إحسان الإحسان - 9 -
مراجعة وتوبة
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[صاحبنا الإمام الشوكاني نشأ زيديا شيعيا، ثم توسعت مداركه حتى بلغ درجة الاجتهاد. ونجده في كتاب «نيل الأوطار»، وهو شرح لكتاب «منتقى الأخبار» لابن تيمية الجد، يمشي مع التشدد في مسألة التمسح بالأضرحة والحلف بغير الله، ويندد «بالكفر الفظيع والمنكر الشنيع» و«الشرك المبين». ويستعدي العلماء والحكام قائلا: «فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك المبين؟»]:
يريد الكاتب إرغامنا على اتباع الشوكاني، وكأنه إمام للأمة لا تنبغي مخالفته؛ وهو في الحقيقة فقيه كآحاد الفقهاء المقلدين، الذين لا يتمكنون من معرفة الدين الذي هو أوسع من المذهب. وأما صفة الاجتهاد التي أضفاها عليه الكاتب، فهي من الاجتهاد المعروف داخل المذاهب، لا الاجتهاد المطلق. كل هذا، من وجه الفقه وحده، الذي ليس هو العلم الديني كله. ولكن هذا الخلط، استمر من بداية "عصر التدوين" إلى اليوم، من دون أن يتصدى له من له أهلية إعادة الأمور إلى نصابها من الدين. لهذا، فإن قول الكاتب عن الشوكاني إنه قد بلغ درجة الاجتهاد، يكاد يكون لا معنى له؛ بما أن مجال الاجتهاد نفسه غير متبيَّن للعموم. وحُكم الشوكاني ومن هم على شاكلته، بعد ذلك على الناس، ونسبتهم هذا إلى الشرك وهذا إلى الكفر، ليس في الغالب صحيحا؛ لأن الحكم هنا قد خرج من مجال الفقه العام، إلى مجال التوحيد الذي هو من العلم الخاص. والتوحيد الذي يعلمه الشوكاني، ويعلمه ابن تيمية قبله لا يتجاوز العام منه، والذي يكون عليه جميع المسلمين. وما من فرق في مجال التوحيد بين من ذَكرنا وعوام الناس، إلا ما يكون من إدراك لأحكام الفقه وقواعده؛ وهذا لا يعطي الأهلية بالكلام في التوحيد، ناهيك عن الحكم على عقائد الناس وترتيبها. وكل ما نشأ عن هذا الخلط في المراتب، ما أفلح إلا في توسيع دائرة الفتنة، وفي اختراع مذاهب عقدية جديدة، صارت عاملة في الأمة بالتفرقة، إلى جانب المذاهب الفقهية الأولى. ونحن لا نتكلم عن توحيد ابن تيمية ومن تبعه، إلا من مرتبة التوحيد الخاص؛ لذلك فأحكامنا، وإن كنا أحيانا لا ندخل في تفاصيل بنائها، متيقّنة وبيّنة. والشرك الذي يجعله التيميون أصلا لدى الناس إلى أن يثبت العكس، ليس الأمر فيه كما يُظن؛ فهو لا يقع في الحقيقة، إلا ممن نوى بتوجهه إلى شخص أو إلى صاحب قبر أو إلى صنم أنه يعبده: إما من دون الله، وإما مع الله؛ غير هذا لا يصح من جهة الشرع. ولهذا السبب كان الله يذكر عبارة {من دون الله} عند المواطن التي تكون مظنة لاعتقاد شرك القائم فيها. فمن ذلك قوله تعالى (على سبيل المثال): {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. وفي هذا التعبير القرآني سر لا يجوز كشفه للعموم، نحن نعلم منه بطلان القول بشرك المسلمين، الذين حكم الشوكاني بشركهم.
وأما من يريد معرفة السبب الذي دعا الشوكاني ومن يوافقه، إلى تكفير شطر من المسلمين، وهم يعلمون أن مسألة التكفير خطيرة لا يسلم منها إلا من يكون فيها على بيّنة لا تتطرق الشبهة إليها البتة؛ فإننا نجيبه بأن ذلك وقع منهم، عندما دخلوا بعقولهم في مجال العقيدة والتوحيد. ومجال العقيدة، منطقه فوق المنطق العقلي العام، الذي يعتمده الفقهاء أنفسهم في القياسات. وقد دخلت هذه الشبهة على الفقهاء، عندما رخص لهم الشرع بإعمال المنطق العقلي في استنباط الأحكام، فظنوا أنه قد رخص بذلك في كل الدين؛ وهو غلط منهم أصابهم في مقتل. نعني من هذا، أن المنطق العقلي والتفكر، هو مما تقوم عليه مرتبة الإسلام في جلها، لكنه يتضاءل كلما أوغل العبد في الدين، من مرتبة الإيمان إلى الإحسان... وبغياب هذا الأمر الذي نذكره هنا عن العقول، قد وقع خلط منذ القرون الأولى كما ذكرنا آنفا، وصار يتفاقم مع مرور الزمان واشتداد الغفلة. ذلك لأن الغفلة كلما قويت، رجع الناس بها إلى عقولهم (نفوسهم)، بدل أن يعودوا إلى ربهم يستهدونه. وقد جاء في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي: كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ.»[1]؛ ولم يدل سبحانه ضُلاّل عباده على عقولهم!... فليُحفظ هذا!... وإن من أشد الضلالات، ربط هداية الله بإعمال العقل، كما يقول بذلك من لا علم له بالهداية ولا بطريقها. وتجد العوام ينساقون خلف هذه الضلالات، لظنهم أنها مما يتأيد الدينُ فيه بالعقل. وهيهات!... ومتى كان الدين بحاجة إلى تأييد؟!... ولو أن الناس حافظوا على التوجه الأساس، الذي يتبيّنون منه التوجه إلى الله من التوجه إلى سواه بسهولة، لكفاهم في تمييز سبيل الهدى من سبل الضلال؛ ولكنهم عندما ينزلون إلى التفاصيل، يفقدون وضوح الرؤية فيسهل إضلالهم. وهذا الأمر على شدة وضوحه، لا يكاد يعمل به إلا أفراد من الناس.
وإن كان الكاتب يسوق كلام الشوكاني هنا، وكأنه حجة هو معجب بها؛ أو كأنه دليل على فقه الرجل وصحة غيرته على الدين؛ فالأمر ليس كذلك وعلى النقيض؛ إنما هو توافق بين كاتبنا ومَن يأتي بهم، على عدم وضوح في الرؤية والعلم، انجر عنه غلط في أحكام، لا يسلم صاحبها من تبعاتها أبدا؛ لأنها دخول فيما هو من اختصاص الربوبية، وتجاوز لطور العبودية. ولا ينفع هنا حسن النية، إن اعتذر به صاحب التكفير؛ كأن يقول الواحد منهم: إنما فعلت ذلك سدا للذرائع، وحماية لعقائد العوام!... ذلك لأن هذه المسألة ليست من الصغائر، بل هي مما يشتد فيه تحريج الشرع بما لا يقارن مع سواها. وهذه سقطة كبيرة للأستاذ عبد السلام، نسأل الله أن يقطع عنه بعض سوئها بما نصححه له هنا. فإن الناس لا يسألون عن أحوال أصحاب المقولات حيث هم في البرزخ، ولا يهمهم إلا استعمالها بعدهم في الانتصار لهواهم. ومن كان يحب عبدا حقيقة، فليعمل على قطع آثار سقطاته عنه بعد موته، إن كان يعلم. فهذا هو ما يقتضيه البر والشكر...
[هذا الرجل المعتدل الذي قرأنا فتواه المنظومة في الفقرة السابقة الداعية إلى الرفق خاض معارك من جملتها معركته مع الروافض.]:
يريد الكاتب أن يقنعنا باعتدال الشوكاني، ليمرر الأحكام المذكورة في الفقرة السابقة، التي هي ليست من التشدد فحسب، وإنما هي من الضلال. والشوكاني معتدل (مع ردنا للمصطلح) بمنطق من هم على رأيه، أو بمنطق من هم أشد غلوا منه، أو بمنطق من يرغب في استمالة شطر من التيميين به وحدهم. لقد سبق للكاتب أن حذرنا من معرفة الحق بالرجال، وها هو يأتينا برجال، يزعم أنهم يعرفون الحق؛ لنقبل منهم ومنه من دون تمحيص؛ وهو بهذا التناقض، يفقد الصدقية عند القارئ اللبيب فحسب. وقد كان حريا به، أن يأتي بالأدلة عند ذكر بعض الأحكام، كالتكفير ورمي الناس بالشرك؛ وإن كانوا -كما يشير الكاتب دائما- من الروافض؛ لأن الروافض لا يجوز أيضا تكفيرهم، وإن كانت بعض مقولاتهم من الكبائر. هذا، إن كنا نريد أن نسير في الأحكام على قواعد علمية تشمل الموافق والمخالف جميعا. وأما إن كنا ننزل القواعد بانتقائية، ومن غير عدل وإنصاف؛ فإن ذلك يفقدنا أهلية الكلام في شؤون الأمة العامة، كما يبغي صاحبنا أن يُفهمنا بجمعه في الكلام بين السنة والشيعة، من غير مراعاة لما ذكرنا. إنه بهذا الفعل، يعيد تأسيس مذهب أهل السنة مع إيهام المعاصرين بالتجديد في التناول. وهذا احتيال غير مجد، لكونه لا يضيف جديدا إلى الواقع، مع استمرار العمل على الوهم السابق الذي يجعل الفرقة التي ننتمي إليها على "معظم" الحق، إن لم تكن على الحق كله.
[لنستمع إليه يقص قصتها فهي مليئة بالعبر. قال رحمه الله: «ولما ألفت الرسالة التي سميتها «إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي» ونقلت إجماعهم من ثلاث عشرة طريقة على عدم ذكر الصحابة بسب أو ما يقاربه، وقعت هذه الرسالة بأيدي جماعة من الرافضة الذين بصنعاء المخالفين لمذاهب أهل البيت، فجالوا وصالوا وتعصبوا وتحزبوا وأجابوا بأجوبة ليس فيها إلا محض السباب والمشاتمة (...). وكل من عنده أدنى معرفة يعلم أني لم أذكر فيها إلا مجرد الذب عن أعراض الصحابة الذين هم خير القرون، مقتصرا على نصوص الأئمة من أهل البيت، ليكون ذلك أوقع في نفوس من يكذب عليهم وينسب إلى مذاهبهم ما هم منه برآء. ولكن كان أهل العلم يخافون على أنفسهم ويحمون أعراضهم، فيسكتون عن العامة. وكثير منهم كان يصوبهم مداراة لهم. وهذه الدسيسة هي الموجبة لاضطهاد علماء اليمن وتسلط العامة عليهم وخمول ذكرهم وسقوط مراتبهم، لأنهم يكتمون الحق. فإذا تكلم واحد منهم وثارت عليه العامة صانعوهم وداهنوهم وأوهموهم أنهم على الصواب. فيتجرأون بهذه الذريعة على وضع مقادير العلماء وهضم شأنهم. ولو تكلموا بالصواب أو نصروا من يتكلم به أو عرفوا العامة إذا سألوهم الحق وزجروهم عن الاشتغال بما ليس من شأنهم لكانوا يدا واحدة على الحق، ولم يستطع العامة ومن يلتحق بهم من جهلة المتفقهة إثارة شيء من الفتن. فإنا لله وإنا إليه راجعون».]:
لم يفعل الشوكاني، إلا أنه أحيى فتنة لم تزل مستعرة منذ وُلدت؛ لكنه مضطر ككاتبنا، إلى أن يتظاهر بالإنصاف في البداية، لتكون استنتاجاته في النهاية أكثر قبولا لدى من لا يتفطن إلى تلاعبه بعقل سامعه. ولنلاحظ أن الكاتب كان في فصل سابق يأبى أن يقبل الخوض في المعارك القديمة، ويرفض من العاملين للإسلام أن يُحيوها من بين دفات الكتب، وزاد على ذلك بإخباره عن نفسه بأنه من أهل الاعتدال؛ وها هو يأتي برأي الشوكاني "المتسنن" في الرافضة، من دون أن يأتي برأي الرافضة في الشوكاني ومن هو من صفه!... فأين الاعتدال؟!...
وأما الشوكاني الذي قام يذب عن الصحابة، لاعتماده على خيرية قرنهم الوارد بها الحديث بحسب ما يزعم، فإنه ما زاد على أن خاض بذلك المعارك المذهبية التي لم تنشأ من الجانبين إلا بالغفلة عن الله، والاشتغال بالفضول. وبما أن الكتاب كتاب إحسان، فقد كان يجمل بالكاتب دلالة الناس على الله (إن كان قد عرفه)، ليخرجوا بتلك الدلالة من دائرة الفتنة، لا أن يعيدهم إليها باستجلابها من خلف القرون. فالصراع الأيديولوجي الذي بين النواصب والروافض، ليس في الصدارة من صراعات عصرنا، وقد صار الناس يبتعدون عن الدين نفسه بفعل التوجيه الدجالي الخارجي والداخلي. فاليوم لسنا في معرض الذب عن الصحابة -رضي الله عنهم- ولا عن أهل البيت -عليهم السلام- بقدر ما نحن بحاجة إلى عرض الدين عرضا صحيحا، يعود بالناس إلى ربهم بدل أن يبقيهم معلقين تاريخيا في زمن من الأزمنة ومع إمام من الأئمة أو فقيه من الفقهاء. ولو أن الكاتب -من كونه سنيّا- عمل على فضح تيار النصب في أهل السنة، وعمل الشيعة في المقابل على فضح تيار الرفض لديهم، لكان ذلك أنفع للأمة، من الاستمرار على النهج نفسه الذي كان عليه سلف الفريقين. وماذا سينفع انتصار للصحابة من دون معرفة بالله؟!... وماذا سينفع تأييد للأئمة من دون سير على خطاهم؟!...
إن الناس عندما صاروا يفتشون في ضمائر غيرهم، ليقعوا على ما يُخالف "أمر الرب"، يذكّروننا بمحاكم التفتيش التي عرفتها أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، والتي نُكّل بسببها بكثير من الناس. فهل يظن حقا أصحابنا من "محاكم التفتيش" السنية والشيعية أنهم يخدمون الدين بها حقيقة؟... أم إنهم كنظرائهم الأوروبيين يستعملونها للقضاء على خصومهم من طريق الدين، عند عجزهم عن منازلتهم في مختلف ميادين النزال!...
نحن لا نشك في أن الكاتب -في أحسن أحواله- ملبوس عليه، لم يعرف الحق ليكون مؤهَّلا لدلالة الناس عليه. وبدل أن يسكت ويكف أذاه عن المسلمين، إلى أن يأتي الله بمن هو أكثر أهلية منه؛ نجده يأخذهم في سبل السابقين، يحييها من جديد لكي يجد ممرا عليها إلى عقولهم، فيأخذهم وقتئذ إلى حيث يريد. ولقد عرف الكاتب أنه لا أصلح لهذه الوظيفة من ابن تيمية وتلبيسه، إن قُدّم في صورة جديدة؛ لا يكون فيها مركزُ الاهتمام "التوحيد"، وقد صار مستنفدا غير قابل لإعادة الاستعمال في الصورة الأصلية، كما هو معلوم. ولم يكن من بد إلا استحداث مزج بين التوحيد التيمي في صورة غير صورته؛ وإنما بادعاء الإحسان "الصوفي"؛ طالما أنه لا أحد سيعلم عن أي إحسان هو الكلام؛ ولا عن مرتبته ضمن التوحيد كله... المهم في هذا، هو أن لا يُصادم التوحيد التيمي من حيث المبدأ، ليبقي على الباب مشرعا في وجه كل التيميين، من أجل الانضمام إلى المشروع الجديد (العدل والإحسان)، الذي يُراد له أن يخرج إلى طريق جانبي كما خرج الطريق التيمي الأول. ولا بد من أجل إضافة الجديد على ما سبق إليه ابن تيمية، أن يعمل على الجمع بين التصور التوحيدي والتصور السياسي، الذي سبق إلى شق طريقه في المتأخرين حسن البنا، من دون أن يخطر له الجمع بين الأمرين...
كان حرص حسن البنا على العمل السياسي في زمانه، يجعله يقبل بجميع التصورات العقدية داخل جماعته، من أجل الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس. ولقد أفلح -رحمه الله- في ذلك إلى حد كبير!... غير أن الأمر مع جماعة "الإخوان المسلمون"، لم يلبث أن انقلب إلى عمل السرورية الجزئي، الذي صار بفعل ضم العمل التنظيمي إلى التوحيد الوهابي، أميل إلى العنف، وأبعد عن غاية جمع شمل الأمة، وإن زُعم ذلك دائما. وفي الوقت الذي كان التيار السروري يتبلور في الجزيرة العربية، بدأ كاتبنا في الدعوة إلى عمل سياسي، أقرب ما يكون إلى عمل الإخوان؛ لكن بصورة أكثر تركيزا على الوطن (المغرب)، الذي يريد الأستاذ عبد السلام، أن يجعله منطلقا فيما بعد إلى العمل العام المتعلق بالأمة جمعاء. ولقد أعطاه الخميني -كما سبق أن ذكرنا- صورة العمل الوطني الناجح، فلم يبق له إلا استنفار الشعب المغربي، على غرار ما وقع في إيران... ولم يكن أجدى من مخاطبته من جهة العدالة الاجتماعية، والعدل في توزيع الثروات، في مقابل الفساد المستشري في البلاد، والذي لا ينتظر إلا من يقوم له، بالحكمة والحنكة اللازمتين فحسب. لكن صاحبنا، لم يمهل تنظيره ما يكفي من الوقت ليكتمل، كما لم يتوافر له من العقل ما يجعل تنظيره يبلغ النضج المنشود. ولسنا نعني هنا، إلا قصور التصور السياسي لدى الكاتب من جهة؛ وضبابية معنى الإحسان الذي يدعو إليه من وراء تربيته، من الجهة الثانية. فهذان العنصران، على ما لهما من أهمية في الطرح "الياسيني"، سيبقيان نقطتي الضعف الكبريين لديه، وإن لم يعلم ذلك كل أحد.
وإن مسارعة الكاتب إلى تسمية جماعته بـ"جماعة العدل والإحسان"، تُعد من أكبر التدليس الذي انتهجه في عمله؛ لأنه سيجعل من مفهومه للعدل عدلا قرآنيا عند اشتراك اللفظ، وسيجعل من إحسانه إحسانا قرآنيا أيضا؛ وكأن الناس باتباعه لن يزيدوا على التزامهم بالقرآن شيئا!... وكأن من لم يستجب له، إنما يفرط في "أمر" الله؛ وهذا يجعل اتباعه في "لاوعي" العامة أمرا واجبا، كما لا يخفى. وهذا هو ما سميناه تدليسا لديه. ولا بأس هنا من أن نتكلم قليلا عن قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. فالأمر من الله هنا أمران: أمر إيجاب وأمر استحباب. فالعدل واجب، والإحسان مستحب. والعدل حيث كان، هو إيتاء كل ذي حق حقه؛ والإحسان حيث كان، هو المعاملة بالنفل (الفضل). فمن يأتي بالفرائض في مجال الأعمال، يكون من أهل العدل؛ ومن يأتي بالنوافل زيادة عليها، يكون من أهل الإحسان (إحسان مرتبة الإسلام). ومن يلتزم من الناس بحكم القاضي الشرعي، فهو من أهل العدل في المعاملات؛ وأما من يعفو أو يتنازل عن بعض حقوقه طوعا، فإنه يكون من أهل الإحسان (إحسان مرتبة الإسلام). وفي مجال الدين عموما، فإن من يكتفي بمرتبة الإسلام المشتركة، يكون من أهل العدل؛ ومن يزيد عليها بمجاهدات الإيمان فإنه يكون من أهل الإحسان (بالمعنى الاصطلاحي). وهكذا، بحسب كل مجال وكل أمر... وأما إيتاء ذي القربى، فإن الله قد ميزه عن الإحسان العام في المعاملات، ليؤكده، وليجعله في رأسه. ويبقى في مقابل الأمر، النهي عن الفحشاء والمنكر، الذي هو نهي الكراهة الذي يكون في مقابل الاستحباب، ونهي التحريم عن البغي الذي هو المقابل للإيجاب في الأمر. فهذه الآية مما يعم أحكام الإسلام الجزئية والكلية، ظاهرا وباطنا، وفيما يتعلق بالفرد وبالجماعة؛ وكأنها وصف للإسلام ذاته بكل شموله. وهذا يجعل العدل أشمل والإحسان أعم، ليبقى معنى العدل ومعنى الإحسان لدى الكاتب جزئيا، وفي أحيان كثيرة غير صواب. وسنعمل على تفصيل هذا الأمر، كلما دعت الضرورة إلى ذلك إن شاء الله؛ لأننا لا نريد الحكم على أحد، من غير دليل ولا برهان.
وحينما نجد الأستاذ عبد السلام ياسين يضخم معنى العدل السياسي على حساب العدل بكل معانيه، ويحصر الإحسان في إحسان المعاملات جزئيا، على حساب كل معاني الإحسان، فإننا سنعلم أنه مغرض، وأنه يسعى إلى حجر الواسع وحصر المطلق. وهذا بعينه، هو ما تقع فيه الجماعات الضالة، كجماعة الخوارج الأولين، وكالجماعات المذهبية التي لا ترى الإسلام إلا ما هي عليه حصرا؛ وهو مما يقع أيضا للغلاة من الأفراد كابن تيمية ومن تبعه، الذين يجعلون تصورهم للدين -بحسب مرتبتهم وإدراكهم- هو الدين ذاته. فلهذا، كان الكاتب مصرا على أن يأتينا بابن تيمية ومن دار في فلكه؛ نعني لولا أن الفعل منه يشبه الفعل من ابن تيمية، ما كان ليلح عليه كل هذا الإلحاح!... وسنبرز هذا الأمر عند الدخول في التفاصيل معه، بأشد مما أوضحناه هنا إن شاء الله.
[حكمة جليلة يضع الشوكاني أصبعنا عليها. حكمة عملية سياسية اجتماعية. وهي سقوط القيادات في قبضة الجماهير بتعبير عصري. في المجتمع الشيعي يعيش الناس إسلامهم على نمط خاص: عاطفة فوارة وذاكرة تتأجج بمآسي الفتنة الكبرى ومقتل الحسين رضي الله عنه. الجماهير تنوح وتحزن وتسب وتلعن، والعلماء يخشون ثورة العامة فيصانعون ويداهنون ويسكتون. تماما كما يصانع علماء السنة الحكام ويداهنون ويسكتون مخافة بطش السلطان.]:
نحن لا ننكر أن الشيعة قد نسجوا أيديولوجيا حول ما وقع من مصائب، ونوافق الكاتب على أن أهل السنة لم يسلموا من ذلك أيضا، وعلى طريقتهم؛ لكننا لا نجعل انحراف أهل السنة هو بالسكوت على ظلم الحكام وحده؛ وإنما هو بالانقياد لتيار النصب الذي ما زال عاملا فيهم إلى الآن، والذي حجب عنهم شطر الدين من جهة العلم؛ زيادة على اشتراك العلماء من الطرفين في الوقوع تحت تحكم الجماهير. ولقد رأينا كثيرا من فقهاء أهل السنة يجارون الناس ويكلمونهم بما يشتهون، لكي يُبقوا عليهم تحت تحكّمهم من وجه آخر مقابل. وإن أغلب ما يسعى إليه علماء السنة وعلماء الشيعة عند العوام اليوم، المال والقوة العددية التي ينالون بها المكانة لدى الحكام. وإن كان مراجع الشيعة يأخذون خمس أموال أتباعهم وجوبا، فإن علماء السنة لا يقلون عنهم في النيابة عن الناس في توزيع الزكوات بحسب الزعم. ولو تتبعنا المخالفات التي تكتنف هذا الجانب وحده، لكفت في صرف الناس عن هؤلاء المتسترين بلباس العلم، وهم لا يختلفون كثيرا عن رجال المال في العادة.
نحن من أهل السنة في الأصل، وبلادنا من بلدانهم كما لا يخفى؛ فهل يستطيع أن يجيبنا الكاتب: لم لا يُذكر أئمة أهل البيت عليهم السلام على المنابر هنا، مع ثبوت إمامتهم حتى على الأئمة المعتبرين لدى أهل السنة؟... ولمَ يُعظم الصحابي الذي ليس من أهل البيت، بأكثر مما يُعظم من جمع بين الصحبة والنسب الشريف؟... ولمَ يُقبل رأي سفيه كابن تيمية لدى أهل السنة، وهو من لم تثبت له الإمامة في مرتبة الإسلام نفسها، ويُتجنب ذكر كل رأي لأيٍّ من أهل البيت، مهما علا وسما؟!... لا شك أن الأمر أخطر وأعظم مما يبدو عليه لأول وهلة. فإما أن يكون الكاتب كفؤا لما يريد الخوض فيه، وإما أن يسكت كغيره، إلى أن يأذن الله بفتح "الملفات القديمة".
يعلم الله أننا بكلامنا هذا، لا نبغي الانتصار لطائفة على أخرى، ونحن من ندعو إلى الإسلام الصحيح الجامع؛ ولكنه الإنصاف في التناول، الذي لن تقوم للأمة قائمة، إلا باعتماده وسيلة من أجل معرفة الحق، لا من أجل عبادة الرجال. أليس من الشرك، أن يُضرب بوصية الله ووصية نبيه عليه الصلاة والسلام عرض الحائط، والإعراض عن العترة النبوية الشريفة، وكأن الأمر ترك لمستحب من المستحبات الفردية أو أقل؟!... أليس النصب تيارا معاديا للإسلام ذاته، يتخفى خلف تأميم غير معلن للدين؛ وخلف تسنن مشبوه؛ وخلف حرص على توحيد وضعي، بعيد عن روح الوحي بعد المشرقين!... بدأ الانحراف من غير شك مع الأمويين، ولكنه ما لبث أن صار يتزايد مع كل حامل لهذا التوجه الخبيث ممن ولوا من أمر الأمة شيئا عبر التاريخ. لا بد لهذا العمل التحريفي من نتائج، لا ينبغي إغفالها لمن كان يريد تبيّن الحق من خلال الركام!...
[فإذا نقلنا تحليل الشوكاني، وهو الخبير بالمجتمع الشيعي، إلى عصر الثورة الإيرانية، وحسبنا الفرق بين الزيدية المعتدلين وبين الإمامية الأكثر صلابة ظهرت لنا أبعاد القضية كلها. المسلمون الشيعة في قبضة حركية تولدت من الانكسار التاريخي، وقويت واشتدت وتأزمت حتى انفجرت اليوم في وجه العالم. العامة ثائرة، والقادة لا يملكون الزمام. والمسلمون السنة في قبضة حركية تاريخية السلطان فيها هو المحرك والعامة لا تملك من أمرها شيئا، من ضمن العامة العلماء.]:
واضح من هذه الفقرة، أن الأستاذ عبد السلام ياسين، يريد الدعوة إلى ما يجمع الطائفتين معا على الحق الذي كانت عليه الأمة فيما قبل الانقسام؛ وهذا جيد!... لكن ما كل ما يُراد يُدرك؛ خصوصا عند فقد أهلية التناول، والتي على رأسها الحياد التام والإنصاف. فجعل الكاتب علماء الشيعة تحت حكم العوام منهم، وجعل عوام السنة تحت حكم السلاطين، في مقابلة متكلّفة مختزِلة، ليس صحيحا دائما. وإن اكتوى أحد بنار السلاطين، فإنهم الشيعة وفي مقدمتهم علماؤهم؛ بل والأئمة من أهل البيت عليهم السلام في المرتبة الأولى!... وهل سيتمكن الكاتب من الفصل بين السياسي والديني، عند بداية نشأة الخلاف؟... هذا ما نشك فيه!...
ويختار الأستاذ مصطلح "الانكسار التاريخي" الذي يردده كثيرا أتباعه، من دون تمييز لحمولته؛ وقد كنا نفضل لو استعمل "الانكسار القدري"، ليرفع احتمال إمكان تغيير ما وقع وهو قد وقع. إن بعض الناس يدخلون مع ضعف إيمانهم في الشرك، عندما يتوهمون أنه لو وقع خلاف ما وقع، لسبب من الأسباب، لتغيّرت النتيجة؛ وكأنهم لم يسمعوا يوما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.»[2]. هذه العبارة، تقطع مدد الشرك عن النفوس الضعيفة، وتضعها أمام حقيقة كون المشيئة الإلهية هي الحاكمة على كل ما يظهر في الوجود إجمالا وتفصيلا. ولا يهم هنا إن كان العبد يعلم ذلك أم لا؛ لأن العالم لا يتحرك أو يسكن تبعا لظن أحد أو وهمه؛ وإن كان هذا أيضا مما يخفى عن عمي البصائر، الذين في مقدمهم أهل الكفر من المفكرين، الذين أصبحوا أئمة لكثير من المسلمين في أزمنة التقهقر هذه.
إن الأستاذ عبد السلام قد انقلب إلى ربه، من دون أن يتحقق له ما أراد، وعلى الوجه الذي كان يرجو؛ وهذا دليل من الواقع على عدم أهليته لما اشرأب إليه عنقه، لا يتمكن أحد من الطعن فيه. وأما دليل العلم، فهو عدم غوصه في الخلاف السني-الشيعي إلى الجذور. ونعني بالجذور: علم الخلافة من حيث هي، والعلم بالمراتب، والعلم بمراتب الرجال من الأقوال، والكشف الرباني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. كل هذا، ما وجدنا له أثرا من كلام الأستاذ، وإن جهدنا في إرادة تأييده لأقل الذرائع...
مراجعة وتوبة
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[صاحبنا الإمام الشوكاني نشأ زيديا شيعيا، ثم توسعت مداركه حتى بلغ درجة الاجتهاد. ونجده في كتاب «نيل الأوطار»، وهو شرح لكتاب «منتقى الأخبار» لابن تيمية الجد، يمشي مع التشدد في مسألة التمسح بالأضرحة والحلف بغير الله، ويندد «بالكفر الفظيع والمنكر الشنيع» و«الشرك المبين». ويستعدي العلماء والحكام قائلا: «فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك المبين؟»]:
يريد الكاتب إرغامنا على اتباع الشوكاني، وكأنه إمام للأمة لا تنبغي مخالفته؛ وهو في الحقيقة فقيه كآحاد الفقهاء المقلدين، الذين لا يتمكنون من معرفة الدين الذي هو أوسع من المذهب. وأما صفة الاجتهاد التي أضفاها عليه الكاتب، فهي من الاجتهاد المعروف داخل المذاهب، لا الاجتهاد المطلق. كل هذا، من وجه الفقه وحده، الذي ليس هو العلم الديني كله. ولكن هذا الخلط، استمر من بداية "عصر التدوين" إلى اليوم، من دون أن يتصدى له من له أهلية إعادة الأمور إلى نصابها من الدين. لهذا، فإن قول الكاتب عن الشوكاني إنه قد بلغ درجة الاجتهاد، يكاد يكون لا معنى له؛ بما أن مجال الاجتهاد نفسه غير متبيَّن للعموم. وحُكم الشوكاني ومن هم على شاكلته، بعد ذلك على الناس، ونسبتهم هذا إلى الشرك وهذا إلى الكفر، ليس في الغالب صحيحا؛ لأن الحكم هنا قد خرج من مجال الفقه العام، إلى مجال التوحيد الذي هو من العلم الخاص. والتوحيد الذي يعلمه الشوكاني، ويعلمه ابن تيمية قبله لا يتجاوز العام منه، والذي يكون عليه جميع المسلمين. وما من فرق في مجال التوحيد بين من ذَكرنا وعوام الناس، إلا ما يكون من إدراك لأحكام الفقه وقواعده؛ وهذا لا يعطي الأهلية بالكلام في التوحيد، ناهيك عن الحكم على عقائد الناس وترتيبها. وكل ما نشأ عن هذا الخلط في المراتب، ما أفلح إلا في توسيع دائرة الفتنة، وفي اختراع مذاهب عقدية جديدة، صارت عاملة في الأمة بالتفرقة، إلى جانب المذاهب الفقهية الأولى. ونحن لا نتكلم عن توحيد ابن تيمية ومن تبعه، إلا من مرتبة التوحيد الخاص؛ لذلك فأحكامنا، وإن كنا أحيانا لا ندخل في تفاصيل بنائها، متيقّنة وبيّنة. والشرك الذي يجعله التيميون أصلا لدى الناس إلى أن يثبت العكس، ليس الأمر فيه كما يُظن؛ فهو لا يقع في الحقيقة، إلا ممن نوى بتوجهه إلى شخص أو إلى صاحب قبر أو إلى صنم أنه يعبده: إما من دون الله، وإما مع الله؛ غير هذا لا يصح من جهة الشرع. ولهذا السبب كان الله يذكر عبارة {من دون الله} عند المواطن التي تكون مظنة لاعتقاد شرك القائم فيها. فمن ذلك قوله تعالى (على سبيل المثال): {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. وفي هذا التعبير القرآني سر لا يجوز كشفه للعموم، نحن نعلم منه بطلان القول بشرك المسلمين، الذين حكم الشوكاني بشركهم.
وأما من يريد معرفة السبب الذي دعا الشوكاني ومن يوافقه، إلى تكفير شطر من المسلمين، وهم يعلمون أن مسألة التكفير خطيرة لا يسلم منها إلا من يكون فيها على بيّنة لا تتطرق الشبهة إليها البتة؛ فإننا نجيبه بأن ذلك وقع منهم، عندما دخلوا بعقولهم في مجال العقيدة والتوحيد. ومجال العقيدة، منطقه فوق المنطق العقلي العام، الذي يعتمده الفقهاء أنفسهم في القياسات. وقد دخلت هذه الشبهة على الفقهاء، عندما رخص لهم الشرع بإعمال المنطق العقلي في استنباط الأحكام، فظنوا أنه قد رخص بذلك في كل الدين؛ وهو غلط منهم أصابهم في مقتل. نعني من هذا، أن المنطق العقلي والتفكر، هو مما تقوم عليه مرتبة الإسلام في جلها، لكنه يتضاءل كلما أوغل العبد في الدين، من مرتبة الإيمان إلى الإحسان... وبغياب هذا الأمر الذي نذكره هنا عن العقول، قد وقع خلط منذ القرون الأولى كما ذكرنا آنفا، وصار يتفاقم مع مرور الزمان واشتداد الغفلة. ذلك لأن الغفلة كلما قويت، رجع الناس بها إلى عقولهم (نفوسهم)، بدل أن يعودوا إلى ربهم يستهدونه. وقد جاء في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي: كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ.»[1]؛ ولم يدل سبحانه ضُلاّل عباده على عقولهم!... فليُحفظ هذا!... وإن من أشد الضلالات، ربط هداية الله بإعمال العقل، كما يقول بذلك من لا علم له بالهداية ولا بطريقها. وتجد العوام ينساقون خلف هذه الضلالات، لظنهم أنها مما يتأيد الدينُ فيه بالعقل. وهيهات!... ومتى كان الدين بحاجة إلى تأييد؟!... ولو أن الناس حافظوا على التوجه الأساس، الذي يتبيّنون منه التوجه إلى الله من التوجه إلى سواه بسهولة، لكفاهم في تمييز سبيل الهدى من سبل الضلال؛ ولكنهم عندما ينزلون إلى التفاصيل، يفقدون وضوح الرؤية فيسهل إضلالهم. وهذا الأمر على شدة وضوحه، لا يكاد يعمل به إلا أفراد من الناس.
وإن كان الكاتب يسوق كلام الشوكاني هنا، وكأنه حجة هو معجب بها؛ أو كأنه دليل على فقه الرجل وصحة غيرته على الدين؛ فالأمر ليس كذلك وعلى النقيض؛ إنما هو توافق بين كاتبنا ومَن يأتي بهم، على عدم وضوح في الرؤية والعلم، انجر عنه غلط في أحكام، لا يسلم صاحبها من تبعاتها أبدا؛ لأنها دخول فيما هو من اختصاص الربوبية، وتجاوز لطور العبودية. ولا ينفع هنا حسن النية، إن اعتذر به صاحب التكفير؛ كأن يقول الواحد منهم: إنما فعلت ذلك سدا للذرائع، وحماية لعقائد العوام!... ذلك لأن هذه المسألة ليست من الصغائر، بل هي مما يشتد فيه تحريج الشرع بما لا يقارن مع سواها. وهذه سقطة كبيرة للأستاذ عبد السلام، نسأل الله أن يقطع عنه بعض سوئها بما نصححه له هنا. فإن الناس لا يسألون عن أحوال أصحاب المقولات حيث هم في البرزخ، ولا يهمهم إلا استعمالها بعدهم في الانتصار لهواهم. ومن كان يحب عبدا حقيقة، فليعمل على قطع آثار سقطاته عنه بعد موته، إن كان يعلم. فهذا هو ما يقتضيه البر والشكر...
[هذا الرجل المعتدل الذي قرأنا فتواه المنظومة في الفقرة السابقة الداعية إلى الرفق خاض معارك من جملتها معركته مع الروافض.]:
يريد الكاتب أن يقنعنا باعتدال الشوكاني، ليمرر الأحكام المذكورة في الفقرة السابقة، التي هي ليست من التشدد فحسب، وإنما هي من الضلال. والشوكاني معتدل (مع ردنا للمصطلح) بمنطق من هم على رأيه، أو بمنطق من هم أشد غلوا منه، أو بمنطق من يرغب في استمالة شطر من التيميين به وحدهم. لقد سبق للكاتب أن حذرنا من معرفة الحق بالرجال، وها هو يأتينا برجال، يزعم أنهم يعرفون الحق؛ لنقبل منهم ومنه من دون تمحيص؛ وهو بهذا التناقض، يفقد الصدقية عند القارئ اللبيب فحسب. وقد كان حريا به، أن يأتي بالأدلة عند ذكر بعض الأحكام، كالتكفير ورمي الناس بالشرك؛ وإن كانوا -كما يشير الكاتب دائما- من الروافض؛ لأن الروافض لا يجوز أيضا تكفيرهم، وإن كانت بعض مقولاتهم من الكبائر. هذا، إن كنا نريد أن نسير في الأحكام على قواعد علمية تشمل الموافق والمخالف جميعا. وأما إن كنا ننزل القواعد بانتقائية، ومن غير عدل وإنصاف؛ فإن ذلك يفقدنا أهلية الكلام في شؤون الأمة العامة، كما يبغي صاحبنا أن يُفهمنا بجمعه في الكلام بين السنة والشيعة، من غير مراعاة لما ذكرنا. إنه بهذا الفعل، يعيد تأسيس مذهب أهل السنة مع إيهام المعاصرين بالتجديد في التناول. وهذا احتيال غير مجد، لكونه لا يضيف جديدا إلى الواقع، مع استمرار العمل على الوهم السابق الذي يجعل الفرقة التي ننتمي إليها على "معظم" الحق، إن لم تكن على الحق كله.
[لنستمع إليه يقص قصتها فهي مليئة بالعبر. قال رحمه الله: «ولما ألفت الرسالة التي سميتها «إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي» ونقلت إجماعهم من ثلاث عشرة طريقة على عدم ذكر الصحابة بسب أو ما يقاربه، وقعت هذه الرسالة بأيدي جماعة من الرافضة الذين بصنعاء المخالفين لمذاهب أهل البيت، فجالوا وصالوا وتعصبوا وتحزبوا وأجابوا بأجوبة ليس فيها إلا محض السباب والمشاتمة (...). وكل من عنده أدنى معرفة يعلم أني لم أذكر فيها إلا مجرد الذب عن أعراض الصحابة الذين هم خير القرون، مقتصرا على نصوص الأئمة من أهل البيت، ليكون ذلك أوقع في نفوس من يكذب عليهم وينسب إلى مذاهبهم ما هم منه برآء. ولكن كان أهل العلم يخافون على أنفسهم ويحمون أعراضهم، فيسكتون عن العامة. وكثير منهم كان يصوبهم مداراة لهم. وهذه الدسيسة هي الموجبة لاضطهاد علماء اليمن وتسلط العامة عليهم وخمول ذكرهم وسقوط مراتبهم، لأنهم يكتمون الحق. فإذا تكلم واحد منهم وثارت عليه العامة صانعوهم وداهنوهم وأوهموهم أنهم على الصواب. فيتجرأون بهذه الذريعة على وضع مقادير العلماء وهضم شأنهم. ولو تكلموا بالصواب أو نصروا من يتكلم به أو عرفوا العامة إذا سألوهم الحق وزجروهم عن الاشتغال بما ليس من شأنهم لكانوا يدا واحدة على الحق، ولم يستطع العامة ومن يلتحق بهم من جهلة المتفقهة إثارة شيء من الفتن. فإنا لله وإنا إليه راجعون».]:
لم يفعل الشوكاني، إلا أنه أحيى فتنة لم تزل مستعرة منذ وُلدت؛ لكنه مضطر ككاتبنا، إلى أن يتظاهر بالإنصاف في البداية، لتكون استنتاجاته في النهاية أكثر قبولا لدى من لا يتفطن إلى تلاعبه بعقل سامعه. ولنلاحظ أن الكاتب كان في فصل سابق يأبى أن يقبل الخوض في المعارك القديمة، ويرفض من العاملين للإسلام أن يُحيوها من بين دفات الكتب، وزاد على ذلك بإخباره عن نفسه بأنه من أهل الاعتدال؛ وها هو يأتي برأي الشوكاني "المتسنن" في الرافضة، من دون أن يأتي برأي الرافضة في الشوكاني ومن هو من صفه!... فأين الاعتدال؟!...
وأما الشوكاني الذي قام يذب عن الصحابة، لاعتماده على خيرية قرنهم الوارد بها الحديث بحسب ما يزعم، فإنه ما زاد على أن خاض بذلك المعارك المذهبية التي لم تنشأ من الجانبين إلا بالغفلة عن الله، والاشتغال بالفضول. وبما أن الكتاب كتاب إحسان، فقد كان يجمل بالكاتب دلالة الناس على الله (إن كان قد عرفه)، ليخرجوا بتلك الدلالة من دائرة الفتنة، لا أن يعيدهم إليها باستجلابها من خلف القرون. فالصراع الأيديولوجي الذي بين النواصب والروافض، ليس في الصدارة من صراعات عصرنا، وقد صار الناس يبتعدون عن الدين نفسه بفعل التوجيه الدجالي الخارجي والداخلي. فاليوم لسنا في معرض الذب عن الصحابة -رضي الله عنهم- ولا عن أهل البيت -عليهم السلام- بقدر ما نحن بحاجة إلى عرض الدين عرضا صحيحا، يعود بالناس إلى ربهم بدل أن يبقيهم معلقين تاريخيا في زمن من الأزمنة ومع إمام من الأئمة أو فقيه من الفقهاء. ولو أن الكاتب -من كونه سنيّا- عمل على فضح تيار النصب في أهل السنة، وعمل الشيعة في المقابل على فضح تيار الرفض لديهم، لكان ذلك أنفع للأمة، من الاستمرار على النهج نفسه الذي كان عليه سلف الفريقين. وماذا سينفع انتصار للصحابة من دون معرفة بالله؟!... وماذا سينفع تأييد للأئمة من دون سير على خطاهم؟!...
إن الناس عندما صاروا يفتشون في ضمائر غيرهم، ليقعوا على ما يُخالف "أمر الرب"، يذكّروننا بمحاكم التفتيش التي عرفتها أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، والتي نُكّل بسببها بكثير من الناس. فهل يظن حقا أصحابنا من "محاكم التفتيش" السنية والشيعية أنهم يخدمون الدين بها حقيقة؟... أم إنهم كنظرائهم الأوروبيين يستعملونها للقضاء على خصومهم من طريق الدين، عند عجزهم عن منازلتهم في مختلف ميادين النزال!...
نحن لا نشك في أن الكاتب -في أحسن أحواله- ملبوس عليه، لم يعرف الحق ليكون مؤهَّلا لدلالة الناس عليه. وبدل أن يسكت ويكف أذاه عن المسلمين، إلى أن يأتي الله بمن هو أكثر أهلية منه؛ نجده يأخذهم في سبل السابقين، يحييها من جديد لكي يجد ممرا عليها إلى عقولهم، فيأخذهم وقتئذ إلى حيث يريد. ولقد عرف الكاتب أنه لا أصلح لهذه الوظيفة من ابن تيمية وتلبيسه، إن قُدّم في صورة جديدة؛ لا يكون فيها مركزُ الاهتمام "التوحيد"، وقد صار مستنفدا غير قابل لإعادة الاستعمال في الصورة الأصلية، كما هو معلوم. ولم يكن من بد إلا استحداث مزج بين التوحيد التيمي في صورة غير صورته؛ وإنما بادعاء الإحسان "الصوفي"؛ طالما أنه لا أحد سيعلم عن أي إحسان هو الكلام؛ ولا عن مرتبته ضمن التوحيد كله... المهم في هذا، هو أن لا يُصادم التوحيد التيمي من حيث المبدأ، ليبقي على الباب مشرعا في وجه كل التيميين، من أجل الانضمام إلى المشروع الجديد (العدل والإحسان)، الذي يُراد له أن يخرج إلى طريق جانبي كما خرج الطريق التيمي الأول. ولا بد من أجل إضافة الجديد على ما سبق إليه ابن تيمية، أن يعمل على الجمع بين التصور التوحيدي والتصور السياسي، الذي سبق إلى شق طريقه في المتأخرين حسن البنا، من دون أن يخطر له الجمع بين الأمرين...
كان حرص حسن البنا على العمل السياسي في زمانه، يجعله يقبل بجميع التصورات العقدية داخل جماعته، من أجل الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس. ولقد أفلح -رحمه الله- في ذلك إلى حد كبير!... غير أن الأمر مع جماعة "الإخوان المسلمون"، لم يلبث أن انقلب إلى عمل السرورية الجزئي، الذي صار بفعل ضم العمل التنظيمي إلى التوحيد الوهابي، أميل إلى العنف، وأبعد عن غاية جمع شمل الأمة، وإن زُعم ذلك دائما. وفي الوقت الذي كان التيار السروري يتبلور في الجزيرة العربية، بدأ كاتبنا في الدعوة إلى عمل سياسي، أقرب ما يكون إلى عمل الإخوان؛ لكن بصورة أكثر تركيزا على الوطن (المغرب)، الذي يريد الأستاذ عبد السلام، أن يجعله منطلقا فيما بعد إلى العمل العام المتعلق بالأمة جمعاء. ولقد أعطاه الخميني -كما سبق أن ذكرنا- صورة العمل الوطني الناجح، فلم يبق له إلا استنفار الشعب المغربي، على غرار ما وقع في إيران... ولم يكن أجدى من مخاطبته من جهة العدالة الاجتماعية، والعدل في توزيع الثروات، في مقابل الفساد المستشري في البلاد، والذي لا ينتظر إلا من يقوم له، بالحكمة والحنكة اللازمتين فحسب. لكن صاحبنا، لم يمهل تنظيره ما يكفي من الوقت ليكتمل، كما لم يتوافر له من العقل ما يجعل تنظيره يبلغ النضج المنشود. ولسنا نعني هنا، إلا قصور التصور السياسي لدى الكاتب من جهة؛ وضبابية معنى الإحسان الذي يدعو إليه من وراء تربيته، من الجهة الثانية. فهذان العنصران، على ما لهما من أهمية في الطرح "الياسيني"، سيبقيان نقطتي الضعف الكبريين لديه، وإن لم يعلم ذلك كل أحد.
وإن مسارعة الكاتب إلى تسمية جماعته بـ"جماعة العدل والإحسان"، تُعد من أكبر التدليس الذي انتهجه في عمله؛ لأنه سيجعل من مفهومه للعدل عدلا قرآنيا عند اشتراك اللفظ، وسيجعل من إحسانه إحسانا قرآنيا أيضا؛ وكأن الناس باتباعه لن يزيدوا على التزامهم بالقرآن شيئا!... وكأن من لم يستجب له، إنما يفرط في "أمر" الله؛ وهذا يجعل اتباعه في "لاوعي" العامة أمرا واجبا، كما لا يخفى. وهذا هو ما سميناه تدليسا لديه. ولا بأس هنا من أن نتكلم قليلا عن قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. فالأمر من الله هنا أمران: أمر إيجاب وأمر استحباب. فالعدل واجب، والإحسان مستحب. والعدل حيث كان، هو إيتاء كل ذي حق حقه؛ والإحسان حيث كان، هو المعاملة بالنفل (الفضل). فمن يأتي بالفرائض في مجال الأعمال، يكون من أهل العدل؛ ومن يأتي بالنوافل زيادة عليها، يكون من أهل الإحسان (إحسان مرتبة الإسلام). ومن يلتزم من الناس بحكم القاضي الشرعي، فهو من أهل العدل في المعاملات؛ وأما من يعفو أو يتنازل عن بعض حقوقه طوعا، فإنه يكون من أهل الإحسان (إحسان مرتبة الإسلام). وفي مجال الدين عموما، فإن من يكتفي بمرتبة الإسلام المشتركة، يكون من أهل العدل؛ ومن يزيد عليها بمجاهدات الإيمان فإنه يكون من أهل الإحسان (بالمعنى الاصطلاحي). وهكذا، بحسب كل مجال وكل أمر... وأما إيتاء ذي القربى، فإن الله قد ميزه عن الإحسان العام في المعاملات، ليؤكده، وليجعله في رأسه. ويبقى في مقابل الأمر، النهي عن الفحشاء والمنكر، الذي هو نهي الكراهة الذي يكون في مقابل الاستحباب، ونهي التحريم عن البغي الذي هو المقابل للإيجاب في الأمر. فهذه الآية مما يعم أحكام الإسلام الجزئية والكلية، ظاهرا وباطنا، وفيما يتعلق بالفرد وبالجماعة؛ وكأنها وصف للإسلام ذاته بكل شموله. وهذا يجعل العدل أشمل والإحسان أعم، ليبقى معنى العدل ومعنى الإحسان لدى الكاتب جزئيا، وفي أحيان كثيرة غير صواب. وسنعمل على تفصيل هذا الأمر، كلما دعت الضرورة إلى ذلك إن شاء الله؛ لأننا لا نريد الحكم على أحد، من غير دليل ولا برهان.
وحينما نجد الأستاذ عبد السلام ياسين يضخم معنى العدل السياسي على حساب العدل بكل معانيه، ويحصر الإحسان في إحسان المعاملات جزئيا، على حساب كل معاني الإحسان، فإننا سنعلم أنه مغرض، وأنه يسعى إلى حجر الواسع وحصر المطلق. وهذا بعينه، هو ما تقع فيه الجماعات الضالة، كجماعة الخوارج الأولين، وكالجماعات المذهبية التي لا ترى الإسلام إلا ما هي عليه حصرا؛ وهو مما يقع أيضا للغلاة من الأفراد كابن تيمية ومن تبعه، الذين يجعلون تصورهم للدين -بحسب مرتبتهم وإدراكهم- هو الدين ذاته. فلهذا، كان الكاتب مصرا على أن يأتينا بابن تيمية ومن دار في فلكه؛ نعني لولا أن الفعل منه يشبه الفعل من ابن تيمية، ما كان ليلح عليه كل هذا الإلحاح!... وسنبرز هذا الأمر عند الدخول في التفاصيل معه، بأشد مما أوضحناه هنا إن شاء الله.
[حكمة جليلة يضع الشوكاني أصبعنا عليها. حكمة عملية سياسية اجتماعية. وهي سقوط القيادات في قبضة الجماهير بتعبير عصري. في المجتمع الشيعي يعيش الناس إسلامهم على نمط خاص: عاطفة فوارة وذاكرة تتأجج بمآسي الفتنة الكبرى ومقتل الحسين رضي الله عنه. الجماهير تنوح وتحزن وتسب وتلعن، والعلماء يخشون ثورة العامة فيصانعون ويداهنون ويسكتون. تماما كما يصانع علماء السنة الحكام ويداهنون ويسكتون مخافة بطش السلطان.]:
نحن لا ننكر أن الشيعة قد نسجوا أيديولوجيا حول ما وقع من مصائب، ونوافق الكاتب على أن أهل السنة لم يسلموا من ذلك أيضا، وعلى طريقتهم؛ لكننا لا نجعل انحراف أهل السنة هو بالسكوت على ظلم الحكام وحده؛ وإنما هو بالانقياد لتيار النصب الذي ما زال عاملا فيهم إلى الآن، والذي حجب عنهم شطر الدين من جهة العلم؛ زيادة على اشتراك العلماء من الطرفين في الوقوع تحت تحكم الجماهير. ولقد رأينا كثيرا من فقهاء أهل السنة يجارون الناس ويكلمونهم بما يشتهون، لكي يُبقوا عليهم تحت تحكّمهم من وجه آخر مقابل. وإن أغلب ما يسعى إليه علماء السنة وعلماء الشيعة عند العوام اليوم، المال والقوة العددية التي ينالون بها المكانة لدى الحكام. وإن كان مراجع الشيعة يأخذون خمس أموال أتباعهم وجوبا، فإن علماء السنة لا يقلون عنهم في النيابة عن الناس في توزيع الزكوات بحسب الزعم. ولو تتبعنا المخالفات التي تكتنف هذا الجانب وحده، لكفت في صرف الناس عن هؤلاء المتسترين بلباس العلم، وهم لا يختلفون كثيرا عن رجال المال في العادة.
نحن من أهل السنة في الأصل، وبلادنا من بلدانهم كما لا يخفى؛ فهل يستطيع أن يجيبنا الكاتب: لم لا يُذكر أئمة أهل البيت عليهم السلام على المنابر هنا، مع ثبوت إمامتهم حتى على الأئمة المعتبرين لدى أهل السنة؟... ولمَ يُعظم الصحابي الذي ليس من أهل البيت، بأكثر مما يُعظم من جمع بين الصحبة والنسب الشريف؟... ولمَ يُقبل رأي سفيه كابن تيمية لدى أهل السنة، وهو من لم تثبت له الإمامة في مرتبة الإسلام نفسها، ويُتجنب ذكر كل رأي لأيٍّ من أهل البيت، مهما علا وسما؟!... لا شك أن الأمر أخطر وأعظم مما يبدو عليه لأول وهلة. فإما أن يكون الكاتب كفؤا لما يريد الخوض فيه، وإما أن يسكت كغيره، إلى أن يأذن الله بفتح "الملفات القديمة".
يعلم الله أننا بكلامنا هذا، لا نبغي الانتصار لطائفة على أخرى، ونحن من ندعو إلى الإسلام الصحيح الجامع؛ ولكنه الإنصاف في التناول، الذي لن تقوم للأمة قائمة، إلا باعتماده وسيلة من أجل معرفة الحق، لا من أجل عبادة الرجال. أليس من الشرك، أن يُضرب بوصية الله ووصية نبيه عليه الصلاة والسلام عرض الحائط، والإعراض عن العترة النبوية الشريفة، وكأن الأمر ترك لمستحب من المستحبات الفردية أو أقل؟!... أليس النصب تيارا معاديا للإسلام ذاته، يتخفى خلف تأميم غير معلن للدين؛ وخلف تسنن مشبوه؛ وخلف حرص على توحيد وضعي، بعيد عن روح الوحي بعد المشرقين!... بدأ الانحراف من غير شك مع الأمويين، ولكنه ما لبث أن صار يتزايد مع كل حامل لهذا التوجه الخبيث ممن ولوا من أمر الأمة شيئا عبر التاريخ. لا بد لهذا العمل التحريفي من نتائج، لا ينبغي إغفالها لمن كان يريد تبيّن الحق من خلال الركام!...
[فإذا نقلنا تحليل الشوكاني، وهو الخبير بالمجتمع الشيعي، إلى عصر الثورة الإيرانية، وحسبنا الفرق بين الزيدية المعتدلين وبين الإمامية الأكثر صلابة ظهرت لنا أبعاد القضية كلها. المسلمون الشيعة في قبضة حركية تولدت من الانكسار التاريخي، وقويت واشتدت وتأزمت حتى انفجرت اليوم في وجه العالم. العامة ثائرة، والقادة لا يملكون الزمام. والمسلمون السنة في قبضة حركية تاريخية السلطان فيها هو المحرك والعامة لا تملك من أمرها شيئا، من ضمن العامة العلماء.]:
واضح من هذه الفقرة، أن الأستاذ عبد السلام ياسين، يريد الدعوة إلى ما يجمع الطائفتين معا على الحق الذي كانت عليه الأمة فيما قبل الانقسام؛ وهذا جيد!... لكن ما كل ما يُراد يُدرك؛ خصوصا عند فقد أهلية التناول، والتي على رأسها الحياد التام والإنصاف. فجعل الكاتب علماء الشيعة تحت حكم العوام منهم، وجعل عوام السنة تحت حكم السلاطين، في مقابلة متكلّفة مختزِلة، ليس صحيحا دائما. وإن اكتوى أحد بنار السلاطين، فإنهم الشيعة وفي مقدمتهم علماؤهم؛ بل والأئمة من أهل البيت عليهم السلام في المرتبة الأولى!... وهل سيتمكن الكاتب من الفصل بين السياسي والديني، عند بداية نشأة الخلاف؟... هذا ما نشك فيه!...
ويختار الأستاذ مصطلح "الانكسار التاريخي" الذي يردده كثيرا أتباعه، من دون تمييز لحمولته؛ وقد كنا نفضل لو استعمل "الانكسار القدري"، ليرفع احتمال إمكان تغيير ما وقع وهو قد وقع. إن بعض الناس يدخلون مع ضعف إيمانهم في الشرك، عندما يتوهمون أنه لو وقع خلاف ما وقع، لسبب من الأسباب، لتغيّرت النتيجة؛ وكأنهم لم يسمعوا يوما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.»[2]. هذه العبارة، تقطع مدد الشرك عن النفوس الضعيفة، وتضعها أمام حقيقة كون المشيئة الإلهية هي الحاكمة على كل ما يظهر في الوجود إجمالا وتفصيلا. ولا يهم هنا إن كان العبد يعلم ذلك أم لا؛ لأن العالم لا يتحرك أو يسكن تبعا لظن أحد أو وهمه؛ وإن كان هذا أيضا مما يخفى عن عمي البصائر، الذين في مقدمهم أهل الكفر من المفكرين، الذين أصبحوا أئمة لكثير من المسلمين في أزمنة التقهقر هذه.
إن الأستاذ عبد السلام قد انقلب إلى ربه، من دون أن يتحقق له ما أراد، وعلى الوجه الذي كان يرجو؛ وهذا دليل من الواقع على عدم أهليته لما اشرأب إليه عنقه، لا يتمكن أحد من الطعن فيه. وأما دليل العلم، فهو عدم غوصه في الخلاف السني-الشيعي إلى الجذور. ونعني بالجذور: علم الخلافة من حيث هي، والعلم بالمراتب، والعلم بمراتب الرجال من الأقوال، والكشف الرباني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. كل هذا، ما وجدنا له أثرا من كلام الأستاذ، وإن جهدنا في إرادة تأييده لأقل الذرائع...
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin