الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء 22
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 319 “
أأضغاث أحلام أبشرى منامة * أنطق زمان كان في نطقه سعدي
لعلّ الذي ساق الأماني يسوقها * إليّ فيهدي روضها إلى جنا الورد
خبر إسحاق بن طلحة بن عبيد اللّه مع خرقة بنت النعمان بن المنذر
روينا من حديث الحميدي قال : حدثنا الحسن بن محمد بن إبراهيم ، نبأ محمد بن أحمد بن زيد الأصغر ، نبأ علي بن حرملة التميمي قاضي واسط ، عن مالك بن معوّل ، عن الشعبي ، عن إسحاق بن طلحة بن عبيد اللّه قال :
دخلت على خرقة بنت النعمان بن المنذر ، وقد ترهّبت في دير لها بالحيرة وهي في ثلاثين جارية لم ير مثل حسنهن قط .
قلت : يا خرقة ، كيف رأيت في الدنيا غيرات الملك ؟ قالت : ما نحن فيه اليوم خير مما كنا أمس .
إنا نجد في الكتب أنه ليس من أهل بيت يعيشون في حبرة إلا سيعقبون بعدها غبرة .
وإن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بطّن لهم بيوم يكرهونه .
وإن على أبواب السلطان كإخوان الإبل من الفتن ، من أصاب من دنياهم شيئا أصابوا من دينه مثليه ، وقد قلت في ذلك شيئا ، فقلت : ما هو ؟ فقالت :
بينا نسوس الناس والأمر أمرنا * إذا نحن منهم سوقة نتنصّف
فأفّ لدنيا لا يدوم سرورها * تقلّب تارات بنا وتصرف
وبه إلى محمد بن جعفر بن سهل قال : نبأ علي بن داود القنطري قال : نبأ يحيى بن بكير ، نبأ يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن مطلب بن عبد اللّه بن حنطب ، عن أبي هريرة قال :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن داود عليه السلام كان فيه غيرة شديدة ، وكان إذا خرج أغلق الأبواب ، فأطلعت يوما امرأته إلى الدار فإذا برجل وسط الدار ، فقالت : من أين دخل هذا ؟
واللّه لنفضحنّ عند داود . فلما جاء داود قال له : من أنت ؟ قال : أنا الذي لا يهاب الملوك ولا يمتنع بمنع الحجاب . فقال : واللّه أنت أمين اللّه ملك الموت . فقبض روحه في موضعه .
وطلعت عليه الشمس ، فأمر سليمان عليه السلام الطير أن تضله بأجنحتها ، ففعلت ، فأظلمت عليهم الأرض فأمرها أن تقبض جناحا جناحا » .
قال أبو هريرة : يرينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كيف فعلت الطير ؟ قال : « وغابت يومئذ النسور » .
“ 320 “
خبر عبد الواحد بن زيد مع الراهب
روينا من حديث ابن ثابت قال : انا الحسن بن أحمد بن إبراهيم الدورقي ، نبأ جعفر بن محمد بن أحمد المؤدب ، نبأ محمد بن يونس نبأ شداد بن علي ، نبأ عبد الواحد بن زيد قال :
مررت براهب فناديته : يا راهب من تعبد ؟ قال : الذي خلقني وخلقك ، فقلت :
أعظيم هو ؟ قال : عظيم المنزلة ، جاوزت عظمته كل شيء . قلت : فمتى يذوق العبد الأنس باللّه ؟ قال : إذا صفا الود حصلت المعاملة . قلت : فمتى يصفو الود ؟ قال : إذا اجتمع الهمّ فصار في الطاعة . قلت : متى تخلص المعاملة ؟ قال : إذا كان الهمّ همّا واحدا . قلت : كيف تحليت بالوحدة ؟ قال : لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك . قلت : ما أكثر ما يجد العبد من الوحدة ؟ قال : الراحة من مداراة الناس ، والسلامة من شرّهم . قلت : فما يستعان على قلة المطعم ؟ قال : بالتحري في المكسب والنظرة في الكسرة . قلت : زدني .
قال : كل حلالا ، وارقد حيث شئت . قلت : فأين طريق الراحة ؟ قال : خلاف الهوف .
قلت : ومتى يجد العبد الراحة ؟ قال : إذا وضع قدمه في الجنة . قلت : لم تخلّيت عن الدنيا وتعلّقت في هذه الصومعة ؟ قال : لأنه من مشى على الأرض عثر وخاف اللصوص ، فتعلقت فيها ، وتحصّنت بمن في السماء من فتنة أهل الأرض لأنهم سرّاق العقول ، فخفت أن يسرقوا عقلي ، وذلك أن القلب إذا صفا ضاقت عليه الأرض وأحبّ قرب السماء ، وفكّر في قرب الأجل ، فأحبّ أن يرتحل إلى ربه . قلت : يا راهب من أين تأكل ؟ قال : من زرع لم أبذره ، بذره اللطيف الخبير الذي نصب الرحا يأتيها بالطحين ، وأشار إلى ضرسه .
قلت : كيف ترى حالك ؟ قال : كيف يكون حال من أراد سفرا بلا أهبة ، ويسكن قبرا بلا مؤنس ، ويقف بين يدي حكم عدل ؟ ثم أرسل عينيه فبكى .
قلت : وما يبكيك ؟ قال : ذكرت أياما مضت من أجلي لم أحقق فيها عملي ، وفكرت في قلة الزاد ، وفي عقبة هبوط إلى الجنة أو إلى النار . قلت : يا راهب بم يستجلب الحزن ؟
قال : بطول الغربة ، وليس الغريب من مشى من بلد إلى بلد ، ولكن الغريب صالح بين الفسّاق . ثم قال : إن سرعة الاستغفار توبة الكذابين ، لو علم اللسان ممّ يستغفر اللّه لجفّ في الحنك . إن الدنيا منذ يوم ساكنها الموت ما قرّت لها عين ، كلما تزوّجت الدنيا زوجا طلّقها الموت ، والدنيا من الموت طالق ، لم تقرّ عينها ، فمثلها كمثل الحية ، ليّن مسّها والسم في جوفها . ثم قال الراهب : يا هذا ، كما لا يجوز الزيف من الدراهم ، كذلك لا تجوز لا إله إلا اللّه إلا بنور الإخلاص ، إن الفضة السوداء لتزخرف بالفضة البيضاء . ثم
“ 321 “
قال : عند تصحيح الضمائر يغفر اللّه الكبائر ، فإذا عزم العبد على ترك الآثام أتته من السماء الفتوح والدعاء المستجاب الذي تحرّكه الأحزان .
قلت : فأكون معك يا راهب وأقيم عندك ؟ قال : ما أصنع بك ومعي معطي الأرزاق ، وقابض الأرواح ، يسوق إليّ الرزق في كل وقت ، لم يكلفني جمعه ، ولم يقدر على ذلك أحد غيره .
وروينا أيضا من حديث ابن ثابت قال : انا علي بن أحمد الرزاز ، نبأ أبو بكر محمد بن الحسن بن زياد النقاش ، نبأ محمد بن يحيى ، حدثني جعفر بن أبي جعفر الرازي ، قال :
كتب إبراهيم بن أدهم إلى أخ له :
بسم اللّه الرحمن الرحيم .
أما بعد ، فإني أوصيك بتقوى من لا تحلّ معصيته ، ولا يرجى غيره ، ولا يدرك الغنى إلا به . من استغنى به عزّ وشبع وروي ، وانتقل عندما أبصر قلبه عما أبصرت عيناه من زهرة الدنيا ، فتركها وجانب شبهها ، فرضي بالحلال الصافي منها ، إلا ما لا بد له منه من كسرة يشدّ بها صلبه ، وثوب يواري به عورته ، أغلظ ما يجد وأخشنه .
وروينا من حديثه أيضا قال : حدثنا محمد بن عمر العكبري ، انا علي بن الفرج بن روح ، نبأ عبد اللّه بن محمد بن أبي الدنيا ، نبأ الحسين بن عبد الرحمن قال : كتب بعض الحكماء إلى أخ له :
أما بعد ، فاجعل القنوع ذخرا تبلغ به ، إلى أن يفتح لك باب يحسن لك الدخول فيه .
فإن الثقة مع القانع لا تخذل ، وعون الإله مع ذوي الإناءة . وما أقرب الصنع مع الملهوف .
وربما كان الفقر نوعا من آداب اللّه ، وخيرة في العواقب . والحظوظ ثمرات ، فلا تعجل على ثمرة لم تدرك ، فإنك تدركها في أوانها غدية . والمدبر لك أعلم بالوقت الذي يصلح فيه لما تؤمّل ، فثق بخيرته لك في الأمور كلها والسلام .
ومن حديثه أيضا في روايتنا قال : نبأ محمد بن عبد الملك بن بشران ، انا دعلج بن أحمد ، نبأ أبو الحسن محمد بن أحمد بن هارون العدوي ، نبأ عمرو بن الحباب ، نبأ يعلى بن الأشدق ، نبأ عبد اللّه بن جرادة ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « ليس الأعمى من عمي بصره ، ولكن الأعمى من تعمى بصيرته » .
وروينا أيضا من حديثه قال : نبأ الحسين بن عمر بن برهان ، نبأ عبد الباقي بن نافع ،
“ 322 “
نبأ بشر بن موسى ، نبأ عبيد اللّه بن صالح ، قال : كتب رجل إلى محمد بن السمّاك : صف لي الدنيا . فكتب إليه :
أما بعد ، فإن اللّه حفّها بالشهوات ، ثم ملأها بالآفات . مزج حلالها بالرزيات ، وحرامها بالتبعات . فحلالها حساب ، وحرامها عذاب .
شعر
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت * له عن عدوّ في ثياب صديق
روينا من حديث الخرائطي قال : نبأ حماد بن الحسن بن عنبسة الوراق ، نبأ سيار بن حاتم الغنوي ، نبأ جعفر بن سليمان الضبعي ، نبأ هشام الدستوائي ، قال : بلغني في خطبة عيسى عليه السلام : تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير العمل ، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل . ويلكم علماء السوء ، الأجر تأخذون والعمل تضيّعون .
يوشك رب العلم أن يطلب علمه ، ويوشك أن تخرجوا من الدنيا إلى ظلمة القبر وضيقه .
ولنا في القبر والتحريض على الغرس عليه :
مرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على قبرين فقال : « إنهما ليعذّبان ، وما يعذّبان في كبير . أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة ، وأما الآخر فكان لا يستتر من البول » . ثم دعا بقضيب رطب فشقّه اثنين ، وغرس على كل قبر منهما واحدا ، وقال : « إنه ليخفّف عنهما ما لم ييبسا » .
في القبر أسرار يراها الذي * عنه غطاء الحسن مكشوف
فاذكروا فإن كل امرئ * بفعله في القبر مصروف
هذا الذي أذكره عندنا * وعند أهل الكشف معروف
عاينت قوما عذبوا في الصدا * كان لهم نقص وتطفيف
فهل لغصن البان من غارس * بقبرهم ففيه تخفيف
ما دام رطبا يانعا أخضرا * ولم يقم بالغصن تجفيف
تأسيا فإنه لم يقل * بأنه عليه موقوف
وفي تأسّينا به عصمة * منجية منه وتشريف
ولنا في قوله تعالى : فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ :
من آمن المكر من اللّه * فأمنه المكر من اللّه
هذا الذي يأمن من مكره * هل جاءه وحي من اللّه
“ 323 “
كيف له بالأمن من مكره * جراءة منه على اللّه
هذاك جبريل على قربه * لا يأمن المكر من اللّه
فلذ بجنب اللّه واسترعه * وارجع إلى اللّه من اللّه
فالصادق المصدوق عبد أتى * بكله شوقا إلى اللّه
روينا من حديث القشيري رحمه اللّه قال : لما ظهر إبليس على ما ظهر ، طفق جبريل وميكائيل عليهما السلام يبكيان زمانا طويلا ، فأوحى اللّه تعالى إليهما : ما لكما تبكيان كل هذا البكاء ؟ فقالا : يا رب ، لا نأمن من مكرك . فقال اللّه تعالى : هكذا كونا لا تأمنا مكري .
كنت ببغداد في سنة ثمان وستمائة ، فرأيت في النوم ليلة الحادي عشر من رمضان قد فتحت أبواب السماء وفتحت خزائن المكر ، ونادى مناد : ما ذا أنزل الليلة من مكر اللّه ؟
فاستيقظت فزعا مما رأيت .
زيادة عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في مسجد المدينة
روينا من حديث الواسطي هو ابن عبيد اللّه قال : نبأ عيسى ، أخبرني علي بن جعفر ، نبأ محمد بن إبراهيم ، نبأ محمد بن النعمان ، نبأ عبد اللّه بن الزبير الحميدي ، نبأ سفيان بن بشر بن عاصم ، أنه سمع سعيد بن المسيّب يحدّث أنه سمع كعبا قال :
كان للعباس دار ، فلما أراد عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أن يوسّع مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذ منه الدار ، فقال : ليس إلى ذلك سبيل ، أو اجعل بيني وبينك رجلا ، فجعل بينهما أبيّ بن كعب ، فقال أبيّ : إنه لما أمر سليمان عليه السلام ببناء بيت المقدس ، وكانت أرضه لرجل ، فأخذها منه سليمان عليه السلام ، فقال له الرجل : الذي أخذت منك خير أم الذي أعطيتني ؟ قال : بل الذي أخذت منك ، فقال له : إني لا أجير البيع ، حتى اشتراها منه بحكمه على أن لا يسأله كثيرا ، فسأله شيئا كثيرا ، فتخاصم هو وسليمان في ذلك إلى ربه عز وجل ، فأوحى اللّه إليه : إن كنت إنما تعطيه من عندنا فاعطه حتى يرضى ، فرضي العباس ، وقال : أما إذا كان ذلك كذلك فإني قد جعلتها صدقة مني للمسجد على المسلمين .
تذكرة نبوية باجتناب صفات دنيّة
روينا من حديث الخرائطي قال : حدثنا أبو قلابة البصري عبد الملك بن محمد بن
“ 324 “
عبد اللّه ، نبأ عبد الصمد بن عبد الوارث ، نبأ هاشم الكوفي ، نبأ زيد الخثعمي ، عن أسماء بنت عميس الخثعمية قالت :
سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « بئس العبد عبد تخيّل واختال ، ونسي الكبير المتعال .
بئس العبد عبد سها ولها ، ونسي المقابر والبلا . بئس العبد عبد بغى وعنا ، ونسي المبتدأ والمنتهى . بئس العبد عبد يخيّل الدين بالشبهات . بئس العبد عبد طمع يقوده . بئس العبد عبد هوى يضله » .
روينا من حديث الحميدي قال : نبأ الحناي ، عن ابن أبي الحديد ، عن أبي بكر ، عن أبي موسى قال : قال أبو حازم :
من اعتدل يوماه فهو مغبوط ، ومن غده شر يوميه فهو محروم . ومن لم ير الزيادة في نفسه كان في نقصان ، ومن كان في نقصان فالموت خير له . ومن كان غده أحسن يوميه ويومه أحسن من أمسه ، فهو رابح معنى به .
روينا من حديث الخرائطي قال : نبأ أحمد بن نبيل الأيامي ، نبأ أبو معاوية الضرير ، نبأ داود بن هند ، عن الشعبي قال :
لما طعن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه جاء العباس فقال : يا أمير المؤمنين ، أسلمت حين كفر الناس ، وجاهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين خذله الناس ، وقتلت شهيدا ، ولم يختلف عليك اثنان ، وتوفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو عنك راض . فقال له : أعد عليّ ، فأعاد عليه . فقال : المغرور من غررتموه ، واللّه لو أن لي ما طلعت عليه الشمس أو غربت ، لافتديت به من هول المطلع .
روينا من حديث الحميدي قال : حدثنا محمد بن إبراهيم ، عن محمد بن أحمد ، عن محمد بن جعفر ، نبأ إبراهيم بن الهيثم البلدي ، نبأ آدم بن أبي أياس ، نبأ شعبة ، عن عاصم بن عبيد اللّه ، عن سالم بن عبد اللّه ، عن أبيه قال :
كان رأس عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه على فخذي في موضعه الذي مات فيه ، فقال : ضع رأسي على الأرض ، فقلت : ما عليك كان على الأرض أو على فخذي ؟ فقال :
لا أمّ لك ، ضعه على الأرض ، فوضعته على الأرض ، فقال : ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي .
قرأت على أبي ذرّ الخشني لأبي عمرو البجلي في الأمالي لأبي علي القالي :
تمتع من شميم عرار نجد * فما بعد العشية من عرار
“ 325 “
ألا يا حيّذا نفحات نجد * وريا روضه غبّ القطار
وعيشك أن يحل القوم نجدا * وأنت على زمانك غير زار
شهور تنقضين وما علمنا * بإنصاف لهن ولا سدار
فأما ليلهنّ فخير ليل * وأفضل ما يكون من النهار
وأنشدنا أبو بكر بن خلف بن صاف اللخمي رحمه اللّه للطائي :
كم منزل في الأرض يألفه الفتى * وحنينه أبدا لأول منزل
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى * ما الحبّ إلا للحبيب الأول
ومما نظمته الأسواق بلسان الاشتياق قولنا في نظام الحسن عين الشمس بهاء الجمال :
يا حبذا سرحة الوادي وبانته * وحبذا زهر بالروض بسّام
أهدى النسيم لنا من عرفة خبرا * إن النسيم إذا ما هبّ نمّام
بكلّ فنّ من الألحان ناطقة * أطياره طربا والسرب نوّام
وفي ترجعها بالصوت لو علمت * للمستهام بعين الشمس أعلام
إن الهوى عجمة لا يستطاع له * حدّ ولكن له في النفس أحكام
منها النحول ومنها عبرة وجوى * ورقة وصبابات وتهيام
وما له آخر تحيي النفوس به * لأن أوله موت وأعدام
فإن تمادى الهوى بالحب أضعفه * كما يضعّفه قرب وإلمام
ومما قيل فيمن عشق فعفّ
وقد روينا فيه حديثا حسنا ، حدثناه محمد بن قاسم ، قال : حدثنا أبو طاهر محمد بن أحمد السلفي الأصبهاني ، ولا أذكر الإسناد ، سند الحافظ السلفي إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فإن وجدته سألحقه بالطرّة ، أو رحم اللّه عبدا عرفه فألحقه من طريق السلفي على هذا الحديث في كتابي هذا .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من عشق فعفّ ومات ، مات شهيدا » .
حدثنا إسماعيل بن محمد قال : حدثني نصر بن أبي الفرج ، عن علي الحصري ، أنا أبو القاسم ، انا أبي ثابت بن بندار ، أنا أبو عبد اللّه بن أحمد بن عثمان أبو القمر الصيرفي ، أنا أبو بكر بن شادان ، أنبأ أبو عبد اللّه إبراهيم بن محمد بن عرفة ، قال :
“ 326 “
دخلت على محمد بن داود في مرضه الذي مات فيه ، فقلت له : ما بك يا سيدي ؟
قال : حب من تعلم أورثني ما ترى ، يعني ابن جامع الصيدلاني .
قلت : فما منعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه ؟
فقال : الاستمتاع على وجهين : أحدهما النظر المباح والثاني اللذة المحظورة ، فأما النظر المباح فأورثني ما ترى ، وأما اللذة المحظورة فيمنعني ما حدثني أبي ، عن سويد بن سعيد ، عن علي بن مسهر ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « من عشق فكتم وعفّ وصبر ، غفر اللّه له وأدخله الجنة » .
قال : أنشدني لنفسه :
ما لهم أنكروا سوادا بخدّي * ه ولا ينكرون ورد الغصون
إن يكن عيب خدّه مدد الشع * ر فعيب العيون شعر الجفون
فقلت : قلبت القياس في الفقه وأثبته في الشعر ، فقال : غلبة الهوى وملكة النفوس دعتنا إلى ذلك .
أنشدنا ابن طباطبا العلوي في هذا الباب لنفسه رحمه اللّه :
إن عاد قلبي في الهوى وله * ولقيت عذالي بما كرهوا
أو كان شعري مودعا غزلا * أخفيته ورعا وأظهره
واللّه يعلم ما أتيت خنا * إن كثر العذال أو سفهوا
ما ذا يعيب الناس من رجل * خلص العفاف من الأنام له
إن همّ في حلم بفاحشة * زجرته همّته فينتبه
يقظانه ومنامه شرع * كلّ بكل منه مشتبه
وقال الآخر :
كم قد ظفرت بمن أهوى فيمنعني * منه الحياء وخوف اللّه والحذر
أهوى الملاح وأهوى أن أجالسهم * وليس لي في حرام منهم وطر
كذلك الحبّ لا إتيان معصية * لا خير في لذّة من بعدها كدر
ومن الأخبار النبوية
ما رويناه من حديث آصف بن زيد بن أحمد ، انا ميمون بن محمد ، أنا أبو شجاع محمد بن حمزة العلوي ، أنا أبو الطيب طاهر بن الحسين المطوعي ، انا أحمد بن علي
“ 327 “
السعداني ، نبأ محمد بن محمد المؤذن ، نبأ حامد بن سهل ، نبأ عبد اللّه بن زياد الحارثي ، نبأ سيار بن حاتم أبو سلمة العمري ، نبأ أبو عاصم العبداني ، نبأ أبو الفضل الرقاشي ، نبأ محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه ، قال :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « قال لي جبريل عليه السلام : إن اللّه تعالى يخاطبني يوم القيامة يقول لي : يا جبريل ، ما لي أرى فلانا في صفوف أهل النار ؟ قال : فأقول : يا رب ، إنّا لم نجد له حسنة يعود بها عليه خير اليوم . قال : يقول اللّه تعالى : إني سمعته يقول في الدنيا : يا حنّان يا منّان ، فائته فاسأله ما ذا عنى بقوله : يا حنّان يا منّان ؟ فآتيه فأسأله فيقول : هل من حنّان منّان غير اللّه ؟ فآخذ بيده من صفوف أهل النار فأدخله صفوف أهل الجنة » .
روينا من حديث مرفوع إلى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من أطعم أخا له من جوعة أطعمه اللّه عز وجل من ثمر الجنة ، ومن سقاه من ظمأ سقاه اللّه من الرحيق المختوم ، ومن كساه من عراء كساه اللّه عز وجل من خضر الجنة . ولم يزل في حرز اللّه وجواره وكنفه ما بقي عليه منه شيء » .
وروينا من حديث البرقي أبي عبد اللّه محمد بن محمد ، نبأ أبو عبد اللّه محمد بن أبي بكر الوراق ، نبأ خلف بن محمد ، نبأ أحمد بن حاتم نبأ ابن أبي كرامة الخير بن النضر ، انا عيسى بن موسى ، عن أبي حمزة ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه ، قال : قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما الزهد في الدنيا ؟ قال : « أن تحب ما يحب خالقك ، وأن تبغض ما أبغض خالقك ، وأن تتحرّج من حلال الدنيا كما تتحرّج من حرامها ، فإن حلالها حساب وحرامها عقاب ، وأن ترحم جميع المسلمين كما ترحم نفسك ، وأن تتحرّج من الكلام فيما لا يعنيك كما تتحرّج من الحرام ، وأن تتحرّج من كثرة الأكل كما تتحرّج من الميتة » .
ومن محاسن الكلام
من جهل المرء أن يعصي ربه في طاعة هواه ، ويهين نفسه في إكرام الدنيا ، وهو من هواه في ضلال ومن دنياه في زوال . أيام الدهر ثلاثة : يوم مضى لا يعود إليك ، ويوم أنت فيه لا يدوم عليك ، ويوم مستقبل لا تدري ما حاله وما أهله ، فتعرّ من أمسك الماضي ، وتزوّد من يومك الفاني لغدك الآتي . كل يوم يسوق إلى غده ، وكل امرئ مأخوذ بجناية لسانه ويده . خير عملك ما استصلحت به يومك ، وشرّه ما استفسدت به قومك . الحذر خير من الهدر ، لأن الحذر يضعف الحجة والهدر يتلف المهجة . إياك والهدر فإن بكثرة
“ 328 “
الكلام يزلّ اللسان ويمل الإخوان ويبرم الجليس ويسأم الأنيس ، فأقلل المقال وتوقّ الآمال . من أفرط في المقال زلّ ، ومن استخفّ بالرجال ذلّ . من قلّ كلامه بطن عيبه ومن كثر احترامه حسن غيبه ، فاقتصر من كلامك على اليسير وخذ في احترامك عن التقصير ، تستر عنك العيوب وتجمع على محبتك القلوب . من قبل توقّيه كثرت مساويه .
من حسنت مساعيه طابت مراعيه . من حسن الاختيار الإحسان إلى الاختيار . ما عزّ من ذلّ جيرانه ، وما سعد من شقى إخوانه .
إذا شرف الخلق لطف النطق . إذا كرمت السجية حسنت الطوية . من أعز فلسه أذلّ نفسه . حسن اللقاء يولد حسن الإخاء .
من كرم حلم ، ومن لطف شرف . عادة الكفران تقطع مادة الإحسان . المطل شر المنعين ، والباس أحد النجحين . من لم يشكر الإحسان لم يعدم الحرمان .
جهل يضعف حجتك خير من علم يتلف مهجتك ، فتحصّن بالجهل إذا نفع كما يتحصّن بالعلم إذا نفع . من قال ما لا ينبغي سمع ما لا يشتهي .
قصّر كلامك تسلم وأطل احتشامك تكرم . من قال بلا احترام أجيب بلا احتشام . من نكر الخطاب أنكر الجواب .
من لم يحمل قيلا لم يسمع جميلا ، فلا تقولنّ ما يسوؤك جوابه ويضرك معابه .
لكل قول جواب ولكل فعل ثواب ، فلا تقولنّ مرّا تفعلنّ شرّا ، ولا تعوّدنّ نفسك إلا ما يكتب لك أجره ويحسن عنك نشره . لا تحاجّ سلطانك ولا تلاحّ إخوانك ، فمن حاجّ سلطانه قهر ومن لاح إخوانه هجر . إياك ومحاجّة من يفنيك قهره وينفذ فيك أمره . اعقل لسانك إلا عن حق توضحه ، أو باطل تدحضه ، أو حكمة تنشرها ، أو نعمة تشكرها .
إياك وما توحش به حرّا أو تطلب له عذرا ، فمن أوحش الأحرار زهد في عشرته ومن أكثر الاعتذار شك في عذرته .
ومن باب من لم تلحظه العيون لفقره وهو جمّ الفضائل
ما رويناه من حديث ابن ثابت قال : انا علي بن أحمد بن محمد المقري ، وعبد الملك بن مجهد بن عبد اللّه بن بشران ، نبأ محمد بن الحسين الآجريّ بمكة قال : نبأ بعض أصحابنا عن أبي الفضل الشكلي قال :
رأيت شابّا في بعض الطريق عليه خلق ، فكأني لم أحفل به ، فالتفت إليّ وقال :
لا تنب عني بأن ترى خلقي * فإنما الدّود داخل الصّدف
علمي جديد وملبسي خلق * ومنتهى اللبس منتهى العلف
“ 329 “
ومن باب عز النفس بالغنى باللّه
ما رويناه من حديث ابن ثابت قال : انا عبد الرحمن بن النيسابوري ، انا محمد بن عبد اللّه بن شادان ، قال : سمعت يوسف بن الحسين يقول : سمعت ذا النون يقول : بينا أنا سائر في بعض الطرق ، فإذا فتى حسن الثياب ، حسن الوجه ، أثر التهجّد بين عينيه .
فقلت : حبيبي ، من أين أقبلت ؟ قال : من عنده .
فقلت : وإلى أين ؟ قال : إلى عنده . قال : فعرضت عليه النفقة ، فنظر إلي مغضبا ثم ولّى عني . وأنشأ يقول :
وكافر باللّه أمواله * تزداد أضعافا على كفره
ومؤمن ليس له درهم * يزداد إيمانا على فقره
لا خير فيمن لم يكن عاقلا * يمدّ رجليه على قدره
وأنشد ابن ثابت في روايتنا ، قال : أخبرني علي بن أحمد بن حفص الغازي ، قال :
أنشدنا أبو بكر محمد بن الحسين بمكة ، قال : أنشدني أبو بكر عبد اللّه بن حميد المؤدب :
ربّ ذي طمرين قد صا * ن من العالم سرّه
لا يرى إلا غنيا * وهو لا يملك ذرّه
ثم لو أقسم في شيء * على اللّه أبرّه
وأنشد في غير هذه الرواية من هذا الشعر بيتا رابعا في أوله وهو :
ربّ ذي طمرين فينا * يأمن العالم شرّه
ثم ساق الأبيات الثلاثة كما ذكرناها.
ومن باب كم من استغفار يحتاج إلى استغفار
روينا من حديث ابن ثابت قال : نبأ أبو الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس ، انا محمد بن أحمد بن الورّاق ، سمعت عبد اللّه بن سهل الرازي ، سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول : كم من مستغفر ممقوت وساكت مرحوم . قال يحيى : هذا استغفر اللّه وقلبه فاجر ، وهذا سكت وقلبه ذاكر .
سمعت بعض مشايخنا بقرطبة يقول : وقد حضر معنا متقشف ، رأى منه الشيخ ما لم نر ، وعرف منه ما لم نعرف ، الضمير الضمير ، ما هو بلباس الخلقان وخبز الشعير .
“ 330 “
ومن الحكمة النافعة والألفاظ الجامعة
جود الرجل يحبّبه إلى أضداده ، وبخله يبغّضه إلى أولاده . ونسيان البرّ يؤدي إلى حطّ الشكر . من منع برّه طوى شكره . لا تسيء إلى من أحسن إليك ، ولا تعن على من أنعم عليك . من أساء إلى المحسن منع الإحسان ، ومن أعان على المنعم سلب الإمكان . ومن وفى لك فقد قضى حق الإسلام واستحق الإنعام . من جحد النعمى فقد الحسنى .
ما أقبح منع الإحسان مع حسن الإمكان . إذا أذنبت فاعتذر وإذا أذنب إليك فاغتفر ، فالمعذرة بيان العقل والمغفرة برهان الفضل . عادة الكرام الجود وعادة اللئام الجحود .
حسن النيّة أتمّ وألطف ، وكرم السجيّة أعظم فخرا وأشرف . من غرس شجرة الحلم اجتنى ثمرة السلم .
روينا من حديث أبي بكر بن ثابت قال : نبأنا أبو طالب بن يحيى بن علي بن الطيب العجلي بحلوان ، سمعت عبد اللّه بن محمد بن عبد اللّه الدامغاني بها يقول : سمعت ابن سلام المعروف بحسن بن علوية الواعظ ، سمعت أبا زكريا يحيى بن معاذ الرازي يقول :
بدء أمري في سياحتي ، خرجت من الري فوقع في قلبي شأن المئونة ، فتفكرت في نفسي ، فإذا بهاتف يهتف في قلبي : أخرج ما في الجيب حتى نعطيك من الغيب .
وحدثني أبو عبد اللّه المروزي بمروز قال : سمعت الشيخ أبا مدين شعيب نزيل بجاية يقول : من عرف اللّه من الجيب رزقه من الجيب ، ومن عرفه من الغيب رزقه من الغيب .
وروينا من حديث ابن ثابت قال : انا عبد الرحمن بن محمد النيسابوري ، نبأ محمد بن عبد اللّه بن بهلول الفقيه ، نبأ أحمد بن علي بن أبي حميرة ، قال : سمعت سهل بن عبد اللّه يقول : حرام على قلب أن يدخله النور وفيه شيء مما يكره اللّه عز وجل .
روينا من حديثه أيضا قال : انا محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد البزار ، حدثنا جعفر بن محمد بن نصير ، نبأ أبو العباس أحمد بن مسروق الطوسي ، قال : حدثني يحيى الجلا ، وكان من عباد اللّه الفاضلين ، قال : سمعت بشرا ، يعني الحافي ، يقول لجلسائه :
سيحوا ، فإن الماء إذا ساح طاب ، وإذا وقف تغيّر واصفرّ .
ومن حديثه قال : انا أحمد بن الحسين بن السمّاك ، سمعت أبا بكر البرقيّ بدمشق يقول : سمعت أبا بكر الدقاق يقول : بني أمرنا هذا على أربع : لا نأكل إلا عن فاقة ، ولا ننام إلا عن غلبة ، ولا نسكت إلا عن خيفة ، ولا نتكلم إلا عن وجد .
وحدثنا ابن ثابت قال : أخبرنا عبد الرحمن بن محمد النيسابوري ، قال : انا
“ 331 “
محمد بن عبد اللّه المذكور ، قال : سمعت أبا القاسم البصري بهراة يقول : من لم يكن في حاله قويا وبمعروفه غنيا ، صار وقته فوتا وحياته موتا .
ولنا من باب من التذّ بالهوى
لذيذ الهوى مرّ لدى كل جاهل * كما مرّه حلو لدى كل عاقل
فيا رب لا تخلي فؤادي من الهوى * ولا تخلني ما عشت من عذل عاذل
تطيب لنا الذكرى إذا ذكرت لنا * فعيش الفتى في البين ذكر العواذل
فما أعذب التعذيب ممن أجبّه * فكيف مذاق الحبّ عند التواصل
يلطّفني لطفا وظرفا ورقة * ويورثني الإقدام عند النوازل
فمالي لا أهوى الهوى وألذّه * وفيه إذا أنصفت كل الفضائل
ولنا من هذا الباب :
لكل شخص من هواه * في هواه ما نوى
إن النعيم بالهوى * ليس النعيم بالجوى
الحزن من آثاره * وسلب أسباب القوى
والوجد والتهيام والت * بريح من حكم الهوى
وصاحب السلطان في * ما قد ذكرناه الهوى
ومن باب من سأل الشفاء من الهوى
ما رويناه من قول مجنون بني عامر :
وما سرّني أني خليّ من الهوى * على أن لي ما بين شرق إلى غرب
فهذا دعائي كل يوم وليلة * بطول الليالي أو أغيّب في التراب
فلا خفف الرحمن ما بي من الهوى * ولا رفع الرحمن من حبّكم جنبي
ولا خير في حبّ بغير بليّة * ولا خير فيمن لم يمت من جوى الحبّ
ومنه مع وجود اللذة به :
مرارة الحبّ طعم الحب أيسرها * وقد وجدت أمر الحبّ أحلاه
ومشفق جاء مسرورا بتهنئة * فلم يرم إن بكى حزنا وعزّاه
ولأبي جعفر الشطرنجي :
“ 332 “
تجنّب فإن الحبّ داعية الحب * فكم من بعيد وهو مستوجب القرب
وأطيب أيام الهوى يومك الذي * يقدّر فيه بالعتاب وبالعتب
تفكر فإن حدّثت أن أخا الهوى * نجا سالما فارج النجاة من الحب
وأنشدنا أبو القاسم بن مرتين لبعضهم :
ولي فؤاد إذا طال العذاب به * هام اشتياقا إلى لقيا معذّبه
يفديك صبّ لو يكون له * أعزّ من نفسه شيئا فداك به
ولوهب في معناه :
تعمل الأجفان بالدعج * عمل الصهباء في المهج
قل لظبي يسترقّ له * مهج الأحرار بالدعج
أنت والأجفان ما لحظت * من فتور العين في حرج
كيف أدعو اللّه أسأله * فرجا ممن به فرجي
كتاب أبي بكر الصدّيق رضي اللّه عنه إلى أهل اليمن يحرّضهم على غزو الروم بالشام وما قالوا في ذلك
بسم اللّه الرحمن الرحيم .
من خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى من قرئ عليه كتابي من المؤمنين والمسلمين من أهل اليمن ، سلام عليكم .
أما بعد :
فإني أحمد اللّه الذي لا إله إلا هو ، فإن اللّه كتب على المؤمنين الجهاد ، وأمرهم أن ينفروا خفافا وثقالا . قال اللّه تعالى : جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . فالجهاد فريضة مفروضة ، وثوابه عند اللّه عظيم ، وقد استنفرنا من قبلنا من المسلمين إلى جهاد الروم بالشام ، وقد سارعوا إلى ذلك ، وعسكروا وخرجوا ، وأحسنت في ذلك نيّتهم ، وعظمت في الخير حسنتهم ، فسارعوا عباد اللّه إلى فريضة ربكم ، وإلى إحدى الحسنيين ، إما الشهادة وإما الفتح والغنيمة ، فإن اللّه لم يرض من عباده بالقول دون العمل ، ولا يترك أهل عدوانه حتى يدينوا بالحق ويقرّوا بحكم الكتاب ، أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، حفظ اللّه لكم دينكم ، وهدى قلوبكم ، وزكى أعمالكم ، ورزقكم أجر المجاهدين والصابرين ، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته .
وبعث بهذا الكتاب مع أنس . قال الرملي : فحدثنا الحسين بن زياد ، عن أبي
“ 333 “
إسماعيل أحمد بن عبد اللّه ، عن محمد بن يوسف ، عن ثابت البناني ، عن أنس قال :
أتيت أهل اليمن جناحا جناحا ، وقبيلة قبيلة ، أقرأ عليهم كتاب أبي بكر رضي اللّه عنه ، فإذا فرغت من قراءته قلت : الحمد للّه ، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله .
بسم اللّه الرحمن الرحيم .
أما بعد ، فإني رسول المسلمين إليكم ، ألا وإني قد تركتهم معسكرين ، لم يمنعهم من الشخوص إلى عدوّهم إلا انتظاركم ، فعجّلوا إلى إخوانكم ، رحمة اللّه عليكم أيها المسلمون . قال : وكان كل من أقرأ عليه ذلك الكتاب ويسمع في هذا القول يحسن الرد عليّ ويقول : نحن سائرون ، وكنا قد فعلنا ، حتى انتهيت إلى ذي الكلاع ، فلما قرأت عليه الكتاب وقلت هذا المقال ، دعا بسلاحه وفرسه ، ونهض في قومه من ساعته ، ولم يؤخر ذلك ، وأمر بالعسكر ، فما برحنا حتى عسكر وعسكر معه جموع كثيرة من أهل اليمن ، وسارعوا ، فلما اجتمعوا إليه قام فيهم ، فحمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على النبي صلى اللّه عليه وسلم ،
ثم قال :
أيها الناس ، إن من رحمة اللّه إياكم ونعمته عليكم أن بعث فيكم رسولا ، وأنزل عليكم كتابا ، فأحسن عنه البلاغ ، فعلّمكم ما يرشدكم ، ونهاكم عمّا يفسدكم حتى لا يفسدكم ، حتى علّمكم ما لم تكونوا تعلمون ، ورغّبكم في الخير في ما لم تكونوا ترغبون ، ثم قد دعاكم إخوانكم الصالحون إلى جهاد المشركين واكتساب الأجر العظيم ، فلينفر من أراد معي النفر الساعة . فنفر بعدد من أهل اليمن كثير ، وقدموا على أبي بكر . قال : فرجعنا نحن فسبقناه بأيام ، فوجدنا أبا بكر رضي اللّه عنه بالمدينة ، ووجدنا ذلك العسكر على حاله ، ووجدنا أبا عبيدة يصلي بأهل ذلك العسكر . فقدمت حمير على أبي بكر ومعها نساؤها وأولادها ، ففرح أبو بكر بمقدمهم ، فلما رآهم أبو بكر قال :
عباد اللّه ، ألم نكن نتحدث فنقول : إذا أقبلت حمير تحمل أولادها ومعها نساؤها نصر اللّه المسلمين وخذل المشركين ، فأبشروا أيها المسلمون ، فقد جاءكم النصر من اللّه .
قال : وجاء قيس بن هبيرة بن مكسوح المرادي ، وكان من فرسان العرب في الجاهلية ، ومن أشرافهم وأشدّائهم ، ومعه جمع كثير من قومه ، حتى أتى أبا بكر ، فسلّم عليه ، ثم جلس إليه ، فقال لأبي بكر : ما تنتظر بيعة هذه الجنود ؟
فقال أبو بكر : ما كنا ننتظر إلا قدومكم . قال : فقد قدمنا ، فابعث الناس الأول فالأول ، فإن هذه البلدة ليست ببلدة خفّ ولا كراع . قال : فخرج أبو بكر يمشي ، فدعا يزيد بن أبي سفيان فعقد له ، ودعا زمعة بن
الجزء 22
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 319 “
أأضغاث أحلام أبشرى منامة * أنطق زمان كان في نطقه سعدي
لعلّ الذي ساق الأماني يسوقها * إليّ فيهدي روضها إلى جنا الورد
خبر إسحاق بن طلحة بن عبيد اللّه مع خرقة بنت النعمان بن المنذر
روينا من حديث الحميدي قال : حدثنا الحسن بن محمد بن إبراهيم ، نبأ محمد بن أحمد بن زيد الأصغر ، نبأ علي بن حرملة التميمي قاضي واسط ، عن مالك بن معوّل ، عن الشعبي ، عن إسحاق بن طلحة بن عبيد اللّه قال :
دخلت على خرقة بنت النعمان بن المنذر ، وقد ترهّبت في دير لها بالحيرة وهي في ثلاثين جارية لم ير مثل حسنهن قط .
قلت : يا خرقة ، كيف رأيت في الدنيا غيرات الملك ؟ قالت : ما نحن فيه اليوم خير مما كنا أمس .
إنا نجد في الكتب أنه ليس من أهل بيت يعيشون في حبرة إلا سيعقبون بعدها غبرة .
وإن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بطّن لهم بيوم يكرهونه .
وإن على أبواب السلطان كإخوان الإبل من الفتن ، من أصاب من دنياهم شيئا أصابوا من دينه مثليه ، وقد قلت في ذلك شيئا ، فقلت : ما هو ؟ فقالت :
بينا نسوس الناس والأمر أمرنا * إذا نحن منهم سوقة نتنصّف
فأفّ لدنيا لا يدوم سرورها * تقلّب تارات بنا وتصرف
وبه إلى محمد بن جعفر بن سهل قال : نبأ علي بن داود القنطري قال : نبأ يحيى بن بكير ، نبأ يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن مطلب بن عبد اللّه بن حنطب ، عن أبي هريرة قال :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن داود عليه السلام كان فيه غيرة شديدة ، وكان إذا خرج أغلق الأبواب ، فأطلعت يوما امرأته إلى الدار فإذا برجل وسط الدار ، فقالت : من أين دخل هذا ؟
واللّه لنفضحنّ عند داود . فلما جاء داود قال له : من أنت ؟ قال : أنا الذي لا يهاب الملوك ولا يمتنع بمنع الحجاب . فقال : واللّه أنت أمين اللّه ملك الموت . فقبض روحه في موضعه .
وطلعت عليه الشمس ، فأمر سليمان عليه السلام الطير أن تضله بأجنحتها ، ففعلت ، فأظلمت عليهم الأرض فأمرها أن تقبض جناحا جناحا » .
قال أبو هريرة : يرينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كيف فعلت الطير ؟ قال : « وغابت يومئذ النسور » .
“ 320 “
خبر عبد الواحد بن زيد مع الراهب
روينا من حديث ابن ثابت قال : انا الحسن بن أحمد بن إبراهيم الدورقي ، نبأ جعفر بن محمد بن أحمد المؤدب ، نبأ محمد بن يونس نبأ شداد بن علي ، نبأ عبد الواحد بن زيد قال :
مررت براهب فناديته : يا راهب من تعبد ؟ قال : الذي خلقني وخلقك ، فقلت :
أعظيم هو ؟ قال : عظيم المنزلة ، جاوزت عظمته كل شيء . قلت : فمتى يذوق العبد الأنس باللّه ؟ قال : إذا صفا الود حصلت المعاملة . قلت : فمتى يصفو الود ؟ قال : إذا اجتمع الهمّ فصار في الطاعة . قلت : متى تخلص المعاملة ؟ قال : إذا كان الهمّ همّا واحدا . قلت : كيف تحليت بالوحدة ؟ قال : لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك . قلت : ما أكثر ما يجد العبد من الوحدة ؟ قال : الراحة من مداراة الناس ، والسلامة من شرّهم . قلت : فما يستعان على قلة المطعم ؟ قال : بالتحري في المكسب والنظرة في الكسرة . قلت : زدني .
قال : كل حلالا ، وارقد حيث شئت . قلت : فأين طريق الراحة ؟ قال : خلاف الهوف .
قلت : ومتى يجد العبد الراحة ؟ قال : إذا وضع قدمه في الجنة . قلت : لم تخلّيت عن الدنيا وتعلّقت في هذه الصومعة ؟ قال : لأنه من مشى على الأرض عثر وخاف اللصوص ، فتعلقت فيها ، وتحصّنت بمن في السماء من فتنة أهل الأرض لأنهم سرّاق العقول ، فخفت أن يسرقوا عقلي ، وذلك أن القلب إذا صفا ضاقت عليه الأرض وأحبّ قرب السماء ، وفكّر في قرب الأجل ، فأحبّ أن يرتحل إلى ربه . قلت : يا راهب من أين تأكل ؟ قال : من زرع لم أبذره ، بذره اللطيف الخبير الذي نصب الرحا يأتيها بالطحين ، وأشار إلى ضرسه .
قلت : كيف ترى حالك ؟ قال : كيف يكون حال من أراد سفرا بلا أهبة ، ويسكن قبرا بلا مؤنس ، ويقف بين يدي حكم عدل ؟ ثم أرسل عينيه فبكى .
قلت : وما يبكيك ؟ قال : ذكرت أياما مضت من أجلي لم أحقق فيها عملي ، وفكرت في قلة الزاد ، وفي عقبة هبوط إلى الجنة أو إلى النار . قلت : يا راهب بم يستجلب الحزن ؟
قال : بطول الغربة ، وليس الغريب من مشى من بلد إلى بلد ، ولكن الغريب صالح بين الفسّاق . ثم قال : إن سرعة الاستغفار توبة الكذابين ، لو علم اللسان ممّ يستغفر اللّه لجفّ في الحنك . إن الدنيا منذ يوم ساكنها الموت ما قرّت لها عين ، كلما تزوّجت الدنيا زوجا طلّقها الموت ، والدنيا من الموت طالق ، لم تقرّ عينها ، فمثلها كمثل الحية ، ليّن مسّها والسم في جوفها . ثم قال الراهب : يا هذا ، كما لا يجوز الزيف من الدراهم ، كذلك لا تجوز لا إله إلا اللّه إلا بنور الإخلاص ، إن الفضة السوداء لتزخرف بالفضة البيضاء . ثم
“ 321 “
قال : عند تصحيح الضمائر يغفر اللّه الكبائر ، فإذا عزم العبد على ترك الآثام أتته من السماء الفتوح والدعاء المستجاب الذي تحرّكه الأحزان .
قلت : فأكون معك يا راهب وأقيم عندك ؟ قال : ما أصنع بك ومعي معطي الأرزاق ، وقابض الأرواح ، يسوق إليّ الرزق في كل وقت ، لم يكلفني جمعه ، ولم يقدر على ذلك أحد غيره .
وروينا أيضا من حديث ابن ثابت قال : انا علي بن أحمد الرزاز ، نبأ أبو بكر محمد بن الحسن بن زياد النقاش ، نبأ محمد بن يحيى ، حدثني جعفر بن أبي جعفر الرازي ، قال :
كتب إبراهيم بن أدهم إلى أخ له :
بسم اللّه الرحمن الرحيم .
أما بعد ، فإني أوصيك بتقوى من لا تحلّ معصيته ، ولا يرجى غيره ، ولا يدرك الغنى إلا به . من استغنى به عزّ وشبع وروي ، وانتقل عندما أبصر قلبه عما أبصرت عيناه من زهرة الدنيا ، فتركها وجانب شبهها ، فرضي بالحلال الصافي منها ، إلا ما لا بد له منه من كسرة يشدّ بها صلبه ، وثوب يواري به عورته ، أغلظ ما يجد وأخشنه .
وروينا من حديثه أيضا قال : حدثنا محمد بن عمر العكبري ، انا علي بن الفرج بن روح ، نبأ عبد اللّه بن محمد بن أبي الدنيا ، نبأ الحسين بن عبد الرحمن قال : كتب بعض الحكماء إلى أخ له :
أما بعد ، فاجعل القنوع ذخرا تبلغ به ، إلى أن يفتح لك باب يحسن لك الدخول فيه .
فإن الثقة مع القانع لا تخذل ، وعون الإله مع ذوي الإناءة . وما أقرب الصنع مع الملهوف .
وربما كان الفقر نوعا من آداب اللّه ، وخيرة في العواقب . والحظوظ ثمرات ، فلا تعجل على ثمرة لم تدرك ، فإنك تدركها في أوانها غدية . والمدبر لك أعلم بالوقت الذي يصلح فيه لما تؤمّل ، فثق بخيرته لك في الأمور كلها والسلام .
ومن حديثه أيضا في روايتنا قال : نبأ محمد بن عبد الملك بن بشران ، انا دعلج بن أحمد ، نبأ أبو الحسن محمد بن أحمد بن هارون العدوي ، نبأ عمرو بن الحباب ، نبأ يعلى بن الأشدق ، نبأ عبد اللّه بن جرادة ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « ليس الأعمى من عمي بصره ، ولكن الأعمى من تعمى بصيرته » .
وروينا أيضا من حديثه قال : نبأ الحسين بن عمر بن برهان ، نبأ عبد الباقي بن نافع ،
“ 322 “
نبأ بشر بن موسى ، نبأ عبيد اللّه بن صالح ، قال : كتب رجل إلى محمد بن السمّاك : صف لي الدنيا . فكتب إليه :
أما بعد ، فإن اللّه حفّها بالشهوات ، ثم ملأها بالآفات . مزج حلالها بالرزيات ، وحرامها بالتبعات . فحلالها حساب ، وحرامها عذاب .
شعر
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت * له عن عدوّ في ثياب صديق
روينا من حديث الخرائطي قال : نبأ حماد بن الحسن بن عنبسة الوراق ، نبأ سيار بن حاتم الغنوي ، نبأ جعفر بن سليمان الضبعي ، نبأ هشام الدستوائي ، قال : بلغني في خطبة عيسى عليه السلام : تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير العمل ، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل . ويلكم علماء السوء ، الأجر تأخذون والعمل تضيّعون .
يوشك رب العلم أن يطلب علمه ، ويوشك أن تخرجوا من الدنيا إلى ظلمة القبر وضيقه .
ولنا في القبر والتحريض على الغرس عليه :
مرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على قبرين فقال : « إنهما ليعذّبان ، وما يعذّبان في كبير . أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة ، وأما الآخر فكان لا يستتر من البول » . ثم دعا بقضيب رطب فشقّه اثنين ، وغرس على كل قبر منهما واحدا ، وقال : « إنه ليخفّف عنهما ما لم ييبسا » .
في القبر أسرار يراها الذي * عنه غطاء الحسن مكشوف
فاذكروا فإن كل امرئ * بفعله في القبر مصروف
هذا الذي أذكره عندنا * وعند أهل الكشف معروف
عاينت قوما عذبوا في الصدا * كان لهم نقص وتطفيف
فهل لغصن البان من غارس * بقبرهم ففيه تخفيف
ما دام رطبا يانعا أخضرا * ولم يقم بالغصن تجفيف
تأسيا فإنه لم يقل * بأنه عليه موقوف
وفي تأسّينا به عصمة * منجية منه وتشريف
ولنا في قوله تعالى : فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ :
من آمن المكر من اللّه * فأمنه المكر من اللّه
هذا الذي يأمن من مكره * هل جاءه وحي من اللّه
“ 323 “
كيف له بالأمن من مكره * جراءة منه على اللّه
هذاك جبريل على قربه * لا يأمن المكر من اللّه
فلذ بجنب اللّه واسترعه * وارجع إلى اللّه من اللّه
فالصادق المصدوق عبد أتى * بكله شوقا إلى اللّه
روينا من حديث القشيري رحمه اللّه قال : لما ظهر إبليس على ما ظهر ، طفق جبريل وميكائيل عليهما السلام يبكيان زمانا طويلا ، فأوحى اللّه تعالى إليهما : ما لكما تبكيان كل هذا البكاء ؟ فقالا : يا رب ، لا نأمن من مكرك . فقال اللّه تعالى : هكذا كونا لا تأمنا مكري .
كنت ببغداد في سنة ثمان وستمائة ، فرأيت في النوم ليلة الحادي عشر من رمضان قد فتحت أبواب السماء وفتحت خزائن المكر ، ونادى مناد : ما ذا أنزل الليلة من مكر اللّه ؟
فاستيقظت فزعا مما رأيت .
زيادة عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في مسجد المدينة
روينا من حديث الواسطي هو ابن عبيد اللّه قال : نبأ عيسى ، أخبرني علي بن جعفر ، نبأ محمد بن إبراهيم ، نبأ محمد بن النعمان ، نبأ عبد اللّه بن الزبير الحميدي ، نبأ سفيان بن بشر بن عاصم ، أنه سمع سعيد بن المسيّب يحدّث أنه سمع كعبا قال :
كان للعباس دار ، فلما أراد عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أن يوسّع مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذ منه الدار ، فقال : ليس إلى ذلك سبيل ، أو اجعل بيني وبينك رجلا ، فجعل بينهما أبيّ بن كعب ، فقال أبيّ : إنه لما أمر سليمان عليه السلام ببناء بيت المقدس ، وكانت أرضه لرجل ، فأخذها منه سليمان عليه السلام ، فقال له الرجل : الذي أخذت منك خير أم الذي أعطيتني ؟ قال : بل الذي أخذت منك ، فقال له : إني لا أجير البيع ، حتى اشتراها منه بحكمه على أن لا يسأله كثيرا ، فسأله شيئا كثيرا ، فتخاصم هو وسليمان في ذلك إلى ربه عز وجل ، فأوحى اللّه إليه : إن كنت إنما تعطيه من عندنا فاعطه حتى يرضى ، فرضي العباس ، وقال : أما إذا كان ذلك كذلك فإني قد جعلتها صدقة مني للمسجد على المسلمين .
تذكرة نبوية باجتناب صفات دنيّة
روينا من حديث الخرائطي قال : حدثنا أبو قلابة البصري عبد الملك بن محمد بن
“ 324 “
عبد اللّه ، نبأ عبد الصمد بن عبد الوارث ، نبأ هاشم الكوفي ، نبأ زيد الخثعمي ، عن أسماء بنت عميس الخثعمية قالت :
سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « بئس العبد عبد تخيّل واختال ، ونسي الكبير المتعال .
بئس العبد عبد سها ولها ، ونسي المقابر والبلا . بئس العبد عبد بغى وعنا ، ونسي المبتدأ والمنتهى . بئس العبد عبد يخيّل الدين بالشبهات . بئس العبد عبد طمع يقوده . بئس العبد عبد هوى يضله » .
روينا من حديث الحميدي قال : نبأ الحناي ، عن ابن أبي الحديد ، عن أبي بكر ، عن أبي موسى قال : قال أبو حازم :
من اعتدل يوماه فهو مغبوط ، ومن غده شر يوميه فهو محروم . ومن لم ير الزيادة في نفسه كان في نقصان ، ومن كان في نقصان فالموت خير له . ومن كان غده أحسن يوميه ويومه أحسن من أمسه ، فهو رابح معنى به .
روينا من حديث الخرائطي قال : نبأ أحمد بن نبيل الأيامي ، نبأ أبو معاوية الضرير ، نبأ داود بن هند ، عن الشعبي قال :
لما طعن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه جاء العباس فقال : يا أمير المؤمنين ، أسلمت حين كفر الناس ، وجاهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين خذله الناس ، وقتلت شهيدا ، ولم يختلف عليك اثنان ، وتوفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو عنك راض . فقال له : أعد عليّ ، فأعاد عليه . فقال : المغرور من غررتموه ، واللّه لو أن لي ما طلعت عليه الشمس أو غربت ، لافتديت به من هول المطلع .
روينا من حديث الحميدي قال : حدثنا محمد بن إبراهيم ، عن محمد بن أحمد ، عن محمد بن جعفر ، نبأ إبراهيم بن الهيثم البلدي ، نبأ آدم بن أبي أياس ، نبأ شعبة ، عن عاصم بن عبيد اللّه ، عن سالم بن عبد اللّه ، عن أبيه قال :
كان رأس عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه على فخذي في موضعه الذي مات فيه ، فقال : ضع رأسي على الأرض ، فقلت : ما عليك كان على الأرض أو على فخذي ؟ فقال :
لا أمّ لك ، ضعه على الأرض ، فوضعته على الأرض ، فقال : ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي .
قرأت على أبي ذرّ الخشني لأبي عمرو البجلي في الأمالي لأبي علي القالي :
تمتع من شميم عرار نجد * فما بعد العشية من عرار
“ 325 “
ألا يا حيّذا نفحات نجد * وريا روضه غبّ القطار
وعيشك أن يحل القوم نجدا * وأنت على زمانك غير زار
شهور تنقضين وما علمنا * بإنصاف لهن ولا سدار
فأما ليلهنّ فخير ليل * وأفضل ما يكون من النهار
وأنشدنا أبو بكر بن خلف بن صاف اللخمي رحمه اللّه للطائي :
كم منزل في الأرض يألفه الفتى * وحنينه أبدا لأول منزل
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى * ما الحبّ إلا للحبيب الأول
ومما نظمته الأسواق بلسان الاشتياق قولنا في نظام الحسن عين الشمس بهاء الجمال :
يا حبذا سرحة الوادي وبانته * وحبذا زهر بالروض بسّام
أهدى النسيم لنا من عرفة خبرا * إن النسيم إذا ما هبّ نمّام
بكلّ فنّ من الألحان ناطقة * أطياره طربا والسرب نوّام
وفي ترجعها بالصوت لو علمت * للمستهام بعين الشمس أعلام
إن الهوى عجمة لا يستطاع له * حدّ ولكن له في النفس أحكام
منها النحول ومنها عبرة وجوى * ورقة وصبابات وتهيام
وما له آخر تحيي النفوس به * لأن أوله موت وأعدام
فإن تمادى الهوى بالحب أضعفه * كما يضعّفه قرب وإلمام
ومما قيل فيمن عشق فعفّ
وقد روينا فيه حديثا حسنا ، حدثناه محمد بن قاسم ، قال : حدثنا أبو طاهر محمد بن أحمد السلفي الأصبهاني ، ولا أذكر الإسناد ، سند الحافظ السلفي إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فإن وجدته سألحقه بالطرّة ، أو رحم اللّه عبدا عرفه فألحقه من طريق السلفي على هذا الحديث في كتابي هذا .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من عشق فعفّ ومات ، مات شهيدا » .
حدثنا إسماعيل بن محمد قال : حدثني نصر بن أبي الفرج ، عن علي الحصري ، أنا أبو القاسم ، انا أبي ثابت بن بندار ، أنا أبو عبد اللّه بن أحمد بن عثمان أبو القمر الصيرفي ، أنا أبو بكر بن شادان ، أنبأ أبو عبد اللّه إبراهيم بن محمد بن عرفة ، قال :
“ 326 “
دخلت على محمد بن داود في مرضه الذي مات فيه ، فقلت له : ما بك يا سيدي ؟
قال : حب من تعلم أورثني ما ترى ، يعني ابن جامع الصيدلاني .
قلت : فما منعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه ؟
فقال : الاستمتاع على وجهين : أحدهما النظر المباح والثاني اللذة المحظورة ، فأما النظر المباح فأورثني ما ترى ، وأما اللذة المحظورة فيمنعني ما حدثني أبي ، عن سويد بن سعيد ، عن علي بن مسهر ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « من عشق فكتم وعفّ وصبر ، غفر اللّه له وأدخله الجنة » .
قال : أنشدني لنفسه :
ما لهم أنكروا سوادا بخدّي * ه ولا ينكرون ورد الغصون
إن يكن عيب خدّه مدد الشع * ر فعيب العيون شعر الجفون
فقلت : قلبت القياس في الفقه وأثبته في الشعر ، فقال : غلبة الهوى وملكة النفوس دعتنا إلى ذلك .
أنشدنا ابن طباطبا العلوي في هذا الباب لنفسه رحمه اللّه :
إن عاد قلبي في الهوى وله * ولقيت عذالي بما كرهوا
أو كان شعري مودعا غزلا * أخفيته ورعا وأظهره
واللّه يعلم ما أتيت خنا * إن كثر العذال أو سفهوا
ما ذا يعيب الناس من رجل * خلص العفاف من الأنام له
إن همّ في حلم بفاحشة * زجرته همّته فينتبه
يقظانه ومنامه شرع * كلّ بكل منه مشتبه
وقال الآخر :
كم قد ظفرت بمن أهوى فيمنعني * منه الحياء وخوف اللّه والحذر
أهوى الملاح وأهوى أن أجالسهم * وليس لي في حرام منهم وطر
كذلك الحبّ لا إتيان معصية * لا خير في لذّة من بعدها كدر
ومن الأخبار النبوية
ما رويناه من حديث آصف بن زيد بن أحمد ، انا ميمون بن محمد ، أنا أبو شجاع محمد بن حمزة العلوي ، أنا أبو الطيب طاهر بن الحسين المطوعي ، انا أحمد بن علي
“ 327 “
السعداني ، نبأ محمد بن محمد المؤذن ، نبأ حامد بن سهل ، نبأ عبد اللّه بن زياد الحارثي ، نبأ سيار بن حاتم أبو سلمة العمري ، نبأ أبو عاصم العبداني ، نبأ أبو الفضل الرقاشي ، نبأ محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه ، قال :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « قال لي جبريل عليه السلام : إن اللّه تعالى يخاطبني يوم القيامة يقول لي : يا جبريل ، ما لي أرى فلانا في صفوف أهل النار ؟ قال : فأقول : يا رب ، إنّا لم نجد له حسنة يعود بها عليه خير اليوم . قال : يقول اللّه تعالى : إني سمعته يقول في الدنيا : يا حنّان يا منّان ، فائته فاسأله ما ذا عنى بقوله : يا حنّان يا منّان ؟ فآتيه فأسأله فيقول : هل من حنّان منّان غير اللّه ؟ فآخذ بيده من صفوف أهل النار فأدخله صفوف أهل الجنة » .
روينا من حديث مرفوع إلى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من أطعم أخا له من جوعة أطعمه اللّه عز وجل من ثمر الجنة ، ومن سقاه من ظمأ سقاه اللّه من الرحيق المختوم ، ومن كساه من عراء كساه اللّه عز وجل من خضر الجنة . ولم يزل في حرز اللّه وجواره وكنفه ما بقي عليه منه شيء » .
وروينا من حديث البرقي أبي عبد اللّه محمد بن محمد ، نبأ أبو عبد اللّه محمد بن أبي بكر الوراق ، نبأ خلف بن محمد ، نبأ أحمد بن حاتم نبأ ابن أبي كرامة الخير بن النضر ، انا عيسى بن موسى ، عن أبي حمزة ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه ، قال : قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما الزهد في الدنيا ؟ قال : « أن تحب ما يحب خالقك ، وأن تبغض ما أبغض خالقك ، وأن تتحرّج من حلال الدنيا كما تتحرّج من حرامها ، فإن حلالها حساب وحرامها عقاب ، وأن ترحم جميع المسلمين كما ترحم نفسك ، وأن تتحرّج من الكلام فيما لا يعنيك كما تتحرّج من الحرام ، وأن تتحرّج من كثرة الأكل كما تتحرّج من الميتة » .
ومن محاسن الكلام
من جهل المرء أن يعصي ربه في طاعة هواه ، ويهين نفسه في إكرام الدنيا ، وهو من هواه في ضلال ومن دنياه في زوال . أيام الدهر ثلاثة : يوم مضى لا يعود إليك ، ويوم أنت فيه لا يدوم عليك ، ويوم مستقبل لا تدري ما حاله وما أهله ، فتعرّ من أمسك الماضي ، وتزوّد من يومك الفاني لغدك الآتي . كل يوم يسوق إلى غده ، وكل امرئ مأخوذ بجناية لسانه ويده . خير عملك ما استصلحت به يومك ، وشرّه ما استفسدت به قومك . الحذر خير من الهدر ، لأن الحذر يضعف الحجة والهدر يتلف المهجة . إياك والهدر فإن بكثرة
“ 328 “
الكلام يزلّ اللسان ويمل الإخوان ويبرم الجليس ويسأم الأنيس ، فأقلل المقال وتوقّ الآمال . من أفرط في المقال زلّ ، ومن استخفّ بالرجال ذلّ . من قلّ كلامه بطن عيبه ومن كثر احترامه حسن غيبه ، فاقتصر من كلامك على اليسير وخذ في احترامك عن التقصير ، تستر عنك العيوب وتجمع على محبتك القلوب . من قبل توقّيه كثرت مساويه .
من حسنت مساعيه طابت مراعيه . من حسن الاختيار الإحسان إلى الاختيار . ما عزّ من ذلّ جيرانه ، وما سعد من شقى إخوانه .
إذا شرف الخلق لطف النطق . إذا كرمت السجية حسنت الطوية . من أعز فلسه أذلّ نفسه . حسن اللقاء يولد حسن الإخاء .
من كرم حلم ، ومن لطف شرف . عادة الكفران تقطع مادة الإحسان . المطل شر المنعين ، والباس أحد النجحين . من لم يشكر الإحسان لم يعدم الحرمان .
جهل يضعف حجتك خير من علم يتلف مهجتك ، فتحصّن بالجهل إذا نفع كما يتحصّن بالعلم إذا نفع . من قال ما لا ينبغي سمع ما لا يشتهي .
قصّر كلامك تسلم وأطل احتشامك تكرم . من قال بلا احترام أجيب بلا احتشام . من نكر الخطاب أنكر الجواب .
من لم يحمل قيلا لم يسمع جميلا ، فلا تقولنّ ما يسوؤك جوابه ويضرك معابه .
لكل قول جواب ولكل فعل ثواب ، فلا تقولنّ مرّا تفعلنّ شرّا ، ولا تعوّدنّ نفسك إلا ما يكتب لك أجره ويحسن عنك نشره . لا تحاجّ سلطانك ولا تلاحّ إخوانك ، فمن حاجّ سلطانه قهر ومن لاح إخوانه هجر . إياك ومحاجّة من يفنيك قهره وينفذ فيك أمره . اعقل لسانك إلا عن حق توضحه ، أو باطل تدحضه ، أو حكمة تنشرها ، أو نعمة تشكرها .
إياك وما توحش به حرّا أو تطلب له عذرا ، فمن أوحش الأحرار زهد في عشرته ومن أكثر الاعتذار شك في عذرته .
ومن باب من لم تلحظه العيون لفقره وهو جمّ الفضائل
ما رويناه من حديث ابن ثابت قال : انا علي بن أحمد بن محمد المقري ، وعبد الملك بن مجهد بن عبد اللّه بن بشران ، نبأ محمد بن الحسين الآجريّ بمكة قال : نبأ بعض أصحابنا عن أبي الفضل الشكلي قال :
رأيت شابّا في بعض الطريق عليه خلق ، فكأني لم أحفل به ، فالتفت إليّ وقال :
لا تنب عني بأن ترى خلقي * فإنما الدّود داخل الصّدف
علمي جديد وملبسي خلق * ومنتهى اللبس منتهى العلف
“ 329 “
ومن باب عز النفس بالغنى باللّه
ما رويناه من حديث ابن ثابت قال : انا عبد الرحمن بن النيسابوري ، انا محمد بن عبد اللّه بن شادان ، قال : سمعت يوسف بن الحسين يقول : سمعت ذا النون يقول : بينا أنا سائر في بعض الطرق ، فإذا فتى حسن الثياب ، حسن الوجه ، أثر التهجّد بين عينيه .
فقلت : حبيبي ، من أين أقبلت ؟ قال : من عنده .
فقلت : وإلى أين ؟ قال : إلى عنده . قال : فعرضت عليه النفقة ، فنظر إلي مغضبا ثم ولّى عني . وأنشأ يقول :
وكافر باللّه أمواله * تزداد أضعافا على كفره
ومؤمن ليس له درهم * يزداد إيمانا على فقره
لا خير فيمن لم يكن عاقلا * يمدّ رجليه على قدره
وأنشد ابن ثابت في روايتنا ، قال : أخبرني علي بن أحمد بن حفص الغازي ، قال :
أنشدنا أبو بكر محمد بن الحسين بمكة ، قال : أنشدني أبو بكر عبد اللّه بن حميد المؤدب :
ربّ ذي طمرين قد صا * ن من العالم سرّه
لا يرى إلا غنيا * وهو لا يملك ذرّه
ثم لو أقسم في شيء * على اللّه أبرّه
وأنشد في غير هذه الرواية من هذا الشعر بيتا رابعا في أوله وهو :
ربّ ذي طمرين فينا * يأمن العالم شرّه
ثم ساق الأبيات الثلاثة كما ذكرناها.
ومن باب كم من استغفار يحتاج إلى استغفار
روينا من حديث ابن ثابت قال : نبأ أبو الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس ، انا محمد بن أحمد بن الورّاق ، سمعت عبد اللّه بن سهل الرازي ، سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول : كم من مستغفر ممقوت وساكت مرحوم . قال يحيى : هذا استغفر اللّه وقلبه فاجر ، وهذا سكت وقلبه ذاكر .
سمعت بعض مشايخنا بقرطبة يقول : وقد حضر معنا متقشف ، رأى منه الشيخ ما لم نر ، وعرف منه ما لم نعرف ، الضمير الضمير ، ما هو بلباس الخلقان وخبز الشعير .
“ 330 “
ومن الحكمة النافعة والألفاظ الجامعة
جود الرجل يحبّبه إلى أضداده ، وبخله يبغّضه إلى أولاده . ونسيان البرّ يؤدي إلى حطّ الشكر . من منع برّه طوى شكره . لا تسيء إلى من أحسن إليك ، ولا تعن على من أنعم عليك . من أساء إلى المحسن منع الإحسان ، ومن أعان على المنعم سلب الإمكان . ومن وفى لك فقد قضى حق الإسلام واستحق الإنعام . من جحد النعمى فقد الحسنى .
ما أقبح منع الإحسان مع حسن الإمكان . إذا أذنبت فاعتذر وإذا أذنب إليك فاغتفر ، فالمعذرة بيان العقل والمغفرة برهان الفضل . عادة الكرام الجود وعادة اللئام الجحود .
حسن النيّة أتمّ وألطف ، وكرم السجيّة أعظم فخرا وأشرف . من غرس شجرة الحلم اجتنى ثمرة السلم .
روينا من حديث أبي بكر بن ثابت قال : نبأنا أبو طالب بن يحيى بن علي بن الطيب العجلي بحلوان ، سمعت عبد اللّه بن محمد بن عبد اللّه الدامغاني بها يقول : سمعت ابن سلام المعروف بحسن بن علوية الواعظ ، سمعت أبا زكريا يحيى بن معاذ الرازي يقول :
بدء أمري في سياحتي ، خرجت من الري فوقع في قلبي شأن المئونة ، فتفكرت في نفسي ، فإذا بهاتف يهتف في قلبي : أخرج ما في الجيب حتى نعطيك من الغيب .
وحدثني أبو عبد اللّه المروزي بمروز قال : سمعت الشيخ أبا مدين شعيب نزيل بجاية يقول : من عرف اللّه من الجيب رزقه من الجيب ، ومن عرفه من الغيب رزقه من الغيب .
وروينا من حديث ابن ثابت قال : انا عبد الرحمن بن محمد النيسابوري ، نبأ محمد بن عبد اللّه بن بهلول الفقيه ، نبأ أحمد بن علي بن أبي حميرة ، قال : سمعت سهل بن عبد اللّه يقول : حرام على قلب أن يدخله النور وفيه شيء مما يكره اللّه عز وجل .
روينا من حديثه أيضا قال : انا محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد البزار ، حدثنا جعفر بن محمد بن نصير ، نبأ أبو العباس أحمد بن مسروق الطوسي ، قال : حدثني يحيى الجلا ، وكان من عباد اللّه الفاضلين ، قال : سمعت بشرا ، يعني الحافي ، يقول لجلسائه :
سيحوا ، فإن الماء إذا ساح طاب ، وإذا وقف تغيّر واصفرّ .
ومن حديثه قال : انا أحمد بن الحسين بن السمّاك ، سمعت أبا بكر البرقيّ بدمشق يقول : سمعت أبا بكر الدقاق يقول : بني أمرنا هذا على أربع : لا نأكل إلا عن فاقة ، ولا ننام إلا عن غلبة ، ولا نسكت إلا عن خيفة ، ولا نتكلم إلا عن وجد .
وحدثنا ابن ثابت قال : أخبرنا عبد الرحمن بن محمد النيسابوري ، قال : انا
“ 331 “
محمد بن عبد اللّه المذكور ، قال : سمعت أبا القاسم البصري بهراة يقول : من لم يكن في حاله قويا وبمعروفه غنيا ، صار وقته فوتا وحياته موتا .
ولنا من باب من التذّ بالهوى
لذيذ الهوى مرّ لدى كل جاهل * كما مرّه حلو لدى كل عاقل
فيا رب لا تخلي فؤادي من الهوى * ولا تخلني ما عشت من عذل عاذل
تطيب لنا الذكرى إذا ذكرت لنا * فعيش الفتى في البين ذكر العواذل
فما أعذب التعذيب ممن أجبّه * فكيف مذاق الحبّ عند التواصل
يلطّفني لطفا وظرفا ورقة * ويورثني الإقدام عند النوازل
فمالي لا أهوى الهوى وألذّه * وفيه إذا أنصفت كل الفضائل
ولنا من هذا الباب :
لكل شخص من هواه * في هواه ما نوى
إن النعيم بالهوى * ليس النعيم بالجوى
الحزن من آثاره * وسلب أسباب القوى
والوجد والتهيام والت * بريح من حكم الهوى
وصاحب السلطان في * ما قد ذكرناه الهوى
ومن باب من سأل الشفاء من الهوى
ما رويناه من قول مجنون بني عامر :
وما سرّني أني خليّ من الهوى * على أن لي ما بين شرق إلى غرب
فهذا دعائي كل يوم وليلة * بطول الليالي أو أغيّب في التراب
فلا خفف الرحمن ما بي من الهوى * ولا رفع الرحمن من حبّكم جنبي
ولا خير في حبّ بغير بليّة * ولا خير فيمن لم يمت من جوى الحبّ
ومنه مع وجود اللذة به :
مرارة الحبّ طعم الحب أيسرها * وقد وجدت أمر الحبّ أحلاه
ومشفق جاء مسرورا بتهنئة * فلم يرم إن بكى حزنا وعزّاه
ولأبي جعفر الشطرنجي :
“ 332 “
تجنّب فإن الحبّ داعية الحب * فكم من بعيد وهو مستوجب القرب
وأطيب أيام الهوى يومك الذي * يقدّر فيه بالعتاب وبالعتب
تفكر فإن حدّثت أن أخا الهوى * نجا سالما فارج النجاة من الحب
وأنشدنا أبو القاسم بن مرتين لبعضهم :
ولي فؤاد إذا طال العذاب به * هام اشتياقا إلى لقيا معذّبه
يفديك صبّ لو يكون له * أعزّ من نفسه شيئا فداك به
ولوهب في معناه :
تعمل الأجفان بالدعج * عمل الصهباء في المهج
قل لظبي يسترقّ له * مهج الأحرار بالدعج
أنت والأجفان ما لحظت * من فتور العين في حرج
كيف أدعو اللّه أسأله * فرجا ممن به فرجي
كتاب أبي بكر الصدّيق رضي اللّه عنه إلى أهل اليمن يحرّضهم على غزو الروم بالشام وما قالوا في ذلك
بسم اللّه الرحمن الرحيم .
من خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى من قرئ عليه كتابي من المؤمنين والمسلمين من أهل اليمن ، سلام عليكم .
أما بعد :
فإني أحمد اللّه الذي لا إله إلا هو ، فإن اللّه كتب على المؤمنين الجهاد ، وأمرهم أن ينفروا خفافا وثقالا . قال اللّه تعالى : جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . فالجهاد فريضة مفروضة ، وثوابه عند اللّه عظيم ، وقد استنفرنا من قبلنا من المسلمين إلى جهاد الروم بالشام ، وقد سارعوا إلى ذلك ، وعسكروا وخرجوا ، وأحسنت في ذلك نيّتهم ، وعظمت في الخير حسنتهم ، فسارعوا عباد اللّه إلى فريضة ربكم ، وإلى إحدى الحسنيين ، إما الشهادة وإما الفتح والغنيمة ، فإن اللّه لم يرض من عباده بالقول دون العمل ، ولا يترك أهل عدوانه حتى يدينوا بالحق ويقرّوا بحكم الكتاب ، أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، حفظ اللّه لكم دينكم ، وهدى قلوبكم ، وزكى أعمالكم ، ورزقكم أجر المجاهدين والصابرين ، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته .
وبعث بهذا الكتاب مع أنس . قال الرملي : فحدثنا الحسين بن زياد ، عن أبي
“ 333 “
إسماعيل أحمد بن عبد اللّه ، عن محمد بن يوسف ، عن ثابت البناني ، عن أنس قال :
أتيت أهل اليمن جناحا جناحا ، وقبيلة قبيلة ، أقرأ عليهم كتاب أبي بكر رضي اللّه عنه ، فإذا فرغت من قراءته قلت : الحمد للّه ، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله .
بسم اللّه الرحمن الرحيم .
أما بعد ، فإني رسول المسلمين إليكم ، ألا وإني قد تركتهم معسكرين ، لم يمنعهم من الشخوص إلى عدوّهم إلا انتظاركم ، فعجّلوا إلى إخوانكم ، رحمة اللّه عليكم أيها المسلمون . قال : وكان كل من أقرأ عليه ذلك الكتاب ويسمع في هذا القول يحسن الرد عليّ ويقول : نحن سائرون ، وكنا قد فعلنا ، حتى انتهيت إلى ذي الكلاع ، فلما قرأت عليه الكتاب وقلت هذا المقال ، دعا بسلاحه وفرسه ، ونهض في قومه من ساعته ، ولم يؤخر ذلك ، وأمر بالعسكر ، فما برحنا حتى عسكر وعسكر معه جموع كثيرة من أهل اليمن ، وسارعوا ، فلما اجتمعوا إليه قام فيهم ، فحمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على النبي صلى اللّه عليه وسلم ،
ثم قال :
أيها الناس ، إن من رحمة اللّه إياكم ونعمته عليكم أن بعث فيكم رسولا ، وأنزل عليكم كتابا ، فأحسن عنه البلاغ ، فعلّمكم ما يرشدكم ، ونهاكم عمّا يفسدكم حتى لا يفسدكم ، حتى علّمكم ما لم تكونوا تعلمون ، ورغّبكم في الخير في ما لم تكونوا ترغبون ، ثم قد دعاكم إخوانكم الصالحون إلى جهاد المشركين واكتساب الأجر العظيم ، فلينفر من أراد معي النفر الساعة . فنفر بعدد من أهل اليمن كثير ، وقدموا على أبي بكر . قال : فرجعنا نحن فسبقناه بأيام ، فوجدنا أبا بكر رضي اللّه عنه بالمدينة ، ووجدنا ذلك العسكر على حاله ، ووجدنا أبا عبيدة يصلي بأهل ذلك العسكر . فقدمت حمير على أبي بكر ومعها نساؤها وأولادها ، ففرح أبو بكر بمقدمهم ، فلما رآهم أبو بكر قال :
عباد اللّه ، ألم نكن نتحدث فنقول : إذا أقبلت حمير تحمل أولادها ومعها نساؤها نصر اللّه المسلمين وخذل المشركين ، فأبشروا أيها المسلمون ، فقد جاءكم النصر من اللّه .
قال : وجاء قيس بن هبيرة بن مكسوح المرادي ، وكان من فرسان العرب في الجاهلية ، ومن أشرافهم وأشدّائهم ، ومعه جمع كثير من قومه ، حتى أتى أبا بكر ، فسلّم عليه ، ثم جلس إليه ، فقال لأبي بكر : ما تنتظر بيعة هذه الجنود ؟
فقال أبو بكر : ما كنا ننتظر إلا قدومكم . قال : فقد قدمنا ، فابعث الناس الأول فالأول ، فإن هذه البلدة ليست ببلدة خفّ ولا كراع . قال : فخرج أبو بكر يمشي ، فدعا يزيد بن أبي سفيان فعقد له ، ودعا زمعة بن
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin