إحسان الإحسان - 15 -
التوبة واليقظة
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[بسم الله الرحمن الرحيم.
﴿رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾. اللهم اجعلني أُعظم شكرك.]
[نعيش في خضم الحضارة الاستهلاكية تابعين مجرورين، تَسْحبنا من البطن لأنها تنتج الغذاء ولا ننتج، وتسحبنا من الرأس، ومن الأسفل، بأسبابها القوية. نلبس ما يلبسون، ونفكر كما يفكرون، ونريد ما يُريدون، طوعا وكرها. والأبوان اللذان أنيط بهما حفظ الفطرة غثاء مع الغثاء، يجري السيل بالجميع جريا إلى الهاوية،]:
يصف الكاتب في هذه السطور ما تعيشه الأمة من انهزام حضاري، في مقابل الحضارة الغربية المتغلبة بطريقة عيشها التي تخاطب في الإنسان حيوانيته في المرتبة الأولى، ولا تتعدى به ميدان الدنيا حيث -بحسب الوهم- لا حساب ولا عقاب؛ وإنما هي منافسة تُستخدم فيها كل الوسائل المستطاعة، من أجل بلوغ جنة معجلة تكون غاية محسوسة لكل واحد من أفراد هذا المجتمع العنيف.
ويشير الكاتب إلى غياب وظيفة الوالدِين في تربية أبنائهم، بسبب وقوعهم تحت تأثير هيمنة الحضارة الغربية الاستهلاكية. وهو أمر منطقي، تكفي الإشارة فيه إلى قاعدة "فاقد الشيء لا يعطيه". وخلف الوالدين والمربين تثوي المنظومة التربوية للدولة، التي يُمسك بقيادها النظام الحاكم ذو التوجه السياسي المخصوص. فهؤلاء جميعا، لا يعتنون بإنسانية الإنسان، ولا يعودون إلى مرجعية ربانية في نظرتهم إلى الأمور، ولا يهمهم في النهاية إلا أن يكون المرء قابلا للاستعباد بمعنى ما. نعم إن استعباد العصور الحديثة ليس كسابقه؛ فهو يتخفى خلف حرية اختيار منعدمة الحقيقة، وخلف حقوق تخدم مصالح الخصم، وخلف شعارات أخرى تتنوع بحسب الحاجة إليها وبحسب المخاطِبين والمخاطَبين.
وعلينا أن نعلم، أن الشعوب الإسلامية لا تعيش وفق دينها الآن، وإنما هي تعيش وفق نظام عالمي يصبو إلى تغييب الدين الحق تغييبا شبه كلي، إن لم يتمكن من جعل الناس يكفرون كفرا تاما. وهذا الفُصام الوجداني والعملي، هو ما يُدخل المشقة على الشعوب عند إرادتها -بوعي أو بغيره- التوفيق بين الأمرين: ما هو من الدين، وما هو طريقة عيش. ولا زالت هذه الازدواجية مستمرة في الأمة، ومانعة لها عن القيام بوظائفها على الوجه الصحيح، إلى أن يأذن الله بعودتها إلى الحق في جميع أمورها.
ورغم أن الجماعات الإسلامية قد قامت من أجل تحقيق تلك العودة المنشودة، بحسب التنظيرات على الأقل، إلا أننا نلاحظ أن الحال معها قد ازدادت سوءا، بسبب عدم خروجها هي نفسها عن التأثير الغربي، الذي تنصبغ به من جراء التربية التي تلقّتها، ولم تتمكن من التخلص من شوائبها رغم المزاعم. فالعقول الإسلامية لا تختلف في نظرتها للأمور كثيرا عن غيرها من العقول، وهذا كله بسبب غياب التزكية بالمدد النبوي، التي هي وحدها الشافية للأمة من جميع أمراضها الظاهرة والباطنة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
[ومنادي الإيمان هناك، امتزج عنده الوعي السياسي واليقظة السِّياسيّة بداعي الإيمان، فدعوته لاقتحام عقبة المواجهة، وللجهاد مباشرة.]:
كأن الأستاذ يشير بصفة "منادي الإيمان" إلى نفسه وأمثاله؛ لأنه هو من يزعم الجمع بين التربية الإيمانية والحركية السياسية في المغرب، في زمنه خصوصا؛ وهو من يدعو إلى اقتحام عقبة محرف المعنى، وإلى جهاد مبهم يبغي احتكار مكانته وقيمته الدينيتين من أجل غاية غير دينية. وهذا من أكبر ما وقع للأمة في آخر أزمنتها، بحيث يكاد يفوق -أو يفوق حقيقة- ما ينتج عن هيمنة الحضارة الغربية وغلبة منطقها. وهذا، لأن العدوان الخارجي يبقى ضعيفا في جميع الأحوال، ما دام يُنظر إليه على أنه خارجي؛ وأما تحريف الوجهة داخليا وبادعاء التديّن، فهو الطامة التي يصعب القيام لها أو مواجهتها؛ إلا بعد أن تكون قد خربت كثيرا من بنيان الأمة، كما هو واقع ومشاهد.
ومما لا ينبغي أن يفوتنا هنا، هو أن العمل السياسي الإسلامي نفسه، يقوم على تنظير لا يخلو من أثر لتصوّر الغرب للدولة اليوم؛ كما لا يخلو في المقابل من معالم يسارية اشتراكية، وجد المنظرون أنها أقرب إلى أصول الإسلام أحيانا، من الرأسمالية أو الليبرالية الغربيتين. وقد ظن المنظرون من الإسلاميين -عن علم أو عن غيره- أن الانطلاق من القرآن والسنة وحده سيجعل المعاني شرعية، تدخل ضمن التكاليف الشرعية العامة التي على الفرد وعلى الأمة القيام بها، ليكتمل التصور الإسلامي في بُعديْه الدنيوي والأخروي بحسبهم. والحقيقة هي أن هذا التنظير، وهذا التصور، لن يعود بالأمة إلى أصالتها في هذا الزمان؛ وإنما سيلج بها حقبة من الانقسام الوجداني، تتوزع فيها بين ما هو من الإسلام حقيقة وما هو من الفكر السياسي العالمي الملصق بالإسلام. والأستاذ عبد السلام، رغم زعمه أنه النموذج الإسلامي الذي ينبغي الاقتداء به، لم يسلم من وقوعٍ تحت أثر الفكر العالمي السائد؛ إلى الحد الذي جعله مصدرا للتشريع من دون أن يدري. وما دعوته إلى الجهاد (بالكلمة والموقف أولا) ضد الحكام، إلا استعارة لمعنى الثورة كما عرفته أمم ليست على الإسلام، من مثل ما عرفت فرنسا وعرفت روسيا. وهذا الخلط في المفاهيم والمدلولات، هو ما سيجعل جل الإسلاميين من اليساريين السابقين، أو من ذوي النزعة اليسارية التي ينسبونها زورا إلى السلف، في شخص أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. وإن الكلام في هذه المسألة أطول من أن نتناوله كله هنا، وسنكتفي بهذه الإشارات التي يستطيع القارئ أن يتخذها منطلقات إلى ما يريد استكناهه منها، إن كان من أهل ذلك.
ونذكر هنا لقاءنا بالأستاذ عبد السلام الشخصي (لعله كان في سنة 1981م وأنا في بداية العشرينيات من عمري)، عند دخولنا عليه في بيته بحي السلام من مدينة سلا، بعد عصر يوم من الأيام. وبعد ساعة من الزمان، أمر -رحمه الله- الحاضرين بتشكيل حلقة جلس هو في أحد أطرافها، وتعمدت أنا الجلوس خلف الصف لأسباب لن أذكرها الآن. فأشار إلي بالدخول في الصف ففعلت، وإن لم أكن منتسبا إلى الجماعة بالمعنى التنظيمي. ولعلنا نعود إلى هذه القصة مرة أخرى لنتكلم في تفاصيلها إن شاء الله. وما كان حاسما في قطع صلتي به منذئذ، هو قوله لنا يومها، ضمن موعظة ألقاها فينا: "نحن نهتم بالسياسة، ومن كان لا يريد السياسة فلا حاجة لنا به". فقد كنت أتمنى أن يكون كلامه: "نحن ندل على الله، ومن كان ليس طالبا لله فلا حاجة له بنا". هذه الجملة كانت كافية -وأنا من كان يطلب الله- أن ترُدّني عن دعوته، وأن تزيدني من تعلقي بشيخي فيما بعد، عندما وجدت لديه الدلالة على الله وحده. ولعلنا سنعود إلى تفاصيل أخرى في المقارنة بين الرجلين، لأجل تبيّن شروط التربية الشرعية، فيما بعد إن شاء الله؛ فإننا لا نريد أن يكون هذا الكتاب قصصيا أكثر من اللازم.
[ويسأل الشباب ولا من مجيب عن أسباب الخواء الروحي وضعف الإيمان لأن الذين ينتظر منهم أن يجيبوا عن الأسئلة الحائرة منهمكون في مطاردة البدع وتكفير المسلمين. يختلقون البدع جَهلا أو ضِيقَ عَطَنٍ، فيُنازلون خيالات صنعوها ليوهموا أنفسهم والناس أنهم حماة الدين.]:
يشير الكاتب بهذا الكلام، إلى حال بلده عند الجهر بدعوته. ولقد سبقه إلى العمل داخل المجتمع من جهة الدين متسلفة، لا يعلمون شيئا مما يتعلق بالمنازلات الحضارية، إلا ما كان على المنوال المباشر القديم، والذي يُلجأ فيه من البداية إلى المواجهة العنفية. وبما أن الأمر سطحي جدا لدى المتسلفة، ولا يحتاج إلى إعمال عقل أو إلى ترق في الدين بحسبهم، فإنه سيُعمل على التفريق بين المؤمن والكافر بسرعة، ولقرائن معتبرة لدى هؤلاء، لبلوغ النهايات من الناحية النظرية أولا، في انتظار المرور إلى العمل الذي سيخلّص المجتمع من الكافرين، الذين لن يكونوا إلا المسلمين الذين عناهم الكاتب بالخضوع لمنطق الحضارة المتغلبة أنفسهم.
ولا شك أن الكاتب يريد التعريض بالمتسلفة، ويبغي الدلالة على قصورهم في تشخيص الداء وفي الدلالة على الدواء؛ وهو ما لا بد أن يفصّل فيه القول فيما بعد، إن كان يريد أن يكون هؤلاء من مجيبي دعوته، كما يبدو من السياق. ولا بد له في ذلك، من إيجاد منطلقات مشتركة يُمكن أن يلاقي مخاطَبيه عليها؛ ومن هناك يأخذهم -إن استطاع- إلى حيث يريد. وهو هنا ينبئ عن إلمامه بأساليب الخطاب وطرق الإقناع، من خلفيته البيداغوجية كما لا يخفى. غير أن ما سيعتمده في ذلك، لن ينطلي إلا على من لا علم له بالأمر من الجهة الشرعية، كما قد بدأ يتأكد بكلامنا، كلما تقدمنا في الكتاب...
وإن التسلف في المغرب، وفي كثير من بلاد المسلمين، لم يعد منوطا بفئة محدودة من الناس، كما كان عبر تاريخه كله في الأمة؛ وإنما سيدخل إلى المجتمعات السنية من بابها الأوسع، باب الفقهاء الذين حين نزلوا عن درجة علم أسلافهم من الأشاعرة والماتريدية، سقطوا في براثن التسلف الضحل. وعلى هذا، فإن الكاتب قد يكون مخاطِبا هنا أيضا، لعلماء المغرب المنقلبين عن مذهبهم إلى المذهب التيمي -وهم كثر- قبل غيرهم من العوام الذين لا يعقلون. ولكن دعوة المتسلفة إلى غير ما هم عليه، لا تكون بتثبيت ابن تيمية ومَن تابعه في انحرافاته؛ بل بإزاحتهم من طريقهم، لو كان يستطيع؛ والظاهر أنه لا يستطيع.
[وصية الله تعالى للإنسان إن لم يجد الأب الحكيم، ولم ينشأ في المحضن الفطري السليم، أن يتبع سبيل من أناب إلى الله. والإنابة درجة من درجات التوبة. قال تعالى عن عبده لُقمان الذي آتاه الحكمة: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾. ثم جاء القرآن بالوصية الإلهية جملة اعتراضية بين وصايا لقمان لابنه، قال الله تعالى: ﴿َوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾.]:
الوالدان لا يعتبران في سياق التربية، إلا فيما هو دون سن البلوغ؛ وأما بعده، فيفترض أن يبحث الرجل أو المرأة عمن يدلهما على الله، إن لم يكونا على طريق ذلك من قبل. ولا يغني الوالدان في طريق الدلالة على الله، إلا إن كانا من الدالين الربانيين؛ وهو أمر نادر. وهذا الخلط في الكلام من غير تمييز لحدود تربية كل صنف، لن يعمل على إزالة الأذى من طريق التربية، بل سيزيده رسوخا وكثرة، كما هو جلي.
وأما إن علمنا أن أغلب تربية الوالدين في مجتمعاتنا -رغم المظاهر- ليست تربية دينية بالمعنى الصحيح، بسبب الانحرافات المتراكمة عبر القرون، والتي انضاف إليها الغزو الثقافي الغربي؛ فإننا سنعلم أنه كان أولى بالكاتب التحذير من هذه التربية المبعدة عن الفطرة، بدل القفز عليها، وكأننا في عصر التابعين. وذلك لأن طاعة الوالدين في كل شيء، والتي يعمل على ترسيخها الفقهاء من دون تمحيص، قد أدت إلى عكس ما أوصى الله به، من طاعة للمخلوق في معصية الخالق. وقد أصاب الأمة من أضرار الوالدِين، ما يفوق ما أصابها من ضرر الحكام، وإن كان الكاتب لا يرى إلا هذا الأخير، بسبب المسحة اليسارية التي لديه.
وأما وصية الله الأصلية بالوالدين، ودعوته عباده إلى شكرهما فورا بعد شكره سبحانه؛ فلأنهما سبب الوجود الذي هو من الله. فكأن الله يأمر عباده بشكره على إيجادهم وإيجاد ما هو ضروري لوجودهم (الرزق)؛ ويأمرهم بشكر والديهم لأنهم سبب ذلك الوجود، لاقتضاء حكمته سبحانه أن لا يأتي أحد إلى الدنيا إلا من والدين.
وأما قول الله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]، فإنه الدليل الشرعي على اتخاذ الشيخ المسلك، في قطع الطريق إلى الله تعالى. وقد جمع الله في هذه العبارة بين ذكر الطريق (السبيل) والدال عليه (من أناب إليه)، ليُفهم من هذا الاقتران أن الطريق بلا دال مخالفة للقاعدة، وأن الدال من غير التزام بشروط السلوك أو من غير علم به، لا يُجزئ؛ لأنه إعدام لمعنى الطريق وحقيقته بالفعل.
والإنابة هي كثرة الرجوع إلى الله، ولا يكون هذا إلا ممن كان في طور بناء إيمانه التفصيلي من مرتبة الإيمان؛ أو من كان من أهل المراقبة الذين يرجعون من الغفلات؛ أو من كان من أهل المشاهدة الذين يرجعون من صورة إلى صورة بحسب التجلي؛ أو كانوا يرجعون من صورة التجلي إلى المتجلي؛ وهذه كلها تناسب أحوال أهل الإحسان، من بدايته إلى نهايته. وأما الأوبة، فهي الرجوع من الله إلى الله؛ وهي لا تكون إلا للأنبياء وللورثة وحدهم. وأما التوبة التي أخرنا الكلام عنها مراعاة لترتيب كلام الكاتب، فهي لأهل مرتبة الإسلام، لأنها تكون من الذنوب إلى الطاعات. وبهذا تكون التوبة والإنابة والأوبة كلها بمعنى الرجوع، لكن بحسب مرتبة الراجع والمرجوع عنه. وأما نسبة هذه الألفاظ كلها إلى الأنبياء عليهم السلام في القرآن، فللدلالة على مرتبة الرجوع لا على مرتبة الراجع: فإن كان من مرتبة الأفعال، فإنه يكون توبة؛ وإن كان في مرتبة الصفات، فإنه يكون إنابة؛ وإن كان في مرتبة الذات، فإنه يكون أوبة. وذلك كقول الله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]، والذي هو من مرتبة الإسلام؛ وكقوله سبحانه في حق داود عليه السلام: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]؛ والركوع من مقام الصفات، فهو مناسب للإنابة؛ كما أن مسألة المائة نعجة، هي مسألة تتعلق بالأسماء الإلهية (من جهة الباطن) التي هي من مرتبة الصفات والأفعال أيضا. وأما الأوبة فقد ذكرها الله في مثل قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17]؛ والإشارة هنا إلى التصرف بالأسماء عن تحقق؛ والأوبة بصيغة المبالغة في الصفة هي للرسوخ في التحقق؛ وهو أعلى ما يكون لأهل الله، بحيث لا مكانة وراء هذه تُطلب. وأما الأوبة في قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ . وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 18، 19]، فهو يدل على مقام داود لا على مقام المخلوقات المسخرة، لأن أوبتها إليه منه لا منها. وهذا كله من تحققه عليه السلام. وعلى كل حال، فإن هذا العلم غريب، وقد جرنا إليه الاستطراد في الكلام؛ فلنعد...
[إن غابت السلسلة الفطرية، سلسلة الأبوين، فاتبع خُطى "من" أناب. ابحث عن هذا "المن" لعل أنامِلَ روحانيته تمتد إلى قلبك بلمسات المحبة ونسمات الشوق إلى ربك والحنين إليه. ولعل التوبة واليقظة الروحية، وهي أعمال قلبية، تُؤصِّلُ لكَ دينا أوسع أفقا وأعلى مرتقى من مجرد "الالتزام" الذي لا يبدأ بك سلوك الطريق إلى الله، لأن سُلَّم الإسلام فالإيمان فالإحسان مفهوم غريب عن الوقت.]:
يقصد الكاتب من هذا الكلام، أن الناس وفي مقدمتهم علماء الدين، لم يعودوا يعلمون الدين كما شرعه الله: طريقا إليه سبحانه، يقطعه العبد بالترقي في المراتب الثلاث المعلومة من حديث جبريل عليه السلام الشهير. وهذا صحيح!... فإن الناس صار إسلامهم في زماننا مشابها لدين الكتابيين؛ ونعني أنهم يحافظون على بعض الشعائر، ويحرصون منه على بعض التقاليد، ويقنعون بالنسبة العامة، ويرجون أن يكون هذا كله كافيا لأن يدخلوا به الجنة. والملاحظ هنا، هو غياب الصلة بالله، التي كان ينبغي أن تكون محور تديّنهم، والذي سببته الانحرافات المتراكمة عبر القرون. وهذا الصنف من التدين، يكون فيه العبد على خطر؛ لأنه مبني على غير أساس. والدين -حتى يكون أصليا- ينبغي أن يكون كدين الصحابة، الذين فروا إلى الله من الكفر بأنواعه، فآواهم سبحانه في رحمته التي ما الجنة إلا مظهر من مظاهرها. والخروج من تدين التقليد إلى التدين الحي، يكون بصحبة من حَيُوا بحياة الله. وحياة الله هي ما كان موسى يتقصاه في طريقه مع فتاه، بارتفاق السمك المشوي؛ لأنها وحدها ما يعيد الميت حيا حقيقة لا مجازا. نعني من هذا أن العبد الرباني المسمى خضرا، كان من هؤلاء الذين تحيا بصحبتهم القلوب التي أماتتها الغفلة...
وأما "الالتزام" الذي يعرفه الإسلاميون، فهو شبيه بالالتزام الذي هم عليه أصحاب التنظيمات الأيديولوجية. ولقد عرفنا منهم ذلك عن قرب، عندما عاشرناهم بضعة شهور في بدايتنا؛ فكنا نراهم يأخذون الصلاة في المسجد، وكأنها واجب شبه عسكري؛ من شدة غياب الصلة التي تكلمنا عنها. ولقد كدت أنجرف معهم في العمل التنظيمي -مع ظهور مقدرات منّ الله بها علي في التنظيم والإحصاء، جعلتني سريعا محط نظر القيادة- لولا أن الله نبهني إلى البعد الذي صار يزداد عندي في باطني. فأذكر مرة وأنا في صلاة جماعية (لعلها صلاة مغرب)، وأنا أرقب باطني وأقارن في ذلك حالي مع ما كنت عليه عندما كنت كسائر الناس من أهل الغفلة، فوجدت قلبي قد صار أبعد عن الحق؛ وشعرت بالحياء من ربي وأنا أنظر إلى سواه وأشتغل بما لم يأذن لي فيه. فكان هذا بداية استيحاشي من طريق الإخوان...
["أصل الدين في الحقيقة هو الأمور الباطِنَة من العلوم والأعمال، وإن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده: "الإسلام علانية والإيمان في القلب"]:
يريد الكاتب أن يقول: حقيقة الدين هي الأمور الباطنة؛ وإلا فإن أعمال الظاهر هي الأصل الذي يبدأ به العبد طريقه؛ وهي (أي الأعمال) تستمر معه إلى أن يأتيه الموت، من كونها منوطة بالبدن نفسه ما دام حيا. وهذا المعنى، هو ظاهر قول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]. وهذا الترابط بين ظاهر الأعمال وباطنها، الذي أحسن الكاتب بالإشارة إليه، يأتي من الحقائق التي هي أساس بناء الأعمال. فالحقائق التي هي المفردات البانية للأعمال في جميع مراتبها، إذا ظهرت في عالم الأجسام كانت صورا فعلية وقولية؛ وإذا ظهرت في عالم الأرواح، كانت معاني قلبية تكون روحا لكل تلك الأعمال. وتبقى الحقائق بسيطة في عالم الحق، لا يعلمها إلا أهل التحقق.
[إفراط في الحديث عن "ثقافة الإسلام" و"حضارة الإسلام" و"البديل الإسلامي". وتفريط مخل في التربية. يا إنسان!]:
يريد الكاتب أن يشير إلى التناول الجديد للدين من قِبل المتأخرين، والذين أدخلوا عليه مصطلحات غريبة عنه، من مثل الحضارة والثقافة. والمقصود، ليس هو رد هذه المصطلحات -لأن الرد سيكون سهلا، من دون أن يفلح الراد معه في وقف الاستعمال الذي قد ينحرف أو قد يسيء إلى الأصل- وإنما هو تبييئها؛ بحيث تنصهر في الإسلام وتعمل داخل دائرته. ورأي الكاتب أن الإفراط في الدعوة إلى ثقافة إسلامية وإلى استعادة أمجاد حضارة إسلامية، مع إهمال التربية التي هي بمعنى التزكية المشروعة، لن يكون دليلا على الاهتمام بالدين أو على إرادة خدمته حقيقة، بقدر ما يدل على فُصام في شخصية المسلم، ينبغي العمل على التعافي منه، قبل الكلام عما هو فوق طور الإنسان من علوم. ونحن -لا شك- نوافقه على ما يقول؛ لكن بشرط توافر التربية كما هي في أصلها، لا بإبدال الأيديولوجيا بالتزكية الشرعية، وإحلالها محلها. ذلك لأن التحريف ليس منوطا بشيء دون آخر في مجال الدين، وإنما هو عام يشمل التربية عينها، كما يشمل كل شيء غيرها. ونعني من كلامنا، أن العودة إلى الإسلام، ينبغي أن تكون حقيقية، وفي جميع الجزئيات؛ خصوصا فيما هو من الأصول الأولى كالتزكية. والتزكية إن لم تكن خالصة من الشوائب، فإنها لن تُفلح في العودة بالمصطلحات إلى أصلها، وفي تجريدها من الحمولة المستصحبة من الحضارات الأخرى؛ وبالتالي فلن تجعل العبد المسلم يعيش إسلامه كما هو.
[أول خطى التربية التوبة ثم اليقظة. كانت التوبة في عصور الفتنة بعد الخلافة الراشدة الأولى عبارة عن التوبة من الذنب والمعصية، والتائب في مأمن وعافية، لا هم له إلا صراعهُ الداخلي ووخز ضميره ومعاملته مع الله، يُؤَرِّقُه هم الآخرة.]:
نعم، أول خطوة في الطريق تكون التوبة: من الذنب، إن كان العبد مسلما عاصيا؛ ومن الكفر، إن كان العبد كافرا مقبلا على الدخول في الإسلام. ومن هذا الصنف الثاني، كانت توبة الصحابة رضي الله عنهم، عندما كانوا يجيبون الداعي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما الصنف الأول، فيجعله الكاتب متعلقا بعصر التابعين، عندما بدأ الناس يخرجون إلى المعاصي مع كونهم مسلمين؛ وهذا على عمومه صحيح، مع بقاء الاستصحاب ساريا في كل زمان. لكن الضعف الإيماني الشديد الذي يعرفه زماننا، جعل التوبة من الذنب تكاد تكون غائبة، بسبب قرب الناس من الكفر بالحال. وهذا يجعل جلهم الآن، يحتاجون إلى توبة عامة، تشبه التوبة من الكفر؛ ينطقون فيها بالشهادة من جديد، وبنية جديدة. فإن كان ذلك مع دال على الله رباني، فإنه يكون أفضل، وأسرع في تحقيق الغاية؛ وإلا فإنه يُخاف على التائب -لشدة بعده- أن يعود في كل مرة إلى ما كان عليه. وهذا الذي نذكره هنا، هو السبب في انتقاض التوبة لدى كثيرين بسهولة، إلى الحد الذي يجعلهم يشكون في الدين أحيانا، وفي أهليتهم للتدين أحيانا أخرى. وهذه الحال، مما لا ينفع معه استفتاء الفقهاء ولا استرشادهم، وهم من قد يكونون عليها. نقول هذا، لأن الاشتغال بالعلوم الدينية وحده، لا يفيد في إصلاح الباطن شيئا، بل قد يزيد في فساده وحجابه، كما هو معلوم لدى أهل التربية منا.
[في عهد النبوة والخلافة الراشدة كانت التوبة من الشرك والمعاصي هَمّاً مزدوجا، لأن الجهاد وواجبه وضروراته وحضور الموت واحتماله في كل خروج في سبيل الله تُكَوِّن ظروفا يلتحم فيها مصير الفرد بمصير الجماعة، ويتميز فيها المنافقون من الصادقين.]:
التوبة واليقظة
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[بسم الله الرحمن الرحيم.
﴿رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾. اللهم اجعلني أُعظم شكرك.]
[نعيش في خضم الحضارة الاستهلاكية تابعين مجرورين، تَسْحبنا من البطن لأنها تنتج الغذاء ولا ننتج، وتسحبنا من الرأس، ومن الأسفل، بأسبابها القوية. نلبس ما يلبسون، ونفكر كما يفكرون، ونريد ما يُريدون، طوعا وكرها. والأبوان اللذان أنيط بهما حفظ الفطرة غثاء مع الغثاء، يجري السيل بالجميع جريا إلى الهاوية،]:
يصف الكاتب في هذه السطور ما تعيشه الأمة من انهزام حضاري، في مقابل الحضارة الغربية المتغلبة بطريقة عيشها التي تخاطب في الإنسان حيوانيته في المرتبة الأولى، ولا تتعدى به ميدان الدنيا حيث -بحسب الوهم- لا حساب ولا عقاب؛ وإنما هي منافسة تُستخدم فيها كل الوسائل المستطاعة، من أجل بلوغ جنة معجلة تكون غاية محسوسة لكل واحد من أفراد هذا المجتمع العنيف.
ويشير الكاتب إلى غياب وظيفة الوالدِين في تربية أبنائهم، بسبب وقوعهم تحت تأثير هيمنة الحضارة الغربية الاستهلاكية. وهو أمر منطقي، تكفي الإشارة فيه إلى قاعدة "فاقد الشيء لا يعطيه". وخلف الوالدين والمربين تثوي المنظومة التربوية للدولة، التي يُمسك بقيادها النظام الحاكم ذو التوجه السياسي المخصوص. فهؤلاء جميعا، لا يعتنون بإنسانية الإنسان، ولا يعودون إلى مرجعية ربانية في نظرتهم إلى الأمور، ولا يهمهم في النهاية إلا أن يكون المرء قابلا للاستعباد بمعنى ما. نعم إن استعباد العصور الحديثة ليس كسابقه؛ فهو يتخفى خلف حرية اختيار منعدمة الحقيقة، وخلف حقوق تخدم مصالح الخصم، وخلف شعارات أخرى تتنوع بحسب الحاجة إليها وبحسب المخاطِبين والمخاطَبين.
وعلينا أن نعلم، أن الشعوب الإسلامية لا تعيش وفق دينها الآن، وإنما هي تعيش وفق نظام عالمي يصبو إلى تغييب الدين الحق تغييبا شبه كلي، إن لم يتمكن من جعل الناس يكفرون كفرا تاما. وهذا الفُصام الوجداني والعملي، هو ما يُدخل المشقة على الشعوب عند إرادتها -بوعي أو بغيره- التوفيق بين الأمرين: ما هو من الدين، وما هو طريقة عيش. ولا زالت هذه الازدواجية مستمرة في الأمة، ومانعة لها عن القيام بوظائفها على الوجه الصحيح، إلى أن يأذن الله بعودتها إلى الحق في جميع أمورها.
ورغم أن الجماعات الإسلامية قد قامت من أجل تحقيق تلك العودة المنشودة، بحسب التنظيرات على الأقل، إلا أننا نلاحظ أن الحال معها قد ازدادت سوءا، بسبب عدم خروجها هي نفسها عن التأثير الغربي، الذي تنصبغ به من جراء التربية التي تلقّتها، ولم تتمكن من التخلص من شوائبها رغم المزاعم. فالعقول الإسلامية لا تختلف في نظرتها للأمور كثيرا عن غيرها من العقول، وهذا كله بسبب غياب التزكية بالمدد النبوي، التي هي وحدها الشافية للأمة من جميع أمراضها الظاهرة والباطنة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
[ومنادي الإيمان هناك، امتزج عنده الوعي السياسي واليقظة السِّياسيّة بداعي الإيمان، فدعوته لاقتحام عقبة المواجهة، وللجهاد مباشرة.]:
كأن الأستاذ يشير بصفة "منادي الإيمان" إلى نفسه وأمثاله؛ لأنه هو من يزعم الجمع بين التربية الإيمانية والحركية السياسية في المغرب، في زمنه خصوصا؛ وهو من يدعو إلى اقتحام عقبة محرف المعنى، وإلى جهاد مبهم يبغي احتكار مكانته وقيمته الدينيتين من أجل غاية غير دينية. وهذا من أكبر ما وقع للأمة في آخر أزمنتها، بحيث يكاد يفوق -أو يفوق حقيقة- ما ينتج عن هيمنة الحضارة الغربية وغلبة منطقها. وهذا، لأن العدوان الخارجي يبقى ضعيفا في جميع الأحوال، ما دام يُنظر إليه على أنه خارجي؛ وأما تحريف الوجهة داخليا وبادعاء التديّن، فهو الطامة التي يصعب القيام لها أو مواجهتها؛ إلا بعد أن تكون قد خربت كثيرا من بنيان الأمة، كما هو واقع ومشاهد.
ومما لا ينبغي أن يفوتنا هنا، هو أن العمل السياسي الإسلامي نفسه، يقوم على تنظير لا يخلو من أثر لتصوّر الغرب للدولة اليوم؛ كما لا يخلو في المقابل من معالم يسارية اشتراكية، وجد المنظرون أنها أقرب إلى أصول الإسلام أحيانا، من الرأسمالية أو الليبرالية الغربيتين. وقد ظن المنظرون من الإسلاميين -عن علم أو عن غيره- أن الانطلاق من القرآن والسنة وحده سيجعل المعاني شرعية، تدخل ضمن التكاليف الشرعية العامة التي على الفرد وعلى الأمة القيام بها، ليكتمل التصور الإسلامي في بُعديْه الدنيوي والأخروي بحسبهم. والحقيقة هي أن هذا التنظير، وهذا التصور، لن يعود بالأمة إلى أصالتها في هذا الزمان؛ وإنما سيلج بها حقبة من الانقسام الوجداني، تتوزع فيها بين ما هو من الإسلام حقيقة وما هو من الفكر السياسي العالمي الملصق بالإسلام. والأستاذ عبد السلام، رغم زعمه أنه النموذج الإسلامي الذي ينبغي الاقتداء به، لم يسلم من وقوعٍ تحت أثر الفكر العالمي السائد؛ إلى الحد الذي جعله مصدرا للتشريع من دون أن يدري. وما دعوته إلى الجهاد (بالكلمة والموقف أولا) ضد الحكام، إلا استعارة لمعنى الثورة كما عرفته أمم ليست على الإسلام، من مثل ما عرفت فرنسا وعرفت روسيا. وهذا الخلط في المفاهيم والمدلولات، هو ما سيجعل جل الإسلاميين من اليساريين السابقين، أو من ذوي النزعة اليسارية التي ينسبونها زورا إلى السلف، في شخص أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. وإن الكلام في هذه المسألة أطول من أن نتناوله كله هنا، وسنكتفي بهذه الإشارات التي يستطيع القارئ أن يتخذها منطلقات إلى ما يريد استكناهه منها، إن كان من أهل ذلك.
ونذكر هنا لقاءنا بالأستاذ عبد السلام الشخصي (لعله كان في سنة 1981م وأنا في بداية العشرينيات من عمري)، عند دخولنا عليه في بيته بحي السلام من مدينة سلا، بعد عصر يوم من الأيام. وبعد ساعة من الزمان، أمر -رحمه الله- الحاضرين بتشكيل حلقة جلس هو في أحد أطرافها، وتعمدت أنا الجلوس خلف الصف لأسباب لن أذكرها الآن. فأشار إلي بالدخول في الصف ففعلت، وإن لم أكن منتسبا إلى الجماعة بالمعنى التنظيمي. ولعلنا نعود إلى هذه القصة مرة أخرى لنتكلم في تفاصيلها إن شاء الله. وما كان حاسما في قطع صلتي به منذئذ، هو قوله لنا يومها، ضمن موعظة ألقاها فينا: "نحن نهتم بالسياسة، ومن كان لا يريد السياسة فلا حاجة لنا به". فقد كنت أتمنى أن يكون كلامه: "نحن ندل على الله، ومن كان ليس طالبا لله فلا حاجة له بنا". هذه الجملة كانت كافية -وأنا من كان يطلب الله- أن ترُدّني عن دعوته، وأن تزيدني من تعلقي بشيخي فيما بعد، عندما وجدت لديه الدلالة على الله وحده. ولعلنا سنعود إلى تفاصيل أخرى في المقارنة بين الرجلين، لأجل تبيّن شروط التربية الشرعية، فيما بعد إن شاء الله؛ فإننا لا نريد أن يكون هذا الكتاب قصصيا أكثر من اللازم.
[ويسأل الشباب ولا من مجيب عن أسباب الخواء الروحي وضعف الإيمان لأن الذين ينتظر منهم أن يجيبوا عن الأسئلة الحائرة منهمكون في مطاردة البدع وتكفير المسلمين. يختلقون البدع جَهلا أو ضِيقَ عَطَنٍ، فيُنازلون خيالات صنعوها ليوهموا أنفسهم والناس أنهم حماة الدين.]:
يشير الكاتب بهذا الكلام، إلى حال بلده عند الجهر بدعوته. ولقد سبقه إلى العمل داخل المجتمع من جهة الدين متسلفة، لا يعلمون شيئا مما يتعلق بالمنازلات الحضارية، إلا ما كان على المنوال المباشر القديم، والذي يُلجأ فيه من البداية إلى المواجهة العنفية. وبما أن الأمر سطحي جدا لدى المتسلفة، ولا يحتاج إلى إعمال عقل أو إلى ترق في الدين بحسبهم، فإنه سيُعمل على التفريق بين المؤمن والكافر بسرعة، ولقرائن معتبرة لدى هؤلاء، لبلوغ النهايات من الناحية النظرية أولا، في انتظار المرور إلى العمل الذي سيخلّص المجتمع من الكافرين، الذين لن يكونوا إلا المسلمين الذين عناهم الكاتب بالخضوع لمنطق الحضارة المتغلبة أنفسهم.
ولا شك أن الكاتب يريد التعريض بالمتسلفة، ويبغي الدلالة على قصورهم في تشخيص الداء وفي الدلالة على الدواء؛ وهو ما لا بد أن يفصّل فيه القول فيما بعد، إن كان يريد أن يكون هؤلاء من مجيبي دعوته، كما يبدو من السياق. ولا بد له في ذلك، من إيجاد منطلقات مشتركة يُمكن أن يلاقي مخاطَبيه عليها؛ ومن هناك يأخذهم -إن استطاع- إلى حيث يريد. وهو هنا ينبئ عن إلمامه بأساليب الخطاب وطرق الإقناع، من خلفيته البيداغوجية كما لا يخفى. غير أن ما سيعتمده في ذلك، لن ينطلي إلا على من لا علم له بالأمر من الجهة الشرعية، كما قد بدأ يتأكد بكلامنا، كلما تقدمنا في الكتاب...
وإن التسلف في المغرب، وفي كثير من بلاد المسلمين، لم يعد منوطا بفئة محدودة من الناس، كما كان عبر تاريخه كله في الأمة؛ وإنما سيدخل إلى المجتمعات السنية من بابها الأوسع، باب الفقهاء الذين حين نزلوا عن درجة علم أسلافهم من الأشاعرة والماتريدية، سقطوا في براثن التسلف الضحل. وعلى هذا، فإن الكاتب قد يكون مخاطِبا هنا أيضا، لعلماء المغرب المنقلبين عن مذهبهم إلى المذهب التيمي -وهم كثر- قبل غيرهم من العوام الذين لا يعقلون. ولكن دعوة المتسلفة إلى غير ما هم عليه، لا تكون بتثبيت ابن تيمية ومَن تابعه في انحرافاته؛ بل بإزاحتهم من طريقهم، لو كان يستطيع؛ والظاهر أنه لا يستطيع.
[وصية الله تعالى للإنسان إن لم يجد الأب الحكيم، ولم ينشأ في المحضن الفطري السليم، أن يتبع سبيل من أناب إلى الله. والإنابة درجة من درجات التوبة. قال تعالى عن عبده لُقمان الذي آتاه الحكمة: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾. ثم جاء القرآن بالوصية الإلهية جملة اعتراضية بين وصايا لقمان لابنه، قال الله تعالى: ﴿َوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾.]:
الوالدان لا يعتبران في سياق التربية، إلا فيما هو دون سن البلوغ؛ وأما بعده، فيفترض أن يبحث الرجل أو المرأة عمن يدلهما على الله، إن لم يكونا على طريق ذلك من قبل. ولا يغني الوالدان في طريق الدلالة على الله، إلا إن كانا من الدالين الربانيين؛ وهو أمر نادر. وهذا الخلط في الكلام من غير تمييز لحدود تربية كل صنف، لن يعمل على إزالة الأذى من طريق التربية، بل سيزيده رسوخا وكثرة، كما هو جلي.
وأما إن علمنا أن أغلب تربية الوالدين في مجتمعاتنا -رغم المظاهر- ليست تربية دينية بالمعنى الصحيح، بسبب الانحرافات المتراكمة عبر القرون، والتي انضاف إليها الغزو الثقافي الغربي؛ فإننا سنعلم أنه كان أولى بالكاتب التحذير من هذه التربية المبعدة عن الفطرة، بدل القفز عليها، وكأننا في عصر التابعين. وذلك لأن طاعة الوالدين في كل شيء، والتي يعمل على ترسيخها الفقهاء من دون تمحيص، قد أدت إلى عكس ما أوصى الله به، من طاعة للمخلوق في معصية الخالق. وقد أصاب الأمة من أضرار الوالدِين، ما يفوق ما أصابها من ضرر الحكام، وإن كان الكاتب لا يرى إلا هذا الأخير، بسبب المسحة اليسارية التي لديه.
وأما وصية الله الأصلية بالوالدين، ودعوته عباده إلى شكرهما فورا بعد شكره سبحانه؛ فلأنهما سبب الوجود الذي هو من الله. فكأن الله يأمر عباده بشكره على إيجادهم وإيجاد ما هو ضروري لوجودهم (الرزق)؛ ويأمرهم بشكر والديهم لأنهم سبب ذلك الوجود، لاقتضاء حكمته سبحانه أن لا يأتي أحد إلى الدنيا إلا من والدين.
وأما قول الله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]، فإنه الدليل الشرعي على اتخاذ الشيخ المسلك، في قطع الطريق إلى الله تعالى. وقد جمع الله في هذه العبارة بين ذكر الطريق (السبيل) والدال عليه (من أناب إليه)، ليُفهم من هذا الاقتران أن الطريق بلا دال مخالفة للقاعدة، وأن الدال من غير التزام بشروط السلوك أو من غير علم به، لا يُجزئ؛ لأنه إعدام لمعنى الطريق وحقيقته بالفعل.
والإنابة هي كثرة الرجوع إلى الله، ولا يكون هذا إلا ممن كان في طور بناء إيمانه التفصيلي من مرتبة الإيمان؛ أو من كان من أهل المراقبة الذين يرجعون من الغفلات؛ أو من كان من أهل المشاهدة الذين يرجعون من صورة إلى صورة بحسب التجلي؛ أو كانوا يرجعون من صورة التجلي إلى المتجلي؛ وهذه كلها تناسب أحوال أهل الإحسان، من بدايته إلى نهايته. وأما الأوبة، فهي الرجوع من الله إلى الله؛ وهي لا تكون إلا للأنبياء وللورثة وحدهم. وأما التوبة التي أخرنا الكلام عنها مراعاة لترتيب كلام الكاتب، فهي لأهل مرتبة الإسلام، لأنها تكون من الذنوب إلى الطاعات. وبهذا تكون التوبة والإنابة والأوبة كلها بمعنى الرجوع، لكن بحسب مرتبة الراجع والمرجوع عنه. وأما نسبة هذه الألفاظ كلها إلى الأنبياء عليهم السلام في القرآن، فللدلالة على مرتبة الرجوع لا على مرتبة الراجع: فإن كان من مرتبة الأفعال، فإنه يكون توبة؛ وإن كان في مرتبة الصفات، فإنه يكون إنابة؛ وإن كان في مرتبة الذات، فإنه يكون أوبة. وذلك كقول الله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]، والذي هو من مرتبة الإسلام؛ وكقوله سبحانه في حق داود عليه السلام: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]؛ والركوع من مقام الصفات، فهو مناسب للإنابة؛ كما أن مسألة المائة نعجة، هي مسألة تتعلق بالأسماء الإلهية (من جهة الباطن) التي هي من مرتبة الصفات والأفعال أيضا. وأما الأوبة فقد ذكرها الله في مثل قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17]؛ والإشارة هنا إلى التصرف بالأسماء عن تحقق؛ والأوبة بصيغة المبالغة في الصفة هي للرسوخ في التحقق؛ وهو أعلى ما يكون لأهل الله، بحيث لا مكانة وراء هذه تُطلب. وأما الأوبة في قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ . وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 18، 19]، فهو يدل على مقام داود لا على مقام المخلوقات المسخرة، لأن أوبتها إليه منه لا منها. وهذا كله من تحققه عليه السلام. وعلى كل حال، فإن هذا العلم غريب، وقد جرنا إليه الاستطراد في الكلام؛ فلنعد...
[إن غابت السلسلة الفطرية، سلسلة الأبوين، فاتبع خُطى "من" أناب. ابحث عن هذا "المن" لعل أنامِلَ روحانيته تمتد إلى قلبك بلمسات المحبة ونسمات الشوق إلى ربك والحنين إليه. ولعل التوبة واليقظة الروحية، وهي أعمال قلبية، تُؤصِّلُ لكَ دينا أوسع أفقا وأعلى مرتقى من مجرد "الالتزام" الذي لا يبدأ بك سلوك الطريق إلى الله، لأن سُلَّم الإسلام فالإيمان فالإحسان مفهوم غريب عن الوقت.]:
يقصد الكاتب من هذا الكلام، أن الناس وفي مقدمتهم علماء الدين، لم يعودوا يعلمون الدين كما شرعه الله: طريقا إليه سبحانه، يقطعه العبد بالترقي في المراتب الثلاث المعلومة من حديث جبريل عليه السلام الشهير. وهذا صحيح!... فإن الناس صار إسلامهم في زماننا مشابها لدين الكتابيين؛ ونعني أنهم يحافظون على بعض الشعائر، ويحرصون منه على بعض التقاليد، ويقنعون بالنسبة العامة، ويرجون أن يكون هذا كله كافيا لأن يدخلوا به الجنة. والملاحظ هنا، هو غياب الصلة بالله، التي كان ينبغي أن تكون محور تديّنهم، والذي سببته الانحرافات المتراكمة عبر القرون. وهذا الصنف من التدين، يكون فيه العبد على خطر؛ لأنه مبني على غير أساس. والدين -حتى يكون أصليا- ينبغي أن يكون كدين الصحابة، الذين فروا إلى الله من الكفر بأنواعه، فآواهم سبحانه في رحمته التي ما الجنة إلا مظهر من مظاهرها. والخروج من تدين التقليد إلى التدين الحي، يكون بصحبة من حَيُوا بحياة الله. وحياة الله هي ما كان موسى يتقصاه في طريقه مع فتاه، بارتفاق السمك المشوي؛ لأنها وحدها ما يعيد الميت حيا حقيقة لا مجازا. نعني من هذا أن العبد الرباني المسمى خضرا، كان من هؤلاء الذين تحيا بصحبتهم القلوب التي أماتتها الغفلة...
وأما "الالتزام" الذي يعرفه الإسلاميون، فهو شبيه بالالتزام الذي هم عليه أصحاب التنظيمات الأيديولوجية. ولقد عرفنا منهم ذلك عن قرب، عندما عاشرناهم بضعة شهور في بدايتنا؛ فكنا نراهم يأخذون الصلاة في المسجد، وكأنها واجب شبه عسكري؛ من شدة غياب الصلة التي تكلمنا عنها. ولقد كدت أنجرف معهم في العمل التنظيمي -مع ظهور مقدرات منّ الله بها علي في التنظيم والإحصاء، جعلتني سريعا محط نظر القيادة- لولا أن الله نبهني إلى البعد الذي صار يزداد عندي في باطني. فأذكر مرة وأنا في صلاة جماعية (لعلها صلاة مغرب)، وأنا أرقب باطني وأقارن في ذلك حالي مع ما كنت عليه عندما كنت كسائر الناس من أهل الغفلة، فوجدت قلبي قد صار أبعد عن الحق؛ وشعرت بالحياء من ربي وأنا أنظر إلى سواه وأشتغل بما لم يأذن لي فيه. فكان هذا بداية استيحاشي من طريق الإخوان...
["أصل الدين في الحقيقة هو الأمور الباطِنَة من العلوم والأعمال، وإن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده: "الإسلام علانية والإيمان في القلب"]:
يريد الكاتب أن يقول: حقيقة الدين هي الأمور الباطنة؛ وإلا فإن أعمال الظاهر هي الأصل الذي يبدأ به العبد طريقه؛ وهي (أي الأعمال) تستمر معه إلى أن يأتيه الموت، من كونها منوطة بالبدن نفسه ما دام حيا. وهذا المعنى، هو ظاهر قول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]. وهذا الترابط بين ظاهر الأعمال وباطنها، الذي أحسن الكاتب بالإشارة إليه، يأتي من الحقائق التي هي أساس بناء الأعمال. فالحقائق التي هي المفردات البانية للأعمال في جميع مراتبها، إذا ظهرت في عالم الأجسام كانت صورا فعلية وقولية؛ وإذا ظهرت في عالم الأرواح، كانت معاني قلبية تكون روحا لكل تلك الأعمال. وتبقى الحقائق بسيطة في عالم الحق، لا يعلمها إلا أهل التحقق.
[إفراط في الحديث عن "ثقافة الإسلام" و"حضارة الإسلام" و"البديل الإسلامي". وتفريط مخل في التربية. يا إنسان!]:
يريد الكاتب أن يشير إلى التناول الجديد للدين من قِبل المتأخرين، والذين أدخلوا عليه مصطلحات غريبة عنه، من مثل الحضارة والثقافة. والمقصود، ليس هو رد هذه المصطلحات -لأن الرد سيكون سهلا، من دون أن يفلح الراد معه في وقف الاستعمال الذي قد ينحرف أو قد يسيء إلى الأصل- وإنما هو تبييئها؛ بحيث تنصهر في الإسلام وتعمل داخل دائرته. ورأي الكاتب أن الإفراط في الدعوة إلى ثقافة إسلامية وإلى استعادة أمجاد حضارة إسلامية، مع إهمال التربية التي هي بمعنى التزكية المشروعة، لن يكون دليلا على الاهتمام بالدين أو على إرادة خدمته حقيقة، بقدر ما يدل على فُصام في شخصية المسلم، ينبغي العمل على التعافي منه، قبل الكلام عما هو فوق طور الإنسان من علوم. ونحن -لا شك- نوافقه على ما يقول؛ لكن بشرط توافر التربية كما هي في أصلها، لا بإبدال الأيديولوجيا بالتزكية الشرعية، وإحلالها محلها. ذلك لأن التحريف ليس منوطا بشيء دون آخر في مجال الدين، وإنما هو عام يشمل التربية عينها، كما يشمل كل شيء غيرها. ونعني من كلامنا، أن العودة إلى الإسلام، ينبغي أن تكون حقيقية، وفي جميع الجزئيات؛ خصوصا فيما هو من الأصول الأولى كالتزكية. والتزكية إن لم تكن خالصة من الشوائب، فإنها لن تُفلح في العودة بالمصطلحات إلى أصلها، وفي تجريدها من الحمولة المستصحبة من الحضارات الأخرى؛ وبالتالي فلن تجعل العبد المسلم يعيش إسلامه كما هو.
[أول خطى التربية التوبة ثم اليقظة. كانت التوبة في عصور الفتنة بعد الخلافة الراشدة الأولى عبارة عن التوبة من الذنب والمعصية، والتائب في مأمن وعافية، لا هم له إلا صراعهُ الداخلي ووخز ضميره ومعاملته مع الله، يُؤَرِّقُه هم الآخرة.]:
نعم، أول خطوة في الطريق تكون التوبة: من الذنب، إن كان العبد مسلما عاصيا؛ ومن الكفر، إن كان العبد كافرا مقبلا على الدخول في الإسلام. ومن هذا الصنف الثاني، كانت توبة الصحابة رضي الله عنهم، عندما كانوا يجيبون الداعي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما الصنف الأول، فيجعله الكاتب متعلقا بعصر التابعين، عندما بدأ الناس يخرجون إلى المعاصي مع كونهم مسلمين؛ وهذا على عمومه صحيح، مع بقاء الاستصحاب ساريا في كل زمان. لكن الضعف الإيماني الشديد الذي يعرفه زماننا، جعل التوبة من الذنب تكاد تكون غائبة، بسبب قرب الناس من الكفر بالحال. وهذا يجعل جلهم الآن، يحتاجون إلى توبة عامة، تشبه التوبة من الكفر؛ ينطقون فيها بالشهادة من جديد، وبنية جديدة. فإن كان ذلك مع دال على الله رباني، فإنه يكون أفضل، وأسرع في تحقيق الغاية؛ وإلا فإنه يُخاف على التائب -لشدة بعده- أن يعود في كل مرة إلى ما كان عليه. وهذا الذي نذكره هنا، هو السبب في انتقاض التوبة لدى كثيرين بسهولة، إلى الحد الذي يجعلهم يشكون في الدين أحيانا، وفي أهليتهم للتدين أحيانا أخرى. وهذه الحال، مما لا ينفع معه استفتاء الفقهاء ولا استرشادهم، وهم من قد يكونون عليها. نقول هذا، لأن الاشتغال بالعلوم الدينية وحده، لا يفيد في إصلاح الباطن شيئا، بل قد يزيد في فساده وحجابه، كما هو معلوم لدى أهل التربية منا.
[في عهد النبوة والخلافة الراشدة كانت التوبة من الشرك والمعاصي هَمّاً مزدوجا، لأن الجهاد وواجبه وضروراته وحضور الموت واحتماله في كل خروج في سبيل الله تُكَوِّن ظروفا يلتحم فيها مصير الفرد بمصير الجماعة، ويتميز فيها المنافقون من الصادقين.]:
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin