إحسان الإحسان - 14 -
الإسلام والإيمان والإحسان
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾. اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة.]
[من المواضيع التي طال الجدال فيها بين المسلمين منذ القديم مدلول الإيمان والإسلام وما بين اللفظين من عموم وخصوص. وأفرد بالتأليف في الموضوع جهابذة العلماء مثل ابن تيمية في كتابه "الإيمان" فلينظر هناك تفاصيل النقاش من كان راغبا.]:
مرة أخرى يغلط الأستاذ عبد السلام، حين يوجه الناس إلى ابن تيمية، من أجل استبانة المعاني الدينية؛ وكأنه أهل للدلالة عليها؛ وما نظن هذا إلا بسبب التلبيس الذي هما معا عليه. ولعل الأمر سيزداد وضوحا مع الفقرات اللاحقة، إن شاء الله...
وأما ما بين الإسلام والإيمان من عموم وخصوص، فسنعلم مدى إلمام الأستاذ به من كلامه اللاحق أيضا...
[اهتمامنا هنا بغياب أفق التقدم، وغياب معنى اقتحام العقبة، والترقي في معارجها عند الجيل الصاحي إلى إسلامه. يكون الداعي نفسه والقائد للجماعة خاليا من فهم المسألة، خليا من التحلي بخصال الإيمان، لا شمة لديه من الشوق إلى الإحسان وهو عبادة الله كأنك تراه.]:
هذا كلام إنشائي عام، لا ينفع في تناول معان دقيقة كمعاني الإسلام والإيمان والإحسان. وقد بدأ الأستاذ يشهد ويشترط لقائد الجماعة أن يكون على خصال الإيمان وعلى "شمة" من الإحسان، من دون أن يفصل الكلام في ذلك كله؛ حتى يتمكن القارئ من إلحاق الكلام والرجال بمراتبهم. وهو بهذا التعميم يُبقي على الخلط عاملا باستمرار، مما سيزيد من الضرر الواقع على الأمة كثيرا، بإطالة عمر الانحراف والمد في أجله. ويكفي أن نعلم أن مسألة مراتب الدين على شدة جلائها في النصوص، ستبقى لدى جل علماء الدين من المتقدمين ومن المتأخرين، مبهمة وكأنه لم يرد فيها نص واحد من القرآن أو من السنة؛ لنُدرك مدى الخلل الذي لدى علمائنا ولدى الأمة كلها من بعدهم. وسنعلم بعد هذا، أن بقاء مسألة المراتب مجهولة، لا بد أن ينجر عنه خلط في المعاني، يؤدي هو أيضا إلى إمكان ادعاء أيٍّ كان لما يشاء منها، ما دامت المعايير غائبة والغايات فيها مجهولة. وهذا على التخصيص، هو ما وقع فيه ابن تيمية، وهو من يتناول المراتب وكأنها متجاورة أفقيا. ويكاد هذا الفهم يعم كل المتأخرين، بسبب تصورهم لمعاني تتعلق بالإيمان والإحسان من مرتبة الإسلام وحدها. وسنبيّن إن شاء الله الثغرات العلمية التي يكون عليها هؤلاء المتطفلون، ونبيّن نتائجها عند انقلابها جهلا بما هو ضروري في محله.
[من الأئمة الذين جزموا بأن مدلول "إسلام" و"إيمان" متغايران الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. وأعطى البخاري المدلولين مكانهما حيث اعتبر أن الدين الذي رضيه الله لعباده ولا يقبل ممن ارتضى غيره دينا هو مجموع الإسلام والإيمان والإحسان.]:
الإمام أحمد، من فقهاء مرتبة الإسلام؛ وهو غير مخوّل للكلام عن هذه المعاني، بخلاف ما تظنه العامة في الفقهاء. وأما البخاري، فما زاد على أن دل على ما تعطيه اللغة، من حديث جبريل المعروف، والذي يعرّف فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مراتب الدين. والبخاري أيضا لم يكن على علم بالمراتب كما هي في نفسها، وكما بيّنّا نحن في بعض كتبنا، والتي من أخصها في هذا المضمار "مراتب العقل والدين". بل نزعم أننا -بحمد الله- قد وفّقنا لأول مرة لجمع ما كان متناثرا لدى أولي العلم من السابقين، مما يتعلق بهذا العلم الخاص؛ إلى الحد الذي يمكن تدريسه في المعاهد المتخصصة الآن، من حيث هو علم معياري مستقل، يعود إليه أصحاب كل العلوم الأخرى، إن هم أرادوا ترتيب الكلام في مجالاتهم، أو ترتيب العلماء بحسب كلامهم؛ فيُعلم حينها أي كلام هو أعلى، وأي عالم هو أعلى. كل هذا، بحسب كلام العلماء، لا بحسب مقام الرجال عند الله. والفرق بين الأمرين، هو أن المرء قد يعلم مرتبة الكلام، وتغيب عنه مرتبة المتكلّم لنقصٍ لديه في الإحاطة بالكلام ذاته. ونعني من هذا، لو أن الناظر إلى الكلام يكون من الكبار، فإنه بكلام الرجل في أدنى مرتبة، يعلم مرتبته التي يكون منها؛ لأن المقام يغشي كلام صاحبه بكسوة لا تفارقه أبدا. وهذا الذي نذكره هنا، مما تحار فيه عقول العقلاء. ولنعد إلى ما نحن بصدده...
[قال البخاري في كتاب "الإيمان": باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، وبيان النبي صلى الله عليه وسلم له. ثم قال (أي النبي صلى الله عليه وسلم): "جاء جبريل يعلمكم دينكم". فجعل ذلك كله دينا.]:
هذا مما ينبغي أن يكون مُدركا لجميع المسلمين، بمجرد النظر في الحديث المذكور؛ ولكن عدم تحقق علماء الدين بجميع المراتب، سيجعل تعريفهم للمعاني الواردة في الحديث مختلفا، وقد كان ينبغي أن يكون التعريف موحدا، ليسهل على الناس تبيّن المراتب من تفاصيلها ودرجاتها.
والإقرار بأن المراتب كلها هي الدين ذاته، سيكون له تبعات علمية وحُكمية؛ عندما سنعلم أن من لم يكمل المراتب سيكون دينه ناقصا، مهما فعل. ونعني من هذا، أن من أتى بأركان الإسلام على جهة الفرض وعلى جهة النفل، لا يمكن أن يزعم لنفسه أن دينه قد كمل؛ لأنه يبقى عليه مرتبتا الإيمان والإحسان، ما دخلهما ولا شم لهما رائحة. هذا كله من جهة العمل؛ وأما من جهة العلم، فإن من علم من الفقهاء الحلال والحرام، أو علم صحيح الحديث من ضعيفه، أو علم تفسير القرآن من مفسريه، فإنه يكون من علماء مرتبة الإسلام وحدها؛ ويبقى على جهل بما بقي من الدين. ومثل هذا، لا ينبغي له الكلام في كل مسألة تعرض له، لأنها قد تكون مما يجهل، وهو لا يدري. وقد وقع في هذا الخلط جل الفقهاء، قديما وحديثا؛ ونتج عن عدم ضبط ما ذكرنا، كل هذا اللبس، الذي يجعل أمرا ما واجبا لدى قوم، حراما لدى آخرين، جائزا عند فريق ثالث. ويكاد يتكرر هذا الالتباس في كل المسائل المتناولة، من دون أن يتفطنوا إلى العلة التي وراء ذلك. ونحن -إن شاء الله- سنبيّن عند الضرورة بعض الأمثلة التي تنحل عندها العقد بحصول العلم فيها من جهة المراتب بأسهل ما يكون؛ لأننا لن نتمكن من بسط الكلام في المراتب هنا بسطا كاملا، لضيق المحل عنه.
[نورد هنا رواية البخاري لحديث جبريل، وهو أقصر من رواية مسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن عمر بن الخطاب، وهي رواية مشهورة. روى البخاري عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوماً للناس، فأتاه رجل فقال: "ما الإيمان؟" قال: "الإيمان أن تومن بالله، وملائكته، وبلقائه، ورسله، وتومن بالبعث". قال: "ما الإسلام؟" قال: "الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتيَ الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان". قال: "ما الإحسان؟" قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكُن تَراه فإنه يراك". قال: "متى الساعة؟" قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها، وإذا تطاول رعاة الإبل البُهْمِ في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله". ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عنده علم الساعة" الآية. ثم أدْبَرَ، فقال: رُدوه، فلم يروا شيئا. فقال: "هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم". قال أبو عبد الله (وهو البخاري): "جعل ذلك كله من الإيمان".]:
رواية مسلم، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أدق؛ وقد جاء فيها: «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ، بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ، سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ؛ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا"، قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ، قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ". قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ". قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ؛ قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا، قَالَ: "أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ، يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ". قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ، أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ.». وعدول الكاتب عن هذه الرواية، لا يُسعف القارئ في تبيّن المعاني؛ وكأنه يفضل أن يبقى الإبهام سائدا، ليسهل عليه قول ما يشاء، من غير أن يعترض عليه أحد. ونحن نريد للقارئ أن ينال ولو قليلا من علم المراتب، لأنه علم ينفع الخاص والعام؛ وله آثار حسنة على تديّن الفرد والجماعة معا.
[مذهب البخاري رحمه الله أن الإسلام والإيمان شيء واحد. لكن مجمل القرآن والحديث يرد الإسلام إلى الأعمال الظاهرة التي يمكن أن يؤديها المنافق والأعرابي الذي لما يدخل الإيمان في قلبه، بينما يقتضي التحلي بشعب الإيمان، قولا وعقيدة وعملا، أن يكون القلب محط الأمانة، منه تنبعث النية والصدق والإخلاص والإرادة والعزم التي بدونها تكون الأعمال الظاهرة لغوا وعملا لا يقبله الله. لأن الله تعالى إنما يتقبل من المتقين، و"التقوى ها هنا" كما جاء في الحديث الصحيح، ويشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره الشريف.]:
بدأ الخلط من هنا!... وما ينبغي أن نتبيّنه، هو أن البخاري ليس هو من يؤخذ عنه معنى الحديث؛ لأنه من أهل إثبات صحة الحديث بالطرائق المعلومة، لا من أهل الكلام في معانيه. وليس للمحدثين من مدخل في معاني الحديث، إلا ما يكون منهم لأجل التبويب والترتيب وحدهما. والمسألة لا تحتمل أن يكون فيها مذاهب مختلفة، مع وضوح العبارة النبوية، وعدم احتمالها لذلك. هذا، لأن العبارة لو كانت تحتمل معانيَ شتى، لامتنع أن تُنتج علما؛ خصوصا إن علمنا أن علم المراتب من أدق العلوم، بحيث لا يقبل الخلط ولا التعميم. وأولى الناس بالكلام في معنى حديث المراتب، هم من سلكوا الطريق وتحقق لهم الوصول؛ لأنهم يكونون قد ذاقوا معاني الحديث ذوقا، وبالتفصيل. أما غيرهم، فإنهم سيتصورون المراتب من خارجها، وسيغلطون حتما. ولا ندري لمَ غفل علماء الأمة عن هذا الأمر، مع شدة وضوحه.
وأما ما قاله الكاتب من كلامه في معنى الحديث، فهو مخلوط؛ ومما ينبغي تبيانه ما يأتي:
1. الخلط في مرتبة الإسلام بين الأعرابي والمنافق جهل كبير؛ لأن الأعرابي مسلم، والمنافق كافر. وإن كان التظاهر بالإسلام يجعل المنافق على شبه بالأعراب، فلا ينبغي إغفال ما يفرق بينهما من جهة حقيقتهما. ونعني من هذا، أن الأعراب الذين نفى الله عنهم الإيمان، في قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]؛ فإنما نفى عنهم الإيمان المرتبة، لا مطلق الإيمان. ونعني من هذا، أن كل مسلم هو على إيمان (تصديق)، وإلا كان كل مسلم كافرا، وكانت مرتبة الإسلام مرتبة نفاق. وهذا لا يصح، ولا يقول به أحد.
2. وأما الفرق بين إيمان الأعراب، وإيمان المؤمنين، فهو أن إيمان الأعراب مجمل، ينتج عنه الإسلام، الذي هو عبادة الله بالجوارح. وأما إيمان المؤمنين، فهو تفصيلي؛ ينتج عنه ذوق مقامات الإيمان، والتي تعطي علوما خاصة بها. ونعني من هذا أن الإسلام عمل بالجوارح عن إيمان أولي، والإيمان هو عمل بالقلب من حيث هو آلة العمل المناسبة للإيمان. والقلب في مرتبة الإيمان، له تعقل خاص مخالف للتعقل العام الذي يكون للكافر وللمسلم. وهذا الفرق لا يُعلم إلا ذوقا.
3. مقامات الإيمان، هي المقامات التي يتكلم عنها عوام الصوفية؛ وهي التي يتعلق بها السلوك في المرتبة الثانية؛ وهي: التوكل، والزهد، والصبر، والشكر، والخوف والرجاء، والتسليم، والرضى.
4. أما التقوى التي ذكرها الكاتب، فهي منوطة بكل مراتب الدين؛ ولها في كل مرتبة معنى خاص يناسب أهل تلك المرتبة.
5. أما مصطلح "شعب الإيمان"، فهو وإن كان له تعلق خاص بالمرتبة الثانية من الدين، إلا أنه يشمل فروعا لا يخلو منها إسلام ولا إحسان. وهذا كله، لأن الإيمان بالمعنى العام يطابق معنى الدين عينه؛ والدين من هذا الوجه إيمان. ولولا هذا الاعتبار، ما كان الله يخاطب كل أهل الدين في كلامه، بـ "يا أيها الذين آمنوا". وهذا التداخل في المعاني، هو ما جعل الكاتب، وغيره ممن يتكلمون في الدين يقعون في الخلط. نعني من هذا، أن من يأخذ علمه عن الله ورسوله، فإنه يعلم في كل مرة معنى "إيمان" ويجده مخالفا لمعنى "إيمان" في محل آخر؛ ومن يأخذ علمه عن نظره فإنه سيظن أن للكلمتين معنى واحدا فيغلط. وهذه الدقة في معنى الكلمة الواحدة، هي مما يشق عند دلالة غير أهله عليه. كل هذا، ليمتاز أهل العلو من أهل السفل، ويبرز الأعلم من بين جمع العلماء.
6. وأما الربط بين القول والعقيدة والعمل، هكذا من دون تفصيل؛ فإنه لا ينفع هنا، بل يضر؛ لأن العقيدة التي يشتغل بها الناس منذ ما بعد زمن الصحابة المرضيين، ليست من العلم المناسب لمرتبة الإيمان كما يتوهم جل علماء الدين؛ وإنما هي من شوائب مرتبة الإسلام التي تجعل إسلام صاحبها أنقص من إسلام العوام. وهذا، مما لم نجد من يدل عليه، على خطورته وسوء أثره على تديّن العبد.
وعلى هذا، فإن كلام الكاتب يبقى غير دقيق وغير علمي، ولا يليق إلا بمجالس الوعظ، حيث يُتكلّم في المعاني من وجه عموم دلالتها؛ وحيث يكون الإسلام إيمانا والإيمان إسلاما، وغير ذلك. لكن هذا لا ينفع هنا، خصوصا وأن الكتاب يُفترض أن ينتهي إلى الإحسان، الذي ينبغي أن يحيط العبد قبله بمعنيَي الإسلام والإيمان، اللذين يطابقان الدلالة على كل مرتبة، لا على المعنى اللغوي وحده.
[أخرج الإمام أحمد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام علانية والإيمان في القلب".]:
كان على الكاتب، أن يخلص من هذا الحديث إلى المعنى الذي ذكرناه نحن سابقا. ولكن تمييز ذلك، لا يكون حقيقة إلا لمن سلك الطريق، وارتقى من الإسلام إلى الإيمان. وحتى نقرّب هذا المعنى، ونجعل القارئ يُدرك الفرق بين إيمان الإسلام، وإيمان الإيمان، فإننا نذكر هنا ما جرى لنا عند دخولنا إلى مرتبة الإيمان إبان سلوكنا على يد شيخنا رضي الله عنه وجزاه خيرا؛ وقد كنا في المرحلة الأولى، وربما في الشهور الأولى من بدء السلوك في مستهل عقد الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي. وكنا في ليلة ذكر وإنشاد في مقر زاوية الشيخ المركزية، وإذا بي وأنا أسمع المنشدين يرددون "الله.. الله.."، أُدرك اسم الله من جهة السمع وحده، لأول مرة في حياتي؛ نعني من دون خوض في المعنى، وإنما كمن لم يسمعه في حياته من قبل ولا مرة واحدة. فصرت أتعجب من إدراكي لسمع الاسم لأول مرة في حياتي، مع علمي بأنني قد سمعته مرات لا تُعدّ فيما قبل، وكنت أعلم مدلوله. وهذا الذي نقوله هنا، هو ما ذكرنا سابقا أنه لا يُعلم إلا ذوقا؛ حتى إنني لما رمت إخبار بعض رفقائي في تلك الليلة بما وقع لي -وكنت أظن أنهم قد مرّ بهم ما مرّ بي لسبقهم لي في الطريق- فكنت أرى في أعينهم عدم إدراك لما أبوح لهم به؛ فاضطررت إلى تغيير مجرى الحديث، حتى لا أُتهم في عقلي. وهذا السمع الذي ذكرناه هنا، هو ما عناه الله تعالى بقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21]. والمعنى هو أنك لو سألت الكفار والمنافقين عن القرآن إن هو تُلي عليهم، ربما يعيدون عليك ما سمعوه كما تلقوه؛ وهذا يشهد لهم بالسماع المادي، الذي لا يتجاوز أصوات الحروف والكلمات؛ ومع ذلك فقد نفى الله عنهم السمع المعنوي، عند عدم ملامسة معاني القرآن لقلوبهم. وهذا يعني أن معاني القرآن، التي هي من غير ما يُدرك من جهة اللغة وحدها، لا تكون من مرتبة الإسلام، وإنما من مرتبة الإيمان. وهذا الذي نذكره أيضا، هو سبب عدم إدراك الفقهاء لمعاني القرآن، كما يُدركها السالكون. ووالله، لقد كنا نسمع القرآن من القارئ وهو يقرأه، من الله المتكلم به سبحانه. وعلى علماء الدين إن هم أرادوا مجاوزة المعاني اللفظية، التي يُشاركهم فيها المستشرقون كما لا يخفى، أن يعملوا على الترقي في مراتب الدين على أيدي شيوخ التربية المؤهلين. وعليهم قبل ذلك، أن يتخلّصوا من جهلهم بحقيقة مرتبتهم، بالإقرار بما هم عليه من تقصير في مقابل ما للمؤمنين والمحسنين؛ فإن هذا الاكتفاء منهم بأدنى مراتب الدين، إن لم يخرجوا به إلى النفاق الجزئي، لا يليق بهم وهم من يُنظر إليهم من قِبل العامة على أنهم الأعلم والأدرى بكل شؤون الدين. نقصد من كلامنا، أنه يجدر بهم العمل على التحقق بما يُظنّ فيهم، بدل البقاء على خلافه؛ لأن ذلك لا يُرضي الله عنهم، ويُدخلهم في النفاق الجزئي كما ذكرنا. ونحن -يعلم الله- أننا نرجو لهم الخير كله، لو كانوا يقبلون!...
وليقس القارئ الآن ما تكلمنا عنه نحن، بما كان يعلمه هو من عبارة "الإسلام علانية، والإيمان في القلب"؛ فإنه سيجده بعيدا عنه ويكاد يجزم أنه لن يصل إليه من مجرد النظر في الألفاظ. فعلى هذا، فليقس كل ما سيأتي بعدُ من كلام عن تفاصيل الإيمان والإحسان، إن هو أراد أن يُبقي هامشا يحكم فيه على نفسه بجهل ما هو فوق مرتبته، من باب الأدب اللائق في معاملة ربه.
[القلب لله عز وجل، هو وحده يحاسب العبد على النية. أما العلانية فهي الشأن العام، والوجه الذي ينظر إليه المسلمون من الإنسان ليحكموا عليه بالإسلام أو عدمه تبعاً لسلوكه الظاهر.]:
هذا الكلام من مرتبة الإسلام وإن كان عن القلب؛ لأن النية هي تعلق القلب الذي يبدأ مع العبد من مرتبة الإسلام؛ ويبقى المعنى الذي دل عليه الحديث النبوي السابق، غير هذا الذي قيل. ومن يتتبع الألفاظ وحدها، ويظن أنه سيخرج بشيء، فهو واهم؛ وكأن حديث المراتب جعله الله برهانا على تحقق سلوك العبد، إن هو علم المعاني التي ذكرناها نحن. ويبقى كل متكلم عن معاني الألفاظ من الطريق المعتاد، ممن لا يجاوزون مرتبة الإسلام؛ وإن بالغوا في تمطيط الكلام وتنميقه، كما يفعل الكاتب.
ثم إن قول الكاتب بأن الله وحده يحاسب العبد على النية، يوهم بأن العباد هم من يحاسبون على الأعمال؛ وهذا غير صحيح، لأن الله يحاسب على النية وعلى العمل وعلى غيرهما. ولعل الكاتب أراد أن يشير إلى حكم الناس على ظاهر العباد الذي ذكره بعد ذلك، والذي وإن كان غير المحاسبة؛ فإنه من الفضول الذي ينبغي أن يتخلص منه كل طالب نجاة نفسه.
ولقد كنا نرجو أن لا يأتي الكاتب بكلمة "سلوك" على المعنى العام المشترك بين المؤمنين والكافرين؛ ليبقى تفرد المعجم العلمي الديني مستقلا وموصولا بالوحي وحده. وليته يعود إلى المعنى الشرعي للسلوك من قريب، حتى نوافقه فيما يقول إن شاء الله.
[علاج القلوب وتربيتها وتلقينها بمخاطبة الفطرة وبالصحبة من شأن الربانيين.]:
هذا الكلام صحيح من الكاتب، لكننا لا نقبله على عمومه؛ ولا يمتاز السالك من غيره، إلا بالكلام في التفاصيل وحدها، التي لا تُعلم إلا من الذوق وحده. والكاتب، لم يدخل في تلك التفاصيل، ولا أشار إليها. وهذا يعني أنه إلى الآن يتكلم من مرتبة الإسلام.
[والفقهاء الخبيرون بالأحكام الفرعية يحصون الأعمال الظاهرة، لا شأن لهم بالقلوب وطبها، بل لا خبر عندهم إن لم يأتوا الرباني الوارث كما رأينا فطاحلهم يفعلون في الفصل الأول من هذا الكتاب.]:
كلام صحيح أيضا، من جهة عمومه؛ لكنه لا يفيد أن الكاتب مخالف لفقهاء الظاهر بالمقام. وسنبقى منتظرين لما يدل على سلوكه، لنشهد له بالإيمان... ثم بالإحسان...
[ومن الفقهاء الأصوليين المتكلمين المدرسين الذين دخلوا من علانية الإسلام إلى بواطن الإيمان، وعرجوا من ثم إلى ذرى الإحسان الإمام الغزالي. قال في إحيائه: "منتهى نظر الفقيه (...) أنه لا يجاوز حدود الدنيا إلى الآخرة، (...). أما الإسلام فيتكلم الفقيه فيما يصح منه، وفيما يفسد، وفي شروطه. وليس يلتفت فيه إلا إلى اللسان. وأما القلب فخارج عن ولاية الفقيه، لعزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباب السيوف والسلطنة عنه حيث قال (لأسامة في القصة المشهورة حين قتل رجلا نطق في الحرب بالشهادتين): "هلا شققت على قلبه؟" (…) بل يحكم الفقيه بصحة الإسلام تحت ظلال السيوف مع العلم أن السيف لم يكشف له عن نيته، ولم يدفع عن قلبه غشاوة الجهل والحيرة. ولكنه مشير على صاحب السيف. فإن السيف ممتد إلى رقبته (أي إلى رقبة الذي ينظر الفقيه في أمره)، واليد ممتدة إلـى ماله، وهذه الكلمة باللسان (الشهادتان) تعصم رقبته وماله مادام له رقبة ومال، وذلك في الدنيا. قال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم".]:
الإسلام والإيمان والإحسان
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾. اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة.]
[من المواضيع التي طال الجدال فيها بين المسلمين منذ القديم مدلول الإيمان والإسلام وما بين اللفظين من عموم وخصوص. وأفرد بالتأليف في الموضوع جهابذة العلماء مثل ابن تيمية في كتابه "الإيمان" فلينظر هناك تفاصيل النقاش من كان راغبا.]:
مرة أخرى يغلط الأستاذ عبد السلام، حين يوجه الناس إلى ابن تيمية، من أجل استبانة المعاني الدينية؛ وكأنه أهل للدلالة عليها؛ وما نظن هذا إلا بسبب التلبيس الذي هما معا عليه. ولعل الأمر سيزداد وضوحا مع الفقرات اللاحقة، إن شاء الله...
وأما ما بين الإسلام والإيمان من عموم وخصوص، فسنعلم مدى إلمام الأستاذ به من كلامه اللاحق أيضا...
[اهتمامنا هنا بغياب أفق التقدم، وغياب معنى اقتحام العقبة، والترقي في معارجها عند الجيل الصاحي إلى إسلامه. يكون الداعي نفسه والقائد للجماعة خاليا من فهم المسألة، خليا من التحلي بخصال الإيمان، لا شمة لديه من الشوق إلى الإحسان وهو عبادة الله كأنك تراه.]:
هذا كلام إنشائي عام، لا ينفع في تناول معان دقيقة كمعاني الإسلام والإيمان والإحسان. وقد بدأ الأستاذ يشهد ويشترط لقائد الجماعة أن يكون على خصال الإيمان وعلى "شمة" من الإحسان، من دون أن يفصل الكلام في ذلك كله؛ حتى يتمكن القارئ من إلحاق الكلام والرجال بمراتبهم. وهو بهذا التعميم يُبقي على الخلط عاملا باستمرار، مما سيزيد من الضرر الواقع على الأمة كثيرا، بإطالة عمر الانحراف والمد في أجله. ويكفي أن نعلم أن مسألة مراتب الدين على شدة جلائها في النصوص، ستبقى لدى جل علماء الدين من المتقدمين ومن المتأخرين، مبهمة وكأنه لم يرد فيها نص واحد من القرآن أو من السنة؛ لنُدرك مدى الخلل الذي لدى علمائنا ولدى الأمة كلها من بعدهم. وسنعلم بعد هذا، أن بقاء مسألة المراتب مجهولة، لا بد أن ينجر عنه خلط في المعاني، يؤدي هو أيضا إلى إمكان ادعاء أيٍّ كان لما يشاء منها، ما دامت المعايير غائبة والغايات فيها مجهولة. وهذا على التخصيص، هو ما وقع فيه ابن تيمية، وهو من يتناول المراتب وكأنها متجاورة أفقيا. ويكاد هذا الفهم يعم كل المتأخرين، بسبب تصورهم لمعاني تتعلق بالإيمان والإحسان من مرتبة الإسلام وحدها. وسنبيّن إن شاء الله الثغرات العلمية التي يكون عليها هؤلاء المتطفلون، ونبيّن نتائجها عند انقلابها جهلا بما هو ضروري في محله.
[من الأئمة الذين جزموا بأن مدلول "إسلام" و"إيمان" متغايران الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. وأعطى البخاري المدلولين مكانهما حيث اعتبر أن الدين الذي رضيه الله لعباده ولا يقبل ممن ارتضى غيره دينا هو مجموع الإسلام والإيمان والإحسان.]:
الإمام أحمد، من فقهاء مرتبة الإسلام؛ وهو غير مخوّل للكلام عن هذه المعاني، بخلاف ما تظنه العامة في الفقهاء. وأما البخاري، فما زاد على أن دل على ما تعطيه اللغة، من حديث جبريل المعروف، والذي يعرّف فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مراتب الدين. والبخاري أيضا لم يكن على علم بالمراتب كما هي في نفسها، وكما بيّنّا نحن في بعض كتبنا، والتي من أخصها في هذا المضمار "مراتب العقل والدين". بل نزعم أننا -بحمد الله- قد وفّقنا لأول مرة لجمع ما كان متناثرا لدى أولي العلم من السابقين، مما يتعلق بهذا العلم الخاص؛ إلى الحد الذي يمكن تدريسه في المعاهد المتخصصة الآن، من حيث هو علم معياري مستقل، يعود إليه أصحاب كل العلوم الأخرى، إن هم أرادوا ترتيب الكلام في مجالاتهم، أو ترتيب العلماء بحسب كلامهم؛ فيُعلم حينها أي كلام هو أعلى، وأي عالم هو أعلى. كل هذا، بحسب كلام العلماء، لا بحسب مقام الرجال عند الله. والفرق بين الأمرين، هو أن المرء قد يعلم مرتبة الكلام، وتغيب عنه مرتبة المتكلّم لنقصٍ لديه في الإحاطة بالكلام ذاته. ونعني من هذا، لو أن الناظر إلى الكلام يكون من الكبار، فإنه بكلام الرجل في أدنى مرتبة، يعلم مرتبته التي يكون منها؛ لأن المقام يغشي كلام صاحبه بكسوة لا تفارقه أبدا. وهذا الذي نذكره هنا، مما تحار فيه عقول العقلاء. ولنعد إلى ما نحن بصدده...
[قال البخاري في كتاب "الإيمان": باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، وبيان النبي صلى الله عليه وسلم له. ثم قال (أي النبي صلى الله عليه وسلم): "جاء جبريل يعلمكم دينكم". فجعل ذلك كله دينا.]:
هذا مما ينبغي أن يكون مُدركا لجميع المسلمين، بمجرد النظر في الحديث المذكور؛ ولكن عدم تحقق علماء الدين بجميع المراتب، سيجعل تعريفهم للمعاني الواردة في الحديث مختلفا، وقد كان ينبغي أن يكون التعريف موحدا، ليسهل على الناس تبيّن المراتب من تفاصيلها ودرجاتها.
والإقرار بأن المراتب كلها هي الدين ذاته، سيكون له تبعات علمية وحُكمية؛ عندما سنعلم أن من لم يكمل المراتب سيكون دينه ناقصا، مهما فعل. ونعني من هذا، أن من أتى بأركان الإسلام على جهة الفرض وعلى جهة النفل، لا يمكن أن يزعم لنفسه أن دينه قد كمل؛ لأنه يبقى عليه مرتبتا الإيمان والإحسان، ما دخلهما ولا شم لهما رائحة. هذا كله من جهة العمل؛ وأما من جهة العلم، فإن من علم من الفقهاء الحلال والحرام، أو علم صحيح الحديث من ضعيفه، أو علم تفسير القرآن من مفسريه، فإنه يكون من علماء مرتبة الإسلام وحدها؛ ويبقى على جهل بما بقي من الدين. ومثل هذا، لا ينبغي له الكلام في كل مسألة تعرض له، لأنها قد تكون مما يجهل، وهو لا يدري. وقد وقع في هذا الخلط جل الفقهاء، قديما وحديثا؛ ونتج عن عدم ضبط ما ذكرنا، كل هذا اللبس، الذي يجعل أمرا ما واجبا لدى قوم، حراما لدى آخرين، جائزا عند فريق ثالث. ويكاد يتكرر هذا الالتباس في كل المسائل المتناولة، من دون أن يتفطنوا إلى العلة التي وراء ذلك. ونحن -إن شاء الله- سنبيّن عند الضرورة بعض الأمثلة التي تنحل عندها العقد بحصول العلم فيها من جهة المراتب بأسهل ما يكون؛ لأننا لن نتمكن من بسط الكلام في المراتب هنا بسطا كاملا، لضيق المحل عنه.
[نورد هنا رواية البخاري لحديث جبريل، وهو أقصر من رواية مسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن عمر بن الخطاب، وهي رواية مشهورة. روى البخاري عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوماً للناس، فأتاه رجل فقال: "ما الإيمان؟" قال: "الإيمان أن تومن بالله، وملائكته، وبلقائه، ورسله، وتومن بالبعث". قال: "ما الإسلام؟" قال: "الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتيَ الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان". قال: "ما الإحسان؟" قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكُن تَراه فإنه يراك". قال: "متى الساعة؟" قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها، وإذا تطاول رعاة الإبل البُهْمِ في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله". ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عنده علم الساعة" الآية. ثم أدْبَرَ، فقال: رُدوه، فلم يروا شيئا. فقال: "هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم". قال أبو عبد الله (وهو البخاري): "جعل ذلك كله من الإيمان".]:
رواية مسلم، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أدق؛ وقد جاء فيها: «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ، بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ، سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ؛ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا"، قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ، قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ". قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ". قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ؛ قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا، قَالَ: "أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ، يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ". قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ، أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ.». وعدول الكاتب عن هذه الرواية، لا يُسعف القارئ في تبيّن المعاني؛ وكأنه يفضل أن يبقى الإبهام سائدا، ليسهل عليه قول ما يشاء، من غير أن يعترض عليه أحد. ونحن نريد للقارئ أن ينال ولو قليلا من علم المراتب، لأنه علم ينفع الخاص والعام؛ وله آثار حسنة على تديّن الفرد والجماعة معا.
[مذهب البخاري رحمه الله أن الإسلام والإيمان شيء واحد. لكن مجمل القرآن والحديث يرد الإسلام إلى الأعمال الظاهرة التي يمكن أن يؤديها المنافق والأعرابي الذي لما يدخل الإيمان في قلبه، بينما يقتضي التحلي بشعب الإيمان، قولا وعقيدة وعملا، أن يكون القلب محط الأمانة، منه تنبعث النية والصدق والإخلاص والإرادة والعزم التي بدونها تكون الأعمال الظاهرة لغوا وعملا لا يقبله الله. لأن الله تعالى إنما يتقبل من المتقين، و"التقوى ها هنا" كما جاء في الحديث الصحيح، ويشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره الشريف.]:
بدأ الخلط من هنا!... وما ينبغي أن نتبيّنه، هو أن البخاري ليس هو من يؤخذ عنه معنى الحديث؛ لأنه من أهل إثبات صحة الحديث بالطرائق المعلومة، لا من أهل الكلام في معانيه. وليس للمحدثين من مدخل في معاني الحديث، إلا ما يكون منهم لأجل التبويب والترتيب وحدهما. والمسألة لا تحتمل أن يكون فيها مذاهب مختلفة، مع وضوح العبارة النبوية، وعدم احتمالها لذلك. هذا، لأن العبارة لو كانت تحتمل معانيَ شتى، لامتنع أن تُنتج علما؛ خصوصا إن علمنا أن علم المراتب من أدق العلوم، بحيث لا يقبل الخلط ولا التعميم. وأولى الناس بالكلام في معنى حديث المراتب، هم من سلكوا الطريق وتحقق لهم الوصول؛ لأنهم يكونون قد ذاقوا معاني الحديث ذوقا، وبالتفصيل. أما غيرهم، فإنهم سيتصورون المراتب من خارجها، وسيغلطون حتما. ولا ندري لمَ غفل علماء الأمة عن هذا الأمر، مع شدة وضوحه.
وأما ما قاله الكاتب من كلامه في معنى الحديث، فهو مخلوط؛ ومما ينبغي تبيانه ما يأتي:
1. الخلط في مرتبة الإسلام بين الأعرابي والمنافق جهل كبير؛ لأن الأعرابي مسلم، والمنافق كافر. وإن كان التظاهر بالإسلام يجعل المنافق على شبه بالأعراب، فلا ينبغي إغفال ما يفرق بينهما من جهة حقيقتهما. ونعني من هذا، أن الأعراب الذين نفى الله عنهم الإيمان، في قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]؛ فإنما نفى عنهم الإيمان المرتبة، لا مطلق الإيمان. ونعني من هذا، أن كل مسلم هو على إيمان (تصديق)، وإلا كان كل مسلم كافرا، وكانت مرتبة الإسلام مرتبة نفاق. وهذا لا يصح، ولا يقول به أحد.
2. وأما الفرق بين إيمان الأعراب، وإيمان المؤمنين، فهو أن إيمان الأعراب مجمل، ينتج عنه الإسلام، الذي هو عبادة الله بالجوارح. وأما إيمان المؤمنين، فهو تفصيلي؛ ينتج عنه ذوق مقامات الإيمان، والتي تعطي علوما خاصة بها. ونعني من هذا أن الإسلام عمل بالجوارح عن إيمان أولي، والإيمان هو عمل بالقلب من حيث هو آلة العمل المناسبة للإيمان. والقلب في مرتبة الإيمان، له تعقل خاص مخالف للتعقل العام الذي يكون للكافر وللمسلم. وهذا الفرق لا يُعلم إلا ذوقا.
3. مقامات الإيمان، هي المقامات التي يتكلم عنها عوام الصوفية؛ وهي التي يتعلق بها السلوك في المرتبة الثانية؛ وهي: التوكل، والزهد، والصبر، والشكر، والخوف والرجاء، والتسليم، والرضى.
4. أما التقوى التي ذكرها الكاتب، فهي منوطة بكل مراتب الدين؛ ولها في كل مرتبة معنى خاص يناسب أهل تلك المرتبة.
5. أما مصطلح "شعب الإيمان"، فهو وإن كان له تعلق خاص بالمرتبة الثانية من الدين، إلا أنه يشمل فروعا لا يخلو منها إسلام ولا إحسان. وهذا كله، لأن الإيمان بالمعنى العام يطابق معنى الدين عينه؛ والدين من هذا الوجه إيمان. ولولا هذا الاعتبار، ما كان الله يخاطب كل أهل الدين في كلامه، بـ "يا أيها الذين آمنوا". وهذا التداخل في المعاني، هو ما جعل الكاتب، وغيره ممن يتكلمون في الدين يقعون في الخلط. نعني من هذا، أن من يأخذ علمه عن الله ورسوله، فإنه يعلم في كل مرة معنى "إيمان" ويجده مخالفا لمعنى "إيمان" في محل آخر؛ ومن يأخذ علمه عن نظره فإنه سيظن أن للكلمتين معنى واحدا فيغلط. وهذه الدقة في معنى الكلمة الواحدة، هي مما يشق عند دلالة غير أهله عليه. كل هذا، ليمتاز أهل العلو من أهل السفل، ويبرز الأعلم من بين جمع العلماء.
6. وأما الربط بين القول والعقيدة والعمل، هكذا من دون تفصيل؛ فإنه لا ينفع هنا، بل يضر؛ لأن العقيدة التي يشتغل بها الناس منذ ما بعد زمن الصحابة المرضيين، ليست من العلم المناسب لمرتبة الإيمان كما يتوهم جل علماء الدين؛ وإنما هي من شوائب مرتبة الإسلام التي تجعل إسلام صاحبها أنقص من إسلام العوام. وهذا، مما لم نجد من يدل عليه، على خطورته وسوء أثره على تديّن العبد.
وعلى هذا، فإن كلام الكاتب يبقى غير دقيق وغير علمي، ولا يليق إلا بمجالس الوعظ، حيث يُتكلّم في المعاني من وجه عموم دلالتها؛ وحيث يكون الإسلام إيمانا والإيمان إسلاما، وغير ذلك. لكن هذا لا ينفع هنا، خصوصا وأن الكتاب يُفترض أن ينتهي إلى الإحسان، الذي ينبغي أن يحيط العبد قبله بمعنيَي الإسلام والإيمان، اللذين يطابقان الدلالة على كل مرتبة، لا على المعنى اللغوي وحده.
[أخرج الإمام أحمد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام علانية والإيمان في القلب".]:
كان على الكاتب، أن يخلص من هذا الحديث إلى المعنى الذي ذكرناه نحن سابقا. ولكن تمييز ذلك، لا يكون حقيقة إلا لمن سلك الطريق، وارتقى من الإسلام إلى الإيمان. وحتى نقرّب هذا المعنى، ونجعل القارئ يُدرك الفرق بين إيمان الإسلام، وإيمان الإيمان، فإننا نذكر هنا ما جرى لنا عند دخولنا إلى مرتبة الإيمان إبان سلوكنا على يد شيخنا رضي الله عنه وجزاه خيرا؛ وقد كنا في المرحلة الأولى، وربما في الشهور الأولى من بدء السلوك في مستهل عقد الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي. وكنا في ليلة ذكر وإنشاد في مقر زاوية الشيخ المركزية، وإذا بي وأنا أسمع المنشدين يرددون "الله.. الله.."، أُدرك اسم الله من جهة السمع وحده، لأول مرة في حياتي؛ نعني من دون خوض في المعنى، وإنما كمن لم يسمعه في حياته من قبل ولا مرة واحدة. فصرت أتعجب من إدراكي لسمع الاسم لأول مرة في حياتي، مع علمي بأنني قد سمعته مرات لا تُعدّ فيما قبل، وكنت أعلم مدلوله. وهذا الذي نقوله هنا، هو ما ذكرنا سابقا أنه لا يُعلم إلا ذوقا؛ حتى إنني لما رمت إخبار بعض رفقائي في تلك الليلة بما وقع لي -وكنت أظن أنهم قد مرّ بهم ما مرّ بي لسبقهم لي في الطريق- فكنت أرى في أعينهم عدم إدراك لما أبوح لهم به؛ فاضطررت إلى تغيير مجرى الحديث، حتى لا أُتهم في عقلي. وهذا السمع الذي ذكرناه هنا، هو ما عناه الله تعالى بقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21]. والمعنى هو أنك لو سألت الكفار والمنافقين عن القرآن إن هو تُلي عليهم، ربما يعيدون عليك ما سمعوه كما تلقوه؛ وهذا يشهد لهم بالسماع المادي، الذي لا يتجاوز أصوات الحروف والكلمات؛ ومع ذلك فقد نفى الله عنهم السمع المعنوي، عند عدم ملامسة معاني القرآن لقلوبهم. وهذا يعني أن معاني القرآن، التي هي من غير ما يُدرك من جهة اللغة وحدها، لا تكون من مرتبة الإسلام، وإنما من مرتبة الإيمان. وهذا الذي نذكره أيضا، هو سبب عدم إدراك الفقهاء لمعاني القرآن، كما يُدركها السالكون. ووالله، لقد كنا نسمع القرآن من القارئ وهو يقرأه، من الله المتكلم به سبحانه. وعلى علماء الدين إن هم أرادوا مجاوزة المعاني اللفظية، التي يُشاركهم فيها المستشرقون كما لا يخفى، أن يعملوا على الترقي في مراتب الدين على أيدي شيوخ التربية المؤهلين. وعليهم قبل ذلك، أن يتخلّصوا من جهلهم بحقيقة مرتبتهم، بالإقرار بما هم عليه من تقصير في مقابل ما للمؤمنين والمحسنين؛ فإن هذا الاكتفاء منهم بأدنى مراتب الدين، إن لم يخرجوا به إلى النفاق الجزئي، لا يليق بهم وهم من يُنظر إليهم من قِبل العامة على أنهم الأعلم والأدرى بكل شؤون الدين. نقصد من كلامنا، أنه يجدر بهم العمل على التحقق بما يُظنّ فيهم، بدل البقاء على خلافه؛ لأن ذلك لا يُرضي الله عنهم، ويُدخلهم في النفاق الجزئي كما ذكرنا. ونحن -يعلم الله- أننا نرجو لهم الخير كله، لو كانوا يقبلون!...
وليقس القارئ الآن ما تكلمنا عنه نحن، بما كان يعلمه هو من عبارة "الإسلام علانية، والإيمان في القلب"؛ فإنه سيجده بعيدا عنه ويكاد يجزم أنه لن يصل إليه من مجرد النظر في الألفاظ. فعلى هذا، فليقس كل ما سيأتي بعدُ من كلام عن تفاصيل الإيمان والإحسان، إن هو أراد أن يُبقي هامشا يحكم فيه على نفسه بجهل ما هو فوق مرتبته، من باب الأدب اللائق في معاملة ربه.
[القلب لله عز وجل، هو وحده يحاسب العبد على النية. أما العلانية فهي الشأن العام، والوجه الذي ينظر إليه المسلمون من الإنسان ليحكموا عليه بالإسلام أو عدمه تبعاً لسلوكه الظاهر.]:
هذا الكلام من مرتبة الإسلام وإن كان عن القلب؛ لأن النية هي تعلق القلب الذي يبدأ مع العبد من مرتبة الإسلام؛ ويبقى المعنى الذي دل عليه الحديث النبوي السابق، غير هذا الذي قيل. ومن يتتبع الألفاظ وحدها، ويظن أنه سيخرج بشيء، فهو واهم؛ وكأن حديث المراتب جعله الله برهانا على تحقق سلوك العبد، إن هو علم المعاني التي ذكرناها نحن. ويبقى كل متكلم عن معاني الألفاظ من الطريق المعتاد، ممن لا يجاوزون مرتبة الإسلام؛ وإن بالغوا في تمطيط الكلام وتنميقه، كما يفعل الكاتب.
ثم إن قول الكاتب بأن الله وحده يحاسب العبد على النية، يوهم بأن العباد هم من يحاسبون على الأعمال؛ وهذا غير صحيح، لأن الله يحاسب على النية وعلى العمل وعلى غيرهما. ولعل الكاتب أراد أن يشير إلى حكم الناس على ظاهر العباد الذي ذكره بعد ذلك، والذي وإن كان غير المحاسبة؛ فإنه من الفضول الذي ينبغي أن يتخلص منه كل طالب نجاة نفسه.
ولقد كنا نرجو أن لا يأتي الكاتب بكلمة "سلوك" على المعنى العام المشترك بين المؤمنين والكافرين؛ ليبقى تفرد المعجم العلمي الديني مستقلا وموصولا بالوحي وحده. وليته يعود إلى المعنى الشرعي للسلوك من قريب، حتى نوافقه فيما يقول إن شاء الله.
[علاج القلوب وتربيتها وتلقينها بمخاطبة الفطرة وبالصحبة من شأن الربانيين.]:
هذا الكلام صحيح من الكاتب، لكننا لا نقبله على عمومه؛ ولا يمتاز السالك من غيره، إلا بالكلام في التفاصيل وحدها، التي لا تُعلم إلا من الذوق وحده. والكاتب، لم يدخل في تلك التفاصيل، ولا أشار إليها. وهذا يعني أنه إلى الآن يتكلم من مرتبة الإسلام.
[والفقهاء الخبيرون بالأحكام الفرعية يحصون الأعمال الظاهرة، لا شأن لهم بالقلوب وطبها، بل لا خبر عندهم إن لم يأتوا الرباني الوارث كما رأينا فطاحلهم يفعلون في الفصل الأول من هذا الكتاب.]:
كلام صحيح أيضا، من جهة عمومه؛ لكنه لا يفيد أن الكاتب مخالف لفقهاء الظاهر بالمقام. وسنبقى منتظرين لما يدل على سلوكه، لنشهد له بالإيمان... ثم بالإحسان...
[ومن الفقهاء الأصوليين المتكلمين المدرسين الذين دخلوا من علانية الإسلام إلى بواطن الإيمان، وعرجوا من ثم إلى ذرى الإحسان الإمام الغزالي. قال في إحيائه: "منتهى نظر الفقيه (...) أنه لا يجاوز حدود الدنيا إلى الآخرة، (...). أما الإسلام فيتكلم الفقيه فيما يصح منه، وفيما يفسد، وفي شروطه. وليس يلتفت فيه إلا إلى اللسان. وأما القلب فخارج عن ولاية الفقيه، لعزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباب السيوف والسلطنة عنه حيث قال (لأسامة في القصة المشهورة حين قتل رجلا نطق في الحرب بالشهادتين): "هلا شققت على قلبه؟" (…) بل يحكم الفقيه بصحة الإسلام تحت ظلال السيوف مع العلم أن السيف لم يكشف له عن نيته، ولم يدفع عن قلبه غشاوة الجهل والحيرة. ولكنه مشير على صاحب السيف. فإن السيف ممتد إلى رقبته (أي إلى رقبة الذي ينظر الفقيه في أمره)، واليد ممتدة إلـى ماله، وهذه الكلمة باللسان (الشهادتان) تعصم رقبته وماله مادام له رقبة ومال، وذلك في الدنيا. قال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم".]:
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin