إحسان الإحسان - 10 -
الفصل الثاني: عقبة واقتحام:
إسماع الفطرة
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وإخوانه من قبله ومن بعده.
أستمطر الصلاة والسلام والبركة على خير الخلق وآله وصحبه وإخوانه من قبله ومن بعده. الذين من قبله هم الأنبياء. فما بال الذين من بعده؟]:
يريد الكاتب التنبيه إلى وجود قوم في مقابل الصحابة المرضيين من جهة الزمان، على المؤمنين معرفة فضلهم كما يعرفون فضل الصحابة. كل هذا، ليربط في الدعوة إلى الله بين سابقها ولاحقها؛ بين النبوة والخلافة التربوية إن توافرت شروطها. وهذا الربط تتضمنه آيات في مستهل سورة الجمعة، هي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4]. ومعنى الآيات على شدة وضوحه، هو مما يجهله المسلمون، ومما يتغافل عنه علماء الدين. والمقصود منه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أوكل الله إليه تعليم الناس وتزكيتهم، يفعل ذلك مع فئتين من الناس: هم الصحابة الذين آمنوا به وعاشوا معه صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهم أيضا من آمن به وجاء بعده في الزمان من الناس إلى يوم القيامة. وهذا الاختلاف في الزمان بين الفئتين، لا يؤثر شيئا في مقدرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على إيصال النفع إلى الفريقين؛ وإن اختلف المظهر الذي يُتلقى فيه عنه. فالصحابة لما تلقوا عن مظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه لا حاجة إلى الكلام عنهم لوضوح أمرهم، رضي الله عنهم. وأما من جاءوا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهم قسمان: قسم عاش في القرون الثلاثة الأولى، فهؤلاء يشبهون الصحابة في التلقي وإن غاب عنهم شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بسبب بقاء نور النبوة شائعا بينهم لقرب عهدهم؛ وهؤلاء هم التابعون حقيقة. والقسم الثاني، هم من جاءوا بعد عصر التابعين؛ وهؤلاء في الغالب يأخذون عن مظهر وراثي (وارث للنبوة)، لا يستغنون عنه؛ لأن النور في زمانهم لم يبق على شيوعه، وإنما تركز في قنوات تدق وتعظم كما هو شأن شبكة العروق في جسم الإنسان. وهؤلاء المستمدون من المتأخرين، هم أتباع الصوفية الأولين المعروفين من التاريخ. ويبقى قسم من المتأخرين، لا هم من الصحابة ولا من التابعين ليأخذوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة مباشرة أو شبه مباشرة؛ ولا هم ممن أخذ عن الورثة ليلحقوا بالأولين من المؤمنين؛ سيبقون مقطوعين عن نور النبوة المددي، وإن كانوا مسلمين. ومن هؤلاء علماء للدين، عادوا إلى عقولهم يأخذون عنها، ويعلِّمون الناس ما يصلون إليه بها؛ ومنهم عوام ليس لهم من الدين إلا نور الشهادة، وما وجدوا عليه آباءهم من ثقافة إسلامية يعيشون عليها. والكاتب يريد أن ينبه الناس (من علماء مقطوعين ومن عوام لا يفقهون)، إلى إمكان التلقي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من مظاهر وراثته الذين سماهم صلى الله عليه وآله وسلم إخوانا.
[روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: "السلام عليكم دَارَ قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقُون ودِدْت أن قد رأينا إِخواننا" قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: "أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد". الحديث.]:
الأخوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هنا، لا ينبغي أن يُفهم منها المعنى ذاته الذي يكون بينه وبين إخوانه من الأنبياء؛ لأنه لا نبي بعد نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم. وأما لمَ سماهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إخوانا رغم ذلك، فلمشابهتهم للأنبياء السابقين في الأمم السابقة من جهة الأخذ. وذلك لأن الأنبياء عليهم السلام، لم يكونوا يستمدون نبوتهم إلا من نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، من كونها هي "النبوة" في جمعيتها وشمولها. والورثة من أمتنا، يُشبهون الأنبياء السابقين، من كونهم مبلغين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبليغا مباشرا؛ لا يختلف عما عرفه الصحابة إلا من حيث المظهر؛ لأن مظهر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، لا أكمل منه ولا أدل، كما هو معلوم. ومكانة الوراثة للنبوة، مكانة جليلة، عمل على طمسها في أمتنا قوم من المغرضين، زعموا أنهم أحرص من غيرهم من المسلمين على التوحيد وعلى السنة؛ وهم في الحقيقة أعداء لله ورسوله، يصدق عليهم قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]. ولقد بدأ هذا التيار عمله في الأمة مباشرة بعد القرن الثالث، ولكنه استكمل قواعده على يد ابن تيمية، الذي حرف الدين حتى لم تبق له معه حقيقة، وإن كان يظهر منه حرص على صورته أكبر من حرص غيره في أعين الجاهلين. وحتى يقطع ابن تيمية الناس عن الاستمداد من نور النبوة، فإنه لم يكتف بالطعن في المظاهر الوراثية وحدها كما فعل سابقوه؛ وإنما تجاوزها إلى صرف الناس عن المظهر النبوي ذاته، بدعوى المحافظة على التوحيد؛ وكأن الناس قد علموا التوحيد من خارج المظهر النبوي يوما؟... أو كأن ذلك ممكن؟!... ولكن أين من يميّز ما نقول!...
ومن أوجب ما ينبغي رفعه من اللبس في هذه المسألة، زعم هذه المكانة (الوراثة) للفقهاء، الذين لم يبلغوا حتى مرتبة التلقي عن الورثة. فهذا قد حرف الوجهة، وجعل أمر الدين إلى الغافلين من الفقهاء، وما لبث الشأن أن صار بيعا للدين كما وقع قبلنا للنصارى ولليهود. ولقد كان الاتصال بأحد الورثة في السابق أمرا عسيرا بالمقارنة إلى زماننا؛ لأنه إن لم يُصادف أن يكون أحدهم من أهل البلد، فإن الوصول إليه كان من قبيل المحال. وما كل الناس يتوافر لهم من الشوق إلى الله ما يجعلهم يتحملون مشاق السفر وصعاب المغامرات. وأما اليوم، فإن التواصل في العالم بين الناس عاد من أسهل ما يكون، ولم يبق على الناس إلا أن يكونوا راغبين حقا في الاستمداد. وجانب الرغبة، لا شك كان لدى الأقدمين أقوى مما هو لدى المتأخرين، الذين لا يكاد جلهم يُبقون على جذوة الإيمان حية في قلوبهم، من شدة الفتن وانتشار الضلالات. لكن الأمر على كل حال أيسر من حيث الأسباب مما كان عليه فيما قبل؛ إن علمنا أن الورثة لا يخلو زمان منهم رضي الله عنهم.
[وروى مسلم عن أبي هريرة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "مِن أشَدِّ أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي، يَوَد أحدهم لو رآني بأهله وماله."]:
معنى هذا الحديث، هو أن ممن جاء بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الناس، من لا فرق بينه وبين الصحابة إلا الرؤية، التي امتاز بها الصحابة عن كل من جاء بعدهم. وفي سبيل هذه الرؤية، ولعلم هذه الطبقة بمكانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الله، فإنها لو عُرضت عليهم بفقد المال والأهل، بل والأنفس؛ لبذلوا كل ذلك، وهم يرون أنهم قد ربحوا الصفقة من غير أدنى شك!... يدل النبي صلى الله عليه وآله وسلم آخر أمته، على من يوازي في المرتبة أولها؛ فإن كانوا حقا من المعظمين للصحابة -كما نسمع كثيرا- فإن بينهم (بين المتأخرين) من هو كفء لهم في المكانة. فإن زهدوا فيمن دل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فضلهم من زمانهم، فليعلموا أنهم كاذبون في ادعائهم متابعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ادعاء تعظيم الصحابة رضي الله عنهم. وهذا المعنى الذي نذكره هنا، هو عينه ما يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ، لا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ.»[1].
وأما من أراد أن يُشابه الصحابة في الطلب، فلا بد له أن يكون مع أحد الورثة، ليشاركهم في المشرب، وإن اختلفت الصورة. وأما من يتوهم أنه يكون على قدم أحد الصحابة، من دون أن يكون على صفتهم في التلقي، فإنه يروم المحال، إلا أن يشاء الله. وأما من تحققت له صحبة أحد الورثة، فإنه سيعلم كلامنا ذوقا، ويراه عيانا، وإن كان إعرابه عنه سيُلاقى بالإعراض والنفور في الغالب ممن يحيطون به. وهذا معنى من معاني الغربة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض المتأخرين، حين قال: «بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ!»[2]. والكلام يطول في تفاصيل هذه المسألة، ونحن نريد أن ندل على مفاتيحها فحسب.
[وأخرج الدارمي أن أبا مُحَيْريز قال: قلت لأبي جمعة رجل من الصحابة: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال نعم أحدثك حديثا جيدا. تغدّينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة ابن الجراح، فقال: يا رسول الله؟ أحَدٌ خيرٌ منا؟ أسلمنا وجاهدنا معك! قال: "نعم! قوم يكونون من بعدكم، يؤمنون بي ولم يروني". وروى الحديث أيضا رزين.]:
هذا الحديث يثبت الأفضلية لبعض المتأخرين على الصحابة رضي الله عنهم، من وجه ما؛ ولو قال بهذا أحد من عند نفسه لكفره قوم يزعمون أنهم أعلم بالحق من غيرهم، وأحرص على الدين. غير أن هذه الأفضلية لا تثبت لكل مؤمن من المتأخرين بالإطلاق، إلا إن نافس الصحابة في المكانة (المقام) مع كونه لم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا سمع منه. ومن كل زمان زمرة يكونون من هذه الفئة بحمد الله، وهم الصديقون.
[هذه الأحاديث تثبت أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إخوانا من بعده، ليسوا أنبياء لأن النبوة به ختمت، لكن لهم فضلا بما أحبوه بحب الله، ولهم فضل بما آمنوا به ولم يروه، ولهم فضل بما صبروا على غربة الإسلام، وعلى شدة أعداء الإسلام على أهل الإيمان.]:
هذا التعميم لا يَبين معه معنى النصوص، إلا إن نُظرت على ضوء ما ذكرنا من تفاصيل آنفا.
[روى أبوداود والترمذي وقال حديث حسن غريب عن أبي أمامة الشعباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر. للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم". زاد أبو داود: "قيل: يا رسول الله؟ أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين رجلا منكم". الحديث. وللحديث طرق أخرى بعض أسانيدها صحيح.]:
هذه أفضلية من جهة الأجر، لا كالأفضليات التي سبقت. وأفضلية الأجر على العمل تأتي من صعوبة الإتيان به، مقارنة بزمان الصحابة؛ حيث كان الواحد منهم يجد عونا من إخوانه على الخير، بعكس المتأخرين الذين يُعادون لأجل ذلك. وهذا من العدل الإلهي الذي يؤتي كل ذي حق حقه، بأدق المعايير. والعامة من الناس يغفلون عن هذا المعنى، ولا ينتظرون ظهوره إلا في الآخرة. واللبس يقع لهم من اختلاط صورة التدين عليهم، بحقيقة التدين ذاته. لهذا يسهل على أهل الضلال من المتظاهرين أخذهم إلى سبُل الضلال. وهذا الصنف من الإضلال، هو من أشده؛ لأنه يكون بما اعتاد الناس النظر إليه على أنه من الهدى. ولا نجاة من هذا الصنف ومن غيره، إلا بالتوكل على الله وحده.
[لمثل هذه المزية التي ترفعُك إلى مصاف الرجال فليعمل العاملون. لهذا استمطرت الصلوات والسلام والبركة على الصحب والإخوان بعد الآل.]:
يُفهِم الكاتب قراءه، أن هذا هو ما دعاه إلى الصلاة والسلام على الإخوان؛ وهذا منه حسن. ليت الناس يعملون به، فإنه من أسباب العثور عليهم ونيل بركتهم في كل الأزمنة التي تأتي بعد القرن الأول وإلى قيام الساعة.
[وفي كتابي هذا أبدأ كل فقرة بالبسملة فكل كلمة أمر ذو بال، وأرَصِّع كل فقرة في البداية بدعاء قرآني أو نبوي أو بهما معا، وأوشيها في آخرها بشعر يرقق الشعور. والشعر بعضه حكمة. روى البخاري في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والحُداء وما يكره منه، أن أبي بن كعب أخْبَر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الشعر لحكمة". والحكمة كما قال البخاري في مكان آخر هي: "الصواب في غير النبوة".
أريد في هذا الكتاب أخي وأختي، والله المستعان، أن أحدثك حديث القلب، حديث الفطرة، في موضوع هو أجل الموضُوعات على الإطلاق، وهو موضوع صلة العبد بربه، وتقرب العبد من ربه، ووصول العبد إلى ربه، وفوز العبد بربه. ويا خسارة من خرج من الدنيا وليس له حظ من الله ولا نصيب ولا علم ولا هدى ولا كتاب منير؟]:
يختم الكاتب هذا الجزء بكلام خطابي وعظي، سنرى إلى أين يُفضي...
[ليس يجسر عاقل أن يخوض فيما ليس له به علم مخافة أن يفتضح عند الناس. فكيف يجسر مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخوض في غمار الحديث عن جوهر الدين ولبه، وهو حب الله ومعرفة الله، وهـو غريب عن مصادر المعرفة ومواردها. إنها إذن الفضيحة الكبرى يوم القيامة.]:
قد تبدأ الفضيحة لمن يتجاوز طوره، من الدنيا؛ لأن لكل علم أهلا ينفون عنه ما ليس منه. نقول هذا، لأن بعض أهل الضلال يستأنسون عندما يعلمون أن أمر الحساب مؤجل إلى يوم القيامة. فهيهات!... الأمر ليس بيد أحد من الخلق؛ هو بيد الله وحده، يفعل فيه سبحانه ما يشاء: يعجل أو يؤجل!... يقول الله عن قوم: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114].
[وقد تجرأ كثير من المطالعين في الأوراق على "التأليف" في علم التصوف، وأقحموا في ورقاتهم الكئيبة ما التقطوه من فتات موائد أهل العلم ليلفقوا أحكاما نهائية بأن التصوف تلبيس إبليس، وعمموا الأحكام وأضرموا نار اللجاج وأثاروا دخان العجاج.]:
يعرّض الكاتب بالتيميين الوهابية، مع أنه أثبت الفضل لإمامهم وبعض رؤوسهم؛ وهذا من أعسر ما يُراد من الأتباع، ومن أغمض ما يُدعى إليه الناس عموما. ولقد رأينا أثر هذا الخلط من كثيرين عرفناهم في مُدد من الزمان ليست بالقصيرة؛ بل إن الشلل العام الذي يسم الأمة جمعاء، ليس ببعيد عما نذكر من أمر هذا الخلط، وهذا التلبيس.
[فتعال أحدثك بلسان أهل مكة وهم أدرى بشعابها. قدمت لك في الفصل الأول من هذا الكتاب وقائع موثقة عن لقاء الفقهاء والعلماء والمحدثين بالمشايخ المربين. ووصفت لك من أحوالهم، وسردت لك من أقوالهم وشهاداتهم. وأفضل أن أنزهك في حدائق كتب القوم طيبي الأنفاس تسمع كلامهم مباشرة، بعد أن كنت منذ قريب من عشرين سنة كتَبْتُ، وكنت يومئذ في أول الطريق، شهادة عن "تجربتي الشخصية". فثارت علي الشبهات، وأشرعت في وجهي الأسنة. وقيل: طرقي مخرف لا يكفر زيدا وعمرا من الناس! وينقل عن "الكتب الصفراء" حديث خرافة! فاسِد العقيدة الخ. ولست أبالي حين أقتل مسلما...]:
ادعاء الكاتب أنه يتكلم بلسان أهل مكة، يعني أنه من الأولياء العارفين بعلم التزكية على أقل تقدير؛ لأن مكة من جهة المعنى هي الحضرة الإلهية، وأصحابها هم العارفون أهل العندية. وسنرى من خلال كل ما سيعقب من كلام، مدى صحة هذه الدعوى؛ لأن لكل دعوى برهانا، يعلمه أهل مجالها...
وأما الشهادات السابقة التي يُذكّرنا الكاتب بها، فقد مر بنا ما في طيها من تناقض يقلل من قيمتها العلمية هنا. وأما ما لاقى الأستاذ من متسلفة الزمان، فهو بسبب رغبته الجمع بين ما لا يجتمع، كما سبق أن بيّنّا. فهو أراد من جهة أن يُعلن موافقته لابن تيمية والشوكاني، ومن جهة أخرى أن يبقى مع منشدي بردة البوصيري؛ والمتسلفة واضحون في موقفهم، لا يريدون خلطا ولا مداراة. ولو كان الكاتب على يقين مما يدعو إليه من تصوف، فإنه كان يكفيه أن يُعلنه وينافح عنه بما يستطيع من أدلة فحسب. {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].
[أفضل أن أكون مُسَمِّعا لصدى تلك الأصوات التي قلما تجد في عصرنا صدى يرددها، على أنني لست ببغائي المحتد بل أحيى معاني ما أكتب بلحمي ودمي وروحي وعقلي. وفضل الله على آخر هذه الأمة ما قيد بِعصر. ولله الحمد من قبل ومن بعد.]:
سنرى إلى أي مدى سيكون تسميعه لأصوات الصوفية موفقا ومُوافِقا. وإن صح منه هذا، فإنه الخير كله والشرف كله...
[أخي وأختي، إنك تأتي الله يوم القيامة فردا، فتعال اجلس إلي، واصبر عليّ، حتى أخبرك بما لقي به الرجال من أهل الله والنساء ربهم، وماذا غنموا من الدنيا ليوم اللقاء. واسمع، اسمع.]:
الخطاب العام، لا بد أن يكون عاميا وللعوام؛ هذه قاعدة. وأما من يحتج بكلام الرسل عليهم السلام، وبكونه في متناول العموم على ما لهم من رفعة، فليعلم أن الأمر معهم مختلف؛ لأنهم يدعون الناس من كل المراتب؛ ولهم مقدرة في الخطاب، تجعله على طبقات في نفسه، وإن اتحد منه اللفظ. وهذه الخصيصة ليست لغيرهم، من العوام أو من الخواص. فليُحفظ هذا، فإنه من مفاتيح العلم. ولو سمح الدهر ببيان ما في الأحاديث النبوية المشهورة التي يتداولها العوام من معارف لا يرقى إليها الخواص أنفسهم، لرأى الناس العجب!...
الفصل الثاني: عقبة واقتحام:
إسماع الفطرة
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وإخوانه من قبله ومن بعده.
أستمطر الصلاة والسلام والبركة على خير الخلق وآله وصحبه وإخوانه من قبله ومن بعده. الذين من قبله هم الأنبياء. فما بال الذين من بعده؟]:
يريد الكاتب التنبيه إلى وجود قوم في مقابل الصحابة المرضيين من جهة الزمان، على المؤمنين معرفة فضلهم كما يعرفون فضل الصحابة. كل هذا، ليربط في الدعوة إلى الله بين سابقها ولاحقها؛ بين النبوة والخلافة التربوية إن توافرت شروطها. وهذا الربط تتضمنه آيات في مستهل سورة الجمعة، هي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4]. ومعنى الآيات على شدة وضوحه، هو مما يجهله المسلمون، ومما يتغافل عنه علماء الدين. والمقصود منه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أوكل الله إليه تعليم الناس وتزكيتهم، يفعل ذلك مع فئتين من الناس: هم الصحابة الذين آمنوا به وعاشوا معه صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهم أيضا من آمن به وجاء بعده في الزمان من الناس إلى يوم القيامة. وهذا الاختلاف في الزمان بين الفئتين، لا يؤثر شيئا في مقدرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على إيصال النفع إلى الفريقين؛ وإن اختلف المظهر الذي يُتلقى فيه عنه. فالصحابة لما تلقوا عن مظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه لا حاجة إلى الكلام عنهم لوضوح أمرهم، رضي الله عنهم. وأما من جاءوا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهم قسمان: قسم عاش في القرون الثلاثة الأولى، فهؤلاء يشبهون الصحابة في التلقي وإن غاب عنهم شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بسبب بقاء نور النبوة شائعا بينهم لقرب عهدهم؛ وهؤلاء هم التابعون حقيقة. والقسم الثاني، هم من جاءوا بعد عصر التابعين؛ وهؤلاء في الغالب يأخذون عن مظهر وراثي (وارث للنبوة)، لا يستغنون عنه؛ لأن النور في زمانهم لم يبق على شيوعه، وإنما تركز في قنوات تدق وتعظم كما هو شأن شبكة العروق في جسم الإنسان. وهؤلاء المستمدون من المتأخرين، هم أتباع الصوفية الأولين المعروفين من التاريخ. ويبقى قسم من المتأخرين، لا هم من الصحابة ولا من التابعين ليأخذوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة مباشرة أو شبه مباشرة؛ ولا هم ممن أخذ عن الورثة ليلحقوا بالأولين من المؤمنين؛ سيبقون مقطوعين عن نور النبوة المددي، وإن كانوا مسلمين. ومن هؤلاء علماء للدين، عادوا إلى عقولهم يأخذون عنها، ويعلِّمون الناس ما يصلون إليه بها؛ ومنهم عوام ليس لهم من الدين إلا نور الشهادة، وما وجدوا عليه آباءهم من ثقافة إسلامية يعيشون عليها. والكاتب يريد أن ينبه الناس (من علماء مقطوعين ومن عوام لا يفقهون)، إلى إمكان التلقي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من مظاهر وراثته الذين سماهم صلى الله عليه وآله وسلم إخوانا.
[روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: "السلام عليكم دَارَ قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقُون ودِدْت أن قد رأينا إِخواننا" قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: "أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد". الحديث.]:
الأخوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هنا، لا ينبغي أن يُفهم منها المعنى ذاته الذي يكون بينه وبين إخوانه من الأنبياء؛ لأنه لا نبي بعد نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم. وأما لمَ سماهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إخوانا رغم ذلك، فلمشابهتهم للأنبياء السابقين في الأمم السابقة من جهة الأخذ. وذلك لأن الأنبياء عليهم السلام، لم يكونوا يستمدون نبوتهم إلا من نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، من كونها هي "النبوة" في جمعيتها وشمولها. والورثة من أمتنا، يُشبهون الأنبياء السابقين، من كونهم مبلغين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبليغا مباشرا؛ لا يختلف عما عرفه الصحابة إلا من حيث المظهر؛ لأن مظهر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، لا أكمل منه ولا أدل، كما هو معلوم. ومكانة الوراثة للنبوة، مكانة جليلة، عمل على طمسها في أمتنا قوم من المغرضين، زعموا أنهم أحرص من غيرهم من المسلمين على التوحيد وعلى السنة؛ وهم في الحقيقة أعداء لله ورسوله، يصدق عليهم قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]. ولقد بدأ هذا التيار عمله في الأمة مباشرة بعد القرن الثالث، ولكنه استكمل قواعده على يد ابن تيمية، الذي حرف الدين حتى لم تبق له معه حقيقة، وإن كان يظهر منه حرص على صورته أكبر من حرص غيره في أعين الجاهلين. وحتى يقطع ابن تيمية الناس عن الاستمداد من نور النبوة، فإنه لم يكتف بالطعن في المظاهر الوراثية وحدها كما فعل سابقوه؛ وإنما تجاوزها إلى صرف الناس عن المظهر النبوي ذاته، بدعوى المحافظة على التوحيد؛ وكأن الناس قد علموا التوحيد من خارج المظهر النبوي يوما؟... أو كأن ذلك ممكن؟!... ولكن أين من يميّز ما نقول!...
ومن أوجب ما ينبغي رفعه من اللبس في هذه المسألة، زعم هذه المكانة (الوراثة) للفقهاء، الذين لم يبلغوا حتى مرتبة التلقي عن الورثة. فهذا قد حرف الوجهة، وجعل أمر الدين إلى الغافلين من الفقهاء، وما لبث الشأن أن صار بيعا للدين كما وقع قبلنا للنصارى ولليهود. ولقد كان الاتصال بأحد الورثة في السابق أمرا عسيرا بالمقارنة إلى زماننا؛ لأنه إن لم يُصادف أن يكون أحدهم من أهل البلد، فإن الوصول إليه كان من قبيل المحال. وما كل الناس يتوافر لهم من الشوق إلى الله ما يجعلهم يتحملون مشاق السفر وصعاب المغامرات. وأما اليوم، فإن التواصل في العالم بين الناس عاد من أسهل ما يكون، ولم يبق على الناس إلا أن يكونوا راغبين حقا في الاستمداد. وجانب الرغبة، لا شك كان لدى الأقدمين أقوى مما هو لدى المتأخرين، الذين لا يكاد جلهم يُبقون على جذوة الإيمان حية في قلوبهم، من شدة الفتن وانتشار الضلالات. لكن الأمر على كل حال أيسر من حيث الأسباب مما كان عليه فيما قبل؛ إن علمنا أن الورثة لا يخلو زمان منهم رضي الله عنهم.
[وروى مسلم عن أبي هريرة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "مِن أشَدِّ أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي، يَوَد أحدهم لو رآني بأهله وماله."]:
معنى هذا الحديث، هو أن ممن جاء بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الناس، من لا فرق بينه وبين الصحابة إلا الرؤية، التي امتاز بها الصحابة عن كل من جاء بعدهم. وفي سبيل هذه الرؤية، ولعلم هذه الطبقة بمكانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الله، فإنها لو عُرضت عليهم بفقد المال والأهل، بل والأنفس؛ لبذلوا كل ذلك، وهم يرون أنهم قد ربحوا الصفقة من غير أدنى شك!... يدل النبي صلى الله عليه وآله وسلم آخر أمته، على من يوازي في المرتبة أولها؛ فإن كانوا حقا من المعظمين للصحابة -كما نسمع كثيرا- فإن بينهم (بين المتأخرين) من هو كفء لهم في المكانة. فإن زهدوا فيمن دل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فضلهم من زمانهم، فليعلموا أنهم كاذبون في ادعائهم متابعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ادعاء تعظيم الصحابة رضي الله عنهم. وهذا المعنى الذي نذكره هنا، هو عينه ما يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ، لا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ.»[1].
وأما من أراد أن يُشابه الصحابة في الطلب، فلا بد له أن يكون مع أحد الورثة، ليشاركهم في المشرب، وإن اختلفت الصورة. وأما من يتوهم أنه يكون على قدم أحد الصحابة، من دون أن يكون على صفتهم في التلقي، فإنه يروم المحال، إلا أن يشاء الله. وأما من تحققت له صحبة أحد الورثة، فإنه سيعلم كلامنا ذوقا، ويراه عيانا، وإن كان إعرابه عنه سيُلاقى بالإعراض والنفور في الغالب ممن يحيطون به. وهذا معنى من معاني الغربة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض المتأخرين، حين قال: «بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ!»[2]. والكلام يطول في تفاصيل هذه المسألة، ونحن نريد أن ندل على مفاتيحها فحسب.
[وأخرج الدارمي أن أبا مُحَيْريز قال: قلت لأبي جمعة رجل من الصحابة: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال نعم أحدثك حديثا جيدا. تغدّينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة ابن الجراح، فقال: يا رسول الله؟ أحَدٌ خيرٌ منا؟ أسلمنا وجاهدنا معك! قال: "نعم! قوم يكونون من بعدكم، يؤمنون بي ولم يروني". وروى الحديث أيضا رزين.]:
هذا الحديث يثبت الأفضلية لبعض المتأخرين على الصحابة رضي الله عنهم، من وجه ما؛ ولو قال بهذا أحد من عند نفسه لكفره قوم يزعمون أنهم أعلم بالحق من غيرهم، وأحرص على الدين. غير أن هذه الأفضلية لا تثبت لكل مؤمن من المتأخرين بالإطلاق، إلا إن نافس الصحابة في المكانة (المقام) مع كونه لم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا سمع منه. ومن كل زمان زمرة يكونون من هذه الفئة بحمد الله، وهم الصديقون.
[هذه الأحاديث تثبت أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إخوانا من بعده، ليسوا أنبياء لأن النبوة به ختمت، لكن لهم فضلا بما أحبوه بحب الله، ولهم فضل بما آمنوا به ولم يروه، ولهم فضل بما صبروا على غربة الإسلام، وعلى شدة أعداء الإسلام على أهل الإيمان.]:
هذا التعميم لا يَبين معه معنى النصوص، إلا إن نُظرت على ضوء ما ذكرنا من تفاصيل آنفا.
[روى أبوداود والترمذي وقال حديث حسن غريب عن أبي أمامة الشعباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر. للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم". زاد أبو داود: "قيل: يا رسول الله؟ أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين رجلا منكم". الحديث. وللحديث طرق أخرى بعض أسانيدها صحيح.]:
هذه أفضلية من جهة الأجر، لا كالأفضليات التي سبقت. وأفضلية الأجر على العمل تأتي من صعوبة الإتيان به، مقارنة بزمان الصحابة؛ حيث كان الواحد منهم يجد عونا من إخوانه على الخير، بعكس المتأخرين الذين يُعادون لأجل ذلك. وهذا من العدل الإلهي الذي يؤتي كل ذي حق حقه، بأدق المعايير. والعامة من الناس يغفلون عن هذا المعنى، ولا ينتظرون ظهوره إلا في الآخرة. واللبس يقع لهم من اختلاط صورة التدين عليهم، بحقيقة التدين ذاته. لهذا يسهل على أهل الضلال من المتظاهرين أخذهم إلى سبُل الضلال. وهذا الصنف من الإضلال، هو من أشده؛ لأنه يكون بما اعتاد الناس النظر إليه على أنه من الهدى. ولا نجاة من هذا الصنف ومن غيره، إلا بالتوكل على الله وحده.
[لمثل هذه المزية التي ترفعُك إلى مصاف الرجال فليعمل العاملون. لهذا استمطرت الصلوات والسلام والبركة على الصحب والإخوان بعد الآل.]:
يُفهِم الكاتب قراءه، أن هذا هو ما دعاه إلى الصلاة والسلام على الإخوان؛ وهذا منه حسن. ليت الناس يعملون به، فإنه من أسباب العثور عليهم ونيل بركتهم في كل الأزمنة التي تأتي بعد القرن الأول وإلى قيام الساعة.
[وفي كتابي هذا أبدأ كل فقرة بالبسملة فكل كلمة أمر ذو بال، وأرَصِّع كل فقرة في البداية بدعاء قرآني أو نبوي أو بهما معا، وأوشيها في آخرها بشعر يرقق الشعور. والشعر بعضه حكمة. روى البخاري في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والحُداء وما يكره منه، أن أبي بن كعب أخْبَر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الشعر لحكمة". والحكمة كما قال البخاري في مكان آخر هي: "الصواب في غير النبوة".
أريد في هذا الكتاب أخي وأختي، والله المستعان، أن أحدثك حديث القلب، حديث الفطرة، في موضوع هو أجل الموضُوعات على الإطلاق، وهو موضوع صلة العبد بربه، وتقرب العبد من ربه، ووصول العبد إلى ربه، وفوز العبد بربه. ويا خسارة من خرج من الدنيا وليس له حظ من الله ولا نصيب ولا علم ولا هدى ولا كتاب منير؟]:
يختم الكاتب هذا الجزء بكلام خطابي وعظي، سنرى إلى أين يُفضي...
[ليس يجسر عاقل أن يخوض فيما ليس له به علم مخافة أن يفتضح عند الناس. فكيف يجسر مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخوض في غمار الحديث عن جوهر الدين ولبه، وهو حب الله ومعرفة الله، وهـو غريب عن مصادر المعرفة ومواردها. إنها إذن الفضيحة الكبرى يوم القيامة.]:
قد تبدأ الفضيحة لمن يتجاوز طوره، من الدنيا؛ لأن لكل علم أهلا ينفون عنه ما ليس منه. نقول هذا، لأن بعض أهل الضلال يستأنسون عندما يعلمون أن أمر الحساب مؤجل إلى يوم القيامة. فهيهات!... الأمر ليس بيد أحد من الخلق؛ هو بيد الله وحده، يفعل فيه سبحانه ما يشاء: يعجل أو يؤجل!... يقول الله عن قوم: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114].
[وقد تجرأ كثير من المطالعين في الأوراق على "التأليف" في علم التصوف، وأقحموا في ورقاتهم الكئيبة ما التقطوه من فتات موائد أهل العلم ليلفقوا أحكاما نهائية بأن التصوف تلبيس إبليس، وعمموا الأحكام وأضرموا نار اللجاج وأثاروا دخان العجاج.]:
يعرّض الكاتب بالتيميين الوهابية، مع أنه أثبت الفضل لإمامهم وبعض رؤوسهم؛ وهذا من أعسر ما يُراد من الأتباع، ومن أغمض ما يُدعى إليه الناس عموما. ولقد رأينا أثر هذا الخلط من كثيرين عرفناهم في مُدد من الزمان ليست بالقصيرة؛ بل إن الشلل العام الذي يسم الأمة جمعاء، ليس ببعيد عما نذكر من أمر هذا الخلط، وهذا التلبيس.
[فتعال أحدثك بلسان أهل مكة وهم أدرى بشعابها. قدمت لك في الفصل الأول من هذا الكتاب وقائع موثقة عن لقاء الفقهاء والعلماء والمحدثين بالمشايخ المربين. ووصفت لك من أحوالهم، وسردت لك من أقوالهم وشهاداتهم. وأفضل أن أنزهك في حدائق كتب القوم طيبي الأنفاس تسمع كلامهم مباشرة، بعد أن كنت منذ قريب من عشرين سنة كتَبْتُ، وكنت يومئذ في أول الطريق، شهادة عن "تجربتي الشخصية". فثارت علي الشبهات، وأشرعت في وجهي الأسنة. وقيل: طرقي مخرف لا يكفر زيدا وعمرا من الناس! وينقل عن "الكتب الصفراء" حديث خرافة! فاسِد العقيدة الخ. ولست أبالي حين أقتل مسلما...]:
ادعاء الكاتب أنه يتكلم بلسان أهل مكة، يعني أنه من الأولياء العارفين بعلم التزكية على أقل تقدير؛ لأن مكة من جهة المعنى هي الحضرة الإلهية، وأصحابها هم العارفون أهل العندية. وسنرى من خلال كل ما سيعقب من كلام، مدى صحة هذه الدعوى؛ لأن لكل دعوى برهانا، يعلمه أهل مجالها...
وأما الشهادات السابقة التي يُذكّرنا الكاتب بها، فقد مر بنا ما في طيها من تناقض يقلل من قيمتها العلمية هنا. وأما ما لاقى الأستاذ من متسلفة الزمان، فهو بسبب رغبته الجمع بين ما لا يجتمع، كما سبق أن بيّنّا. فهو أراد من جهة أن يُعلن موافقته لابن تيمية والشوكاني، ومن جهة أخرى أن يبقى مع منشدي بردة البوصيري؛ والمتسلفة واضحون في موقفهم، لا يريدون خلطا ولا مداراة. ولو كان الكاتب على يقين مما يدعو إليه من تصوف، فإنه كان يكفيه أن يُعلنه وينافح عنه بما يستطيع من أدلة فحسب. {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].
[أفضل أن أكون مُسَمِّعا لصدى تلك الأصوات التي قلما تجد في عصرنا صدى يرددها، على أنني لست ببغائي المحتد بل أحيى معاني ما أكتب بلحمي ودمي وروحي وعقلي. وفضل الله على آخر هذه الأمة ما قيد بِعصر. ولله الحمد من قبل ومن بعد.]:
سنرى إلى أي مدى سيكون تسميعه لأصوات الصوفية موفقا ومُوافِقا. وإن صح منه هذا، فإنه الخير كله والشرف كله...
[أخي وأختي، إنك تأتي الله يوم القيامة فردا، فتعال اجلس إلي، واصبر عليّ، حتى أخبرك بما لقي به الرجال من أهل الله والنساء ربهم، وماذا غنموا من الدنيا ليوم اللقاء. واسمع، اسمع.]:
الخطاب العام، لا بد أن يكون عاميا وللعوام؛ هذه قاعدة. وأما من يحتج بكلام الرسل عليهم السلام، وبكونه في متناول العموم على ما لهم من رفعة، فليعلم أن الأمر معهم مختلف؛ لأنهم يدعون الناس من كل المراتب؛ ولهم مقدرة في الخطاب، تجعله على طبقات في نفسه، وإن اتحد منه اللفظ. وهذه الخصيصة ليست لغيرهم، من العوام أو من الخواص. فليُحفظ هذا، فإنه من مفاتيح العلم. ولو سمح الدهر ببيان ما في الأحاديث النبوية المشهورة التي يتداولها العوام من معارف لا يرقى إليها الخواص أنفسهم، لرأى الناس العجب!...
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin