..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

..الإحسان حياة.

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
..الإحسان حياة.

..الإحسان معاملة ربّانيّة بأخلاق محمّديّة، عنوانها:النّور والرّحمة والهدى

المواضيع الأخيرة

» كتاب: قواعد العقائد فى التوحيد ـ حجة الإسلام الإمام الغزالي
كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:35 من طرف Admin

» كتاب: سر الاسرار باضافة التوسل ـ الشيخ أحمد الطيب ابن البشير
كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:33 من طرف Admin

» كتاب: خطوتان للحقيقة ـ الأستاذ محمد مرتاض ــ سفيان بلحساين
كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:27 من طرف Admin

» كتاب: محمد صلى الله عليه وسلم مشكاة الأنوار ـ الشيخ عبدالله صلاح الدين القوصي
كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:25 من طرف Admin

» كتاب: النسمات القدوسية شرح المقدمات السنوسية الدكتور النعمان الشاوي
كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:23 من طرف Admin

» كتاب: المتمم بأمر المعظم صلى الله عليه وآله وسلم ـ الشيخ ناصر الدين عبداللطيف ناصر الدين الخطيب
كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:20 من طرف Admin

» كتاب: الجواهر المكنونة فى العلوم المصونة ـ الشيخ عبدالحفيظ الخنقي
كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:16 من طرف Admin

» كتاب: الرسالة القدسية في أسرار النقطة الحسية ـ ابن شهاب الهمداني
كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:09 من طرف Admin

» كتاب: رسالة فى التعلق بجنابه والوقوف على بابه صلى الله عليه وسلم ـ الشيخ رشيد الراشد
كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:04 من طرف Admin

» كتاب: مطالع الأنوار شرح رشفات السادات الأبرار ـ الإمام عبدالرحمن بن عبدالله بن أحمد بلفقيه
كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 18:54 من طرف Admin

» كتاب: المسألة التيمية فى المنع من شد الرحال للروضة النبوية صنفه دكتور بلال البحر
كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 18:43 من طرف Admin

» كتاب: مختارات من رسائل الشيخ سيدي أحمد التجاني
كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 18:40 من طرف Admin

» كتاب: سلَّم التيسير لليُسرى ـ عبدالرحمن بن أحمد بن عبدالله بن علي الكاف باعلوي
كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 18:19 من طرف Admin

» كتاب: عمر السيدة عائشة رضى الله عنها يوم العقد والزواج الدكتور صلاح الإدلبي
كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 16:55 من طرف Admin

» كتاب: علماء سلكو التصوف ولبسو الخرقة ـ إدارة موقع الصوفية
كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 16:52 من طرف Admin

أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر

دخول

لقد نسيت كلمة السر


    كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68465
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري Empty كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري

    مُساهمة من طرف Admin 23/10/2020, 22:09

    إحسان الإحسان - 12 -
    فلا اقتحم العقبة !

    يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:

    [بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ﴾. اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال.]
    [لا يملك الوليد أن يُصم سمعه الغامض الفطري عن سماع كلمة التوحيد والبشارة بالنبوة والرسالة وذكر جلال الله. لكن الكبير المستغْنيَ بقُوّته وعلمه لا يتواضع ولا يستسلم ولا يجلس أمام من يسمعه كلام الله وحديث الآخرة بذلك الاستعداد للتلقي وتلك الفاقة التي تحدث عنها الشاطبي.]:

    يشير الكاتب إلى أثر التربية الفاسدة، في طمر الفطرة وطمسها؛ إلى الحد الذي يفقد معه العبد قابليته التي وُلد عليها إن هو انتهى إلى الكفر التام. والحقيقة هي أن قليلا من الناس من يبقون على الفطرة، وعلى رأس هؤلاء الأنبياء عليهم السلام. فهم ليسوا كالناس، من هذا الوجه؛ وتبقى فطرتهم على طهارتها كيوم ولدتهم أمهاتهم؛ ويأتي بعدهم كبار الوارثين، الذين لأمتنا الحظ الأوفر منهم. فهؤلاء يبقون على الفطرة عناية من الله، وإن تعرّضوا إلى تربية مجتمعاتهم وأهليهم المحرفة كليا بالكفر، أو جزئيا بانحرافات المسلمين العقدية والعملية. وعناية الله، الحامية للعبد الخاص من الانحراف، شرط لدى الكبار؛ لأنه لا يكاد يسلم مجتمع من المجتمعات قديما وحديثا من الآفات التي ذكرنا.

    وأما تذكير الكاتب لنا بالفاقة التي تحدث عنها الشاطبي، فهو في غير محله؛ لأن الشاطبي لم يكن يعلم من الفاقة إلا معناها العام، وهو ما لا يؤهله لأن يُستمع إليه في مجال التربية القلبية؛ بل ذلك يكون لأهل الفقر من الخواص، الذين يغفلهم الكاتب عند أجدر محل بذكرهم. وهذا من الخذلان، الذي نرجو أن يعود عنه الكاتب سريعا؛ حتى لا ينحرف به الطريق...

    [عقبات تحول دون الإنسان ودون الكيْنونة مع المؤمنين كينونة الصحبة والتلمذة والتعاون والالتحام والجهاد.]:

    بدأ الكاتب يخلط بين المصطلحات: فالكينونة مع المؤمنين، ليست هي الصحبة دائما؛ لأن الإيمان صفة عامة مشتركة، والصحبة خاصة؛ وإن كانت هي الأخرى صحبات مختلفة. والتلمذة بالمعنى الشرعي تخالف التلمذة العامة؛ وبالمعنى الشرعي هي على مراتب مختلفة ومتفاوتة أيضا. وأما الالتحام والجهاد، فهما من مصطلحات الكاتب المحرفة؛ لأن الالتحام يقتضي بمَن، والجهاد يقتضي لمن. وقد بدأ الكاتب منذ الآن يخلط بين التربية الحركية التي هي تربية غير شرعية، باعتمادها لأساليب الجماعات الضالة والكافرة، من المنظمات السرية كالماسون أو شبه السرية كالأحزاب السياسية والعنصرية. ولقد عرفت الأمة ضرر هذا الصنف من العمل في العصر الحديث، بمجرد انحراف جماعة الإخوان المسلمين المصرية عن جل مبادئ البنّا، عند دخول المنظرين الفكريين عليها وقيادتهم لها. ونخص بالذكر هنا سيد قطب، الذي سيفتح الباب أمام آخرين؛ صار كل منهم يبعد عن الأصل أكثر مما بَعُد سابقه. ولقد قلنا في بعض كتاباتنا سابقا، إن تنظير حسن البنا، رغم غلبة خيريته، لم يكن في مستطاع صاحبه ذاته إبرازه إلى الواقع من غير تحريف، لفقده الربانية المشروطة في مثل هذه الأعمال. وأما من جاءوا بعده، فقد صاروا -من جهة العمل لا العقيدة- كسائر المنظمات العالمية ذات الخلفية الأيديولوجية، والتي ذاقت أذاها مختلف البلدان التي ظهرت فيها. وإن كنا نستثني العقيدة في الكلام، فذلك حتى لا يفهم أقوام من كلامنا تكفيرا لأحد؛ وأما الضرر على العقيدة في مثل هذه التنظيمات الحركية فبالغ، لو علم الناس مبلغ السوء فيه لسارعوا إلى حل هذه التنظيمات ومنعها في المجتمعات الإسلامية كلها. ولا شك أننا سنعود إلى تناول هذه المسائل بتفصيل أكبر في المستقبل إن شاء الله، ما دام كاتبنا يُعَدّ من أكبر المنظرين للعمل الحركي في زمانه...

    [قال الله عز وجل يهيب بالإنسان لاقتحام العقبة، وهو نداء للفطرة: ﴿لقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ﴾.]:

    سنرى إلى أي حد، سيلتزم الكاتب في تعريف العقبة بكلام الله...

    [عقبات تثبط الإنسان عن اقتحام العقبة الإيمانية، وعقبات أوْعر تعوقه عن الارتقاء في الإحسان. عقبات من تعلق نفسه بالدنيا، بالمال، بالجاه الذي يصرفه عن المرحمة، بالأنانية التي تجعله يستكبر عن الدخول في حصن الجماعة يسمع النصيحة، غافلا عن ربه، عن مخلوقيته، يحسب أن أحدا لا يراه، ناسيا أن الذي برأه وجعل له لسانا وشفتين ديَّان.]:

    كلام عام، لم يتطرق الكاتب فيه لتعريف العقبة؛ ولم يخبرنا كيف أصبحت معه العقبة المفردة التي دل عليها القرآن، عقبات... نحن لا نخالفه، ولكننا لا نقبل منه هذا التعميم.

    [شيطنة النفس، وشيطنة الوسواس الخناس من الجنة والناس، وفتنة الدنيا، تشكل مجتمِعةً عقبة في أنفس البشر وفي آفاق الكون. وطب القلوب يعالج الأنفس لِينزع منها بالتربية، أي بالصحبة والذكر والملازمة والعبادة، تلك الحظوظ الدنيئة، ويرفعها ويرقيها في سلم الإحسان.]:

    إحسان صاحبنا دائما أقرب مما هو عليه في حقيقته!... وكأنه يرى الأمور معكوسة. يكون جيدا منه لو أنه بدأ بالأولى فالأولى؛ عملا بما تقتضيه المنهجية العلمية والتربوية. أليست التربية تدرجا بالإنسان في الأطوار؟!... وإذا كانت البداية بالإحسان، فإلى أين سيكون المنتهى يا ترى؟!...

    وأما نحن فنقول (حتى يسهل علينا إلحاق ما سنجده من أقوال الكاتب بمرتبته فيما بعد): العقبة بالإفراد، هي النفس. وفي هذا المعنى يحكي البسطامي رضي الله عنه أنه في بعض مناجاته سأل ربه: بمَ أتقرب إليك؟... فجاءه الجواب كما يأتي خواص العباد: اترك نفسك، وتعال!... وهذا الكلام يلخص كل الطريق من بدايته إلى نهايته.

    والنفس لها تجليات موهومة، كما لله تجليات حق: نعني أن لها مراتب ثلاثا كما لله مراتب ثلاث وهي: الذات والصفات والأفعال. وإن اقتحام عقبة النفس (سميت عقبة لأنه يصعب تجاوزها)، يبدأ من مرتبة أفعالها، في مرتبة الإسلام التي هي المرتبة الأولى من الدين. فالإقرار لله بالعبودية في مرتبة الأفعال، يقتضي الإقدام عند الأمر والإحجام عند النهي؛ من دون اعتبار لأغراض النفس. فهذا أول اقتحام؛ وهو يدخل بالعبد في عبودية الأفعال التي هي غير توحيد الأفعال الذي نذكره في كلامنا أحيانا. نقول هذا، حتى لا تختلط المعاني على القارئ. ثم يأتي بعد مرحلة اقتحام الأفعال، مرحلة اقتحام الصفات؛ وهي من أشق الأشياء على النفس. ويقع هذا الاقتحام، بالخروج عن الصفات الإلهية التي تلبسها النفس زورا، إلى صفاتها الأصلية التي هي النقيض منها. فبعد العز، يدخل العبد في الذل ويستوطنه؛ وبعد الغنى (النسبي) يعود إلى أصل فقره ويرسخ فيه؛ وبعد العلم (النسبي) يقع في بحر جهله التام؛ وهكذا مع كل صفة صفة، إلى أن يبلغ العدم المحيط؛ فتنتفي عنه كل الصفات الإلهية، ويبقى عريانا منها على هيئته التي كان عليها في العدم قبل إخراجه بفضل الله إلى الوجود. وقد وقع لنا في بدايات سلوكنا، أن كنا في ذكر لله نناجي ربنا، فصرت أتقهقر في صفاتي من صفة إلى عدمها، من دون أن أشعر؛ إلى أن وجدت نفسي قد هويت في العدم. فوجدت لذلك راحة، لا يعلم قدرها إلا من ذاقها. فلله الحمد والمنة، وله الشكر في كل حال وعلى الدوام.

    ثم تأتي العقبة الأخيرة، وهي اقتحام العقبة الذاتية؛ ولا يتم هذا الاقتحام، إلا لمن كان من أصحاب العناية الخاصة؛ لأن هذا آخر حاجز عن معرفة الله يعترض السالكين؛ وبتخطيه يتحقق الوصول للواصلين. ولا يقع هذا الاقتحام (الذي هو الفناء ذاته)، إلا بتجلّ خاص من الله على عبده، يُذهب كلّيته ويُفنيه فناء تاما سرمديا. فهذه هي المراتب الثلاث لاقتحام العقبة، المؤذن بدخول حضرة القدس. وسنعمل على رد كلام الكاتب، إلى المراتب التي ذكرنا، إن هو التزمها، حتى يعلم القارئ محل الكلام ومحل الإشارة. ولنمض فيما نحن فيه...

    [راغَ السادة الصوفية الطيبو الأنفاس عن الفتنة الآفاقية بالخروج عن المجتمع والزهد في الدنيا ليتجنبوا عويصات الطريق. وهم بذلك نزلوا عن مستوى الصحابة الذين خاضوا الجهاد على كل الجبهات، فاستحقوا بذلك أعلى الدرجات.]:

    يعلن الكاتب هنا عن جهله بتصوف الصوفية، ويظن أنهم في اعتزالهم عن الناس في بداياتهم، قد تعاظموا مجاهدة النفس الخارجية، التي سماها آفاقية من منطلق قول الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]. والحقيقة هي أن العزلة في البداية من شرط السلوك إلى الله، بدليل تشريع الأنبياء عليهم السلام لها من جهة سيرتهم الخاصة العملية، ثم بدليل عدم خلو أحد من أئمة الطريق عنها. أفيكون عبد السلام ياسين أول مؤسس للطريق، حتى نقبل منه هذا؟!... إلا أن يكون طريق انحراف كما نقول دائما؛ وانحرافه من وجهين:
    1. إن الكاتب يخلط بين أصول التربية، التي ينبغي أن يؤخذ فيها العبد بالتدريج طورا بعد طور، وبين الرؤية العامة للمسألة والتي تشبه التنظير الذي يكون عليه المنظرون.
    2. إن العزلة في البداية لا تدل على أن القوم قد اعتزلوا إلى ما لا نهاية؛ بل هي عزلة ضرورية مرحلية، يعمل فيها العبد بتوفيق من الله على ضبط أموره، لكيلا يخرج إلى الناس وهو بعدُ لم يفرغ من نفسه. ذلك لأن القاعدة التربوية المجمع عليها عند أهل التربية، أن من لم يفرغ من نفسه لا يجوز له تكليم غيره (تربيتهم). نعم، قد يكون الفراغ من النفس مرحليا، وقد يكون تاما؛ والأفضل أن يكون تاما، احتياطا للنفس وقطعا لأمداد سوئها.

    وأما مقارنة المتأخرين بالصحابة، فإنها لا تصح. والكاتب إنما أخذ فيها بالظاهر، من دون علم بحقيقة ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم. ونعني من هذا، أن خلطة الصحابة، كانت كالعزلة بل أفضل، بالمقارنة إلى غيرهم؛ بسبب نفاسة جوهرهم وعلو هممهم واجتماع همهم على الدين. وقبل هذا وبعده، فإن معاشرتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، كانت قد أخذتهم عن أنفسهم، فلم يكونوا يرون بأبصارهم وببصائرهم غيره. وهذه الحال، لا عزلة معها؛ وهي أدعى إلى الجمع على الله. فهل كان ينتظر الكاتب -مثلا- أن يبقى الصحابي في بيته، لا يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا لماما؟!... لا يقول بهذا، إلا من كان تيمي المذهب، على توحيد منكوس!...

    وأما العزلة التي يكون عليها الصوفية في مبتدئهم، فهي للتخلص من رواسب التربية الجاهلية التي لا يسلم منها بيت ولا مجتمع، كما سبق أن قررنا؛ خصوصا وأن الفقهاء العاملين في الأزمنة الماضية، كانوا قائمين بوظيفة تبيين الأحكام وحراسة الشريعة، بعكس ما نحن عليه اليوم، في زمان تحالف الفقهاء مع أعداء الدين؛ فإنه لا مجال للاعتزال الذي كان معلوما في السابق، وقد أصبح الكفر يجول في شوارعنا لا يعترض طريقه أحد. يعزز ما نقول، تغيّر نمط عيش الناس الذي لم يعد يسمح بالاعتزال: فالمرء اليوم إما أن يكون متعلما مرتادا للمعاهد، وإما أن يكون موظفا أو عاملا في شركة أو معمل أو محل خاص. وهذا، لا يمكنه الاعتزال، وإن أراده؛ لكن السالك من هذا الصنف، لا بد له من التقليل من صِلاته إلى حدها الأدنى الضروري، لكيلا يتشتت قلبه؛ ثم لا بد له بعد ذلك من اعتزال جزئي ساعة في اليوم، ويوما في الأسبوع، وأياما في الشهر، وشهرا في السنة؛ أو ما يقارب هذا... من لم يعمل على مبدأ العزلة في بدايته، فإنه لن يتمكن من ذكر الله ذكرا كثيرا كما أمر سبحانه في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41]؛ ولن يتمكن بالتالي من السير في الطريق؛ إلا أن يكون مجذوبا غلب عليه الحال، فهذا لا حكم عليه.

    [في هذا الكتاب لست أدعو الأجيال المقبلة للتصوف! وإن كانت التربية الصوفية هي التي احتفظت بجوهر الأمر كله، بل أدعو إلى اقتحام العقبة التي انحدر منها الصوفيَّة الكرام عن ذلك الأفق العالي الجِهادي الذي تحرك في ذُراهُ الصحابة المجاهدون، نالوا بالجهاد المزدوج، الجهاد الآفاقي والأنفسي درجة الكمال. وجمعوا إلى نورانية القلوب المتطهرة حمل الأمانة الرسالية إلى العالم. وبذلك لحقوا بمقعد الصدق.]:

    هذا الكلام باطل من جهة علم التربية لدينا، وإن كان ينطلي على معتمدي التنظير الفكري، الذي ما عاد المتأخرون من المسلمين يعلمون غيره، عند انقطاعهم عن نور النبوة الذي كان عليه السابقون. والأدهى من هذا، هو أن هذا التنظير، يمكن أن يأخذ الناس في طريق جانبي، بعيدا عن الطريق الأصلي. فهذا الذي يزعم أنه سيخوض غمار الجهاد كالصحابة رضي الله عنهم، هل سيجاهد الوثنيين والكتابيين كما كان الصحابة، لنقطع له بصحة الاقتداء؟ أم إنه سيجاهد مسلمين يخالفونه في العقيدة، كما كان على ذلك الجهلة من السابقين؟ أم سينازع الحكم أهله بجهاده فيكون مخالفا للشريعة من وجهين: من وجه حِرمة الاقتتال الداخلي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ!»[1]؛ ومن وجه طلب الحكم وهو أجلى مجالي اتباع الهوى، والذي حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه، وشدد في التحذير عندما جعله بندا من بنود البيعة. فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ."[2]. فكيف يُتقرّب إلى الله بعد هذا، بهذه المحرمات المغلّظة؟!...

    نذكر هنا أن الكاتب كان قد وعد بتسميع صوت الصوفية إلى الناس في زمانه، وها نحن نجده ينحرف عن طريقهم، ويتنكر لأصولهم!... وهذا منه، لا يكون إلا خيانة للقارئ وتدليسا عليه، لا يخفيان عن أقل الناس تمييزا. ونحن وإن كنا لا ندعو إلى تصوف المتصوفة، الذي عاد تجارة ولهوا، إلا أننا لا نبغي عن التصوف الأصلي الذي هو التزكية الشرعية ذاتها بديلا من الفكر والأيديولوجيا. وإن الأستاذ عبد السلام، إن كان يريد الفرار من الشوائب التي علقت بتصوف المتصوفة، فهو قد وقع فيما هو أسوأ وأوخم: وقع في الأيديولوجيا التي هي لديه سياسية تعتمد الدين منصة انطلاق فحسب!... وأين دليله من الكتاب والسنة على هذا، وقد انطلقنا معه في البداية وهو يعد بالتزامهما وحدهما!...

    [ليكن هذا واضحا. وليكن واضحا أن الحديث عن تجاوز الصوفية دون الاقتباس من نورهم والإسْرَاج من مشكاتهم المطهرة إنما هو ضرب من الخيَال. فهم كانوا ولايزالون، الصادقين منهم والكُمّل، المتحلين بزينة القلوب، المرتفقين من الزاد النبوي.]:

    يتمسح الكاتب بالصوفية، وإن خالف نهجهم، خوفا ألا تنال دعوته القبول لدى من لهم حسن ظن بهم. وهذا احتيال وعمل بمبادئ السياسة لا بما يعطيه العلم. وكيف بالله عليه، سيجمع العبد المدعوّ، بين إسراج من مشكاتهم، وإطفاء في الوقت ذاته، مما يدل عليه هو من انحراف!... ومن باب الإنصاف: لمَ لا يترك المرءَ يسلك الطريق، وعند تبيّنه للأمر بارتفاع الحجب عن عين بصيرته، سيعلم ما عليه أن يفعل إزاء المسألة السياسية خصوصا؛ فيكون حينئذ عاملا على بصيرة وبيّنة!... لمَ هذا التعجّل الذي يُؤخذ فيه الناس إلى ما لا يعلمون!... وما الذي سيقوله الكاتب لمن تبعه منذ بداية دعوته وإلى الآن، من دون أن يُدرك غاية سياسية كانت تُعرض عليه وكأنها من سنخ الحتميات، ومن دون أن يُدرك غاية دينية بالترقي في الدين أو بتحقق وصول؟!... ومن سكت عنه في دنياه، فهل سيسكت عنه في الآخرة!... نحن نكلّم هنا من له إيمان بالآخرة، لا من يجعل الدين ذا غاية دنيوية، كما هي عليه بعض طوائف بني إسرائيل اليوم، أو كما يعتقد القائلون بالتناسخ.

    [تحدث الأكابر الصوفية رضي الله عنهم عن العقبات التي تقتحم في طريق السالك، وذكروا شروط الاقتحام. لم يتعرضوا لشيء من سلوك الصحابة الجهادي لغياب أسباب الجهاد وشروطه ووقته في حيواتهم المكرمة.]:

    ليس الأمر كذلك!... ولكن لعلم الصوفية بأن الجهاد الأصغر متضمَّن، في الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس. ألم يشتهر عن الصوفية شعارهم: "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك!"؟... وهل يظن ظان أن جهاد العدو يبلغ في المشقة جهاد النفس!... لا يظن هذا إلا كليل بعيد عن المعاني الدينية جملة!... ومن كان شاكا فيما نقول، فلينظر إلى أعداد الناس المـُقدِمين على الموت بسهولة (إذا أُوهِموا أنه في سبيل الله)، وليقارنها بأعداد السالكين لطريق الله حقيقة؛ فإنه سيجد السالكين لا محالة أقل بكثير من الأولين. وإذا كان الأمر كذلك، فجهاد النفس يكون مقدما على جهاد العدو بما لا يقارن!... إلا إن كان الداعي إلى الجهاد ربانيا (نبيا أو وليا)، فإنه حينذاك يكون جامعا بدعوته للجهادين. وأما إرادة إلصاق هذا الفهم المعوجّ بنهج الصحابة فأمر باطل، للأسباب التي ذكرناها آنفا، ولكونهم رضي الله عنهم، على بيّنة من أمر دينهم. وهل يستوي من يأخذ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرا وباطنا، بمن تتلاعب به أقوال الرجال؛ يصعد به هذا وينزل به ذاك، وهو لا يكاد يبصر!...

    ثم، ليت الكاتب أخبرنا عن شروط وجوب الجهاد وشروط صحته، حتى نعلم مدى موافقة جهاده لها؛ إن كان جهاده جهادا من الأصل!...

    إن أصحاب الأيديولوجيا السياسية من الإسلاميين، قد حرفوا المدلولات والمفاهيم: فالجهاد الذي كان لإعلاء كلمة الله، قد صار معهم للإطاحة بالحكام المسلمين؛ والمجاهدة التي كانت تُراد لقهر النفس وترويضها حتى تُسلم لله، قد صارت تحملا للمشاق في سبيل إقناع الناس والإتيان بهم بجميع الوسائل إلى جماعاتهم، تكثيرا لعدد المعارضين وإعدادا لجيوش المتظاهرين!... وبما أن الكاتب يأتي على ذكر الصحابة وكأنهم قدوته في أمره، فهل كان الصحابة يخرجون في المظاهرات؟!... وما حكم التظاهر اليوم؟ أهو من الواجبات أم من المستحبات أم من المحرمات؟... وما الدليل الشرعي في ذلك؟!... وما حكم أصحاب التوحيد التيمي فيمن يُخاطب غير الله في حاجاته؟ أهو باق على التوحيد، أم هو على شرك جائز؟!... وما دليل جواز سؤال الحكام، فيما كان ينبغي أن يُسأل الله فيه!... فعن أي صحابة هو الكلام؟!... أهم الصحابة المعلومون، الذين نصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وآزروه وأعانوه على أداء أمانته؟ أم هم صحابة افتراضيون، لا نعلم عنهم شيئا إلا أنهم ينبغي أن يُتبعوا؟!... ولا نعود إليهم إلا حين نريد إرهاب من يستمع إلينا، ليخضع مكرها لتوجيهنا!... ومن يكون كذلك في خطابه، فما الفرق بينه وبين الشياطين؟!...

    [قال الإمام أبو حامد: "إنما سلوكه (أي المريد) بقطع العقبات ولا عقبة على طريق الله تعالى إلا صفات القلب التي سببها الالتفات إلى الدنيا. وبعض تلك العقبات أعظم من بعض. والترتيب في قطعها أن يشْتغل بالأسهل فالأسهل". وذكر المجاهدة النفسية اللازمة وهي: "مضادة الشهوات ومخالفة الهوى في كل صفة غالبة على نفس المريد"، حتى لا يبقى في قلبه علاقة تشغله. وعندئذ ينصرف إلى الذكر وملازمة الأوراد والعبادة حتى يتجرد قلبه من كل العلائق، ويستولي عليه حب الله تعالى "حتى يكون في صورة العاشق المستهتر". كل ذلك تحت نظر الشيخ وتوجيهه.]:

    يأتي الكاتب بكلام الغزالي على عادته، ليوهم القارئ أنه على طريقته يسير، أو هو أعلى منه ربما في جمعه المشبوه بين الهوى والدين؛ وهيهات!... وإن كان الغزالي يدعو حقيقة إلى تجاوز العقبات، فإن صاحبنا يزيد فيها عقبة جديدة (تفصيلية)؛ يثبتها ويرسخها. ثم إن التفاصيل التي ذكرها الغزالي، ينبغي أن تُلحق بالمراتب التي ذكرناها سابقا، حتى تُعلم مكانتها من المجاهدة العامة (العقبة). وأما الشيخ الذي يشترطه الكاتب لفلاح المريد، من صفاته أنه يمنعه عن المهالك، لا أن يوقعه فيها (المهالك هنا قلبية لا بدنية). ونحن لا نرى دعوة الكاتب إلى جهاد مبهم إلا إيقاعا للناس في الهلاك البيّن!... وهذا يدل دلالة عملية، لا يتطرق إليها الشك، على أن الأستاذ عبد السلام ليس شيخا بالمعنى الاصطلاحي!... وهذا يكفيه الآن!...

    ولقد تكلم الصوفية في قول الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]، وقالوا: لا تكون معاداة الشيطان بالاشتغال به، وإنما باتخاذ الله حبيبا؛ وإلا فإنه يكون قد فوّت اللعين الأمر على العباد من حيث لا يشعرون. وإن كان الحال على هذا مع الشيطان الذي لا شبهة في عداوته، أفيكون الشرع دالا على معاداة الحكام (وإن عصوا) وإلى الاشتغال بها، بدل الاشتغال بالله!... ومتى كان الشرع يدل على ما تكون نهايته غفلة وحجابا، لولا أن العمى قد أصاب البصائر!... وهل تَرَك المشتغل بالله (بكليته) شيئا من العبادة حتى يُدلّ عليه من قِبل من هو أنقص منه!... ما هذا التحريف الذي لحق الدين!...

    [ونقرأ عند كبير آخر من أكابر الإسلام، وهو عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء ومفخرتهم، وصفا للعقبات وتخطيها، ينظر إلى العقبات وما وراءها نظرة لا تكاد تختلف عن نظرة أبي حامد وإن كان يفصل بينهما قرن ونصف. قال رحمه الله: "إنك لا تصل إلى منازل القربات حتى تقطع ست عقبات: فطم الجوارح عن المخالفات الشرعية، فطم النفس عن المألوفات العادية، فطم القلب عن الرعونات البشرية، فطم السر عن الكدورات الطبيعية، فطم الروح عن التجارب الحسية، فطم العقل عن الخيالات الوهمية. فتشرف من العقبة الأولى على علم ينابيع الحكم القلبية، وتطلع من العقبة الثانية على أسرار العلوم الدينية، ويلوح لك في العقبة الثالثة أعلام المناجاة الملكوتية، ويلمع لك في العقبة الرابعة أنوار أعلام المنازلات القربية، ويطلع لك في العقبة الخامسة أقمار المشاهدات الحبية، وتهبط من العقبة السادسة على رياض الحضرة القدسية".]:

    العز بن عبد السلام تلميذ للصوفية، وليس شيخا من شيوخهم، حتى نعتبر رأيه؛ وهو على كل حال دون الغزالي في المرتبة. وهذا التنكيس في الكلام بالمرور من الأعلى إلى الأدنى دائما، لن يوصلنا في النهاية إلا إلى مقام الكاتب الحقيقي، الذي لن يكون إلا ما هم عليه العوام الخالطون.

    وأما ترتيب ابن عبد السلام للعقبات، ففيه تكلف؛ وهو لا يجاوز المرتبة الأولى التي ذكرناها نحن للنفس، والتي هي مرتبة أفعالها؛ مع إشارة من ورائها إلى مرتبة صفاتها. وفرق عندنا بين من يشير إلى الشيء من مرتبته، ومن يشير إليه من وراء ما يكون دونه. ويبقى كلام ابن عبد السلام عاما، وإن رام -رحمه الله- تخصيصه. ونعني بالعام هنا، ما يكون عاما لدى السالكين، لا لدى العوام من الناس.

    وفي إتيان الأستاذ عبد السلام المرة بعد الأخرى بذكر العز بن عبد السلام إشارة إلى موقفه من المماليك القادة والأمراء (وكان من بينهم نائب السلطان نفسه) -عند بيعه لهم وشرائهم من بيت المال- والذي كان موقفا شرعيا، دعاهم فيه إلى الخروج من الرّقّ لتصح منهم المعاملات فحسب؛ لا لتحقيرهم أو للخروج عليهم. فلم يكن موقفه من المعارضة السياسية التي يعتمدها الإسلاميون اليوم، ويظنون أنهم يُرضون الله بها. وأما مخالفة الشرع التي يُنسب الحكام إليها، فلا يسلم منها أحد في هذه الأزمنة، لعموم الغفلة وانتشار الجهل بالدين؛ لا يُستثنى من ذلك علماء الدين أنفسهم. والإسلاميون ليسوا استثناء أيضا، وهم يعتمدون الفكر السياسي الديمقراطي وكأنه قد صار جزءا من التشريع الإلهي!... إن هذا الخلط لن يسعف في العودة إلى حال الصلاح، إن كنا نبغي الصلاح حقيقة، وإنما هو يضيف ضلالات جديدة إلى الضلالات الموروثة فحسب. وأما العمل بالنصيحة للحكام، فإن له شروطه: فعلى الناصح أن يكون عالما بحكم الشرع في المنصوح فيه؛ وأن يكون عالما بكيفية مخاطبة الحكام؛ وأن يكون على بيّنة من أمر نفسه، حتى لا يتسبب في هلاك نفسه إن كان عمله غير خالص لوجه الله؛ وأن تكون نصيحته عن محبة لا عن مزاحمة وانتقاص؛ وأن يكون ظهور ما يدحض رأيه بالحق، أحب إليه من البقاء عليه...

    ولنسأل بعد هذا، عن الموقف من الحكومات وعن الموقف من البرلمانات؛ أليس لهم النصيب الأكبر في المخالفات المنسوبة إلى الحكام؟!... ألم يكن من واجبهم تجنيبهم المخالفات الشرعية؟ أم إن الحكام وحدهم من بقوا على التكليف، من دون الناس؟!... ثم ألا يكون في السكوت على الوزراء والنواب، مشاركة لهم في المعاصي؟!... ولم لا يسأل الناس أنفسهم عن السكوت على من ذكرنا، مع كثرة انتقاد الملوك والرؤساء في المقابل؟!... أهو لظنهم أن لا أحد له الرأي في البلد ممن سوى الملوك والرؤساء؟ أم هو تحامل لا مسوغ له إلا المنافسة على الدنيا والحسد عليها؟!... ذلك لأن المنافس على الدنيا، لا يبلغ في الدين من المكانة ما يجعله أهلا للكلام من الأصل. ألم يُميّز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أزمنة الفتنة بكلام الرويبضة؟... وإن لم يكن أصحاب الأيديولوجيا السياسية من الإسلاميين أحق الناس بوصف الرويبضة، فهل بقي معنى للصفة أشد جلاء في عين الناظر المنصف؟!...
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68465
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري Empty رد: كتاب: إحسان الإحسان - 12 - عبد الغني العمري

    مُساهمة من طرف Admin 23/10/2020, 22:11

    [قال: "فهُناك تغيب بما تشاهد من اللطائف الأنسية، عن الكثائف الحِسية. فإذا أرادك الله لخصوصية الاصطفائية سقاك بكأس محبته شربة تزداد بذلك ظمأ، وبالذوق شوقا، وبالقرب طلبا، وبالسكوت قلقا".]:

    كل هذا الكلام، هو من طور عوام الطريق. وصاحبه لن يزال في حكم السكوت وعدم الكلام؛ لضرورة اشتغاله بنفسه وبتكميلها. وكل من يتكلم من هذه المرتبة، فإن كلامه يصير عليه فتنة، ولا يأمن معه العقوبة من الله إن وقع فيما يخالف الشريعة من جهة الظاهر ومن جهة الباطن. وأما من هو غارق في غفلته، لا يشعر بسوء حاله، ويظن أنه بإتيانه لبعض الأعمال الشرعية قد أصبح من أهل الدين، فإنه يكون من الحمقى الذين ينبغي إسكاتهم بالقوة من قِبل السلطان. والسكوت على مثل هؤلاء، هو من الضرر الأكبر على الأمة. ولو عدنا إلى ما أصاب مصر -مثلا- من وراء كلام العامة في أخص أمور الدين وأخص أمور الدنيا، لعرفنا من أين دخلت الفتنة على البلاد، وكيف انتشرت حتى لم يكد يسلم منها نجع ولا قرية، فضلا عن المدن الكبيرة...

    [لا إله إلا الله، كم لوحوا لك بلطيف العبارات وجميل الإشارات كي لا يكون لك لَبث مع غير الله لكن رقدة الغفلات واللذات الفانيات تُبرم أمر العاجز وتنقض، لا إرادة له، نفسه حرباء تتلون بظواهر الكون وبواطنه، وعقله عقال، ووهمه زمام، فأنى له الفطام!]:

    كلام الكاتب نفسه، وكلام من يعتضد بهم من أهل الطريق، هو مما يدل على غير الله!... ولولا أن التربية تقتضي أن يُربَّى المريد وهو على شركه (الأصغر)، من أجل تخليصه منه شيئا فشيئا مع تقدمه في السير، لرددنا عليه كل ما سبق من كلامه. نعني من هذا، أن كل الكلام الذي قيل، هو للدلالة على الطريق، لا على الله!... ومن لا يميّز الأمرين، فالسكوت في حقه واجب!... والمريد الذي لا يصل إلى منزل يرى فيه كل العالم مطيعا لله، ولا يرى من عاص فيه إلا هو وحده، فإنه ما سلك على الصراط المستقيم. ووالله لقد مررنا بهذا في سلوكنا، فكنت أرى نفسي أقل من الكافرين المعروفين بكفرهم: لأنني كنت من معصيتي (وهي الكفران في حقي) على يقين، ومن كفرهم على ظن!... والمريد يرى معصيته كفرا بالحال (علم الحال) لا بالعلم؛ لأن نظره يكون إلى ربه حينها. ومن كان نظره إلى ربه، فإن الصغيرة في حقه كبيرة؛ بخلاف من يكون نظره إلى نفسه، فإن الصغيرة تبقى صغيرة في حقه، والكبيرة كبيرة، كما هي في العلم. ولقد نبه الصوفية إلى هذا المعيار في مصنفاتهم، وإن لم يدلّوا على التفصيل الذي ذكرنا، بالوضوح الذي أوردنا نحن فيه. وهو نافع جدا للمريدين، إن اعتبروه في وقته.

    [نتخطى قرنا آخر من الزمان فنجلس إلى كبير آخر من أكابرنا هو شيخ الإسلام ابن القيم. قال في العقبات يحذر السالك من عدوه اللدود الشيطان المكلف به: "فإنه يريد أن يظفر به في عقبة من سبع عقبات، بعضها أصعب من بعض، لا ينزل منه من العقبة الشاقة إلى ما دونها إلا إذا عجز عن الظفر به فيها. العقبة الأولى عقبة الكفر بالله وبدينه ولقائه وبصفات كماله، وبما أخبرت به رسله عنه. (...)، العقبة الثانية وهي عقبة البدعة (...)، العقبة الثالثة وهي عقبة الكبائر (...)، العقبة الرابعة وهي عقبة الصغائر (...)، العقبة الخامسة وهي عقبة المباحات (...)، العقبة السادسة وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطَّاعات".]:

    ابن القيم ليس ممن يُستمع إليهم؛ إلا أن يكون المرء على خلط كبير وعلى ظلمة ثابتة، كما يبدو من حال الكاتب، الذي لا يهنأ له حال إلا إن جاء بأحد التيميين. وأما ترتيب ابن القيم للعقبات، ففيه تكلف جلي؛ وهو يوافق فيه كلام شيخه ابن تيمية. وما يصح من ذلك كله، لا يعدو المرتبة الأولى من العقبة، والتي هي مرتبة الأفعال. فأين ما فوقها، لو كان المتكلمون أئمة!...

    [ولم يذكر رحمه الله العقبة السابعة. قال بعد الحديث عن العقبة السادسة: "وأيْن أصحاب هذه العقبة فهم الأفراد في العالم، والأكثرون قد ظفر بهم (الشيطان) في العقبات الأُوَل، (...) ولا يقطع هذه إلا أهل البصائر والصدق من أولي العلم، السائرين على جادة التوفيق، قد أنزلوا الأعمال منازلها، وأعطوا كل ذي حق حقه".]:

    وأي علم لابن القيم بالعقبات ومداخل الشيطان، وهو لم يسلم من تسلطه؛ لا هو ولا شيخه!... ولو شئنا أن نفحص كلام ابن القيم في كتبه -ولسنا نحرص على ذلك- لأخرجنا منه الموبقات الكبار، وهو يظن أنه في مأمن!... والقاعدة فيما نقول، أن كل من لم يتحقق بالفناء في المراتب الثلاث، فإنه يكون من أهل الشرك (الأصغر) الذين لا يُعتبر لهم كلام ولا حال في الطريق. الإمام في الدين، هو من يكون الله قد تولى عنه جميع أمره (هذا هو معنى الولاية)، بأن يكون سمعه وبصره ويده ورجله وظاهره وباطنه!... هذا وحده، من يستحق أن يُستمع إليه لأنه ينطق بالله، وأن يُنظر إليه لأنه (من حيث ذاته وكليته) وجه الله. فأين الناس من المعاني الدينية الواضحة التي جاء بها القرآن صريحة، وجاءت بها السنة محكمة؟!...

    [هذا سلوك جوارحي يركز على الأعمال، ومحاربة البدع والشيطان، ويحذر من دنس العقيدة. والعقبات في سير الغزالي تتلخص في حب الدنيا و"الالتفات إليها"، الاقتحام قلبي أولا ثم جوارحي بعد ذلك. ونلاحظ غياب الشيخ وتوجيهه في السير الجوارحي عند ابن القيم رحمه الله. ولنا معه ومع شيخه شَيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله وقفات طويلة في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.]:

    يقارن الكاتب بين الغزالي وابن القيم مع وجود الفارق؛ وكأن الأمر جائز. هذا هو ما سميناه سابقا بالخطاب العام، الذي لا يُخاطب به إلا العوام. ثم إن الترتيب في العمل القلبي وعمل الجوارح، ليس كما يقول الكاتب ولا كما يُفهم من كلام الغزالي. ونعني أن اعتبار حال القلب عند العمل بالجوارح، لا يعني أن السبق يكون للعمل القلبي إلا بمعنى مجرد عام؛ وأما الحقيقة فهي أن إصلاح القلب يأتي بعد طاعة الجوارح؛ لأن هذه من مرتبة الإسلام حيث كانت، والأول من مرتبة الإيمان حيث كان؛ والإيمان أعلى من الإسلام أيضا حيث كانا... هكذا هو الأمر في حقيقته!...

    [إن الفطَامات الستة التي وصفها الإمام عز الدين كفٌّ وتكميم وضبط، ما في عبارة "فطم" ما يوحي بفاعلية آفاقية. والعجيب أن هذا الرجل الفذ الذي كان في عصره النجم الثاقب، تلقي صلابته في الحق وفاعليته في المجتمع الرعب في قلوب الملوك، يصف السلوك الصوفي وصفا سالبا فرديا نفسيا، كأن الفصل الذي حدث بين الساحة العامة والخلوة التعبدية أصبح ضربة لازِبٍ، وكأن الكف والفطم عملية لا تتأتى بدون عزلة واعتزال.]:

    من الكلام، يظهر أن الكاتب دون العز بن عبد السلام في الفقه؛ لأن الأمر كما فهمه العز وقبله أئمة الطريق ممن هم من طبقة شيوخه، لا كما يفهم صاحبنا الذي دخل عليه الفكر فانحرف به عن الجادة. والكاتب رغم إتيانه بابن عبد السلام على أنه عظيم من عظماء تاريخ أمتنا بحسبه، إلا أنه لا يستنكف من الحط منه إذا رأى منه ما يُخالف عقيدته السياسية. وهذا من الانتقاء الذي لا يُقبل إلا بدليل، وإلا كان الكلام بالهوى لا بالعلم.

    والأستاذ عبد السلام، منتش بذكر إلقاء الرعب في قلوب الملوك، وكأن الأمر هوى لا شرع!... لو سألنا الكاتب: من تخاطب في الملِك؟ لما أجاب إلا بما هو من طور أصحاب التوحيد العام!... وأما الخواص من المريدين من أصحاب النهاية بله من هم فوقهم، فلا يكون الأمر منهم إلا مخاطبة للحق، كما كانت مشاهدتهم مشاهدة للحق!... {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 60]!... ومن لم يكن على هذا العلم الذي نذكره، فإنه لم يشم للإحسان رائحة قط!... يا من تتكلمون عن الإحسان وتدعون إليه!... يقول ابن الفارض رضي الله عنه:
    وَقُلْ لِقَتيلِ الْحُبِّ وَفَّيْتَ حَقَّهُ *** وَلِلْمُدَّعِي هَيْهاتَ مَالكَحَلُ الكُحْلُ

    الكَحَل هو السواد الطبيعي الذي يكون في حافة الجفن، والكُحْل هو المادة التي يُصطنع بها السواد للجفن؛ والمعنى هو أن ما كان طبعا وسليقة ومقاما، لا يكون كالتصنع والتظاهر أبدا!...

    [في مستقبل الإسلام نحتاج لِقران "الفطم" الفردي الأنفسي السلوكي بالفاعلية الجهادية، ليكون السلوك الإحساني عملا مصيريا رائده الفردي عبادة الله كأننا نراه، ورائده الجماعي إتقان الأعمال الجماعية لتحقيق إسلام العدل في الأرض وعمارتها والخلافة فيها. ومن أهم العقبات في طريق الإحسانَين ترويض العقل ليكون مستسلما لله عز وجل وللنبوة، ويكون في نفس الحركة فاعلا في الكون السببي.]:

    هذا الكلام من أجهل ما قيل إلى الآن، وهو يحتوي على أغلاط وعلى مغالطات، لا بد من تبيينها:

    1. مرة أخرى يذكر الكاتب الإحسان في غير سياقه، ويجعله بداية لا غاية كما هو في الدين. وهذا يؤكد على أنه يجهله تماما. وما سماه قرانا بين الفطم الفردي والفاعلية الجهادية، هو مما لا تتحقق معه التربية أبدا، بسبب تشتت القلب من جهة، وعدم المقدرة على معاملة المخالفين مع بقاء الحجاب. فإن عمل العبد رغم هذا بما يدل عليه الكاتب من جمع، فإنه لا يضمن أن يدخل في سوء الأدب مع ربه الذي يجلب عليه المقت، وإن كان صواما قواما في الظاهر.

    2. ما يسميه الكاتب "إسلام العدل"، ليس إلا جزءا من "عدل الإسلام"، يعكس فهمه القاصر للعدل بالمعنى الشرعي، والذي ينقصه فيه اعتبار شقيه الظاهر والباطن. وهذا المعنى الذي يشير إليه، هو ما تدركه العامة، بل ويدركه الكافرون!... فأين ما يمتاز به أهل النور من فهم!... لأن العامة، لا يمكن أن يُقتدى بهم كما هو غير خاف، وهم من ينبغي أن يقتدوا بالخواص، إن كنا نريد العمل على مقتضى العلم وترتيبه؛ أم إن الأمر صار معكوسا منكوسا مع المتأخرين؟!...

    3. عمارة الأرض، حاصلة بالمؤمنين وبالكافرين؛ أم إن صاحبنا -كابن تيمية- لا يحسب للكافرين حسابا، وهم من اعتنى الله بهم عند خلقهم، وعند رزقهم، وعند إجابة دعائهم (أغلب المسلمين يظنون أن الله لا يجيب إلا دعاء المؤمنين)، وعند غضبه عليهم جراء كفرهم، وعند محاسبتهم عليه؛ بل وعند عقابهم وتعذيبهم!... أين فهم الكاتب المبتور، من قول الله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]. فـ"هؤلاء" الأولى لأهل السعادة، و"هؤلاء" الثانية لأهل الشقاء!... فلم يقول قوم بحظر مدد الله عن عباده، وهو قد أخبر صراحة بعكس ذلك!... الفرق يكون في الاختلاف الحاصل بين المدديْن فحسب، لا في المدد ذاته!... وأما من يبقى على اعتقاد انقطاع الكافرين، فليعلم أنه يقول بتعدد الآلهة من غير أن يشعر.

    4. يظهر أن الكاتب لا يفهم من الخلافة في الأرض إلا ما يفهمه الحركيون من الإخوان وأضرابهم؛ والخلافة غير ذلك!... نعني أن الله عندما نصب خليفته الأول آدم عليه السلام، لم يُخل الأرض من خليفة بعدها، ولن يخلي إلى قيام الساعة. فهل يريد الكاتب أن ينصب خليفة وضعيا من عنده، في مقابل الخليفة الإلهي؟!... فإن كان الأمر هكذا، فهو يطمع فيما لا مطمع فيه، وهو يجهل جهلا أجهل من جهل كل الجاهلين!... أما إن كان يقصد خلافة الظاهر التي تكون لهذا الخليفة المذكور بتولّيه الحكم على المسلمين، فإننا نخبره أن عدد هؤلاء اثنا عشر لا يزيدون؛ كما أخبر الخليفة الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَنْقَضِي حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً!»[3]؛ قد مضى منهم أحد عشر في سابق الزمان، ولم يبق إلا آخرهم الذي هو المهدي عليه السلام. فعن أي خلافة هو الكلام بعدُ؟!...

    5. وأما ما سماه الكاتب "إحسانيْن": إحسان الإسلام لله، وإحسان الفاعلية في الكون السببي بحسبه، فهو دليل على الشرك عندنا؛ لأن فعل العبد في العالم لا ينفصل عن إسلامه لله وتسليمه للنبوة. والاضطرار إلى تفصيل الكلام أفقيا، بدل التفريع العمودي، هو ما يدل على شرك القائل عندنا بلا شك.

    ولقد كان حريا بالكاتب تخليص نفسه من هذه الآفات، بدل الخروج بها إلى الناس وكأنها الحق من عند الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!... نسأل الله المعافاة...

    [إن الغزو الفكري الجاهلي فكك العقل المسلم تفكيكا، وركبه تركيبة وثنية، وفصله عن الوحي.]:

    يغفل الكاتب عن كونه أحد هذه العقول المفككة، التي لم تتخلص من كل تفكيكها، ولا تحقق لها الاتصال بالوحي على الكمال!...

    [وإن إعادة تركيبه في أحضان الوحي والنبوة والربانية شرط أساسي في قدرة الأمة على الجهاد.]:

    القدرة على الجهاد، أمر فرعي يتعلق به التشريع؛ وليست هي الغاية الكبرى من إعادة تركيب العقل على نور الوحي. نعني من هذا أن الكاتب، يخلط في الدين بين ما هو إجرائي وما هو غائي؛ لأن الغاية من الدين الوصول إلى معرفة رب العالمين. هذه الغاية من وراء الآفاق ومن وراء الأنفس، ذكرها الله في قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]، بعد قوله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53]. و"حتى" للغاية، كما هو معلوم من اللغة. فأين الالتزام بالوحي؟!... والمعنى هو أن الناظرين في الآفاق بحسب الأمر الشرعي، سيظهر لهم من وراء صورها الحق الذي هي به قائمة. فهذه هي شهادة الحق على كل شيء، وهي من الشهود للحق في كل شيء. ولا يتعجل أحد في نسبة كلامنا إلى القول بوحدة الوجود؛ لأننا نتكلم عن الشهود لا الوجود. ومن لا يفرق بين الأمرين، فلينصرف إلى ما يُحسن، فهو خير له!...

    [وحدات العلوم الكونية التي يتفوق علينا فيها الجاهليون وحدات مبعثرة، مجردة عن المعنى، متناقضة أحيانا، إلحادية، منكرة للنبوة، تفسر الحياة والتاريخ والنظام الكوني تفسيرا عبثيا، لا خَبَرَ عندها بسنة الله في الإنسان والتاريخ.]:

    هذا الكلام صحيح، لا يُنكر من الواقع ومن المشاهدة!... ومن علم أن كل علوم أهل الكفر، هي من ظاهر العلم بالدنيا، اطمأن ولم يفتتن بها. وهذا هو مدلول قول الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]. ولو عمل المسلمون على ما تعطيه هذه الآية، لما ضل شطر منهم، جعلوا الغايات الكونية أعلى في المرتبة من الغاية الدينية؛ حتى إن بعضهم يأتي على ذكر أئمة تلك العلوم فوق منبر الخطابة في المسجد، بتعظيم يتساءل المرء حياله: هل أصبح "العلم" الكوني مغنيا عن الدين؟!... بل سمعنا أحدهم يجزم بدخول "باستور" عالم الأحياء الدقيقة الفرنسي إلى الجنة، لكونه -بحسب القائل- أحيى باكتشافه طريقة الوقاية من الأمراض أنفسا كثيرة، وأن الله قد أثنى على من أحيى نفسا واحدة في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. فما هذا العمى وما هذا الانبهار بالكفار!... على الناس أن يعلموا أنه لولا جامع يجمع المادح والممدوح، ومشترَك يشتركان فيه معا، ما صح المدح ولا صحت الإشادة!... فما أبعد هؤلاء المسلمين عن دينهم وعن منطقه وترتيبه للأمور. وكيف يكون أمثال هؤلاء ممن يعودون بالناس إلى صحيح التديّن والإشارة منهم واضحة إلى الكفر!... وحقيق بالسلطة لو كانت تعمل للدين، أن تمنع أمثال هؤلاء من اعتلاء المنابر. فالجهلة من مقلدة الفقهاء، أقل ضررا منهم من غير شك!...

    [بداية التركيب العقلي للمسلمين البداية الصحيحة ينطلق من صلة العقل بالقلب لنكون من أولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا ويتفكرون تفكُّر الإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر والقدر خيره وشره.]:

    هذا الكلام جهل بيّن، لأن التفكر لا يتعلق بالله ورسله واليوم الآخر والقدر؛ بل إن الإيمان بهذه الأركان يكون عن غيب، إذا جاء مدد الهداية من رب العالمين. فإذا انضاف مدد هداية الترقية، فهو ما يجعل العبد يترقى من مرتبة الإسلام إلى مرتبة الإيمان؛ لا التفكر العقلاني. وأما التفكر، فيخرج بصاحبه إلى طريق جانبي، هو طريق المبتدعة من أهل الكلام؛ الذين لم يزيدوا الأمة بكلامهم إلا رهقا. نعني أن الاشتغال بالفكر الكلامي، سيضعف إسلام المرء بدل أن يقوي إيمانه؛ وهذا كله عكسٌ لطريق الدين، وإدخالٌ لما ليس منه عليه.

    [هذا الذكر وهذا الإيمان مركز ومحور لكل أنشطة العقل وجزئيات العلوم، يلتزم العقل توجيه الوحي، ويبقى العقل خادما لأوامر القلب المفعم بحب الله، القائم بحق الله، الفاعل بإرادة قوية لا تتنكر لقدر الله، ولا تحيد عن مقتضى سنة الله.]:

    هذا الكلام وعظي، لا قيمة له في العلم. ولقد كان يجدر بالكاتب قبله، أن يعرّف العقل والقلب تعريفا يجعل القارئ يميّز بينهما تمييزا عقليا لا لفظيا فحسب. سبحان الله!... أصبح الوعاظ أدلاء في الطريق!...

    [يجب أن نصل شرايين العقل بواردات القلب ليتمكن العقل المسلم من كل أنواع القدرة العلمية والتكنولوجية والخبرة التنظيمية في كل المجالات دون أن يتنازل عن استقامته الفطرية.]:

    التقدم التكنولوجي والصناعي والخبرة التنظيمية، كلها تدخل فيما يعلمه أهل الكفر من ظاهر الدنيا الذي أشرنا إليه سابقا، من قول الله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6، 7]. وهذا يعني بوضوح، أن تلك العلوم هي علوم الجاهلين الذين لا يعلمون، لا علوم العلماء بالمعنى القرآني؛ لأن "العلم" الحق الذي يدل الله عباده عليه، هو العلم به سبحانه. ومتى كان للعلم معلوم سوى الله!... وإن أقصى ما يصل إليه الواحد من علماء ظاهر الدنيا، مما يبدو أنه تصرف في الأكوان، لا يبلغ أقل ما يكون للربانيين، الذين تنفعل لإرادتهم الأكوان بإذن ربهم، وهم على أسرّتهم.

    [إنَّ الذي يحدث عند كثيرين من الكتبة عن الإسلام هو استعمال اللغة العقلانية الثقافية، من خلال عباراتهم البعيدة عن القرآن وبيان القرآن. لا ترشُح من أقلامهم إلا أفكار سطحية مادية اصطبغت على أصلها "الحضاري الثقافي العقلاني" بصبغة إسلامية شفافة. إنه تلوث وتحد أمام الربانية لتعيد العقل المسلم إلى نصابه، ليتأصل هذا العقل في القرآن والنبوة والربانية، ثم ينصرف إلى مهماته بمنهاج قُرْآني يستقطب العلوم ويستكمل القوة، لا تستقطبه العقلانية فيصبح خادما في حانوت "الحضارة" يقترح البدائل، وهم عن الآخرة هم غافلون. عقبات!]:

    ما يرمي به الكاتب المثقفين من المسلمين، لا يسلم منه هو أيضا؛ وإن كان أقرب من غيره إلى الحق، من جهة إدراكه للعموميات، ولصواب بعض عباراته من جهة الظاهر. لكن العموميات لا تكفي لأن تجعل العبد ربانيا، ولا إماما يصلح أن يُقتدى به في الدين!... والربانية -على ما يكون في زمنها من انحطاط- هي الربانية؛ لا يتغير عليها شيء، ولا ينقص من قدرها الانحطاط العام. وهل من يكون الله مشهوده يختلف عليه الأمر بظهور صورة واختفاء أخرى!... إن الكلام عن الربانية بهذه الطريقة، يدل على مكانة القائل التي هي دونها حتما. ويبقى السمُوّ لأهله حيثما كانوا من الزمان ومن المكان، رضي الله عنهم!...

    [قال الصوفي المفعم الفؤاد بحب الله ورسوله، المقرح القلب شوقا:

    أُقَلـِّلُ ما بي فيــك وهْـوَ كثـيـر *** وأزجُر دمعي فيك وهو غزير
    وعندي دموع لو بكَـيْـت ببعضهـا *** لفـاضَت بحـــور بعدهن بحور
    قبور الورى تحت التراب وللهوى *** رجال لهم تحت الثيــاب قـبـور
    سـأبكي بأجـفـان عليك قــريـحـةٍ *** وأرنو بألحـاظ إليـك تـشــيــر]:


    هذا الشعر كسابقه يليق بحال المريدين، الذين ما زالوا على شرك (أصغر) في أمورهم!...

    [وقلت غفر الله لي وَلوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب:

    وَأرنو بألحــــاظٍ إليك مشــــوقـَة *** أُحــدِّقُ في الآفـــاق أيـن أســــيرُ؟
    فَيَرْتَدُّ طرفي حاسرا متحـســراً *** وَيَنْقَضُّ صَـــرْح العزم وهْوَ كَسيرُ
    تراءى لنا هول الطريق مهــــدِّدا *** فيـــا رب أيـِّــدنا فأنـــت مُجــــيرُ]:


    هذا الشعر أيضا، ليس فيه رائحة وصول!... وهو أقل في المرتبة من سابقه!...

    أما العقبة التي يتعلق بها عنوان هذا الجزء، فلم يبرزها الكاتب كما ينبغي؛ واكتفى بالحوْم حولها على عادته في تناول المسائل؛ بل إنه قد زاد في كثافة معناها، بما وصفه من وسائل اقتحامها التي لم تكن كلها شرعية. وبهذا، فإن اقتحام العقبة سيكون مخالفا للاقتحام الذي حض عليه الشرع في المراتب الثلاث الوهمية: الأفعال والصفات والذات. وإن كان الأستاذ قد اختلط عليه الأمر وهو بعد يتكلم في مرتبة الأفعال، فما القول إن هو تناول الصفات والذات!... غفر الله لنا وله، وجنبنا بفضله الكلام عنه بغير علم؛ إنه ولينا ومولانا. «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.»[4]؛ {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ . وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182].


    [1] . متفق عليه، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
    [2] . متفق عليه.
    [3] . أخرجه مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه.
    [4] . أخرجه مسلم عن عائشة عليها السلام.

      الوقت/التاريخ الآن هو 23/9/2024, 19:35