأيتُ من خير حمدت الله، وما رأيتُ من شر استغفرت الله لكم".]:
إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما علّم عموم الأمة، هو يعلّم خواصها؛ فلا يظن أحد أن هذا الذي وردت به الأحاديث هو أقصى ما يُعلم منه صلى الله عليه وآله وسلم. فحياته صلى الله عليه وآله وسلم، هي أصل حياة العالم؛ علم ذلك من علمه وجهله من جهله. وكلامنا هنا من وجه حقيقته عليه السلام، لا من وجه شخصه الآدمي. وهذه الحياة التي له، والتي هي أصل كل حياة بعدها، ليست إلا حياة الله ذاته؛ ومن كانت حياته على ما ذكرنا، فلا يعلم أحد حقيقة ما هو عليه في قبره. وكل ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من عرض صلاة المصلين عليه، ومن تحريم جسده الشريف على الأرض، هو من مراعاته صلى الله عليه وآله وسلم لمرتبة السامع العقلية؛ وإلا فإن الأمر أعلى من ذلك من جهة العبارة، كما بيّنّا. ولو أن الأولياء تكلموا بما يعلمون في هذه المسألة، لما أطاق الناس قولهم، ولاختلط على كثير منهم أمر الألوهية بأمر النبوة، كما يحدث وقتيا لبعض الأولياء قبل رسوخهم، أو كما حدث للنصارى مع عيسى عليه السلام.
[كرِهَ الإمام مالك رحمه الله أن يقال: "زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم"، لأن كلمة قبر تتنافى مع إجلال من هو عند الله أجل وأعظم قدرا من الشهداء الأحياء عند ربهم يرزقون فرحين، يكفر من رد إخبارَ الله عنهم بذلك وقال إنهم أموات.]:
هذا من الأدب الظاهر، المناسب لمرتبة مالك رضي الله عنه. أما الخواص، فلا يضرهم أن يقولوا "قبر النبي" لأنهم يعلمون عمن يتكلمون، ويعلمون ما يقصدون. وأدبهم الباطن، هو مقدم في الاعتبار على أدب الظاهر الذي يكون عليه العوام. غير أن الكلام فيما يتعلق بالباطن، يحرم على غير أهله؛ فيبقى مجهولا لكل من أراد أن يقارنه بما ورد من شؤون العلماء والعبّاد. لهذا، فإن كل جهد الأستاذ عبد السلام في هذا الكتاب، لا طائل من ورائه، بما أنه لا يضيف شيئا إلى المقلدين. وأما إن كان يروم من البداية ترسيخ ما الناس عليه فحسب -وإن كان خلاف ما يدل عليه عنوان الكتاب- فإنه سيكون عندئذ قد وفّى بما انبرى له، بغض النظر عن تحقق الفائدة. ومذهبنا نحن في مجال التأليف، هو أن المصنف لا ينبغي له أن يكتب في علم من العلوم، إلا إن كان سيضيف فيه شيئا، ولو من باب جمع المتفرق، أو تفصيل المجمل، أو غير ذلك مما لا يعتبر تجديدا بالمعنى التام.
[قال الحافظ: "ألْزموا ابن تيمية بتحريم شد الرحال إلى زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكَرْنا صورة ذلك. وفي شرح ذلك من الطرفين طولٌ. وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية (...). الزيارة من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال. وإن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع والله الهادي إلى الصواب".]:
الحافظ هو ابن حجر العسقلاني، والكلام المنقول من كتابه "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، هو للكرماني. وأما إنكار ابن تيمية وغيره من الفقهاء لشد الرحال إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلالتزامهم ظاهر النصوص وعدم إدراكهم لمعاني الأحكام من وجهها الرباني. وذلك لأنهم لما سمعوا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى.»[2]، توهموا أن النهي يعم كل ما سوى ما ذُكر، بما في ذلك القبر الشريف؛ والأمر في الحقيقة يخص شد الرحال إلى المساجد بقصد الصلاة فيها؛ ولا اعتبار فيه لزيارة القبور عموما، أو لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم خصوصا. والسبب هو أن زيارة قبور الأنبياء والصالحين، من القربات التي لا يتطرق إليها الشك من الأصل. وهذا يجعل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أعلاها، من وجه الحكم الفقهي العام. وأما لمن كان يعلم خصوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويعلم بعضا من قدره عند الله، فإنه يجعلها في مقدمة قرباته. إذ لولا فضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما عرف عبد الله، ولا عرف طريقا إلى عبادته سبحانه، من وجهها المشروع كما هو ثابت شرعا؛ ومن وجهها غير المشروع، كما يعطيه سريان الحقيقة في الوجود.
وإن دخول ابن تيمية في مسألة شد الرحال إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هي من فضوله، وجرأته على الله ورسوله؛ عند ظنه أنه بكل أحكام الدين عليم. ولقد وقع في هذه الآفة، بسبب عدم تأدبه على شيخ يوقفه على نقصه وعيبه. وعندما يغيب شيخ التربية، يحضر إبليس الذي ينفخ في العبد، حتى يتركه لا يرى على الأرض أحدا أعلم من نفسه في نظر نفسه. ولو كان ابن تيمية على أدنى نور، لأدرك الفرق بين زيارة المسجد وزيارة القبر النبوي في الوهلة الأولى؛ ولكنه كغيره من المحجوبين، لا يستطيع مجاوزة الألفاظ عند نظره في الكلام؛ وهذه الآفة هي مما يشترك معه فيها الكاتب نفسه. ولولا هذا الاشتراك في الصفة، ما ألزمنا الكاتب بالرجوع إلى أقوال ابن تيمية المرة بعد الأخرى؛ خصوصا وأن الكلام هنا هو عن محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث كان ينبغي أن يُؤتى بكلام المحبين فيها، لا بكلام الأجانب.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin