..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

..الإحسان حياة.

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
..الإحسان حياة.

..الإحسان معاملة ربّانيّة بأخلاق محمّديّة، عنوانها:النّور والرّحمة والهدى

المواضيع الأخيرة

» كتاب: ينابيع المودة ـ الشيخ سليمان بن إبراهيم القندوزي
كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:59 من طرف Admin

» كتاب: إيثار الحق على الخلق ـ للإمام عز الدين محمد بن إبراهيم بن الوزير الحسنى
كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:56 من طرف Admin

» كتاب: الذين رأوا رسول الله في المنام وكلّموه ـ حبيب الكل
كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:51 من طرف Admin

» كتاب: طيب العنبر فى جمال النبي الأنور ـ الدكتور عبدالرحمن الكوثر
كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:47 من طرف Admin

» كتاب: روضة الأزهار فى محبة الصحابة للنبي المختار ـ الدكتور عبدالرحمن الكوثر
كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:42 من طرف Admin

» كتاب: دلائل المحبين فى التوسل بالأنبياء والصالحين ـ الشيخ فتحي سعيد عمر الحُجيري
كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:39 من طرف Admin

» كتاب: ريحانة الارواح في مولد خير الملاح لسيدي الشيخ علي أمين سيالة
كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:37 من طرف Admin

» كتاب: قواعد العقائد فى التوحيد ـ حجة الإسلام الإمام الغزالي
كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:35 من طرف Admin

» كتاب: سر الاسرار باضافة التوسل ـ الشيخ أحمد الطيب ابن البشير
كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:33 من طرف Admin

» كتاب: خطوتان للحقيقة ـ الأستاذ محمد مرتاض ــ سفيان بلحساين
كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:27 من طرف Admin

» كتاب: محمد صلى الله عليه وسلم مشكاة الأنوار ـ الشيخ عبدالله صلاح الدين القوصي
كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:25 من طرف Admin

» كتاب: النسمات القدوسية شرح المقدمات السنوسية الدكتور النعمان الشاوي
كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:23 من طرف Admin

» كتاب: المتمم بأمر المعظم صلى الله عليه وآله وسلم ـ الشيخ ناصر الدين عبداللطيف ناصر الدين الخطيب
كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:20 من طرف Admin

» كتاب: الجواهر المكنونة فى العلوم المصونة ـ الشيخ عبدالحفيظ الخنقي
كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:16 من طرف Admin

» كتاب: الرسالة القدسية في أسرار النقطة الحسية ـ ابن شهاب الهمداني
كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:09 من طرف Admin

أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر

دخول

لقد نسيت كلمة السر


    كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68472
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري Empty كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري

    مُساهمة من طرف Admin 23/10/2020, 22:18

    إحسان الإحسان - 14 -
    الإسلام والإيمان والإحسان

    يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:

    [بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾. اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة.]
    [من المواضيع التي طال الجدال فيها بين المسلمين منذ القديم مدلول الإيمان والإسلام وما بين اللفظين من عموم وخصوص. وأفرد بالتأليف في الموضوع جهابذة العلماء مثل ابن تيمية في كتابه "الإيمان" فلينظر هناك تفاصيل النقاش من كان راغبا.]:

    مرة أخرى يغلط الأستاذ عبد السلام، حين يوجه الناس إلى ابن تيمية، من أجل استبانة المعاني الدينية؛ وكأنه أهل للدلالة عليها؛ وما نظن هذا إلا بسبب التلبيس الذي هما معا عليه. ولعل الأمر سيزداد وضوحا مع الفقرات اللاحقة، إن شاء الله...

    وأما ما بين الإسلام والإيمان من عموم وخصوص، فسنعلم مدى إلمام الأستاذ به من كلامه اللاحق أيضا...

    [اهتمامنا هنا بغياب أفق التقدم، وغياب معنى اقتحام العقبة، والترقي في معارجها عند الجيل الصاحي إلى إسلامه. يكون الداعي نفسه والقائد للجماعة خاليا من فهم المسألة، خليا من التحلي بخصال الإيمان، لا شمة لديه من الشوق إلى الإحسان وهو عبادة الله كأنك تراه.]:

    هذا كلام إنشائي عام، لا ينفع في تناول معان دقيقة كمعاني الإسلام والإيمان والإحسان. وقد بدأ الأستاذ يشهد ويشترط لقائد الجماعة أن يكون على خصال الإيمان وعلى "شمة" من الإحسان، من دون أن يفصل الكلام في ذلك كله؛ حتى يتمكن القارئ من إلحاق الكلام والرجال بمراتبهم. وهو بهذا التعميم يُبقي على الخلط عاملا باستمرار، مما سيزيد من الضرر الواقع على الأمة كثيرا، بإطالة عمر الانحراف والمد في أجله. ويكفي أن نعلم أن مسألة مراتب الدين على شدة جلائها في النصوص، ستبقى لدى جل علماء الدين من المتقدمين ومن المتأخرين، مبهمة وكأنه لم يرد فيها نص واحد من القرآن أو من السنة؛ لنُدرك مدى الخلل الذي لدى علمائنا ولدى الأمة كلها من بعدهم. وسنعلم بعد هذا، أن بقاء مسألة المراتب مجهولة، لا بد أن ينجر عنه خلط في المعاني، يؤدي هو أيضا إلى إمكان ادعاء أيٍّ كان لما يشاء منها، ما دامت المعايير غائبة والغايات فيها مجهولة. وهذا على التخصيص، هو ما وقع فيه ابن تيمية، وهو من يتناول المراتب وكأنها متجاورة أفقيا. ويكاد هذا الفهم يعم كل المتأخرين، بسبب تصورهم لمعاني تتعلق بالإيمان والإحسان من مرتبة الإسلام وحدها. وسنبيّن إن شاء الله الثغرات العلمية التي يكون عليها هؤلاء المتطفلون، ونبيّن نتائجها عند انقلابها جهلا بما هو ضروري في محله.

    [من الأئمة الذين جزموا بأن مدلول "إسلام" و"إيمان" متغايران الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. وأعطى البخاري المدلولين مكانهما حيث اعتبر أن الدين الذي رضيه الله لعباده ولا يقبل ممن ارتضى غيره دينا هو مجموع الإسلام والإيمان والإحسان.]:

    الإمام أحمد، من فقهاء مرتبة الإسلام؛ وهو غير مخوّل للكلام عن هذه المعاني، بخلاف ما تظنه العامة في الفقهاء. وأما البخاري، فما زاد على أن دل على ما تعطيه اللغة، من حديث جبريل المعروف، والذي يعرّف فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مراتب الدين. والبخاري أيضا لم يكن على علم بالمراتب كما هي في نفسها، وكما بيّنّا نحن في بعض كتبنا، والتي من أخصها في هذا المضمار "مراتب العقل والدين". بل نزعم أننا -بحمد الله- قد وفّقنا لأول مرة لجمع ما كان متناثرا لدى أولي العلم من السابقين، مما يتعلق بهذا العلم الخاص؛ إلى الحد الذي يمكن تدريسه في المعاهد المتخصصة الآن، من حيث هو علم معياري مستقل، يعود إليه أصحاب كل العلوم الأخرى، إن هم أرادوا ترتيب الكلام في مجالاتهم، أو ترتيب العلماء بحسب كلامهم؛ فيُعلم حينها أي كلام هو أعلى، وأي عالم هو أعلى. كل هذا، بحسب كلام العلماء، لا بحسب مقام الرجال عند الله. والفرق بين الأمرين، هو أن المرء قد يعلم مرتبة الكلام، وتغيب عنه مرتبة المتكلّم لنقصٍ لديه في الإحاطة بالكلام ذاته. ونعني من هذا، لو أن الناظر إلى الكلام يكون من الكبار، فإنه بكلام الرجل في أدنى مرتبة، يعلم مرتبته التي يكون منها؛ لأن المقام يغشي كلام صاحبه بكسوة لا تفارقه أبدا. وهذا الذي نذكره هنا، مما تحار فيه عقول العقلاء. ولنعد إلى ما نحن بصدده...

    [قال البخاري في كتاب "الإيمان": باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، وبيان النبي صلى الله عليه وسلم له. ثم قال (أي النبي صلى الله عليه وسلم): "جاء جبريل يعلمكم دينكم". فجعل ذلك كله دينا.]:

    هذا مما ينبغي أن يكون مُدركا لجميع المسلمين، بمجرد النظر في الحديث المذكور؛ ولكن عدم تحقق علماء الدين بجميع المراتب، سيجعل تعريفهم للمعاني الواردة في الحديث مختلفا، وقد كان ينبغي أن يكون التعريف موحدا، ليسهل على الناس تبيّن المراتب من تفاصيلها ودرجاتها.

    والإقرار بأن المراتب كلها هي الدين ذاته، سيكون له تبعات علمية وحُكمية؛ عندما سنعلم أن من لم يكمل المراتب سيكون دينه ناقصا، مهما فعل. ونعني من هذا، أن من أتى بأركان الإسلام على جهة الفرض وعلى جهة النفل، لا يمكن أن يزعم لنفسه أن دينه قد كمل؛ لأنه يبقى عليه مرتبتا الإيمان والإحسان، ما دخلهما ولا شم لهما رائحة. هذا كله من جهة العمل؛ وأما من جهة العلم، فإن من علم من الفقهاء الحلال والحرام، أو علم صحيح الحديث من ضعيفه، أو علم تفسير القرآن من مفسريه، فإنه يكون من علماء مرتبة الإسلام وحدها؛ ويبقى على جهل بما بقي من الدين. ومثل هذا، لا ينبغي له الكلام في كل مسألة تعرض له، لأنها قد تكون مما يجهل، وهو لا يدري. وقد وقع في هذا الخلط جل الفقهاء، قديما وحديثا؛ ونتج عن عدم ضبط ما ذكرنا، كل هذا اللبس، الذي يجعل أمرا ما واجبا لدى قوم، حراما لدى آخرين، جائزا عند فريق ثالث. ويكاد يتكرر هذا الالتباس في كل المسائل المتناولة، من دون أن يتفطنوا إلى العلة التي وراء ذلك. ونحن -إن شاء الله- سنبيّن عند الضرورة بعض الأمثلة التي تنحل عندها العقد بحصول العلم فيها من جهة المراتب بأسهل ما يكون؛ لأننا لن نتمكن من بسط الكلام في المراتب هنا بسطا كاملا، لضيق المحل عنه.

    [نورد هنا رواية البخاري لحديث جبريل، وهو أقصر من رواية مسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن عمر بن الخطاب، وهي رواية مشهورة. روى البخاري عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوماً للناس، فأتاه رجل فقال: "ما الإيمان؟" قال: "الإيمان أن تومن بالله، وملائكته، وبلقائه، ورسله، وتومن بالبعث". قال: "ما الإسلام؟" قال: "الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتيَ الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان". قال: "ما الإحسان؟" قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكُن تَراه فإنه يراك". قال: "متى الساعة؟" قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها، وإذا تطاول رعاة الإبل البُهْمِ في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله". ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عنده علم الساعة" الآية. ثم أدْبَرَ، فقال: رُدوه، فلم يروا شيئا. فقال: "هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم". قال أبو عبد الله (وهو البخاري): "جعل ذلك كله من الإيمان".]:

    رواية مسلم، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أدق؛ وقد جاء فيها: «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ، بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ، سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ؛ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا"، قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ، قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ". قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ". قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ؛ قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا، قَالَ: "أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ، يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ". قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ، أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ.». وعدول الكاتب عن هذه الرواية، لا يُسعف القارئ في تبيّن المعاني؛ وكأنه يفضل أن يبقى الإبهام سائدا، ليسهل عليه قول ما يشاء، من غير أن يعترض عليه أحد. ونحن نريد للقارئ أن ينال ولو قليلا من علم المراتب، لأنه علم ينفع الخاص والعام؛ وله آثار حسنة على تديّن الفرد والجماعة معا.

    [مذهب البخاري رحمه الله أن الإسلام والإيمان شيء واحد. لكن مجمل القرآن والحديث يرد الإسلام إلى الأعمال الظاهرة التي يمكن أن يؤديها المنافق والأعرابي الذي لما يدخل الإيمان في قلبه، بينما يقتضي التحلي بشعب الإيمان، قولا وعقيدة وعملا، أن يكون القلب محط الأمانة، منه تنبعث النية والصدق والإخلاص والإرادة والعزم التي بدونها تكون الأعمال الظاهرة لغوا وعملا لا يقبله الله. لأن الله تعالى إنما يتقبل من المتقين، و"التقوى ها هنا" كما جاء في الحديث الصحيح، ويشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره الشريف.]:

    بدأ الخلط من هنا!... وما ينبغي أن نتبيّنه، هو أن البخاري ليس هو من يؤخذ عنه معنى الحديث؛ لأنه من أهل إثبات صحة الحديث بالطرائق المعلومة، لا من أهل الكلام في معانيه. وليس للمحدثين من مدخل في معاني الحديث، إلا ما يكون منهم لأجل التبويب والترتيب وحدهما. والمسألة لا تحتمل أن يكون فيها مذاهب مختلفة، مع وضوح العبارة النبوية، وعدم احتمالها لذلك. هذا، لأن العبارة لو كانت تحتمل معانيَ شتى، لامتنع أن تُنتج علما؛ خصوصا إن علمنا أن علم المراتب من أدق العلوم، بحيث لا يقبل الخلط ولا التعميم. وأولى الناس بالكلام في معنى حديث المراتب، هم من سلكوا الطريق وتحقق لهم الوصول؛ لأنهم يكونون قد ذاقوا معاني الحديث ذوقا، وبالتفصيل. أما غيرهم، فإنهم سيتصورون المراتب من خارجها، وسيغلطون حتما. ولا ندري لمَ غفل علماء الأمة عن هذا الأمر، مع شدة وضوحه.

    وأما ما قاله الكاتب من كلامه في معنى الحديث، فهو مخلوط؛ ومما ينبغي تبيانه ما يأتي:
    1. الخلط في مرتبة الإسلام بين الأعرابي والمنافق جهل كبير؛ لأن الأعرابي مسلم، والمنافق كافر. وإن كان التظاهر بالإسلام يجعل المنافق على شبه بالأعراب، فلا ينبغي إغفال ما يفرق بينهما من جهة حقيقتهما. ونعني من هذا، أن الأعراب الذين نفى الله عنهم الإيمان، في قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]؛ فإنما نفى عنهم الإيمان المرتبة، لا مطلق الإيمان. ونعني من هذا، أن كل مسلم هو على إيمان (تصديق)، وإلا كان كل مسلم كافرا، وكانت مرتبة الإسلام مرتبة نفاق. وهذا لا يصح، ولا يقول به أحد.
    2. وأما الفرق بين إيمان الأعراب، وإيمان المؤمنين، فهو أن إيمان الأعراب مجمل، ينتج عنه الإسلام، الذي هو عبادة الله بالجوارح. وأما إيمان المؤمنين، فهو تفصيلي؛ ينتج عنه ذوق مقامات الإيمان، والتي تعطي علوما خاصة بها. ونعني من هذا أن الإسلام عمل بالجوارح عن إيمان أولي، والإيمان هو عمل بالقلب من حيث هو آلة العمل المناسبة للإيمان. والقلب في مرتبة الإيمان، له تعقل خاص مخالف للتعقل العام الذي يكون للكافر وللمسلم. وهذا الفرق لا يُعلم إلا ذوقا.
    3. مقامات الإيمان، هي المقامات التي يتكلم عنها عوام الصوفية؛ وهي التي يتعلق بها السلوك في المرتبة الثانية؛ وهي: التوكل، والزهد، والصبر، والشكر، والخوف والرجاء، والتسليم، والرضى.
    4. أما التقوى التي ذكرها الكاتب، فهي منوطة بكل مراتب الدين؛ ولها في كل مرتبة معنى خاص يناسب أهل تلك المرتبة.
    5. أما مصطلح "شعب الإيمان"، فهو وإن كان له تعلق خاص بالمرتبة الثانية من الدين، إلا أنه يشمل فروعا لا يخلو منها إسلام ولا إحسان. وهذا كله، لأن الإيمان بالمعنى العام يطابق معنى الدين عينه؛ والدين من هذا الوجه إيمان. ولولا هذا الاعتبار، ما كان الله يخاطب كل أهل الدين في كلامه، بـ "يا أيها الذين آمنوا". وهذا التداخل في المعاني، هو ما جعل الكاتب، وغيره ممن يتكلمون في الدين يقعون في الخلط. نعني من هذا، أن من يأخذ علمه عن الله ورسوله، فإنه يعلم في كل مرة معنى "إيمان" ويجده مخالفا لمعنى "إيمان" في محل آخر؛ ومن يأخذ علمه عن نظره فإنه سيظن أن للكلمتين معنى واحدا فيغلط. وهذه الدقة في معنى الكلمة الواحدة، هي مما يشق عند دلالة غير أهله عليه. كل هذا، ليمتاز أهل العلو من أهل السفل، ويبرز الأعلم من بين جمع العلماء.
    6. وأما الربط بين القول والعقيدة والعمل، هكذا من دون تفصيل؛ فإنه لا ينفع هنا، بل يضر؛ لأن العقيدة التي يشتغل بها الناس منذ ما بعد زمن الصحابة المرضيين، ليست من العلم المناسب لمرتبة الإيمان كما يتوهم جل علماء الدين؛ وإنما هي من شوائب مرتبة الإسلام التي تجعل إسلام صاحبها أنقص من إسلام العوام. وهذا، مما لم نجد من يدل عليه، على خطورته وسوء أثره على تديّن العبد.

    وعلى هذا، فإن كلام الكاتب يبقى غير دقيق وغير علمي، ولا يليق إلا بمجالس الوعظ، حيث يُتكلّم في المعاني من وجه عموم دلالتها؛ وحيث يكون الإسلام إيمانا والإيمان إسلاما، وغير ذلك. لكن هذا لا ينفع هنا، خصوصا وأن الكتاب يُفترض أن ينتهي إلى الإحسان، الذي ينبغي أن يحيط العبد قبله بمعنيَي الإسلام والإيمان، اللذين يطابقان الدلالة على كل مرتبة، لا على المعنى اللغوي وحده.

    [أخرج الإمام أحمد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام علانية والإيمان في القلب".]:

    كان على الكاتب، أن يخلص من هذا الحديث إلى المعنى الذي ذكرناه نحن سابقا. ولكن تمييز ذلك، لا يكون حقيقة إلا لمن سلك الطريق، وارتقى من الإسلام إلى الإيمان. وحتى نقرّب هذا المعنى، ونجعل القارئ يُدرك الفرق بين إيمان الإسلام، وإيمان الإيمان، فإننا نذكر هنا ما جرى لنا عند دخولنا إلى مرتبة الإيمان إبان سلوكنا على يد شيخنا رضي الله عنه وجزاه خيرا؛ وقد كنا في المرحلة الأولى، وربما في الشهور الأولى من بدء السلوك في مستهل عقد الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي. وكنا في ليلة ذكر وإنشاد في مقر زاوية الشيخ المركزية، وإذا بي وأنا أسمع المنشدين يرددون "الله.. الله.."، أُدرك اسم الله من جهة السمع وحده، لأول مرة في حياتي؛ نعني من دون خوض في المعنى، وإنما كمن لم يسمعه في حياته من قبل ولا مرة واحدة. فصرت أتعجب من إدراكي لسمع الاسم لأول مرة في حياتي، مع علمي بأنني قد سمعته مرات لا تُعدّ فيما قبل، وكنت أعلم مدلوله. وهذا الذي نقوله هنا، هو ما ذكرنا سابقا أنه لا يُعلم إلا ذوقا؛ حتى إنني لما رمت إخبار بعض رفقائي في تلك الليلة بما وقع لي -وكنت أظن أنهم قد مرّ بهم ما مرّ بي لسبقهم لي في الطريق- فكنت أرى في أعينهم عدم إدراك لما أبوح لهم به؛ فاضطررت إلى تغيير مجرى الحديث، حتى لا أُتهم في عقلي. وهذا السمع الذي ذكرناه هنا، هو ما عناه الله تعالى بقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21]. والمعنى هو أنك لو سألت الكفار والمنافقين عن القرآن إن هو تُلي عليهم، ربما يعيدون عليك ما سمعوه كما تلقوه؛ وهذا يشهد لهم بالسماع المادي، الذي لا يتجاوز أصوات الحروف والكلمات؛ ومع ذلك فقد نفى الله عنهم السمع المعنوي، عند عدم ملامسة معاني القرآن لقلوبهم. وهذا يعني أن معاني القرآن، التي هي من غير ما يُدرك من جهة اللغة وحدها، لا تكون من مرتبة الإسلام، وإنما من مرتبة الإيمان. وهذا الذي نذكره أيضا، هو سبب عدم إدراك الفقهاء لمعاني القرآن، كما يُدركها السالكون. ووالله، لقد كنا نسمع القرآن من القارئ وهو يقرأه، من الله المتكلم به سبحانه. وعلى علماء الدين إن هم أرادوا مجاوزة المعاني اللفظية، التي يُشاركهم فيها المستشرقون كما لا يخفى، أن يعملوا على الترقي في مراتب الدين على أيدي شيوخ التربية المؤهلين. وعليهم قبل ذلك، أن يتخلّصوا من جهلهم بحقيقة مرتبتهم، بالإقرار بما هم عليه من تقصير في مقابل ما للمؤمنين والمحسنين؛ فإن هذا الاكتفاء منهم بأدنى مراتب الدين، إن لم يخرجوا به إلى النفاق الجزئي، لا يليق بهم وهم من يُنظر إليهم من قِبل العامة على أنهم الأعلم والأدرى بكل شؤون الدين. نقصد من كلامنا، أنه يجدر بهم العمل على التحقق بما يُظنّ فيهم، بدل البقاء على خلافه؛ لأن ذلك لا يُرضي الله عنهم، ويُدخلهم في النفاق الجزئي كما ذكرنا. ونحن -يعلم الله- أننا نرجو لهم الخير كله، لو كانوا يقبلون!...

    وليقس القارئ الآن ما تكلمنا عنه نحن، بما كان يعلمه هو من عبارة "الإسلام علانية، والإيمان في القلب"؛ فإنه سيجده بعيدا عنه ويكاد يجزم أنه لن يصل إليه من مجرد النظر في الألفاظ. فعلى هذا، فليقس كل ما سيأتي بعدُ من كلام عن تفاصيل الإيمان والإحسان، إن هو أراد أن يُبقي هامشا يحكم فيه على نفسه بجهل ما هو فوق مرتبته، من باب الأدب اللائق في معاملة ربه.

    [القلب لله عز وجل، هو وحده يحاسب العبد على النية. أما العلانية فهي الشأن العام، والوجه الذي ينظر إليه المسلمون من الإنسان ليحكموا عليه بالإسلام أو عدمه تبعاً لسلوكه الظاهر.]:

    هذا الكلام من مرتبة الإسلام وإن كان عن القلب؛ لأن النية هي تعلق القلب الذي يبدأ مع العبد من مرتبة الإسلام؛ ويبقى المعنى الذي دل عليه الحديث النبوي السابق، غير هذا الذي قيل. ومن يتتبع الألفاظ وحدها، ويظن أنه سيخرج بشيء، فهو واهم؛ وكأن حديث المراتب جعله الله برهانا على تحقق سلوك العبد، إن هو علم المعاني التي ذكرناها نحن. ويبقى كل متكلم عن معاني الألفاظ من الطريق المعتاد، ممن لا يجاوزون مرتبة الإسلام؛ وإن بالغوا في تمطيط الكلام وتنميقه، كما يفعل الكاتب.

    ثم إن قول الكاتب بأن الله وحده يحاسب العبد على النية، يوهم بأن العباد هم من يحاسبون على الأعمال؛ وهذا غير صحيح، لأن الله يحاسب على النية وعلى العمل وعلى غيرهما. ولعل الكاتب أراد أن يشير إلى حكم الناس على ظاهر العباد الذي ذكره بعد ذلك، والذي وإن كان غير المحاسبة؛ فإنه من الفضول الذي ينبغي أن يتخلص منه كل طالب نجاة نفسه.

    ولقد كنا نرجو أن لا يأتي الكاتب بكلمة "سلوك" على المعنى العام المشترك بين المؤمنين والكافرين؛ ليبقى تفرد المعجم العلمي الديني مستقلا وموصولا بالوحي وحده. وليته يعود إلى المعنى الشرعي للسلوك من قريب، حتى نوافقه فيما يقول إن شاء الله.

    [علاج القلوب وتربيتها وتلقينها بمخاطبة الفطرة وبالصحبة من شأن الربانيين.]:

    هذا الكلام صحيح من الكاتب، لكننا لا نقبله على عمومه؛ ولا يمتاز السالك من غيره، إلا بالكلام في التفاصيل وحدها، التي لا تُعلم إلا من الذوق وحده. والكاتب، لم يدخل في تلك التفاصيل، ولا أشار إليها. وهذا يعني أنه إلى الآن يتكلم من مرتبة الإسلام.

    [والفقهاء الخبيرون بالأحكام الفرعية يحصون الأعمال الظاهرة، لا شأن لهم بالقلوب وطبها، بل لا خبر عندهم إن لم يأتوا الرباني الوارث كما رأينا فطاحلهم يفعلون في الفصل الأول من هذا الكتاب.]:

    كلام صحيح أيضا، من جهة عمومه؛ لكنه لا يفيد أن الكاتب مخالف لفقهاء الظاهر بالمقام. وسنبقى منتظرين لما يدل على سلوكه، لنشهد له بالإيمان... ثم بالإحسان...

    [ومن الفقهاء الأصوليين المتكلمين المدرسين الذين دخلوا من علانية الإسلام إلى بواطن الإيمان، وعرجوا من ثم إلى ذرى الإحسان الإمام الغزالي. قال في إحيائه: "منتهى نظر الفقيه (...) أنه لا يجاوز حدود الدنيا إلى الآخرة، (...). أما الإسلام فيتكلم الفقيه فيما يصح منه، وفيما يفسد، وفي شروطه. وليس يلتفت فيه إلا إلى اللسان. وأما القلب فخارج عن ولاية الفقيه، لعزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباب السيوف والسلطنة عنه حيث قال (لأسامة في القصة المشهورة حين قتل رجلا نطق في الحرب بالشهادتين): "هلا شققت على قلبه؟" (…) بل يحكم الفقيه بصحة الإسلام تحت ظلال السيوف مع العلم أن السيف لم يكشف له عن نيته، ولم يدفع عن قلبه غشاوة الجهل والحيرة. ولكنه مشير على صاحب السيف. فإن السيف ممتد إلى رقبته (أي إلى رقبة الذي ينظر الفقيه في أمره)، واليد ممتدة إلـى ماله، وهذه الكلمة باللسان (الشهادتان) تعصم رقبته وماله مادام له رقبة ومال، وذلك في الدنيا. قال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم".]:
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68472
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري Empty رد: كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري

    مُساهمة من طرف Admin 23/10/2020, 22:22

    مرة أخرى يغلط الكاتب غلطين: الأول حين ينسب الغزالي إلى ذرى الإحسان من غير بيّنة؛ لأن كلام الغزالي هو في مرتبة الإيمان دون الإحسان. وهذا لا يعني أنه ليس من أهل الإحسان عند الله، إن كان منه ولم يتكلم فيه. وقصدنا من هذا كله، هو أن الحكم يكون على الكلام، لإلحاقه بمرتبته؛ حتى تظهر معالم "علم المراتب" للعلماء وينتفعوا بظهورها في كل العلوم الدينية التي هي ملتبسة ومخلوطة، كما ذكرنا سابقا. ويغلط الكاتب ثانية، حين يحمل المعنى الذي تكلم عنه الغزالي، والذي هو منوط بالقلب في مرتبة الإسلام، والذي تُحفظ بإعلانه على اللسان حقوق المسلم في المجتمع المسلم، على معنى الإيمان من مرتبة الإيمان. نعني مرة أخرى، أن عمل القلب بالصدق في الإيمان، من مرتبة الإسلام، وعمله بإخلاص النية في الأعمال المشروعة، ليس من مرتبة الإيمان؛ وإنما ذلك الحد هو الأدنى الذي يكون عليه القلب لدى المسلم، وإلا خرج المرء إلى الكفر إن كان منافقا خالصا؛ أو خرج إلى النفاق الجزئي والشرك الأصغر، إن هو كان على صدق في شهادته، من دون إخلاص في أعماله. وهذا الذي نقوله، مما ينبغي أن يُدرَّس في المعاهد الدينية وفي الجامعات، وأن يُعلَّم في المساجد لكل مرتاديها؛ حتى يخرجوا من الخلط الواقع في المدلولات، والذي ينشأ عنه انحجاب عن الترقي إلى الإيمان بله الإحسان. ونختم بالقول: إن كل ما ورد من كلام في الفقرة السابقة، ومن ضمن ذلك معنى حديث أسامة رضي الله عنه، وحديث «أمرت أن أقاتل الناس...»، هو يدل على مرتبة الإسلام لا على مرتبة الإيمان!... فليُحفظ هذا، ويُجعل معلمة تُدرك منها معاني الدين التي ستأتي فيما بعدُ إن شاء الله... وهذا يعني: أن علانية المسلمين والمؤمنين والمحسنين واحدة، وهي ما يتعلق بمرتبة الإسلام وحدها، بصفتها المرتبة العامة المشتركة. ويبقى الفرق بين أهل الإسلام والآخرين المشاركين لهم في الظاهر المخالفين لهم من حيث الباطن، مما لا يعلمه إلا الخواص أو خواص الخواص؛ بحسب المنظور فيه من الكلام أو من المتكلمين.

    أما "لا إله إلا الله" التي يعصم قولها الدماء، من مرتبة الإسلام، فيبقى على العبد تصديق قولها في مرتبة الإيمان، ويبقى عليه علمها في مرتبة الإحسان. فعندما يقول الله تعالى لعبده: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، فلا شك أنه يدل على الإحسان، لا على العلم الإجمالي الذي يكون عليه المسلم. ولقد أغفل علماء الدين هذه التفاصيل في الخطاب الإلهي، فحُجبوا عن العمل بما أُمروا على الوجه المأمور به.

    [بلغة العصر: الفقيه شأنه خدمة الدولة (أرباب السيوف والسلطنة) في ترتيب المحاكم وفصل القضايا، لا شأن له بالتّربية. وهذا تقسيم للوظائف تمليه الضرورة في غد الإسلام، غد الخلافة الثانية، فتكون الدعوة منكبة على تربية الإيمان في القلوب لا تبتلعها الدولة.]:

    هذا الكلام كله مغالطات، نفندها بإذن الله بما يلي:

    1. يغلط الكاتب حينما يجعل الفقهاء خدما للدولة وحدها، عند إظهارهم لأحكام الإسلام التي تنبني عليها معاملاتها للناس، إن هي كانت تُحكّم الشريعة في معاملاتها؛ وذلك لأن الفقهاء لهم حظهم من التربية في مرتبة الإسلام لأهل مرتبة الإسلام، عندما يدلونهم على الحلال والحرام المتعلقين بالأعمال وبالمعاملات، ويدلونهم على الأخلاق التي ينبغي أن يكون عليها المسلم، كما هي معلومة من القرآن ومن السنة. وتجريد الفقهاء من حظهم في الأهلية للتربية العامة وخدمة الدين، هو جهل بالدين قبل أن يكون ظلما لهم. وأما الفقهاء، الذين نظن أن الكاتب يعنيهم، والذين يخدمون أغراض السلاطين من دون اعتبار لأحكام الدين، فلا يُعدّون من الفقهاء حقيقة، وإنما هم من المنافقين (جزئيا على الأقل) الذين ينبغي أن يعودوا إلى ما تدل عليه مكانتهم أولا، ليتحققوا بمرتبة الإسلام، وليكونوا مؤهلين للترقي إن توافرت شروطه لديهم، وأذن الله لهم فيه.
    2. يوهم الكاتب أن تربية القلوب على الإيمان، علامتها أن يكون المربي (الشيخ) معاديا للدولة؛ وهذا غير صحيح!... من جهة: لأن العالم من أي مرتبة كانت، ينبغي أن ينصح للدولة وللناس أجمعين، عملا بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ! قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ.»[1]. ومن جهة أخرى، لأن الكلام يوهم بأن الحركيين من الإسلاميين، يكونون من أهل مرتبة الإيمان، بمجرد معارضتهم السياسية لحكامهم؛ وهذا غير صحيح أيضا!... وهذا الكلام يكون جهلا من صاحبه، يجعله مدلسا وإن لم يقصد؛ لأنه يخلط بين مرتبتين، ويجعل السامع يخلط. والحق في هذا، هو أن ما عليه الإسلاميون، لا يُجاوز مرتبة الإسلام؛ لأن كلامهم الذي يكون في أحسن أحواله من النصيحة العامة للحكام. وأما إن كانوا مغرضين، ويعارضون الحكام عن هوى، وعن منافسة على الدنيا وعلى الملك، فإنهم سيكونون على أمراض قلبية تجعل إسلامهم نفسه مخروما؛ وتبقى مرتبة الإيمان مجهولة للمصلحين من أهل الإسلام بله المفسدين. كل هذا، ونحن نحكم على الكلام لا على العباد؛ وليتعلّم الناس معنا أن يُفرقوا بين العبد وكلامه، حتى لا يدخلوا في سوء الأدب مع الربوبية المـُهلك، عياذا بالله.
    3. يُشتمّ من كلام الكاتب، أن أصحاب السلطان، لا بد أن يكونوا من أسوأ الناس؛ بل إن كلام الإسلاميين عنهم يدل أحيانا على أنهم من أتباع فرعون وهامان، ومن ورثة أبي جهل؛ وهذا لا يصح من جهة العلم أبدا: لأن الحكام وأعوانهم، هم كسائر المسلمين، إن كانوا صادقين في الشهادتين، فهم مسلمون؛ وإن كانوا يأتون بأعمال الإسلام المذكورة في الحديث، من دون أن يخلطوا ذلك بتربب على الناس أو بظلم لهم، فهم على إسلام حسن، يُؤهلهم للترقي عند حيازة الشروط كما ذكرنا آنفا؛ وأما إن أخلّوا بالعبادات، وظلموا العباد، فإنهم يكونون مسلمين على سوء؛ يُنصحون ويُعصَوْن إن هم أمروا بمعصية، ولا يُقاتلون. ومن قاتلهم، فإنه يكون مرتكبا لكبيرة، تنزل به عن حسن الإسلام وتمامه؛ وبالتالي يكون محروما من الترقي، إلى أن يتوب. وأما إن كان الحكام -وهذا قد يحدث لكن لا يٌقطع به- ممن لا يؤمنون بالله ورسوله، ويأتون بعض أعمال الإسلام يتظاهرون بها أمام الناس، فإن حكمهم يكون حينها حكم المنافقين؛ الذين يحرم قتالهم، وتجب مخالفة طريقهم، من دون أن يُكَفَّروا؛ لأن علم حقيقة كفرهم، لا يتأتى من جهة الظاهر وحده، وإنما يكون من جهة الكشف. والكشف إن حصل، يُنصح الناس على نوره، ولا يُؤخذ به في القضاء (الحكم الشرعي الظاهر). وعلى هذا، فإنه قد يكون من أهل الحكم من هم من أهل الإحسان، كما كان الخلفاء رضي الله عنهم؛ وقد يكون منهم من هم من أهل مرتبة الإيمان، كبعض السابقين الذين كان لهم زهد في الدنيا رغم سلطانهم، وكان لهم خوف من الله يحجزهم عن المظالم والكبر؛ وقد يكون منهم من هم من أهل مرتبة الإسلام، كجل المتأخرين من السلاطين. ونعني بهذا الكلام، أن الحكام هم كسائر الناس على التمام بالنظر إلى الدين، منهم الصالح ومنهم دون ذلك؛ بل إن الحاكم الذي يكون على إيمان وعلى إحسان يكون من أئمة الدين بسبب صعوبة الجمع لديه بين الأمرين. ولهذا كانت مكانة الإمام العادل عظيمة عند الله، وكان جزاؤه عظيما. يدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، و...»[2]؛ وجعل الله الإمام العادل في أول المظلَّلين، وهذا يدل على مكانته. وجاء أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، و...»[3]؛ فجعل أول المجابين الإمام العادل، وهذا من الجزاء. فكيف يتجاسر قوم، بالقطع بسوء حال الحكام، وباب الدين مُشرع في وجوههم، ما داموا مطيعين لربهم!... إن هذا، من الجهل بالدين ومن الظلم لهم، كما سبق أن ذكرنا. ولعل جل المسلمين لا يتمكنون من تصور حاكم مظلوم، من شدة ما لُقِّنوا كراهيتهم من قِبل الإسلاميين، ومن قِبل بعض الفقهاء المنافقين، الذين يَلقَون الحاكم بوجه، ويلقون الناس بوجه آخر معاكس. ونحن -بحمد الله- ندل الناس على ما ينفعهم عند ربهم: ندل الحكام وندل المحكومين؛ لا فرق عندنا بين هذا وذاك إلا بالتقوى، كما أمر الله. ونحب للحكام وللمحكومين (الذين من بينهم الإسلاميون) الخير كله، ونرجو أن يكونوا جميعا عند الله من المقبولين؛ بل ونسألهم جميعا أن يدعوا لنا، لعلهم يكونون من المجابين فنفوز بدعائهم...

    [على أن دولة القرآن إن لم تَنْبَنِ على قاعدة إيمانية عميقة متجسدة في "جند الله" الربانيين، جماعة أو جماعات متعاونة متشاورة، فإن الشريعة المفروضة قانونا من أعلى لن تجد قلوبا تتأصل عليها ولا ذِمَماً ترسو فيها.]:

    عبارة "جند الله" تشي بوجود توجه عسكري في خطاب الأستاذ عبد السلام، وإن كان هو يؤكد على سلمية دعوته في كل المناسبات، وكنا نحن نعلم أن للفظ مدلولا دينيا غير عسكري. وهذا من الالتباس وازدواجية الخطاب، اللذين يُنبئان عن اضطراب في الرؤية لدى الكاتب، كنا ننزهه عنه. وأما الربانية التي يجعلها صفة لجند الله، فلا نعلم لها حقيقة لديه؛ إلا إن جعل الربانية معنى عاما يكون من صفة كل مسلم، كما هو الإحسان عنده من الصفات العامة أيضا. وهذا كله إخلال بالمعاني الدينية، سيزيد من صعوبة إدراك الناس للدين، بدل أن يكون معيدا لهم إلى الأصل المهجور.

    أما دولة الإسلام، فإن من أحكام الشريعة ما يكون فيها مفروضا من فوق (بالسلطان)، وإلا لكان الحاكم المسلم مقصرا في أداء ما عليه؛ مع أن الأصل في العمل الفردي، هو الوازع القلبي الباطني، الذي يمنع العباد من ارتكاب الآثام في الخلوات فضلا عن العلانية. ولو لم يذكر الكاتب اسم الدولة، لبقينا فيما يتعلق بالفرد من شؤون، نتبيّن فيها الفروق التي بين المراتب فحسب؛ ولكنه يأخذنا دائما بعيدا عما ينبغي، بسبب عمومية خطابه وشموليته لكل ما يتعلق بالإسلام وبالمسلمين. كل هذا من أثر التوجه السياسي لديه، والذي يريد جعله ذا أساس ديني بكل وسيلة.

    [وقد شهد الصحابة رضي الله عنهم أنهم أوتوا الإيمان قبل القرآن. قال جندب بن عبد الله وابن عمر وغيرهما: "تَعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا". وجاء في مسند الإمام أحمد من حديث لعبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وإن الإيمان يُعطى العبدَ قبل القرآن".]:

    معنى تلقي الصحابة للإيمان قبل القرآن، هو تلقيهم للمدد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والذي كان يثمر في قلوبهم معاني يجدون ذكرها في القرآن بعد ذلك؛ ليكون القرآن شاهدا على صحة ما أوتوا. وليس هذا مخصوصا بهم وحدهم، رضي الله عنهم؛ وإنما هذا هو الحال حتى مع من كان يعلم لفظ القرآن، قبل تلقي الإيمان من المتأخرين. ونعني من هذا، أن العالم بالقرآن لا يعلم حقيقة معانيه، مع كونه يمر على ألفاظها المرة بعد الأخرى، إلا بعد أن يتحقق بالمعنى من حيث سلوكه الشخصي بباطنه. فيكون كمن يقرأ الآية المتعلقة بمعنى مخصوص لأول مرة. وهذا من دلائل عزة معاني القرآن، وحمايتها من أن يطلع عليها من ليس من أهلها. ومن أظهر ما وقع للصحابة من هذا جماعةً، ما وقع عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لما قرأ أبو بكر قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]؛ يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ؛ فَمَا أَسْمَعُ بَشَرًا مِنَ النَّاسِ إِلَّا يَتْلُوهَا."[4]. وهذا الذي ذكرناه، يعود إلى الذوق، لا إلى مجرد العلم. ومن هنا يظهر أن متعلم القرآن، لا يُحسب له منه إلا ما ذاقه؛ لأن ما لم يذقه يكون في حقه كأنه لم ينزل بعد، وإن كان يتعبد الله بتلاوته. نعني أن الأمر يختلف في القراءة بين الجزاء الأجري والمكانة الذوقية. لهذا كنا نجعل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قارئ القرآن: «اقْرَأْ وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا.»، دليلا على القراءتين: قراءة التعبد التي يكون عنها الأجر، وقراءة الذوق التي يكون عنها تحصيل المنزلة. ولو علم الناس هذا المعنى في معاملتهم للقرآن، وعملوا به، لانجلى لهم كثير مما يتعلق بمكانتهم العلمية. ومما لا يخطر لأحد على بال، هو أن المرء قد يجد من الأميين مَن قد أكمل القرآن، مع أنهم لا يعلمون إلا قليلا من ألفاظه؛ ويجد من لا يزال يهجّي أحرفه (من جهة المعنى) علماء كبارا، طبّق صيتهم العالم كله. فسبحان من أعطى وأمد، وسبحان من منع وحد.

    [إذا كان الإيمان لا تعطيه تلاوة القرآن فأحرى أن لا تعطيه قراءة الكتب البشرية. الإيمان والدين يسريان من قلب الداعي والمصحوب وسلوكه إلى قلب الصاحب وسلوكه.]:

    الكاتب يغلط عند قوله: "الإيمان لا تعطيه تلاوة القرآن"؛ لأن تلاوة القرآن من الأعمال المشروعة التي يزداد بها الإيمان. فإن كان يريد من قوله ذاك، أن الله هو من يزرع بذرة الإيمان في قلوب العباد، من قبل أن يعملوا بأعمال الإسلام، فهو صحيح؛ وهذا هو المظنون بأمثاله. وأما إن كان يجعل القرآن ككلام الناس، لا تنفع تلاوته في مجال الإيمان، فهو أمر باطل لا يصح البتة. وعلى كل حال فإن مقولته ملتبسة، لا ينبغي أن يتلفّظ بها عالم يعلم ما يقول ويعلم آثار قوله على السامعين. وأما إيتاء الله الصحابة (وغيرهم) الإيمان قبل القرآن، فهو ما أوضحناه سابقا، من عدم العلم بالآية العلم الحق، إلا بعد ذوقها؛ هذا فحسب. وأما الكلام عن المدد الذي يسري من المصحوب إلى الصاحب فصحيح جدا، لكنه لا يُقبل على عمومه، حتى يشهد الحال بسريان المدد النبوي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المصحوب نفسه. ذلك لأن المدد الذي يسري من الشيخ إلى المريد، قد لا يكون نبويا، كما سبق أن أوضحنا في غير هذا الموضع، فيعود مدد ضلال لا هداية؛ وإن كان الغلاف الخارجي من الألفاظ وبعض المظاهر، يشبه ما يكون عليه المهتدون. ولقد ضل من هذا الباب خلق لا حصر لهم، من أهل زماننا ومن المتقدمين. فالمعتبر عندنا هنا، هو المدد النبوي وحده، لا غيره مما يكون فكرا أو أيديولوجيا أو فلسفة... والمدد النبوي يُعرف بشيء واحد، وهو: مطابقة وجدان الصاحب لوجدان أحد الصحابة رضي الله عنهم. هذا وحده، هو ما يدل على أن المصحوب في الحالين هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولقد نلنا من هذا الذوق مع شيخنا رضي الله عنه حظا وافرا، كنا نتعجب معه عند فهم بعض أقوال الصحابة. نعني من هذا، أننا كنا نعلم باطن الصحابي، عند قوله ما نُقل عنه؛ فكنا نحمد الله على هذا الفضل العظيم. وهذا العلم، مما لم يُؤلَّف فيه إلى الآن تآليف مخصوصة، وإن كانت كتب كبار أئمة الطريق لا تخلو من إشارات إليه. نعني أنه علم قابل لأن يُدرَّس للخواص، الذين يكون لهم قدم في العلوم القلبية الذوقية. ولقد عرفنا من هذه الأذواق، أن الطريق واحد وأن المتبوع واحد، لا يختلف في ذلك حال المتأخرين من أهل السلوك عن الصحابة في أي شيء من تفاصيل ما يجدون. ومن هنا عرفنا حقيقة الإسلام، وعرفنا ما يستمر منه على حاله (الثابت)، مما هو متغير.

    [عنون البخاري بابه الثاني في "كتاب الإيمان" هكذا: "باب دعاؤكم إيمانكم" وفسر العلماء تبويبه بتفسير ابن عباس الذي قال في قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}؛ قال: يقول: إيمانكم. قال الحافظ ابن حجر: "وقال غَيره (أي غير ابن عباس): "الدعاء هنا (أي في الآية الكريمة) مصدر مضاف إلى المفعول، والمراد دعاء الرسل الخلق إلى الإيمان. ليس لكم عند الله عذر إلا أن يدعوكم الرسول فيؤمن من آمن ويكفر من كَفَرَ".]:

    كل المعاني المذكورة للدعاء من الآية معان جزئية وفرعية؛ وأما المعنى الأصلي فهو الدعاء كما هو. وذلك لأن المقصود من قول الله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي}، صفة الغنى، التي تجعل الله لا يعبأ بالخلق جميعا، ولا يبالي؛ لأن المعتني بالشيء، هو من يفتقر إليه نوع افتقار. وهذا المعنى، لا يصدق على الله تعالى قطعا. وما يجعل الله يعبأ بالخلق رغم غناه عنهم، هو دعاؤهم له سبحانه بالحال؛ وهو ما ذكره الله صراحة في قوله تعالى: {لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77]. فلولا أن الخلق دعوا الله، ليخلقهم ويرزقهم، ما كان خلقهم ولا أخرجهم من العدم. وفي هذا الكلام إجابة لبعض الجاهلين، الذين يقولون: لا أحد استشارنا في مسألة خلقنا، ولو أننا استُشرنا لما اخترنا أن نُخلق. وواضح أن هذا الخطاب يصدر من أهل اليأس والقنوط؛ لكنهم لا يعلمون الآن في دنياهم (لم يعودوا يذكرون)، أنهم هم من سألوا الله خلقهم بالحال؛ ولولا ذلك ما خلقهم، وهو الغني عنهم. ودعاء الحال مجاب دائما، بخلاف دعاء القال؛ ومن باب دعاء الحال، يجيب الله تعالى سؤال الكافرين من خلقه في دنياهم، كما كنا قد أخبرنا في فصول سابقة.

    وأما صرف معنى الدعاء من الآية، إلى الإيمان أو إلى الدعوة إليه من قِبل الرسل عليهم السلام، فلا ضرورة تدعو إليه؛ إلا ما يكون من حال السامع، إن لم يكن ممن يحتمل ما ذكرنا. وهذا أيضا باب من العلم ما زال لم يُفرد بالتصانيف على نفاسته. فمنه يُعلم القول الأصلي في كل مسألة، ويُعلم القول المعدول إليه من المتكلم لسبب من الأسباب. وهذا العلم يزيد الناس اطلاعا على علوم الأنبياء عليهم السلام عينها، إن كانوا يحتملونه. ومجرد العلم بما ذكرنا، على عمومه، هو نافع جدا لكي يبقى العبد متهيئا في العلم لقبول المزيد؛ على عكس ما صار يُلقّن للمتأخرين من مذاهب مغلقة، تجعل الدين على غير صورته الأصلية من السعة والشمول.

    [وبناء على هذا التفسير واستنادا إلى الحديث الصحيح: "الرجل على دين خليله" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن أبي هريرة بسند صحيح، نقول: دعاؤكم إيمانكم يمكن أن تفهمنا أن مقدار إيمان المدعو ودرجته وعمقه تقاس بوجود الداعي وبدرجة إيمانه على قدر ما اقتبس منه المدعو سماعا فطريا، وصحبة عملية، وملازمة وأخذا. وقد سبق أن شرحنا أن أخذ الدين عن الأكابر هو المنطلق الصحيح.]:
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68472
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري Empty رد: كتاب: إحسان الإحسان - 14 - عبد الغني العمري

    مُساهمة من طرف Admin 23/10/2020, 22:24


    هذا الكلام لا يخلو من تكلف، وهو على كل حال عام؛ والعام لا ينفع هنا. ثم إن مقدار إيمان الصاحب، وإن كان له تعلق بمكانة المصحوب -كما هي الحال عندما يكون المصحوب نبيا أو وارثا- فله تعلّق أيضا، باستعداد الصاحب نفسه. وهذا يعني أن ضعيف الاستعداد، سيكون إيمانه ضعيفا وإن صاحب نبيا من الأنبياء عليهم السلام؛ ويعني أن قوي الاستعداد يكون استمداده قويا، وإن كان مصحوبه وارثا من الأتباع فحسب. ومن هذا الوجه، قد يفضل أحد المتأخرين بعض الصحابة... وأما من يصحب من ذوي الاستعداد وليا من غير الكبار، فإن استمداده سيبقى محدودا مع شيخه في الغالب، إلى أن يحصل له الوصول ويتاح له الاستمداد من الله ورسوله، من غير وساطته. وهذا يصدق أيضا على من كان استعداده أكبر من استعداد شيخه؛ ونعني أنه لن يتجاوز مقام شيخه، إلا بعد مفارقته. وهذه كلها من الأسرار التي لا يعلمها إلا خواص الخواص من العباد. وكل من يخوض فيها من عوام المتصوفة أو من عوام العارفين، فإنهم لا يصيبون الحق فيها إلا نادرا.

    [الإيمان أمانة، والأمانة الإيمانية كنز ومعين في قلوب الأمناء، والعلماء هم أمناء الرسل كما جاء في الحديث. والقرآن أمانة تكليف عظيمة، ونور وهداية وبيان. نرى القلوب الخَرِبَةَ تقرأ القرآن باللسان العربي المبين لكن القلوب عجماء صماء لا أثر فيها لأمانة الإيمان، فهي أعجز عن تحمل أمانة القرآن. أوتي الأحباب الصحابة الإيمان قبل القرآن فكانوا رجالا. ولا يَنقَطع نسل تلك الرجولة إلى يوم القيامة، ولنتذكر شوق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى رؤية إخوانه من بعده.]:

    هذا الكلام عام أيضا؛ والمدد الذي ذكرناه سابقا، إن كان نبويا، هو ما يجعل الصحبة معتبرة شرعا. والمدد يكون على قدر المـُمِد والممدود، كما فصّلنا في الفقرة السابقة. ونعني أن المرتبة التي فيها المدد تكون حاكمة عليه، إن كانت التربية على هداية ونور. وهذا أيضا يعني أن المصحوب قد يكون جزئيا، كحال الفقهاء من مرتبة الإسلام، وعوام الصوفية من مرتبة الإيمان؛ وقد يكون كاملا، إن كان يسع كل المراتب بمدده. وقد يلاحظ القارئ أننا جعلنا لمرتبة الإسلام مددا خاصا بها، يكون عاما ومشتركا؛ لأنه لولا هذا المدد النبوي من هذه المرتبة الأولى، لم يستطع أحد النطق بالشهادة، ولا الإتيان بالأعمال المشروعة. وهذا مما يغيب عن علم عوام المسلمين وكثير من الفقهاء، مع أنه يستحق الشكر عليه وسؤال دوامه، كسائر النعم؛ بل هو النعمة الكبرى التي تتأسس عليها كل النعم الأخرى التالية.

    ويبقى كلام الكاتب مخلوطا، على عادته لا يُسعف في تبيّن التفاصيل الضرورية. بل هو في حقيقته دعوى من غير بيّنة؛ وإن كان السامع الجاهل قد يتوهم أنه حجة كبرى، في الدلالة على كون الداعي يسير على المنهاج النبوي حقا. ومن يُدرك ما نقول، ويعمل به، يعلم يقينا مرتبة الكلام ومرتبة الناطق به. فنحن نمد القارئ بالمعايير والقواعد، ليعمل بها في نفسه؛ ولا نلزمه كسِوانا بتصديقنا وحده.

    [من حديث رواه الشيخان والترمذي عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأمانة قد نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من الكتاب وعلموا من السنة".]:

    الأمانة أعم من الإيمان من جهة اللفظ، فهي أصله. ومعنى أنها نزلت في جذر قلوب الرجال، هو أنها أول ما نزل في القلوب، من بعد الفطرة الأصلية المشتركة. وبعد ذلك ينزل فوقها ما هو من القرآن وما هو من السنة، وليس إلا ما يتعلق بالتشريع في البداية؛ لأنه أصل السلوك وقواعده؛ ثم يختلف بعد ذلك الناس فيما يُثمر لهم العمل بالشريعة بحسب المراتب وبحسب الاستعدادات، وبحسب موافقة الحق في العمل أو مجانبته.

    [ويقول رب العزة والجلال في محكم كتابه: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾.]:

    العامة لا يعلمون من هذه الآية، إلا ما يجدونه من تأثر عند سماع الآيات، والذي يتعلق بظاهرها وظاهرهم وحدهما؛ وأما الخواص فلهم ذوق في الآيات. والذوق هو انصباغ العبد بمعنى الآية، يكون جزءا من انصباغ باطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند تنزلها عليه. ونعني من هذا أن التنزل الذي كان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم ينقطع؛ فهو يظهر في تنزلات تتفرع عنه وتقع للورثة دائما وأبدا. من هذا التنزل الفرعي، يعلم أهل الذوق أن لا أحد في مقدوره احتمال ثقل القرآن كما هو على تمامه، إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده. وهذا هو المشار إليه في قول الله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]. والمعنى: لو أنزلناه على غيرك من المخلوقين، بشرا وغيرهم، لما احتمله أحد. والورثة الذين يقع لهم التنزيل الفرعي الجزئي، لولا أنهم يحملونه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لانحل تركيبهم كما تدل على ذلك الآية. ففي النهاية، لا يحمل القرآن إلا هو صلى الله عليه وآله وسلم: في صورة جمعيته، وفي صورة كثرته. وأما من يظن أن حمله واقع لجميع حفظته، فإنه لا علم له بالقرآن حقيقة؛ حيث كان ينبغي له التفريق بين القرآن وألفاظه (الحروف والكلمات).

    [عقيدتنا أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقُصُ كما جاء بذلك الوحي. أهم ما يزيده سماع القرآن. فإذا لم يؤت العبد الإيمان قبل القرآن، ولم يكن في القلوب أصل إيماني سابق فكيف تتصور الزيادة؟]:

    الإيمان يزيد وينقص، لأنه تصديق بالغيب؛ والتصديق يتقوى بالإكثار من الطاعة وبسماع ما يؤكده من قرآن أو حديث أو كلام لأحد العلماء، وينقص بإتيان المعاصي وبالاستماع إلى الشبهات وما يعاكس حقيقته، من قِبل شياطين الإنس والجن. وحقيقة أن الإيمان يزيد وينقص، لن تتغيّر إلا ببلوغ العبد درجة العيان من مرتبة الإحسان. فهناك يصير الإيمان يقينا لا يقبل زيادة ولا نقصانا؛ لأن المشهود ثابت القيمة، بخلاف الغائب. ولهذا المعنى يقول سيدنا علي عليه السلام (وهو من كبار الورثة وخواصهم): "لو كُشف الغطاء ما ازددت يقينا".

    وأما تعليق المعتقَد بالطائفة التي ينتمي إليها المعتقِد، فلا معنى له عند أهل العلم؛ لأن الإيمان لا يصح فيه التقليد، كما هو معلوم. ولقد كان ينبغي للكاتب أن يتجاوز هذا المستوى من التأصيل، لكي يكون أهلا لأن يُستمع له من قِبل جميع المسلمين.

    وأما أصل الإيمان، الذي تتعلق به الزيادة والنقصان فيما بعد، فهو هبة ربانية؛ إليها يشير قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس: 100]. وهذا لأن الإيمان أمر وجودي، ومن الخير الذي يُظهره الله على من يشاء، ويتعلّق به حمد الحامدين المذكور في حديث: «فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ»[5].

    [إن وُجد أصل إيماني في القلوب، وهذا الأصل لا إمكان لاكتسابه إلا بالتربية وهي إيقاظ الفطرة وتقويمها، يفعل الأبوان في ذلك والمصحوب والجماعة الفعل الأول بعد هداية الله تعالى وشرحه صدر من شاء للإسلام، فإن بالإمكان تقوية ذلك الأصل وتزكيته وترقيته في معارج العقبة الإحسانية إلى أن يبلغ العبد المرتبة التي سبقت له بها الحسنى عند الله عز وجل.]:

    هذا الكلام مضطرب؛ فالإيمان لا يُكتسب من حيث الأصل، ولا تنفع في اكتسابه تربية ولا صحبة؛ وإنما هو هبة إلهية كما ذكرنا. وأما التربية والصحبة، فتنقيانه وتنميانه؛ وهذا هو معنى التزكية. وأما ما سماه الكاتب "العقبة الإحسانية"، فلا معنى له، من كونه لا ينضبط للسالك بالنظر إلى علم السلوك الدقيق؛ وهذا يجعل التربية ذاتها لدى الكاتب مبهمة. والنتيجة هي أن من يقرأ كتاب "الإحسان" كله، لن يخرج بطائل؛ لبقاء الكلام فيه على عمومه، وفي الحد الأدنى من الإدراك. وهو ما يجعل الخطاب وعظيا لا علميا، كما سبقت الإشارة إليه.

    [الكتاب الحادي والثمانون عند البخاري هو: "كتاب الرقاق". وفي دواوين السنة حيز هام متخصص لرواية أحاديث ترقيق القلوب. بوب البخاري المرققات في ثلاث وخمسين بابا، نذكر بعضها: "باب الصحة والفراغ ولا عيش إلا عيش الآخرة، باب مثل الدنيا والآخرة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "كُنْ في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، باب في الأمل وطُوله، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها". والباقي على هذا المنْوال، فرغ المحدث الكبير من سرد أحكام الشرع الدنيوية، فهو في كتاب الرقاق يذكر بالآخرة. وطريق الإحسان هي طريق الآخرة، علم الإحسان هو علم عاقبة المرء وعلم الآخرة.]:

    يغلط الكاتب عندما يجعل علم الإحسان علمَ الآخرة!... ونحن نعلم من كلامه هذا، أنه لم يعلم معنى الإحسان، كما هو في نفسه؛ ولهذا هو من بداية الكتاب يتكلم عن شيء لا ينضبط...

    وعلم الآخرة يبدأ من مرتبة الإسلام، حيث يبدأ العبد في إتيان أعمال، لن يجد جزاءها كاملا إلا في آخرته. ويستمر علم الآخرة في مرتبة الإيمان، حيث يتعلم العبد كيف ينال درجات الآخرة بالتحقق بمقامات الإيمان. وحتى يُدرك العبد ما نقول، فعليه أن يجعل مراتب الدين في مقابل مراتب الجنة. ويدل على مراتب الجنة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَهُوَ بَاطِلٌ، بُنِيَ لَهُ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ؛ وَمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُحِقٌّ، بُنِيَ لَهُ فِي وَسَطِهَا؛ وَمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ، بُنِيَ لَهُ فِي أَعْلَاهَا»[6]؛ ويدل عليها أيضا قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأم حارثة رضي الله عنها، عندما سألت عن مصير ابنها بعد استشهاده رضي الله عنه في بدر: «يَا أُمَّ حَارِثَةَ! إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ؛ وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى!»[7]، وعند ابن حبان زيادة: «فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ.». وهذا يعني أن ربض الجنة لأهل الإسلام؛ وأن أوسطها لأهل الإيمان؛ وأعلاها لأهل الإحسان. وأما الفردوس الأعلى الذي سقفه العرش، فهو خاص بالورثة والعارفين.

    وباب الرقاق الذي يجمع فيه المصنفون ما يرقق القلوب، لا يدل إلا على أن المصنف في الغالب لا يتجاوز مرتبة الإسلام؛ فإنْ تجاوزها فإلى الإيمان أو بعضه، لا إلى الإحسان. وهذا يدل على أن مجال الإحسان سيبقى نخبويا في أمة الإسلام، مع تناقص في أعداد أهله مع مرور الزمان وكلما ابتعد الناس عن النبوة. لكن المدد الإحساني بعكس التناقص العددي المذكور في زيادة مطردة؛ وهذا هو ما يجعل أولياء آخر الزمان أعلى في الذوق والعلم من سابقيهم، على العموم لا على التعيين.

    وحصْر ما يتعلق بالعلوم القلبية في الرقاق، قد جعل كثيرا من عوام الفقهاء، ينظرون إليها وكأنها ليست علوما بالمعنى التام؛ أو كأنها أمر مخصوص بالعواطف والميول، كما هي الأمور المتعلقة بالنساء وذوي الرّقة من الرجال. وهذا غلط شنيع، استمر في الأجيال، وحجب الناس عن علم هو لب العلم وسنامه، وهو كمال الدين وتمامه؛ إذ بدون التحقق بالإحسان، سيبقى العبد ناقص الدين ناقص العلم قليل المعاملة لربه، وإن بالغ في العبادات البدنية والمالية.

    [القلوب المؤمنة تلين إلى ذكر الله عند تلاوة القرآن، وتقشعر الجلود والأبشار المؤمنة خشوعا لله وتعظيما لمقام النبوة. إنها رِقة تكتسب بالتأصيل التربوي لا بالتفريع الفقهي. على أن التفريع الفقهي والرعاية الورعة الخائفة الوجلة لحرمة الشرع وأمره ونهيه اهتمام أساسي للمحسنين. ومن رام الصعود إلى مراتب الإحسان دون أن يُحكم إسلامه الظاهر، وإيمانه الباطن خلقا وطاعة، وأدبا مع الله والناس، وأداء للحقوق، كان كمن يبني على غير أساس، وسقط على أم رَأسه.]:

    كل ما يذكره الكاتب هنا، لا يتجاوز ما يتعلق بمرتبة الإيمان؛ لأن كل الأحوال الواردة من لين للقلب ومن اقشعرار للجلد، هي من أحوال الإيمان وصاحبها لا زال يعامل الله من وراء الحجاب. وأما المحسن من الدرجة الثانية، فإنه يعامل الله على المعاينة والشهود. وبين الحالين والرجلين ما بين المشرقين من بعد، وإن كان الأقوياء من أهل الإيمان يكادون لا يختلفون عن المحسنين من حيث الظاهر.

    وأما حض الكاتب المؤمنين والمحسنين على التزام الشريعة، فهو في غير محله؛ إلا إن كان يُخاطب المتصوفة لا الصوفية، أو يخاطب ملبوسا عليه في تفصيل ما، ولم يجد من يأخذ بيده. أما الصوفية الأحقاء، فإنهم لا يفرطون في الشريعة أبدا، وهم قد علموا أنه لا سير إلا بها ولا أمان إلا فيها؛ وذلك من بداية أمرهم وإلى نهايته. وعلى كل حال، من كان مع شيخ رباني، فإنه لا يقع فيما يخالف الشريعة أبدا، إلا من باب المعصية التي يُتاب منها عن قريب، لا من باب المخالفة المقصودة والمتعمدة.

    [المؤمن المحسن قريب من القرآن ومن الحديث، يشعر بذلك قلبه، ويطمئن إليه عقله، ويلين له جِلده، وتُطاوع جوارحه. روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي أسَيد أو حميد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قَريب فأنا أولاكم به. وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه بعيد منكم، فأنا أبعدكم منه". يا له من حس قلبي تستمد منه الأشعار والأبشار!]:

    كل هذا من أحوال المؤمنين لا المحسنين؛ وهو مشعر بالحجاب، لمن كان من أهل هذا العلم. وأما المحسن، فإنه يرى العجب ويسمع العجب؛ وتكون له معاملات مع الله، لا يُصدّقها كثير من المؤمنين إن هم علموا بها. وأكثر الكرامات التي يراها المسلمون من الخرافات التي يدور حولها الصوفية، هي وقائع حقيقية، وأصحابها صادقون؛ لكن الفجوة بين مرتبة الإسلام ومرتبة الإحسان، تجعل إدراك العبد لا ينالها. ولو علم الناس مراتبهم، وأحسنوا الظن بغيرهم، لسلّموا لمن يعلوهم مرتبة فيما لا يدركون من أحوال وأقوال. فالتسليم وحده ينفع، وقد يكون سببا في اللحوق بالخواص بعد ذلك. ولقد دخلنا نحن الدرجة الثانية من مرتبة الإحسان في منتصف الثمانينيات أو أزيد بقليل؛ ولو ذكرنا ما وقع لنا في بدايتها، لما صدّقنا أحد. هذا، وقد أعطانا الله مقدرة على البرهنة على الشهود ذاته؛ وهو ما لم نره للسابقين عند ذكر شهودهم. ولعل ذلك من استغنائهم عن البرهنة -رضي الله عنهم- ومن استغناء مخاطَبيهم أيضا. أما مخاطبونا نحن، فإنهم أُسارى عقولهم لشدة طغيان الخطاب العقلاني في الأزمنة المتأخرة. ونحن نعلم أننا حتى لو برهنّا على الشهود، فإن ذلك لن ينفع ضعفاء الإيمان؛ وإنما سيزيد من إقامة الحجة عليهم فحسب. فهذه هي الغربة داخل الدين، والتي تكون من أثر اختلاف المراتب، والتي لا يكاد يُشعر بها.

    [قال القلب الطيار شوقاً، الحساس ذوقا:

    يا بَرْد الـجَـوَى على كبـدي *** وزَيْنَ هذا السقـامِ في جسـدي
    وحسنَ هذي الدمـوع يَنْبِطُهـا *** أُوَارُ شـوق مِن معدن الكَبِــدِ
    زِدْ كبدِي يا مُذِيـبَهـا حــرقــا *** إن صحتُ مما أُكِنُّ: واكَبـدي!]:


    هذه المعاني عامة، وهي لا تتجاوز مرتبة الإيمان.

    [وقال آخر:

    إذا أنا واصلتُ الصَّبا عاد بردُها *** ومن حر أنْفاسي علـيَّ لهيب
    وقَد أكثَرَتْ فِيَّ الأطـباء قـولهـم *** ومـالِيَ إلا أن أراك طبـيــب
    يسالم قلـبي الحُبَّ فهو حلـيفه *** وبين جفــــوني والرقاد حـروب]:


    وهذا أيضا عام كسابقه.

    [وقلت رحمني الله والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات:

    زِدْ كبــدي يا مذيبهــا حـرقـاً *** وزِدْ ضَنَى مهجَتي وزد كمَــدي
    أتيـه في البـيـد لا دليـل إلى *** حـي المعالي تيـها بلا رشـد
    كم عقبات تحولُ دونَ مـدىً *** يدركه الأولياء بالجَـلَــدِ]:


    وهذا أيضا كسابقيْه، لا يتجاوز مرتبة الإيمان.

    وأما ما يليق بالإحسان، فهو كشعر ابن الفارض رضي الله عنه، والذي يقول في بعضه:

    ولي نفسُ حُرٍّ لو بذَلتِ لها على *** تَسَلّيكِ ما فوقَ المـُنى ما تَسلَّتِ
    ولو أُبعِدَت بالصَّدِّ والهجرِ والقِلى *** وقَطعِ الرَّجا عن خُلَّتِي ما تَخلَّتِ
    وَعَن مَذهَبي في الحُبِّ ما لِيَ مذهَبٌ *** وإن مِلتُ يوماً عنهُ فارَقتُ مِلَّتِي
    ولو خطَرَت لي في سِواكِ إرادةٌ *** على خاطري سَهواً قضيتُ بِرِدَّتِي


    تجدر الإشارة هنا، إلى أن مقام المحبة لا يصح إلا بعد المعرفة؛ فالعارفون هم وحدهم المحبون حقيقة، وكل مَن دونهم من المؤمنين، يكونون على "محبة" تليق بهم. ومن أثر المحبة لدى المستشرفين على الخصوص (أهل النهاية في الإحسان)، الميل إلى الأشعار والأنغام، لأنها بلغة المحبة تتكلم لا بلغة العقل الموحشة. نقول هذا، ليعلم أهل الإيمان أن ما يشتغل به الصوفية من سماع (كما هو في أصله لا كما هو عند المتأخرين) هو من توابع المحبة، التي لا خبر لهم عنها. وإن وجدنا من الكِتاب ما يدعونا في المستقبل -إن شاء الله- إلى بسط الكلام في هذه المسألة، فإننا سنتوسع بإذن الله فيها، بما لم نر أحدا من السابقين خاض فيه؛ فإن لم يكن في هذا الكتاب، فإنا نرجو أن يكون في غيره إن شاء الله.

    وفي ختام هذا الجزء، الذي كان ينبغي أن يخرج منه القارئ بما يجعله يميّز الإسلام من الإيمان، ويميز الإيمان من الإحسان، نلاحظ أن الكاتب قد تكلم كلاما مبهما، يليق جله بمرتبة الإسلام، مع إشارات ضعيفة وعن بعد إلى مرتبة الإيمان. وأما الإحسان فإنه لم يأت على ما يليق به، من علوم ومعان، أو من أحوال وأذواق. وهذا يجعلنا نتوقف مرة جديدة في تسمية كتابه بـ"الإحسان"؛ إذ كيف يكون الكتاب كتاب إحسان، والإحسان قد أُغفل في أخص جزء به، والذي هو هذا. ولعل الكاتب بدلالته على إحسان هو اسم لديه من غير مسمى، يكون أجنبيا عنه. وإذا كان الأمر كذلك، فإن سكوته عما لا يعلم كان أليق وأوسع؛ لأن عين التفحص لا بد أن تقع على كلامه وترُدّه إلى مرتبته ولو بعد حين. وعلى المتكلم في شؤون الدين، وبالأخص فيما يتعلق بالمراتب، أن يعلم أن لهذه العلوم أهلا لا يخلو منهم زمان؛ ولا بد أن يأتي يوم يقيّمون كلامه بمعاييرهم، فيظهر إن كان ما أفضى به صحيحا أم لا. كل هذا، في الدنيا، وقبل أن يُعرض العباد على ربهم الذي لا تخفى عنه خافية سبحانه. نسأل الله العفو والعافية، والسداد والتوفيق، في صغير أمورنا وكبيرها، وجليلها وحقيرها؛ وأن يكسونا لباس التقوى من عنده، ليكون بديلا عن كل أثوابنا. إنه نعم المولى ونعم النصير.


    [1] . أخرجه مسلم، عن تميم الداري رضي الله عنه.
    [2] . متفق عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
    [3] . أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
    [4] . أخرجه مسلم.
    [5] . أخرجه مسلم، عن أبي ذر رضي الله عنه.
    [6] . أخرجه الترمذي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
    [7] . أخرجه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

      الوقت/التاريخ الآن هو 23/9/2024, 21:25