الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء 13
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 182 “
وقف بالقصور على دخلة * حزينا وقل أين أربابها
وأين الملوك ولاة العهود * رقاة المنابر غلّابها
تجيبك آثارهم عنهم * إليك فقد مات أصحابها
الدخلة بالضم : باطن الأمر . يقال : هو عالم بدخلته أي بباطن أمره . انتهى .
رسالة اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك
كتب بعض أدباء المغرب إلى بعض إخوانه بمكة :
أخي الأعز الأكرم الأفضل ، الأبرّ الأوفى الأوصل ، الذي أستوحش لفراقه ، أذوب أسى وكمدا إن لم أجتمع به في تلك المشاهد الكريمة ، وإلا قد بلغك اللّه المنى ، وأحلك عن قريب بعرفات ومنى . رسمته إليك من فاس والأشواق بعدك تصعد الأنفاس ، فإلى اللّه الكريم أشكو بينك ، وإليه سبحانه أتوسل وله أسأل أن يجمع بحرمه الكريم آخرا كما جمع أولا بيني وبينك .
فلقد فارقت وودّعت ، وأودعت الجوانح من تباريح الشوق ما أودعت ، وفطرت الأفئدة بحسب مقصدك المبارك المحرس وصعدت فيسرّ اللّه إلى تلك المثابة الأمنية عودة وصولك ، وبلغك من لقائها غاية سؤلك ، وسنى في ذلك الحرم الشريف المنيف بغية حصولك ، وأجرى فلكك بريح السلامة حين ينتهي إن شاء اللّه عن كل ولي من أولئك إلى تلك المشاهد المعظمة ، والمعاهد المكرّمة ، تحيته العاطرة وسلامه ، وتذكرة عند مباشرتك تقبيل الحجر الأسود واستلامه ، بحول اللّه عز وجل ، فإذا بدأت على بركة اللّه تعالى بأول المناسك ، فاشعر نفسك لبؤس المحبة أيها الناسك ، ومن أي مواقيت الحج أحرمت ،
وقد أشعلت بعد الاغتسال نار شوق الوقادة في قلبك وأضرمت ، فاغتبط أيها الوافد على حرم اللّه تعالى فقد استكرمت ، فارفع صوتك بالإهلال ، ملبيا دعوة ذي الجلال ، حتى إذا شارفت مكة الغرّاء ، وأن تجتلي في منصتها العروس الزهراء ،
فادخل على اسم اللّه وسنّة نبيه من باب بني شيبة ، وقل اللهم صن من لفح نارك هذه الشيبة ، فإذا اكتحلت عيناك بسناء الكعبة البيت الحرام وذهلت ، فهناك استهونت كل مشقة لقيتها في طريقك ، واستسهلت ودنوت حتى وقفت خلف الحجر الأسود ، وجعلته على يسارك وكبّرت ، وقبّلت حيث قبّل المصطفى صلى اللّه عليه وسلم واستعبرت ، وأخذت في الأشواط الثلاثة بالرمل ، وقد أيقنت ببلوغ أقصى الأمل .
ثم أكملت بالسعي مأمولك بقية أسبوعك ، فحينئذ تجد برد السلوة عن أوطانك
“ 183 “
وربوعك ، ثم اركع ركعتي الطواف خلف المقام ، وادع لمن بعدك بالمقام ، وتعلق بالأستار داعيا عند الملتزم ، وتضلع عند شربك من ماء زمزم ، وانو فيه نيّة من أخلص للّه عمله ، فماء زمزم لما شرب له ، ثم اجعل خروجك على باب الصفا والمروة ، وقف على درجاتها ، وادع بخلاص نفسك ونجاتها ، ثم انحدر في وادي إبراهيم عليه السلام ، فإذا بلغت الميل الأخضر فخذ في الرمل أخذ المجد إذا أحضر ، فإذا أتممت السعي فبادر بالحلاق ، وتجنب التقصير ، فللمحلقين وجبت الدعوة النبوية وجوب استحقاق ، فإن لم تكن معرفا فأخرج متى شئت للتنعيم ، واحرم من مسجد عائشة رضي اللّه عنها بعمرة ، وقل : طوبى لمن أفنى في هذه الأحوال السنيّة ، والمشاعر المرضية ، عمرة ، ولازم الحجر الكريم ، وقف داعيا تحت ميزابه ، وتذكر إخوانك بالدعاء ، وكلما أسلفت من خير تجزى به ، وصلّ على الرخامتين الخضراوين فهما علامتا قبري إسماعيل وأمه هاجر ، وقل : الحمد للّه الذي جعلني ممن انقطع إلى حرمه المعظم وهاجر ، وإذا فتح باب الكعبة المعظمة المكرّمة فكن فيها أول داخل ، وأول خارج ، وهنئ قدميك تربيهما في تلك المدارج وتوخّ مصلى النبي صلى اللّه عليه وسلم متوسلا إلى اللّه ذي المعارج ، واستدع معاينة المقام الكريم عند باب الرحمة ، وقيل فيه ، واشرب ماء زمزم في أثر القدمين المباركين ، فطوبى لمن باشرهما بغية .
وفي أثناء مقامك تعهد المعاهد الشريفة والآثار ، وحرّك فيها شوقك المثار ، وزر المولد المقدّس المبارك ، واجعل فيه نظرك واعتبارك ، والمم بدار الخيزران وسائر تلك المنازل الشريفة والمواطن .
وصل بما أمكنك من الصدقة كل ثاو فيها وقاطن ، وزر القبور الطاهرة بالمعلّى ، واعل على جبل أبي قبيس وقيقعان ، فحقّ أن يشرف عليهما ويعلى . واقصد جبل حراء ، واصعد في ذروته ، ففيه رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم أول علامات نبوّته . وارقأ جبل ثور ، ولج الغار ، وتذكر ثاني اثنين إذ هما فيه ، فنفس كل جبل عليه وغار . حتى إذا ظلّ شهر ذي الحجة ، وأحرم وفود اللّه لهلاله ، وبدا كل واحد بإهلاله ، وارتفعت بالتلبية الأصوات في أعقاب الصلوات ، وأقاموا على التلبية ، متأهبين ليوم التروية ، فيا لك من يوم تسابق فيه إلى منى بالصعود ، واستبشروا بمطالع السعود . فتعدّوا منى إلى عرفات ، موقنين برحمة اللّه عز وجل ومنازل الآمن في الغرفات ، مرتفعين عن بطن عرفة ، علما بأن من وقف فيه فقد ذهب حجه عامه ذلك وفات . ثم أصبحوا يوم عرفة وقد جلّلت الأرض فساطيط أهل العراق ، وسائر الآفاق ، كأنها قطع أزهار ذات ألوان ، صنوان وغير صنوان ، تخال البسيطة منها في بستان . فارتقوا جبل الرحمة ، ثم نزلوا إلى دار آدم يسألون ربهم المغفرة والرحمة . وفي أثناء ذلك ابتاعوا قرابينهم المتقبّلة ليأكلوا منها ، ويجعلوا بقاياها على البائس الفقير مسبلة ،
“ 184 “
فإذا اغتسلوا وتطهروا للجمع بين الظهر والعصر في مسجد إبراهيم ، فهم أيها الأخ الأكرم في تلك المسالك المباركة وجدا وشوقا فحقّ أن تهيم . وهنالك لا تنس أخاك ، وحاشاك أن تنساه ، وواسه بدعوة ، فمثلك من واساه .
ثم اجتمعوا مع العشي بإزاء موقف النبي صلى اللّه عليه وسلم عند الصخرات ، وقد ارتفعت بالتهليل والتكبير والتلبية الأصوات ، وأسيلت العبرات ، وصعدت الزفرات ، وأثيرت بازدحام الركائب الغبرات ، وقد واجهوا الكعبة المقدسة واستقبلوها ، ورجوا الرحمة من اللّه عز وجل وأملوها ، واقفين شعثا غبرا ، لا يرى منهم إلا ذو مقلة عبرا ، يتذكرون بذلك الموقف العظيم موقف الحشر فما يستطيعون صبرا ، باسطو أيديهم لمولاهم الكريم الكفيل بارتقابهم ، يتضرعون إليه في فكاك رقابهم ، وحط أوزارهم التي حملوها باحتقابهم ، يباهي بهم اللّه عز وجل ملائكة السماء .
ويقول : اشهدوا بأني قد رحمتهم فأنا أرحم الرحماء .
وقد غصّت بذلك الجمع الأرض الأريضة ، والشمس تجنح للغروب مريضة ، حتى إذا وجبت ، حلت الإفاضة ووجبت ، فوصلوا مع الليل جمعا ، وقرنوا به بين المغرب والعشاء جمعا ، ومسجده المبارك قد استنار مشاعل وشمعا ، ولكثرة الضجيج والعجيج لا يستطيع أحد سمعا ، ولا تملك العيون دمعا ، وباتوا يتلفظون ويكسرون حصا الجمار ، وكلّ مسرور بسميره تلك الليلة ، فيا شرف تلك الأسمار ، وعند الأسفار وقفوا داعين ، ثم أفاضوا إلى منى مسرعين ، وأجازوا وادي محسّر بالنّظّ والرّمل ، فائزين من اللّه عز وجل بالصنع الأجمل ، مقتدين بما ورد في ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من العمل ، فرموا جمرة العقبة المحللة ، ونفوسهم منبهجة متهللة ، ثم انقلبوا للحلاق ، والتقرب بالدم المهراق ، إلى المهيمن الخلاق ، وبعد ذلك ساروا الطواف الإفاضة ، لابسين من التقوى خير مفاضة ، ثم عادوا محلّين قد أتموا الحج ، وقضوا الثجّ والعجّ ، وأقاموا متنعمين أيام منى بالأكل والشرب ، وكل منهم قد أصبح آمن السّرب ، يرمون في كل يوم في محصّب الجمار الثلاث إحدى وعشرين جمرة ، والشوق يلهب في أحشائهم جمرة ، وأكثر الناس مع ذلك في بيعهم وشرائهم في غمرة ، وأهل الانقطاع إلى اللّه ، وتجار الآخرة في مسجد الخيف مقيلهم ، وذكر اللّه قيلهم ، يسألون ربهم الإقالة ، والرب بكرمه يقيلهم ، مثابرين على التهليل والتسبيح ، ظافرين بالمتجر الرّبيح ، ملمّين بزيارة موضع الذّبيح ، ثم تعجّلوا في يومين بالنفر ، فهنيئا لك أيها الأخ الكريم كونك في أولئك السفر ، فإذا تأهبت للزيارة الطيبة ، وطفت طواف الوداع ، فاستودع اللّه دينك وأمانتك ، فهو أهل الإيداع ، وسر على بركة اللّه ،
“ 185 “
فإذا اجتزت بقبر أم المؤمنين ميمونة بسرف ، فامسك عنانك وقف ، واسكب دمعك فيه رحمة واذرف ، ففي ذلك الموضع كاتبها ، وابتنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بها ، وفيه قضيت وفاتها ، ومنه تجيء زمرتها الطاهرة ورفاتها ، ثم عج في طريقك على خيمة أم معبد ، فقد حازت بحلول الرفيقين الكريمين فيها شرف الذكر آخر الأبد .
وإذا جئت بدرا فحيّ شهداءه بالسلام ، فهو أول مشهد نصر اللّه فيه الإسلام ، حتى إذا بدت لك أعلام المدينة ، فأبشر باحتلالك البلد الذي أظهر اللّه فيه دينه ، فإذا مررت بمسجد ذي الخليفة فعرّج عليه ولا تعرج عنه ، وحيّه بركعتين فهو المسجد المبارك الذي أحرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منه ، حتى إذا جزت وادي العقيق فهنالك انزل وامش كرامة لمن حل في ذلك المنزل ، وادخل على اسم اللّه ، وعليك الوقار والسكينة ، واكس الخضوع والخشوع نفسك المسكينة ، فإذا دخلت مسجد الشفيع الرفيع فاقصد بعد ركعتي التحية روضة سيد دار السلام بالسلام ، وأمثل قبالة وجهه الكريم ، وحيّه صلى اللّه عليه وسلم بأفضل التسليم ، والزم هنالك أدب التوقير والتعظيم ، وقف ، وإياك أن تلمس الجدار وتلثم ، فقد نهى عن ذلك ، ولعلّ فاعله أن يأثم ، وسلم على الصديق ، والفاروق ، وزيريه وصاحبيه ، وقم كالمسين بين الكريمتين يديه ، فغدا ترجو الشفاعة لديه ، وإنه سلام أولئك إليه صلى اللّه عليه وسلم ، وحافظ على الصلاة بين قبره ومنبره عليه السلام ، فبينهما روضة من رياض الجنة ، وألمس الدرجة المباركة الباقية من المنبر الكريم موقف القدمين المقدّستين ، واتخذ التبرّك بلمسها جنة ، وطف على تلك المنازل الكريمة والديار ، واستقر مواطن البررة الأخيار ، وزر قبور أمهات المؤمنين وروضة العباس والحسن رضوان اللّه عليهم أجمعين ببقيع الفرقد ، وإن أضرم الوجد عليهم نار الحزن بين جوانحك وأوقد ، وحدّث نفسك باللحاق السريع بهم فكان قد عرّج في آخر البقيع على روضة ذي النورين عثمان بن عفان ، ومل إلى روضة فاطمة بنت أسد أم علي السابق إلى الإيمان ، ولا تنس عن يسارك إذا خرجت على باب البقيع قبر العمة الطاهرة صفية ، أم الزبير الذي كان حواري الرسول صلى اللّه عليه وسلم وصفية ، وامش إلى قباء مظهر الأسوة برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والاقتداء ، وزر بأحد عم المصطفى حمزة والشهداء ، فإذا أذن بالارتحال ، فأمل أن تجمع في الزيارة بين المساجد الثلاثة التي لا تشدّ إلا إليها الرحال ، مؤثرا سلوك المحجة البيضاء من السنّة ، ملتمسا بركة الحديث المأثور : « من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على اللّه الجنة » ، والضامن ملي ، وهو صلى اللّه عليه وسلم بالمؤمنين ولي ، فاعمل ركابك إلى المسجد الأقصى ، واستقصي الطواف بجميع آثاره المقدسة ، فمثلك من استقصى ، وإن استطعت الإحرام منه أولا ، فهو أفضل عمل صالح يدّخر ، وقد ورد فيه حديث بمغفرة ما تقدم من الذنب وما تأخر ، حيث اختص المصطفى صلى اللّه عليه وسلم بالإسراء ، وعرج
“ 186 “
به إلى السماء ، بعد أن صلى فيه بجميع الأنبياء ، وتبرّك بالصخرة المقدسة ، فمنها كان معراج سيد البشر ، وصلي خلفها ، فهي المكان القريب الذي ينادي المنادي منه للمنشر والمحشر ، وادخل قبة السلسلة واركع فيها ، وادع لنفسك ونفوس إخوانك بتداركها بالتوبة وتلافيها ، وصلّ في محراب زكريا ، وإياك والرياء ، وفي محراب مريم حيث دخل عليها فوجد الرزق من اللّه لديها ، وأرق في محراب داود حيث كان تسوّر الخصم ، وصلّ فيه متوسلا إلى اللّه بشرف ذلك الاسم ، وواصل بالزيارة مبدئا لها ومعيدا ، موضع نزول المائدة التي كانت لبني إسرائيل آية وعيدا ، وأسمعوا على الكفر بعد نزولها وعيدا ،
ولا تمش في جميع تلك الأرض المقدسة إلا بانكسار واستحياء ، فإنك لا تخطو فيها خطوة إلا على مواطئ أقدام الأنبياء ، ولا تنس أن تتطهر في عين سلوان ، واذكر فيه من لم يحدّث نفسه عنك بسلوان ، ثم أخذت للخليل في الرحيل ، فابدأ في أول طريقك بقبر راحيل ، ثم بمولد المسيح ، وموضع مهده ،
وسل من اللّه قبول مساعيك ، واستعنه واستهده ، واعطف على موضع جذع النخلة الذي هزّت به مريم فأسقط عليها رطبا جنيّا فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ، ثم المم في طريقك ، وحق لك الإلمام ، بقبر يونس ولوط عليهما السلام ، فإذا انتهيت إلى قبر الخليل ، وقبر إسحاق ويعقوب ، وقد حننت إليهم حنين الرقوب ، فهنالك تقبّل مزارك ، وتحط إن شاء اللّه أوزارك ، وخارج ذلك الحرم الخليلي على ما يذكر قبر يوسف الصديق ، واللّه أعلم بالتحقيق ،
فإذا قضيت بحول اللّه عز وجل وقوته من زيارة جميع تلك الآثار المقدسة إربك ، فلا تذكر بعدها مغربك ، فقد منّ اللّه عليك بتجديد عهد الوفادة عليها ، والنظر إليها ، وما ذكرتها لك على هذا النسق إلا تبرّكا بذكراها ، وتشوّقا للعودة الثالثة عسى نجدد العهد الكريم بها وأراها ، واستطابة للحديث معك فيها لأنك تعرف بالمعاينة معناها ، وليس من درى حقيقة الشيء كمن لا يدريه ، وأين شوق آدم للجنة من شوق بنيه ؟
فعد إلى حرم اللّه العظيم ، وألق فيه عصا تسيارك ، وقر عينا بمآل اختيارك ، وأقم بقية عمرك فيه مستوطنا ، والنية الصادقة الخالصة للّه عز وجل مستبطنا ، وقل رب تركت من إخواني عبيدا مشتاقين للعودة إلى حرمك ، متوسلين إليك في ذلك بفضلك وكرمك ، فسهّل بعزّتك وقدرتك مرامهم ، وسكّن بالوصول إلى كعبتك المقدسة المشرّفة غرامهم ،
وعرّفهم معاهدهم الكريمة بعرفات ، والمشعر الحرام ،
وشرّفهم بالمثول فيها قبل أن تقضي على مدتهم بالانصرام ،
وتفجأ أعمارهم قواطع الاخترام ، إنك سبحانك مولى المنن الجسام ، ومقدّر الحظوظ السنيّة لعباده والأقسام ، واقرأ عليك أيها الأخ الأسنى ، المختوم له إن شاء اللّه بالحسنى ، سلاما أعطر من الزهر عند الابتسام ، يتلقاه مسك دارين بالتنشق والابتسام ، ورحمة اللّه وبركاته .
“ 187 “
وصية نبوية
روينا من حديث الهاشمي فيما يرويه من حديث أبي ذرّ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال لرجل يوصيه :
« أقلل من الشهوات يسهل عليك الفقر ، وأقلل من الذنوب يسهل عليك الموت ، وقدم مالك أمامك يسرّك اللحاق به ، واقنع بما أوتيته يخف عليك الحساب ، ولا تتشاغل عما فرض عليك بما قد ضمن لك ، إنه ليس بفنائك ما قسم لك ، ولست بلاحق ما زوي عنك ، فلا تك جاهدا فيما يصبح نافدا ، واسع لملك لا زوال له في منزل لا انتقال عنه » .
ومن حديثه أيضا عن ابن عباس قال :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « ما سكن حبّ الدنيا قلب عبد إلا التاط منها بثلاث : شغل لا ينفك عناه ، وفقر لا يدرك غناه ، وأمل لا ينال منتهاه . إن الدنيا والآخرة طالبتان ومطلوبتان ، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل رزقه ، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يأخذ الموت بعنقه . ألا وإن السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها على فانية لا ينفد عذابها ، وقدم لما يقدم عليه فيما هو الآن في يديه ، قبل أن يخلفه لمن سعد بإنفاقه ، وقد شقى هو بجمعه واحتكاره » .
روينا من حديث محمد بن العماد قال : كنا يوما عند إسحاق بن نجيح ، وعنده جارية يقال لها شادن ، موصوفة بجودة ضرب العود ، وشجو صوت ، وحسن خلق ، وظرف مجلس ، وحلاوة وجه .
فأخذت العود وغنّت :
ظبيّ تكامل في نهاية حسنه * فزها ببهجته وتاه بصده
والشمس تطلع من فرند جبينه * والبدر يغرب في شقائق خده
ملك الجمال بأسره فكأنما * حسن البرية كلها من عنده
يا رب هب لي وصله وبقاءه * أبدا فلست بعائش من بعده
فطارت عقولنا وذهبت ألبابنا من حسن غنائها وظرفها ، فقلت : يا سيدتي ، من هذا الذي تكامل في الحسن والنّهى سواك ؟ فقالت :
فإن بحت نالتني عيون كثيرة * وأضعف عن كتمانه حين أكتم
يحكى عن الخنساء أنها دخلت على عائشة وعليها صدار من شعر ، فقالت لها عائشة رضي اللّه عنها : أتتخذين الصدار وقد نهى عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ فقال : يا أم المؤمنين ، إن
“ 188 “
زوجي كان متلافا منفقا ، فقال لي : لو أتيت معاوية فاستعنت به ، فخرجت ، فلقيني صخر ، فأخبرته ، فشاطرني ماله ثلاث مرت ، فقالت امرأته : لو أعطيتها من شرارها يعني الإبل ،
فقال :
واللّه لو أمنحها شرارها * وهي حصان قد كفتني عارها
وإن هلكت مزّقت خمارها * واتخذت من شعر صدارها
فلما هلك صخر اتخذت هذا الصدار ونذرت أن لا أضعه حتى أموت .
حدثنا بعض مشايخنا من أهل الأدب ، قال عمرو : قال بعضهم : رأيت أعرابية بالتياح ، فقلت لها : أنشديني ، قالت : نعم ورب الكعبة ، قلت : فأنشديني ، فأنشأت :
لا بارك اللّه فيمن كان يخبرني * أن المحب إذا ما شاء ينصرف
وجد المحب إذا ما بان صاحبه * وجد الصبيّ بثديي أمه الكلف
فقلت : فأنشديني من قولك ، فقالت :
بنفسي من هواه على التنائي * وطول الدهر مؤتلف جديد
ومن هو في الصلاة حديث نفسي * وعدل الروح عندي بل يزيد
فقلت لها : إن هذا الكلام ممن قد عشق ، فقالت : وهل يعرى من ذلك من له سمع أو قلب ؟ ثم أنشدتني :
ألا بأبي واللّه من ليس شافعي * بشيء ومن قلبي على النأي ذاكره
له خفقان يرفع الجنب كالشجا * ويقطع أزرار الجريان ثائره
وروينا من حديث عمر بن يزيد الأسدي قال : مررت بخرقاء صاحبة ذي الرمّة ، فقلت لها : هل حججت قط ؟ فقالت : أما علمت أني منسك من مناسك الحج ؟ ما منعك أن تسلّم عليّ ؟ أما سمعت
قول عمك ذي الرمة وهو ينشد :
تمام الحج أن تقف المطايا * على خرقاء واضعة اللثام
فقلت لها : قد أثر فيك الدهر ، قالت : أما سمعت قول عمك العجيف العقيلي :
وخرقاء لا تزداد إلا ملاحة * ولو عمّرت تعمير نوح وحلت
قال : ورأيتها وإن فيها المباشرة ، وإن ديباجة وجهها لطريّة كأنها فتاة ، وإنها لتزيد يومئذ على المائة . وشبب بها ذو الرمة وهي ابنة ثمانين سنة .
حدثني أبو ذرّ بإشبيلية أن سبب أن سميت الخرقاء وهي ميّ ، وسمي ذو الرمة وهو غيلان ، أن رآها يوما فتعرّض إليها وبيده حبل بال لتعمل له نعله ، وكان قد انتقض ، وأراد
“ 189 “
بذلك الكلام معها ، فقالت له : إني خرقاء يا ذا الرمة ، أي لا أحسن العمل . والخرقاء : التي لا تحسن العمل ، والصناع ضدها . والرمة : الحبل البالي . فجرى عليهما هذان الاسمان إلى هذا اليوم .
وروينا من حديث الهاشمي يبلغ به النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :
« كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ، وأعدد نفسك في الموتى . وإذا أصبحت نفسك فلا تحدثها بالمساء ، وإذا أمسيت فلا تحدثها بالصباح . وخذ من صحتك لسقمك ، ومن شبابك لهرمك ، ومن فراغك لشغلك ، ومن حياتك لوفاتك ، فإنك لا تدري ما اسمك غدا » .
قال بعض الأعراب : الموت يقتحم على ابن آدم كاقتحام الشيب على الشباب ، ومن عرف الدنيا لم يفرح بها ولا بزخارفها ، ولم يحزن فيها على بلوى ، ولا طالب أغشم من الموت ، ومن عطف عليه الليل والنهار أردياه ، ومن وكل به الموت أفناه .
أصيب الحجاج بمصيبة وعنده رسول لعبد الملك بن مروان ، فقال : ليت أني وجدت إنسانا يخفف مصيبتي ، فقال له الرسول : أأقول ؟ قال : قل ، قال : كل إنسان مفارق صاحبه بموت أو بصلب أو بنار تقع عليه من فوق البيت ، أو يقع البيت عليه ، أو يقع في بشر ، أو يغشى عليه ، أو يكون شيء لا يعرفه . فضحك الحجاج وقال : مصيبتي في أمير المؤمنين أعظم حين وجّه مثلك رسولا .
قال عبد اللّه بن المعتز : أهل الدنيا كصور في صحيفة كلما نشر بعضها طوي بعضها . وقال أيضا : أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيام . ينظر هذا إلى قول الآخر :
فسيرك يا هذا كسير سفينة * بقوم جلوس والقلاع تطير
وقال الآخر : طلاق الدنيا مهر الجنة . وسئل أعرابي عن حال الدنيا ، فقال : هي جمة المصائب ، رتقة المشارب ، لا تمتع صاحبا بصاحب قال أبو الدرداء : ما أنصف الدنيا ، ذمّت بإساءة المسئ فيها ، ولم تحمد بإحسان المحسن فيها . غير أنه قال يوما : من هوان الدنيا على اللّه أنه لا يعصى إلا فيها ، ولا ينال ما عنده إلا بتركها . وهو الذي يقول فيها أيضا : إذا أقبلت الدنيا على امرئ أعارته محاسن غيره ، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه .
وروينا من حديث الطفيل بن عامر العامري قال : خرجت يوما أريد الغارة ، وكنت رجلا أحب الوحدة ، فبينما أنا أسير إذ ضللت الطريق التي أردت ، فسرت أياما لا أدري أين
“ 190 “
التوجّه حتى نفذ زادي ، فجعلت آكل الحشيش وورق الشجر حتى أشرفت على الهلاك ، ويئست من الحياة . فبينما أنا أسير إذ بصرت بقطيع غنم في ناحية من الطريق ، فملت إليها فإذا أنا بشاب حسن الوجه فقال : يا ابن العم ، أين تريد ؟ فقلت : أردت حاجة لي في بعض المدن ، وما أحسست بنفسي إلا وقد ضللت عن الطريق . قال : أجل ، إن بينك وبين الطريق مسيرة أيام ، فانزل حتى تستريح وتطمئن ، وتريح نفسك وفرسك . فنزلت ، ورمى لدابتي حشيشا ، وجاءني بثريد كثير ولبن ، ثم قام إلى كبش فذبحه ، وأجّج نارا ، وجعل يكبّب لي ويطعمني حتى اكتفيت .
فلما جنّ الليل قام وفرش لي .
ثم قال : قم فأرح نفسك ، فإن النوم أذهب لتعبك ، وأرجع لنفسك .
فقمت ووضعت رأسي ، فبينما أنا نائم إذ أقبلت جارية لم تر عيناي مثلها قط حسنا وجمالا ، فقعدت إلى الفتى ، وجعل كل واحد منهما يشكو إلى صاحبه ما يلقى من الوجد به ، فامتنع عليّ النوم بحسن حديثهما .
فلما كان في وقت السحر قامت ورجعت إلى منزلها . فلما أصبحت دنوت منه ، فقلت له : من الرجل ؟ قال : أنا فلان ابن فلان فانتسب لي فعرفته ، فقلت : ويحك ، إن أباك لسيّد قومك ، وما حملك على وضع نفسك في هذا المكان ؟
فقال : أنا واللّه أخبرك ، كنت عاشقا لابنة عمي هذه التي رأيتها ، وكان هي أيضا لي وامقة ، فشاع خبرنا في الناس ، فأتيت عمي أن يزوّجنيها ، فقال : واللّه يا بني ما سألت شططا ، وما هي بأبرّ عنك ، ولكن الناس قد تحدثوا بشيء ، وعمك يكره المقالة القبيحة ، ولكن انظر غيرها في قومك حتى يقوم عمك بالواجب لك .
فقلت : لا حاجة لي فيما ذكرت ، وتحمّلت عليه بجماعة من قومي فردّهم . وزوّجها رجلا من ثقيف له رئاسة وقدر ، فحملها إلى هاهنا ، وأشار بيده إلى خيم كثيرة بالقرب منا ، فضاقت عليّ الأرض برحبها ، وخرجت في أثرها ، فلما رأتني فرحت فرحا شديدا ، فقلت لها : لا تخبري أحدا بي منك بسبيل . ثم أتيت زوجها ،
فقال : أنا رجل من الأزد ، أصبت دما ، وإني خائف ، وقد قصدتك لما يعرف من رغبتك في اصطناع المعروف . ولي بصر بالغنم ، فإن رأيت أن تعطيني من غنمك فأكون في جوارك وكنفك فافعل .
قال : نعم وكرامة ، فأعطاني مائة شاة ، وقال لي : لا تبعد بها عن الحي ، وكانت ابنة عمي تخرج في كل ليلة في الوقت الذي رأيت وتنصرف ، فلما رأى حسن حال الغنم أعطاني هذه ، فرضيت من الدنيا بما ترى .
قال : فأقمت عنده أياما ، فبينما أنا نائم إذ نبّهني وقال : يا أخا بني عامر ، قلت له : ما
“ 191 “
شأنك ؟ قال : ابنة عمي قد أبطأت ولم تكن هذه عادتها ، وما أظن ذلك إلا لأمر حادث .
وأنشأ يقول :
ما بال ميّة لا تأتي لعادتها * هل هاجها طرب أو صدّها شغل
لكن قلبي لا يغنيه غيركم * حتى الممات ولا لي غيركم أمل
أو تعلمين الذي بي من فراقكم * لما اعتذرت ولا طالك بك العلل
نفسي فداؤك قد أحللت بي حرقا * تكاد من حرّها الأنفاس تنفصل
لو كان غادية مني على جبل * لزلّ وانهدّ من أركانه الجبل
قال الطفيل : فو اللّه ما اكتحل بغمض حتى انفجر عمود الصبح ، وقام ومرّ نحو الحي ، فأبطأ عني ساعة ، ثم أقبل ومعه شيء يحمله ، وجعل يبكي عليه ، فقلت له : ما هذا ؟ فقال : هذه ابنة عمي افترسها السبع ، فأكل بعضها ووضعها بالقرب مني فأوجع واللّه قلبي ، ثم تناول سيفه ، ومرّ نحو الحي فأبطأ هنيهة ، ثم أقبل إليّ وعلى عاتقه ليث كأنه حمار ، فقلت : ما هذا ؟ قال : صاحبي ، قلت : وكيف عملت به ؟
قال : إني قصدت الموضع الذي أصابها فيه ، وعلمت أنه سيعود إلى ما فضل منها ، فجاء قاصدا إلى ذلك الموضع ، فعلمت أنه هو فحملت عليه ، فقتلته . ثم قام فحفر في الأرض ، فأمعن وأخرج ثوبا جديدا ،
وقال : يا أخا بني عامر ، إذا أنا متّ فأدرجني معها في هذا الثوب ، ثم ضعنا في هذه الحفرة ، وهلّ التراب علينا ، واكتب هذين البيتين على قبرنا :
كنا على ظهرها والعيش في مهل * والدهر يجمعنا والدار والوطن
فخاننا الدهر في تفريق الفتنا * فاليوم يجمعنا في بطنها الكفن
ثم التفت إلى الأسد فقال :
ألا أيها الليث المدلّ بنفسه * هبلت لقد جرّت يداك لنا حزنا
وغادرتني فردا وقد كنت آلفا * وصيّرت آفاق البلاد لنا سجنا
أأصحب دهرا خانني بفراقها * معاذ إلهي أن أكون له خدنا
وقال : يا أخا بني عامر ، إذا فرغت من شأننا ، فصح في إدبار هذه الغنم ، فردّها إلى صاحبها . ثم قام إلى شجرة فاختنق حتى مات ، فقمت ، فأدرجتهما في ذلك الثوب ، ووضعتهما في تلك الحفيرة ، وكتبت البيتين على قبرهما ، ورددت الغنم على صاحبها .
وسألني القوم عن الرجل ، فأخبرتهم الخبر ، فخرج جماعة منهم فقالوا : واللّه لننحرنّ عليه تعظيما له . فخرجوا ، وأخرجنا مائة ناقة ، وتسامع بنا الناس ، فاجتمعوا إلينا فنحرنا ثلاثمائة ناقة ، وانصرفنا .
“ 192 “
كتب جعفر بن محمد الأشعث إلى يحيى بن خالد يستعفيه من العمل : شكري لك على ما أريد الخروج منه شكر من سأل الدخول فيه .
وحدثنا بعض الأدباء ، قال : كتب علي بن هشام إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي :
ما أدري كيف أصنع ؟ أغيب فأشتاق ، وألقى فلا أشتفي . ثم يحدث لي اللقاء إذا طلبت منه الشفاء نوعا من الحرقة للوعة الفرقة .
وحدثنا محمد بن سعيد : قال رجل من قريش لخالد بن صفوان : ما اسمك ؟ قال :
خالد بن صفوان بن الأهتم . قال : إن اسمك لكذب ، ما أنت بخالد ، وإن أباك لصفوان ، وهو حجر ، وإن جدك الأهتم ، والصحيح خير من الأهتم . قال له خالد : من أي قريش أنت ؟ قال : من عبد الدار بن قصي بن كلاب ، قال : لقد هشمتك هاشم ، وأمتك أميّة ، وجمحت بك جمح ، وخزمتك مخزوم ، واقتصتك قصيّ ، فجعلتك عبد دارها ، تفتح إذا دخلوا ، وتغلق إذا خرجوا .
وحكي عن شهرام المروزي أنه جرى بينه وبين أبي مسلم صاحب الدولة كلام ، فما زال أبو مسلم يحاوره إلى أن قال شهرام : يا لقطة .
فصمت أبو مسلم ، وندم شهرام على ما سبق به لسانه ، وأقبل معتذرا وخاضعا ومتنصلا . فلما رأى ذلك أبو مسلم قال : لسان سبق ، ووهم أخطأ ، وإنما الغضب شيطان ، والذنب لي ، لأني جرأتك على نفسي بطول احتمالي منك ، فإن كنت متعمدا للذنب فقد شركتك فيه ، وإن كنت مغلوبا فالعذر سبقك ، وقد غفرنا لك على كل حال .
قال شهرام : أيها الملك ، عفو مثلك لا يكون غرورا . قال : أجل . قال : وإن عظيم ذنبي أن تدع قلبي يسكن . وألحّ في الاعتذار ، فقال أبو مسلم : فيا عجبا ، كنت تسيء وأنا أحسن إليك ، فإذا أحسنت أسأت .
روينا عن بعض إخواننا من أهل الأدب أن سليمان بن عبد الملك كان سبب موته أن استدعى يوما الجارية التي كانت على خزانة ملابسه ، فقال لها : ائتيني اليوم بثياب صفر .
فأتته بحلّة صفراء ، وعمامة صفراء ، وطيلسان أصفر ، من أحسن ما يكون . فتنظّف ، ولبس ، وتطيّب ، واستدعى صاحبة الوجه ، واستدعى بالمرآة ، فرأى وجهه وما عليه من البزّة الفاخرة ونضارة الملك ، فأعجبته نفسه ، وقال : واللّه لأخرجن اليوم على الناس ، وأصعد على المنبر ، وأتكلم من أحسن الكلام ، وما يليق بهذه الحالة .
وخرج يتبختر في مشيته زهوا وعجبا بنفسه ، فتعرضت له جارية يعرفها من جواريه ،
“ 193 “
فخدمت ، وسلّمت ، وقالت : ما أحسن هذه الحالة التي أنت فيها ، لو تمّ ، ثم أنشدت :
ليس فيما بدا لنا منك عيب * عابه الناس غير أنك فان
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى * غير أن لا بقاء للإنسان
فقال لها سليمان : يا فلانة ، ما حملك على هذا في هذا الوقت ؟ وتغيّر عليه الحال .
ثم إنه أكذب نفسه ، وتحامل على عقله بهواه ، ومضى لوجهه ، حتى خرج على قومه في زينته ، فأعجب الناس به ، وصعد المنبر ، فحمد اللّه وأثنى عليه بصوت يستوي في سماعه أقصى من في المجلس وأدناه ، وأبلغ وأسهب فأعجب ، وأوجز فأعجز . فبينما هو في أطيب ما يكون من الكلام أخذته الحمى ، فتحامل عليها ، فما زالت تخفض في صوته إلى أن سقط مغشيا عليه . ثم أفاق ، فحمل إلى منزله ورجلاه تخطّ في الأرض ضعفا ، وقوة من مرض . فلما دخل منزله استدعى الجارية التي تعرّضت له عند خروجه بالبيتين في صحن الدار ، فحضرت بين يديه ، فقال لها : يا فلانة ، أعيدي عليّ ما قلت عند خروجي .
فقالت له : يا سيدي ، ما أعرف ما تقول ، واللّه ما تعرضت إليك ، وكيف أجرؤ على التعرض إليك في صحن الدار وليست مرتبتي ؟ فعلم سليمان أن نفسه نعيت له ، فأوصى ، فلبث أياما ومات .
مثل سائر
أوفى من أمّ جميل ، وهي دوسية من قبيلة أبي هريرة رضي اللّه عنه ، فذكر أهل الأدب من وفائها أن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي قتل رجلا من الأزد ، فبلغ ذلك قومه بالسّراة ، فوثبوا على ضرار بن الخطاب الفهريّ ليقتلوه ، فعدا حتى دخل بيت أم جميل وعاذ بها ، فقامت في وجوههم ، ودعت قومها فمنعوه لها . فلما ولّي عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ظنت أم جميل أنه أخو ضرار بن الخطاب ، فأتته بالمدينة . فلما انتسبت عرف القصة ، فقال : يا أم جميل ، لست بأخيه إلا في الإسلام ، وقد عرفنا منّتك عليه . فأعطاها على أنها ابنة سبيل .
وأما وفاء السموأل بن عاديا ، فذكر أهل الأدب من وفائه أن امرأ القيس بن حجر لما أراد الخروج إلى قيصر استودع السموأل دروعا له ، فلما مات امرؤ القيس بأنقرة ، غزا السموأل ملك من ملوك الشام ، فتخوّر منه السموأل ، فأخذ الملك ابنا له وصاح به : يا سموأل ، هذا ابنك في يدي ، وقد علمت أن امرأ القيس ابن عمي ، وأنا أحق بميراثه ، فإن دفعت إليّ الدروع ، وإلا ذبحت ابنك ، قال : أجّلني ، فأجّله . فجمع أهل بيته ، فشاورهم
“ 194 “
فكلهم أشاروا بدفع الدروع وأن يستنقذ ابنه . فلما أصبح أشرف فقال : ليس إلى دفع الدروع سبيل ، فاصنع ما أنت صانع . فذبح الملك ابنه وهو ينظر إليه ، وكان يهوديا .
وانصرف الملك ، ووافى السموأل بالدروع الموسم ، فدفعها إلى ورثة امرئ القيس . وقال في
ذلك شعرا :
وفيت بأدرع الكنديّ إني * إذا ما خان أقوام وفيت
وقالوا عنده كنز وعيب * ولا وأبيك أعذر ما مشيت
بنى لي عاديا حصنا حصينا * وبئرا كلما شئت استقيت
وفي ذلك يقول الأعشى :
كن كالسموأل إذ طاف الهمام به * في عسكر كسواد الليل جرّار
خيّره خطّتا خسف فقال له * اختر وما فيهما حظ لمختار
فشكّ غير بعيد ثم قال له * اذبح أسيرك إني مانع جاري
وروينا من حديث الشعبي ، قال : قالت أم البنين ابنة عبد العزيز ، وهي أخت أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه ، وكانت تحت الوليد بن عبد الملك : لو كان البخل قميصا ما لبسته ، أو طريقا ما سلكته . وكانت تعتق في كل يوم رقبة ، وتحمل على فرس في سبيل اللّه . وكانت تقول : البخل كل البخل من بخل على نفسه بالجنة .
أخبرني أبو القاسم البخاري ، قال : أخبرني أبو عبد اللّه الغزّال بالمرية قال : سمعت أبا العباس بن العريف الصنهاجيّ ، عارف وقته ، يقول : ليس السخي من يسخى بماله ، إنما السخي من يسخى بنفسه على العلم .
في الحكمة
ثواب الجود : خلف ، ومحبة ، ومكافأة . وثواب البخل : حرمان ، وإتلاف ، ومذمّة .
سئل الإسكندر : ما أكبر ما شيّدت به ملكك ؟ قال : ابتداري إلى اصطناع الرجال والإحسان إليهم .
وكتب أرسطاطاليس : يا إسكندر ، اعلم أن الأيام تأتي على كل شيء فتخلقه ، وتخلق آثاره ، وتميت الأفعال ، إلا ما رسخ في قلوب الناس . فأودع قلوبهم محبة أبدية تبقي بها حسن ذكرك ، وكريم أفعالك ، وشرف آثارك .
“ 195 “
جاء الشاعر السبتي من قرطبة إلينا إلى إشبيلية ، وكان صاحب ديوان بها أبو عبد اللّه بن تاكفت رحمه اللّه ، فلم يجد من ينزله ، فكتب إلى صاحب الديوان أبياتا :
أتجعل بالفرزدق والكميت * وفي قيد الحيا شعر السبيتي
يروّعني بشعرهما أناس * وجهلا روّعوا حيا بميت
لئن أسكنتني بيتا رفيعا * لتسكن من ثنائي ألف بيت
فأمر له صاحب الديوان بمنزله ، ونزل وأخصب عليه . فلقيته فسألته فشكر حاله .
حكمة
قال إبراهيم عليه السلام : وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ، قالوا : الثناء الحسن .
لما قدّم بزرجمهر إلى القتل قيل له : إنك في آخر وقت من أوقات الدنيا ، وأول وقت من أوقات الآخرة ، فتكلم بكلام تذكر به . فقال : أي شيء أقول ؟ الكلام كثير ، ولكن إن أمكنك أن تكون حديثا حسنا فافعل .
وأنشدنا بعض إخواننا قال : أنشدنا أبو القاسم بن فيرة الشاطبي قال : أنشدنا أبو العباس أحمد بن مسعود القيسي قال : أنشدنا أبو عامر بن حبيب ، عن أبي الحسن بن مفوز ، عن أبي عامر بن عبد البر ، عن عبيد اللّه بن عبد الرحمن بن الفرضي لنفسه :
ما يشتهي قرب السلاطين * غير ضعيف العقل مغبون
لا تكذبن عنهم فما صحبهم * منهم على دنيا ولا دين
دنياهم بالخزي موصولة * فلا تسل عن دين مفتون
لا رأي لي في نيل دنياهم * حسبي بأن يسلم لي ديني
أخبرني بعض الحكماء قال : شكى رجل إلى أياس بن معاوية كثرة ما يهب ، ويصل به الناس ، وينفق . فقال : إن النفقة داعية الرزق . وكان جالسا على باب فقال للرجل : أغلق هذا الباب ، فأغلقه ، فقال : هل يدخل فيه الريح ؟
قال : لا . قال : فافتحه ، ففتحه ، فجعلت الرياح تخترق في البيت .
فقال : هكذا الرزق ، أغلقت فلم يدخل الريح ، فكذلك إذا أمسكت لم يأتك الرزق .
حدثنا بعض شيوخنا قال : تنازع في الضيافة رجل عربي وآخر فارسي .
فقال الأعرابي : نحن أقرى للضيف . قال : وكيف ذلك ؟ قال : لأن أحدنا لا يملك إلا بعيرا ، فإذا
“ 196 “
حلّ به ضيف نحره له . فقال الفارسي : فنحن أحسن مذهبا في القرى منكم . قال : وما ذاك ؟ قال : نحن نسمي الضيف مهمان ومعناه أنه أكبر من في المنزل والمكان .
أخبرنا عبد الرحمن بن ميمون ، أنا أبو القاسم الرعيني قال : كان شيخنا أبو محمد عليم بن هانئ العمري من أشدّ الناس انقباضا عن أهل الدنيا ، وكان كثيرا ما ينشد الأبيات المنسوبة إلى الفقيه
الإمام يونس بن مغيث :
أقرّ إليك من ظلمي لنفسي * وسلّمني العبيد وأنت أنسي
لقاؤك مأملي وبك افتخاري * وذكرك في الدّجى قمري وشمسي
قصدت إليك منقطعا غريبا * لتؤنس وحدتي في قعر رمسي
وللعظمى من الحاجات عندي * قصدت وأنت تعلم سرّ نفسي
قال الشاطبي : ودخلت عليه رضي اللّه عنه عقيب عيد الفطر فقال لي : مرّ عليّ أمس بعض الأمراء في مركب فاخر وملبس باهر والناس يغبطونه بذلك . فقلت أبياتا وهي :
محالات تجرّ إلى محال * وأحوال تحول بكل حال
ملابس قد تبدّل ثم تبلى * وأجسام تؤول إلى اضمحال
فناء عاجل لو يقض مرّت * وكل إقامة تالي ارتحال
فما المغبوط من ركب المطايا * بعزّ أو تسربل في الجمال
ولكنّ المغبّط من تردّى * بثوب الذلّ رهبة ذي الجلال
فإن شئت البقاء بلا نفاد * وعزّ لا يكدّر بالزوال
فمت حيا تعش حيا وميتا * وتنعم بالكواعب في الظلال
وقم في الليل ويحك مستكنّا * وقل يا سيّدي اسمع مقالي
حياتي في الذي تدري وموتي * وجود الهجر من بعد الوصال
فنائي في بقائي لي بقاء * وأن يفنى فنائي لا أبالي
أجرني أن أرى نفسي أعذني * حبيبي أن يخيّل لي خيالي
وجد بالمجدّ ويحك في جهاد * وبع ما شئت مبخوسا بغالي
قال الشاطبي : كان سبب موت هذا السيد أنه اضطرّ إلى الاجتماع بالسلطان في نازلة نزلت به ، فسار إليه ، فلما جاء البلد الذي السلطان فيه ، خلا بنفسه في ليلة جمعة ، فصلى بسورة فيها سجدة ، فلما سجد سأل ربه الموت ولا يجتمع بالسلطان ، فانقطع كلامه وهو ساجد ، فرفع وهو كذلك ، فلبثت يومين وهو لا يتكلم ، ومات . وكان هذا الشيخ قد نهبت داره ، فجعل يبكي ، فاجتمع إليه الفقهاء والأدباء يصبّرونه ، ويهوّنون عليه ما جرى . فقال
الجزء 13
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 182 “
وقف بالقصور على دخلة * حزينا وقل أين أربابها
وأين الملوك ولاة العهود * رقاة المنابر غلّابها
تجيبك آثارهم عنهم * إليك فقد مات أصحابها
الدخلة بالضم : باطن الأمر . يقال : هو عالم بدخلته أي بباطن أمره . انتهى .
رسالة اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك
كتب بعض أدباء المغرب إلى بعض إخوانه بمكة :
أخي الأعز الأكرم الأفضل ، الأبرّ الأوفى الأوصل ، الذي أستوحش لفراقه ، أذوب أسى وكمدا إن لم أجتمع به في تلك المشاهد الكريمة ، وإلا قد بلغك اللّه المنى ، وأحلك عن قريب بعرفات ومنى . رسمته إليك من فاس والأشواق بعدك تصعد الأنفاس ، فإلى اللّه الكريم أشكو بينك ، وإليه سبحانه أتوسل وله أسأل أن يجمع بحرمه الكريم آخرا كما جمع أولا بيني وبينك .
فلقد فارقت وودّعت ، وأودعت الجوانح من تباريح الشوق ما أودعت ، وفطرت الأفئدة بحسب مقصدك المبارك المحرس وصعدت فيسرّ اللّه إلى تلك المثابة الأمنية عودة وصولك ، وبلغك من لقائها غاية سؤلك ، وسنى في ذلك الحرم الشريف المنيف بغية حصولك ، وأجرى فلكك بريح السلامة حين ينتهي إن شاء اللّه عن كل ولي من أولئك إلى تلك المشاهد المعظمة ، والمعاهد المكرّمة ، تحيته العاطرة وسلامه ، وتذكرة عند مباشرتك تقبيل الحجر الأسود واستلامه ، بحول اللّه عز وجل ، فإذا بدأت على بركة اللّه تعالى بأول المناسك ، فاشعر نفسك لبؤس المحبة أيها الناسك ، ومن أي مواقيت الحج أحرمت ،
وقد أشعلت بعد الاغتسال نار شوق الوقادة في قلبك وأضرمت ، فاغتبط أيها الوافد على حرم اللّه تعالى فقد استكرمت ، فارفع صوتك بالإهلال ، ملبيا دعوة ذي الجلال ، حتى إذا شارفت مكة الغرّاء ، وأن تجتلي في منصتها العروس الزهراء ،
فادخل على اسم اللّه وسنّة نبيه من باب بني شيبة ، وقل اللهم صن من لفح نارك هذه الشيبة ، فإذا اكتحلت عيناك بسناء الكعبة البيت الحرام وذهلت ، فهناك استهونت كل مشقة لقيتها في طريقك ، واستسهلت ودنوت حتى وقفت خلف الحجر الأسود ، وجعلته على يسارك وكبّرت ، وقبّلت حيث قبّل المصطفى صلى اللّه عليه وسلم واستعبرت ، وأخذت في الأشواط الثلاثة بالرمل ، وقد أيقنت ببلوغ أقصى الأمل .
ثم أكملت بالسعي مأمولك بقية أسبوعك ، فحينئذ تجد برد السلوة عن أوطانك
“ 183 “
وربوعك ، ثم اركع ركعتي الطواف خلف المقام ، وادع لمن بعدك بالمقام ، وتعلق بالأستار داعيا عند الملتزم ، وتضلع عند شربك من ماء زمزم ، وانو فيه نيّة من أخلص للّه عمله ، فماء زمزم لما شرب له ، ثم اجعل خروجك على باب الصفا والمروة ، وقف على درجاتها ، وادع بخلاص نفسك ونجاتها ، ثم انحدر في وادي إبراهيم عليه السلام ، فإذا بلغت الميل الأخضر فخذ في الرمل أخذ المجد إذا أحضر ، فإذا أتممت السعي فبادر بالحلاق ، وتجنب التقصير ، فللمحلقين وجبت الدعوة النبوية وجوب استحقاق ، فإن لم تكن معرفا فأخرج متى شئت للتنعيم ، واحرم من مسجد عائشة رضي اللّه عنها بعمرة ، وقل : طوبى لمن أفنى في هذه الأحوال السنيّة ، والمشاعر المرضية ، عمرة ، ولازم الحجر الكريم ، وقف داعيا تحت ميزابه ، وتذكر إخوانك بالدعاء ، وكلما أسلفت من خير تجزى به ، وصلّ على الرخامتين الخضراوين فهما علامتا قبري إسماعيل وأمه هاجر ، وقل : الحمد للّه الذي جعلني ممن انقطع إلى حرمه المعظم وهاجر ، وإذا فتح باب الكعبة المعظمة المكرّمة فكن فيها أول داخل ، وأول خارج ، وهنئ قدميك تربيهما في تلك المدارج وتوخّ مصلى النبي صلى اللّه عليه وسلم متوسلا إلى اللّه ذي المعارج ، واستدع معاينة المقام الكريم عند باب الرحمة ، وقيل فيه ، واشرب ماء زمزم في أثر القدمين المباركين ، فطوبى لمن باشرهما بغية .
وفي أثناء مقامك تعهد المعاهد الشريفة والآثار ، وحرّك فيها شوقك المثار ، وزر المولد المقدّس المبارك ، واجعل فيه نظرك واعتبارك ، والمم بدار الخيزران وسائر تلك المنازل الشريفة والمواطن .
وصل بما أمكنك من الصدقة كل ثاو فيها وقاطن ، وزر القبور الطاهرة بالمعلّى ، واعل على جبل أبي قبيس وقيقعان ، فحقّ أن يشرف عليهما ويعلى . واقصد جبل حراء ، واصعد في ذروته ، ففيه رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم أول علامات نبوّته . وارقأ جبل ثور ، ولج الغار ، وتذكر ثاني اثنين إذ هما فيه ، فنفس كل جبل عليه وغار . حتى إذا ظلّ شهر ذي الحجة ، وأحرم وفود اللّه لهلاله ، وبدا كل واحد بإهلاله ، وارتفعت بالتلبية الأصوات في أعقاب الصلوات ، وأقاموا على التلبية ، متأهبين ليوم التروية ، فيا لك من يوم تسابق فيه إلى منى بالصعود ، واستبشروا بمطالع السعود . فتعدّوا منى إلى عرفات ، موقنين برحمة اللّه عز وجل ومنازل الآمن في الغرفات ، مرتفعين عن بطن عرفة ، علما بأن من وقف فيه فقد ذهب حجه عامه ذلك وفات . ثم أصبحوا يوم عرفة وقد جلّلت الأرض فساطيط أهل العراق ، وسائر الآفاق ، كأنها قطع أزهار ذات ألوان ، صنوان وغير صنوان ، تخال البسيطة منها في بستان . فارتقوا جبل الرحمة ، ثم نزلوا إلى دار آدم يسألون ربهم المغفرة والرحمة . وفي أثناء ذلك ابتاعوا قرابينهم المتقبّلة ليأكلوا منها ، ويجعلوا بقاياها على البائس الفقير مسبلة ،
“ 184 “
فإذا اغتسلوا وتطهروا للجمع بين الظهر والعصر في مسجد إبراهيم ، فهم أيها الأخ الأكرم في تلك المسالك المباركة وجدا وشوقا فحقّ أن تهيم . وهنالك لا تنس أخاك ، وحاشاك أن تنساه ، وواسه بدعوة ، فمثلك من واساه .
ثم اجتمعوا مع العشي بإزاء موقف النبي صلى اللّه عليه وسلم عند الصخرات ، وقد ارتفعت بالتهليل والتكبير والتلبية الأصوات ، وأسيلت العبرات ، وصعدت الزفرات ، وأثيرت بازدحام الركائب الغبرات ، وقد واجهوا الكعبة المقدسة واستقبلوها ، ورجوا الرحمة من اللّه عز وجل وأملوها ، واقفين شعثا غبرا ، لا يرى منهم إلا ذو مقلة عبرا ، يتذكرون بذلك الموقف العظيم موقف الحشر فما يستطيعون صبرا ، باسطو أيديهم لمولاهم الكريم الكفيل بارتقابهم ، يتضرعون إليه في فكاك رقابهم ، وحط أوزارهم التي حملوها باحتقابهم ، يباهي بهم اللّه عز وجل ملائكة السماء .
ويقول : اشهدوا بأني قد رحمتهم فأنا أرحم الرحماء .
وقد غصّت بذلك الجمع الأرض الأريضة ، والشمس تجنح للغروب مريضة ، حتى إذا وجبت ، حلت الإفاضة ووجبت ، فوصلوا مع الليل جمعا ، وقرنوا به بين المغرب والعشاء جمعا ، ومسجده المبارك قد استنار مشاعل وشمعا ، ولكثرة الضجيج والعجيج لا يستطيع أحد سمعا ، ولا تملك العيون دمعا ، وباتوا يتلفظون ويكسرون حصا الجمار ، وكلّ مسرور بسميره تلك الليلة ، فيا شرف تلك الأسمار ، وعند الأسفار وقفوا داعين ، ثم أفاضوا إلى منى مسرعين ، وأجازوا وادي محسّر بالنّظّ والرّمل ، فائزين من اللّه عز وجل بالصنع الأجمل ، مقتدين بما ورد في ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من العمل ، فرموا جمرة العقبة المحللة ، ونفوسهم منبهجة متهللة ، ثم انقلبوا للحلاق ، والتقرب بالدم المهراق ، إلى المهيمن الخلاق ، وبعد ذلك ساروا الطواف الإفاضة ، لابسين من التقوى خير مفاضة ، ثم عادوا محلّين قد أتموا الحج ، وقضوا الثجّ والعجّ ، وأقاموا متنعمين أيام منى بالأكل والشرب ، وكل منهم قد أصبح آمن السّرب ، يرمون في كل يوم في محصّب الجمار الثلاث إحدى وعشرين جمرة ، والشوق يلهب في أحشائهم جمرة ، وأكثر الناس مع ذلك في بيعهم وشرائهم في غمرة ، وأهل الانقطاع إلى اللّه ، وتجار الآخرة في مسجد الخيف مقيلهم ، وذكر اللّه قيلهم ، يسألون ربهم الإقالة ، والرب بكرمه يقيلهم ، مثابرين على التهليل والتسبيح ، ظافرين بالمتجر الرّبيح ، ملمّين بزيارة موضع الذّبيح ، ثم تعجّلوا في يومين بالنفر ، فهنيئا لك أيها الأخ الكريم كونك في أولئك السفر ، فإذا تأهبت للزيارة الطيبة ، وطفت طواف الوداع ، فاستودع اللّه دينك وأمانتك ، فهو أهل الإيداع ، وسر على بركة اللّه ،
“ 185 “
فإذا اجتزت بقبر أم المؤمنين ميمونة بسرف ، فامسك عنانك وقف ، واسكب دمعك فيه رحمة واذرف ، ففي ذلك الموضع كاتبها ، وابتنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بها ، وفيه قضيت وفاتها ، ومنه تجيء زمرتها الطاهرة ورفاتها ، ثم عج في طريقك على خيمة أم معبد ، فقد حازت بحلول الرفيقين الكريمين فيها شرف الذكر آخر الأبد .
وإذا جئت بدرا فحيّ شهداءه بالسلام ، فهو أول مشهد نصر اللّه فيه الإسلام ، حتى إذا بدت لك أعلام المدينة ، فأبشر باحتلالك البلد الذي أظهر اللّه فيه دينه ، فإذا مررت بمسجد ذي الخليفة فعرّج عليه ولا تعرج عنه ، وحيّه بركعتين فهو المسجد المبارك الذي أحرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منه ، حتى إذا جزت وادي العقيق فهنالك انزل وامش كرامة لمن حل في ذلك المنزل ، وادخل على اسم اللّه ، وعليك الوقار والسكينة ، واكس الخضوع والخشوع نفسك المسكينة ، فإذا دخلت مسجد الشفيع الرفيع فاقصد بعد ركعتي التحية روضة سيد دار السلام بالسلام ، وأمثل قبالة وجهه الكريم ، وحيّه صلى اللّه عليه وسلم بأفضل التسليم ، والزم هنالك أدب التوقير والتعظيم ، وقف ، وإياك أن تلمس الجدار وتلثم ، فقد نهى عن ذلك ، ولعلّ فاعله أن يأثم ، وسلم على الصديق ، والفاروق ، وزيريه وصاحبيه ، وقم كالمسين بين الكريمتين يديه ، فغدا ترجو الشفاعة لديه ، وإنه سلام أولئك إليه صلى اللّه عليه وسلم ، وحافظ على الصلاة بين قبره ومنبره عليه السلام ، فبينهما روضة من رياض الجنة ، وألمس الدرجة المباركة الباقية من المنبر الكريم موقف القدمين المقدّستين ، واتخذ التبرّك بلمسها جنة ، وطف على تلك المنازل الكريمة والديار ، واستقر مواطن البررة الأخيار ، وزر قبور أمهات المؤمنين وروضة العباس والحسن رضوان اللّه عليهم أجمعين ببقيع الفرقد ، وإن أضرم الوجد عليهم نار الحزن بين جوانحك وأوقد ، وحدّث نفسك باللحاق السريع بهم فكان قد عرّج في آخر البقيع على روضة ذي النورين عثمان بن عفان ، ومل إلى روضة فاطمة بنت أسد أم علي السابق إلى الإيمان ، ولا تنس عن يسارك إذا خرجت على باب البقيع قبر العمة الطاهرة صفية ، أم الزبير الذي كان حواري الرسول صلى اللّه عليه وسلم وصفية ، وامش إلى قباء مظهر الأسوة برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والاقتداء ، وزر بأحد عم المصطفى حمزة والشهداء ، فإذا أذن بالارتحال ، فأمل أن تجمع في الزيارة بين المساجد الثلاثة التي لا تشدّ إلا إليها الرحال ، مؤثرا سلوك المحجة البيضاء من السنّة ، ملتمسا بركة الحديث المأثور : « من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على اللّه الجنة » ، والضامن ملي ، وهو صلى اللّه عليه وسلم بالمؤمنين ولي ، فاعمل ركابك إلى المسجد الأقصى ، واستقصي الطواف بجميع آثاره المقدسة ، فمثلك من استقصى ، وإن استطعت الإحرام منه أولا ، فهو أفضل عمل صالح يدّخر ، وقد ورد فيه حديث بمغفرة ما تقدم من الذنب وما تأخر ، حيث اختص المصطفى صلى اللّه عليه وسلم بالإسراء ، وعرج
“ 186 “
به إلى السماء ، بعد أن صلى فيه بجميع الأنبياء ، وتبرّك بالصخرة المقدسة ، فمنها كان معراج سيد البشر ، وصلي خلفها ، فهي المكان القريب الذي ينادي المنادي منه للمنشر والمحشر ، وادخل قبة السلسلة واركع فيها ، وادع لنفسك ونفوس إخوانك بتداركها بالتوبة وتلافيها ، وصلّ في محراب زكريا ، وإياك والرياء ، وفي محراب مريم حيث دخل عليها فوجد الرزق من اللّه لديها ، وأرق في محراب داود حيث كان تسوّر الخصم ، وصلّ فيه متوسلا إلى اللّه بشرف ذلك الاسم ، وواصل بالزيارة مبدئا لها ومعيدا ، موضع نزول المائدة التي كانت لبني إسرائيل آية وعيدا ، وأسمعوا على الكفر بعد نزولها وعيدا ،
ولا تمش في جميع تلك الأرض المقدسة إلا بانكسار واستحياء ، فإنك لا تخطو فيها خطوة إلا على مواطئ أقدام الأنبياء ، ولا تنس أن تتطهر في عين سلوان ، واذكر فيه من لم يحدّث نفسه عنك بسلوان ، ثم أخذت للخليل في الرحيل ، فابدأ في أول طريقك بقبر راحيل ، ثم بمولد المسيح ، وموضع مهده ،
وسل من اللّه قبول مساعيك ، واستعنه واستهده ، واعطف على موضع جذع النخلة الذي هزّت به مريم فأسقط عليها رطبا جنيّا فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ، ثم المم في طريقك ، وحق لك الإلمام ، بقبر يونس ولوط عليهما السلام ، فإذا انتهيت إلى قبر الخليل ، وقبر إسحاق ويعقوب ، وقد حننت إليهم حنين الرقوب ، فهنالك تقبّل مزارك ، وتحط إن شاء اللّه أوزارك ، وخارج ذلك الحرم الخليلي على ما يذكر قبر يوسف الصديق ، واللّه أعلم بالتحقيق ،
فإذا قضيت بحول اللّه عز وجل وقوته من زيارة جميع تلك الآثار المقدسة إربك ، فلا تذكر بعدها مغربك ، فقد منّ اللّه عليك بتجديد عهد الوفادة عليها ، والنظر إليها ، وما ذكرتها لك على هذا النسق إلا تبرّكا بذكراها ، وتشوّقا للعودة الثالثة عسى نجدد العهد الكريم بها وأراها ، واستطابة للحديث معك فيها لأنك تعرف بالمعاينة معناها ، وليس من درى حقيقة الشيء كمن لا يدريه ، وأين شوق آدم للجنة من شوق بنيه ؟
فعد إلى حرم اللّه العظيم ، وألق فيه عصا تسيارك ، وقر عينا بمآل اختيارك ، وأقم بقية عمرك فيه مستوطنا ، والنية الصادقة الخالصة للّه عز وجل مستبطنا ، وقل رب تركت من إخواني عبيدا مشتاقين للعودة إلى حرمك ، متوسلين إليك في ذلك بفضلك وكرمك ، فسهّل بعزّتك وقدرتك مرامهم ، وسكّن بالوصول إلى كعبتك المقدسة المشرّفة غرامهم ،
وعرّفهم معاهدهم الكريمة بعرفات ، والمشعر الحرام ،
وشرّفهم بالمثول فيها قبل أن تقضي على مدتهم بالانصرام ،
وتفجأ أعمارهم قواطع الاخترام ، إنك سبحانك مولى المنن الجسام ، ومقدّر الحظوظ السنيّة لعباده والأقسام ، واقرأ عليك أيها الأخ الأسنى ، المختوم له إن شاء اللّه بالحسنى ، سلاما أعطر من الزهر عند الابتسام ، يتلقاه مسك دارين بالتنشق والابتسام ، ورحمة اللّه وبركاته .
“ 187 “
وصية نبوية
روينا من حديث الهاشمي فيما يرويه من حديث أبي ذرّ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال لرجل يوصيه :
« أقلل من الشهوات يسهل عليك الفقر ، وأقلل من الذنوب يسهل عليك الموت ، وقدم مالك أمامك يسرّك اللحاق به ، واقنع بما أوتيته يخف عليك الحساب ، ولا تتشاغل عما فرض عليك بما قد ضمن لك ، إنه ليس بفنائك ما قسم لك ، ولست بلاحق ما زوي عنك ، فلا تك جاهدا فيما يصبح نافدا ، واسع لملك لا زوال له في منزل لا انتقال عنه » .
ومن حديثه أيضا عن ابن عباس قال :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « ما سكن حبّ الدنيا قلب عبد إلا التاط منها بثلاث : شغل لا ينفك عناه ، وفقر لا يدرك غناه ، وأمل لا ينال منتهاه . إن الدنيا والآخرة طالبتان ومطلوبتان ، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل رزقه ، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يأخذ الموت بعنقه . ألا وإن السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها على فانية لا ينفد عذابها ، وقدم لما يقدم عليه فيما هو الآن في يديه ، قبل أن يخلفه لمن سعد بإنفاقه ، وقد شقى هو بجمعه واحتكاره » .
روينا من حديث محمد بن العماد قال : كنا يوما عند إسحاق بن نجيح ، وعنده جارية يقال لها شادن ، موصوفة بجودة ضرب العود ، وشجو صوت ، وحسن خلق ، وظرف مجلس ، وحلاوة وجه .
فأخذت العود وغنّت :
ظبيّ تكامل في نهاية حسنه * فزها ببهجته وتاه بصده
والشمس تطلع من فرند جبينه * والبدر يغرب في شقائق خده
ملك الجمال بأسره فكأنما * حسن البرية كلها من عنده
يا رب هب لي وصله وبقاءه * أبدا فلست بعائش من بعده
فطارت عقولنا وذهبت ألبابنا من حسن غنائها وظرفها ، فقلت : يا سيدتي ، من هذا الذي تكامل في الحسن والنّهى سواك ؟ فقالت :
فإن بحت نالتني عيون كثيرة * وأضعف عن كتمانه حين أكتم
يحكى عن الخنساء أنها دخلت على عائشة وعليها صدار من شعر ، فقالت لها عائشة رضي اللّه عنها : أتتخذين الصدار وقد نهى عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ فقال : يا أم المؤمنين ، إن
“ 188 “
زوجي كان متلافا منفقا ، فقال لي : لو أتيت معاوية فاستعنت به ، فخرجت ، فلقيني صخر ، فأخبرته ، فشاطرني ماله ثلاث مرت ، فقالت امرأته : لو أعطيتها من شرارها يعني الإبل ،
فقال :
واللّه لو أمنحها شرارها * وهي حصان قد كفتني عارها
وإن هلكت مزّقت خمارها * واتخذت من شعر صدارها
فلما هلك صخر اتخذت هذا الصدار ونذرت أن لا أضعه حتى أموت .
حدثنا بعض مشايخنا من أهل الأدب ، قال عمرو : قال بعضهم : رأيت أعرابية بالتياح ، فقلت لها : أنشديني ، قالت : نعم ورب الكعبة ، قلت : فأنشديني ، فأنشأت :
لا بارك اللّه فيمن كان يخبرني * أن المحب إذا ما شاء ينصرف
وجد المحب إذا ما بان صاحبه * وجد الصبيّ بثديي أمه الكلف
فقلت : فأنشديني من قولك ، فقالت :
بنفسي من هواه على التنائي * وطول الدهر مؤتلف جديد
ومن هو في الصلاة حديث نفسي * وعدل الروح عندي بل يزيد
فقلت لها : إن هذا الكلام ممن قد عشق ، فقالت : وهل يعرى من ذلك من له سمع أو قلب ؟ ثم أنشدتني :
ألا بأبي واللّه من ليس شافعي * بشيء ومن قلبي على النأي ذاكره
له خفقان يرفع الجنب كالشجا * ويقطع أزرار الجريان ثائره
وروينا من حديث عمر بن يزيد الأسدي قال : مررت بخرقاء صاحبة ذي الرمّة ، فقلت لها : هل حججت قط ؟ فقالت : أما علمت أني منسك من مناسك الحج ؟ ما منعك أن تسلّم عليّ ؟ أما سمعت
قول عمك ذي الرمة وهو ينشد :
تمام الحج أن تقف المطايا * على خرقاء واضعة اللثام
فقلت لها : قد أثر فيك الدهر ، قالت : أما سمعت قول عمك العجيف العقيلي :
وخرقاء لا تزداد إلا ملاحة * ولو عمّرت تعمير نوح وحلت
قال : ورأيتها وإن فيها المباشرة ، وإن ديباجة وجهها لطريّة كأنها فتاة ، وإنها لتزيد يومئذ على المائة . وشبب بها ذو الرمة وهي ابنة ثمانين سنة .
حدثني أبو ذرّ بإشبيلية أن سبب أن سميت الخرقاء وهي ميّ ، وسمي ذو الرمة وهو غيلان ، أن رآها يوما فتعرّض إليها وبيده حبل بال لتعمل له نعله ، وكان قد انتقض ، وأراد
“ 189 “
بذلك الكلام معها ، فقالت له : إني خرقاء يا ذا الرمة ، أي لا أحسن العمل . والخرقاء : التي لا تحسن العمل ، والصناع ضدها . والرمة : الحبل البالي . فجرى عليهما هذان الاسمان إلى هذا اليوم .
وروينا من حديث الهاشمي يبلغ به النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :
« كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ، وأعدد نفسك في الموتى . وإذا أصبحت نفسك فلا تحدثها بالمساء ، وإذا أمسيت فلا تحدثها بالصباح . وخذ من صحتك لسقمك ، ومن شبابك لهرمك ، ومن فراغك لشغلك ، ومن حياتك لوفاتك ، فإنك لا تدري ما اسمك غدا » .
قال بعض الأعراب : الموت يقتحم على ابن آدم كاقتحام الشيب على الشباب ، ومن عرف الدنيا لم يفرح بها ولا بزخارفها ، ولم يحزن فيها على بلوى ، ولا طالب أغشم من الموت ، ومن عطف عليه الليل والنهار أردياه ، ومن وكل به الموت أفناه .
أصيب الحجاج بمصيبة وعنده رسول لعبد الملك بن مروان ، فقال : ليت أني وجدت إنسانا يخفف مصيبتي ، فقال له الرسول : أأقول ؟ قال : قل ، قال : كل إنسان مفارق صاحبه بموت أو بصلب أو بنار تقع عليه من فوق البيت ، أو يقع البيت عليه ، أو يقع في بشر ، أو يغشى عليه ، أو يكون شيء لا يعرفه . فضحك الحجاج وقال : مصيبتي في أمير المؤمنين أعظم حين وجّه مثلك رسولا .
قال عبد اللّه بن المعتز : أهل الدنيا كصور في صحيفة كلما نشر بعضها طوي بعضها . وقال أيضا : أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيام . ينظر هذا إلى قول الآخر :
فسيرك يا هذا كسير سفينة * بقوم جلوس والقلاع تطير
وقال الآخر : طلاق الدنيا مهر الجنة . وسئل أعرابي عن حال الدنيا ، فقال : هي جمة المصائب ، رتقة المشارب ، لا تمتع صاحبا بصاحب قال أبو الدرداء : ما أنصف الدنيا ، ذمّت بإساءة المسئ فيها ، ولم تحمد بإحسان المحسن فيها . غير أنه قال يوما : من هوان الدنيا على اللّه أنه لا يعصى إلا فيها ، ولا ينال ما عنده إلا بتركها . وهو الذي يقول فيها أيضا : إذا أقبلت الدنيا على امرئ أعارته محاسن غيره ، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه .
وروينا من حديث الطفيل بن عامر العامري قال : خرجت يوما أريد الغارة ، وكنت رجلا أحب الوحدة ، فبينما أنا أسير إذ ضللت الطريق التي أردت ، فسرت أياما لا أدري أين
“ 190 “
التوجّه حتى نفذ زادي ، فجعلت آكل الحشيش وورق الشجر حتى أشرفت على الهلاك ، ويئست من الحياة . فبينما أنا أسير إذ بصرت بقطيع غنم في ناحية من الطريق ، فملت إليها فإذا أنا بشاب حسن الوجه فقال : يا ابن العم ، أين تريد ؟ فقلت : أردت حاجة لي في بعض المدن ، وما أحسست بنفسي إلا وقد ضللت عن الطريق . قال : أجل ، إن بينك وبين الطريق مسيرة أيام ، فانزل حتى تستريح وتطمئن ، وتريح نفسك وفرسك . فنزلت ، ورمى لدابتي حشيشا ، وجاءني بثريد كثير ولبن ، ثم قام إلى كبش فذبحه ، وأجّج نارا ، وجعل يكبّب لي ويطعمني حتى اكتفيت .
فلما جنّ الليل قام وفرش لي .
ثم قال : قم فأرح نفسك ، فإن النوم أذهب لتعبك ، وأرجع لنفسك .
فقمت ووضعت رأسي ، فبينما أنا نائم إذ أقبلت جارية لم تر عيناي مثلها قط حسنا وجمالا ، فقعدت إلى الفتى ، وجعل كل واحد منهما يشكو إلى صاحبه ما يلقى من الوجد به ، فامتنع عليّ النوم بحسن حديثهما .
فلما كان في وقت السحر قامت ورجعت إلى منزلها . فلما أصبحت دنوت منه ، فقلت له : من الرجل ؟ قال : أنا فلان ابن فلان فانتسب لي فعرفته ، فقلت : ويحك ، إن أباك لسيّد قومك ، وما حملك على وضع نفسك في هذا المكان ؟
فقال : أنا واللّه أخبرك ، كنت عاشقا لابنة عمي هذه التي رأيتها ، وكان هي أيضا لي وامقة ، فشاع خبرنا في الناس ، فأتيت عمي أن يزوّجنيها ، فقال : واللّه يا بني ما سألت شططا ، وما هي بأبرّ عنك ، ولكن الناس قد تحدثوا بشيء ، وعمك يكره المقالة القبيحة ، ولكن انظر غيرها في قومك حتى يقوم عمك بالواجب لك .
فقلت : لا حاجة لي فيما ذكرت ، وتحمّلت عليه بجماعة من قومي فردّهم . وزوّجها رجلا من ثقيف له رئاسة وقدر ، فحملها إلى هاهنا ، وأشار بيده إلى خيم كثيرة بالقرب منا ، فضاقت عليّ الأرض برحبها ، وخرجت في أثرها ، فلما رأتني فرحت فرحا شديدا ، فقلت لها : لا تخبري أحدا بي منك بسبيل . ثم أتيت زوجها ،
فقال : أنا رجل من الأزد ، أصبت دما ، وإني خائف ، وقد قصدتك لما يعرف من رغبتك في اصطناع المعروف . ولي بصر بالغنم ، فإن رأيت أن تعطيني من غنمك فأكون في جوارك وكنفك فافعل .
قال : نعم وكرامة ، فأعطاني مائة شاة ، وقال لي : لا تبعد بها عن الحي ، وكانت ابنة عمي تخرج في كل ليلة في الوقت الذي رأيت وتنصرف ، فلما رأى حسن حال الغنم أعطاني هذه ، فرضيت من الدنيا بما ترى .
قال : فأقمت عنده أياما ، فبينما أنا نائم إذ نبّهني وقال : يا أخا بني عامر ، قلت له : ما
“ 191 “
شأنك ؟ قال : ابنة عمي قد أبطأت ولم تكن هذه عادتها ، وما أظن ذلك إلا لأمر حادث .
وأنشأ يقول :
ما بال ميّة لا تأتي لعادتها * هل هاجها طرب أو صدّها شغل
لكن قلبي لا يغنيه غيركم * حتى الممات ولا لي غيركم أمل
أو تعلمين الذي بي من فراقكم * لما اعتذرت ولا طالك بك العلل
نفسي فداؤك قد أحللت بي حرقا * تكاد من حرّها الأنفاس تنفصل
لو كان غادية مني على جبل * لزلّ وانهدّ من أركانه الجبل
قال الطفيل : فو اللّه ما اكتحل بغمض حتى انفجر عمود الصبح ، وقام ومرّ نحو الحي ، فأبطأ عني ساعة ، ثم أقبل ومعه شيء يحمله ، وجعل يبكي عليه ، فقلت له : ما هذا ؟ فقال : هذه ابنة عمي افترسها السبع ، فأكل بعضها ووضعها بالقرب مني فأوجع واللّه قلبي ، ثم تناول سيفه ، ومرّ نحو الحي فأبطأ هنيهة ، ثم أقبل إليّ وعلى عاتقه ليث كأنه حمار ، فقلت : ما هذا ؟ قال : صاحبي ، قلت : وكيف عملت به ؟
قال : إني قصدت الموضع الذي أصابها فيه ، وعلمت أنه سيعود إلى ما فضل منها ، فجاء قاصدا إلى ذلك الموضع ، فعلمت أنه هو فحملت عليه ، فقتلته . ثم قام فحفر في الأرض ، فأمعن وأخرج ثوبا جديدا ،
وقال : يا أخا بني عامر ، إذا أنا متّ فأدرجني معها في هذا الثوب ، ثم ضعنا في هذه الحفرة ، وهلّ التراب علينا ، واكتب هذين البيتين على قبرنا :
كنا على ظهرها والعيش في مهل * والدهر يجمعنا والدار والوطن
فخاننا الدهر في تفريق الفتنا * فاليوم يجمعنا في بطنها الكفن
ثم التفت إلى الأسد فقال :
ألا أيها الليث المدلّ بنفسه * هبلت لقد جرّت يداك لنا حزنا
وغادرتني فردا وقد كنت آلفا * وصيّرت آفاق البلاد لنا سجنا
أأصحب دهرا خانني بفراقها * معاذ إلهي أن أكون له خدنا
وقال : يا أخا بني عامر ، إذا فرغت من شأننا ، فصح في إدبار هذه الغنم ، فردّها إلى صاحبها . ثم قام إلى شجرة فاختنق حتى مات ، فقمت ، فأدرجتهما في ذلك الثوب ، ووضعتهما في تلك الحفيرة ، وكتبت البيتين على قبرهما ، ورددت الغنم على صاحبها .
وسألني القوم عن الرجل ، فأخبرتهم الخبر ، فخرج جماعة منهم فقالوا : واللّه لننحرنّ عليه تعظيما له . فخرجوا ، وأخرجنا مائة ناقة ، وتسامع بنا الناس ، فاجتمعوا إلينا فنحرنا ثلاثمائة ناقة ، وانصرفنا .
“ 192 “
كتب جعفر بن محمد الأشعث إلى يحيى بن خالد يستعفيه من العمل : شكري لك على ما أريد الخروج منه شكر من سأل الدخول فيه .
وحدثنا بعض الأدباء ، قال : كتب علي بن هشام إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي :
ما أدري كيف أصنع ؟ أغيب فأشتاق ، وألقى فلا أشتفي . ثم يحدث لي اللقاء إذا طلبت منه الشفاء نوعا من الحرقة للوعة الفرقة .
وحدثنا محمد بن سعيد : قال رجل من قريش لخالد بن صفوان : ما اسمك ؟ قال :
خالد بن صفوان بن الأهتم . قال : إن اسمك لكذب ، ما أنت بخالد ، وإن أباك لصفوان ، وهو حجر ، وإن جدك الأهتم ، والصحيح خير من الأهتم . قال له خالد : من أي قريش أنت ؟ قال : من عبد الدار بن قصي بن كلاب ، قال : لقد هشمتك هاشم ، وأمتك أميّة ، وجمحت بك جمح ، وخزمتك مخزوم ، واقتصتك قصيّ ، فجعلتك عبد دارها ، تفتح إذا دخلوا ، وتغلق إذا خرجوا .
وحكي عن شهرام المروزي أنه جرى بينه وبين أبي مسلم صاحب الدولة كلام ، فما زال أبو مسلم يحاوره إلى أن قال شهرام : يا لقطة .
فصمت أبو مسلم ، وندم شهرام على ما سبق به لسانه ، وأقبل معتذرا وخاضعا ومتنصلا . فلما رأى ذلك أبو مسلم قال : لسان سبق ، ووهم أخطأ ، وإنما الغضب شيطان ، والذنب لي ، لأني جرأتك على نفسي بطول احتمالي منك ، فإن كنت متعمدا للذنب فقد شركتك فيه ، وإن كنت مغلوبا فالعذر سبقك ، وقد غفرنا لك على كل حال .
قال شهرام : أيها الملك ، عفو مثلك لا يكون غرورا . قال : أجل . قال : وإن عظيم ذنبي أن تدع قلبي يسكن . وألحّ في الاعتذار ، فقال أبو مسلم : فيا عجبا ، كنت تسيء وأنا أحسن إليك ، فإذا أحسنت أسأت .
روينا عن بعض إخواننا من أهل الأدب أن سليمان بن عبد الملك كان سبب موته أن استدعى يوما الجارية التي كانت على خزانة ملابسه ، فقال لها : ائتيني اليوم بثياب صفر .
فأتته بحلّة صفراء ، وعمامة صفراء ، وطيلسان أصفر ، من أحسن ما يكون . فتنظّف ، ولبس ، وتطيّب ، واستدعى صاحبة الوجه ، واستدعى بالمرآة ، فرأى وجهه وما عليه من البزّة الفاخرة ونضارة الملك ، فأعجبته نفسه ، وقال : واللّه لأخرجن اليوم على الناس ، وأصعد على المنبر ، وأتكلم من أحسن الكلام ، وما يليق بهذه الحالة .
وخرج يتبختر في مشيته زهوا وعجبا بنفسه ، فتعرضت له جارية يعرفها من جواريه ،
“ 193 “
فخدمت ، وسلّمت ، وقالت : ما أحسن هذه الحالة التي أنت فيها ، لو تمّ ، ثم أنشدت :
ليس فيما بدا لنا منك عيب * عابه الناس غير أنك فان
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى * غير أن لا بقاء للإنسان
فقال لها سليمان : يا فلانة ، ما حملك على هذا في هذا الوقت ؟ وتغيّر عليه الحال .
ثم إنه أكذب نفسه ، وتحامل على عقله بهواه ، ومضى لوجهه ، حتى خرج على قومه في زينته ، فأعجب الناس به ، وصعد المنبر ، فحمد اللّه وأثنى عليه بصوت يستوي في سماعه أقصى من في المجلس وأدناه ، وأبلغ وأسهب فأعجب ، وأوجز فأعجز . فبينما هو في أطيب ما يكون من الكلام أخذته الحمى ، فتحامل عليها ، فما زالت تخفض في صوته إلى أن سقط مغشيا عليه . ثم أفاق ، فحمل إلى منزله ورجلاه تخطّ في الأرض ضعفا ، وقوة من مرض . فلما دخل منزله استدعى الجارية التي تعرّضت له عند خروجه بالبيتين في صحن الدار ، فحضرت بين يديه ، فقال لها : يا فلانة ، أعيدي عليّ ما قلت عند خروجي .
فقالت له : يا سيدي ، ما أعرف ما تقول ، واللّه ما تعرضت إليك ، وكيف أجرؤ على التعرض إليك في صحن الدار وليست مرتبتي ؟ فعلم سليمان أن نفسه نعيت له ، فأوصى ، فلبث أياما ومات .
مثل سائر
أوفى من أمّ جميل ، وهي دوسية من قبيلة أبي هريرة رضي اللّه عنه ، فذكر أهل الأدب من وفائها أن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي قتل رجلا من الأزد ، فبلغ ذلك قومه بالسّراة ، فوثبوا على ضرار بن الخطاب الفهريّ ليقتلوه ، فعدا حتى دخل بيت أم جميل وعاذ بها ، فقامت في وجوههم ، ودعت قومها فمنعوه لها . فلما ولّي عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ظنت أم جميل أنه أخو ضرار بن الخطاب ، فأتته بالمدينة . فلما انتسبت عرف القصة ، فقال : يا أم جميل ، لست بأخيه إلا في الإسلام ، وقد عرفنا منّتك عليه . فأعطاها على أنها ابنة سبيل .
وأما وفاء السموأل بن عاديا ، فذكر أهل الأدب من وفائه أن امرأ القيس بن حجر لما أراد الخروج إلى قيصر استودع السموأل دروعا له ، فلما مات امرؤ القيس بأنقرة ، غزا السموأل ملك من ملوك الشام ، فتخوّر منه السموأل ، فأخذ الملك ابنا له وصاح به : يا سموأل ، هذا ابنك في يدي ، وقد علمت أن امرأ القيس ابن عمي ، وأنا أحق بميراثه ، فإن دفعت إليّ الدروع ، وإلا ذبحت ابنك ، قال : أجّلني ، فأجّله . فجمع أهل بيته ، فشاورهم
“ 194 “
فكلهم أشاروا بدفع الدروع وأن يستنقذ ابنه . فلما أصبح أشرف فقال : ليس إلى دفع الدروع سبيل ، فاصنع ما أنت صانع . فذبح الملك ابنه وهو ينظر إليه ، وكان يهوديا .
وانصرف الملك ، ووافى السموأل بالدروع الموسم ، فدفعها إلى ورثة امرئ القيس . وقال في
ذلك شعرا :
وفيت بأدرع الكنديّ إني * إذا ما خان أقوام وفيت
وقالوا عنده كنز وعيب * ولا وأبيك أعذر ما مشيت
بنى لي عاديا حصنا حصينا * وبئرا كلما شئت استقيت
وفي ذلك يقول الأعشى :
كن كالسموأل إذ طاف الهمام به * في عسكر كسواد الليل جرّار
خيّره خطّتا خسف فقال له * اختر وما فيهما حظ لمختار
فشكّ غير بعيد ثم قال له * اذبح أسيرك إني مانع جاري
وروينا من حديث الشعبي ، قال : قالت أم البنين ابنة عبد العزيز ، وهي أخت أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه ، وكانت تحت الوليد بن عبد الملك : لو كان البخل قميصا ما لبسته ، أو طريقا ما سلكته . وكانت تعتق في كل يوم رقبة ، وتحمل على فرس في سبيل اللّه . وكانت تقول : البخل كل البخل من بخل على نفسه بالجنة .
أخبرني أبو القاسم البخاري ، قال : أخبرني أبو عبد اللّه الغزّال بالمرية قال : سمعت أبا العباس بن العريف الصنهاجيّ ، عارف وقته ، يقول : ليس السخي من يسخى بماله ، إنما السخي من يسخى بنفسه على العلم .
في الحكمة
ثواب الجود : خلف ، ومحبة ، ومكافأة . وثواب البخل : حرمان ، وإتلاف ، ومذمّة .
سئل الإسكندر : ما أكبر ما شيّدت به ملكك ؟ قال : ابتداري إلى اصطناع الرجال والإحسان إليهم .
وكتب أرسطاطاليس : يا إسكندر ، اعلم أن الأيام تأتي على كل شيء فتخلقه ، وتخلق آثاره ، وتميت الأفعال ، إلا ما رسخ في قلوب الناس . فأودع قلوبهم محبة أبدية تبقي بها حسن ذكرك ، وكريم أفعالك ، وشرف آثارك .
“ 195 “
جاء الشاعر السبتي من قرطبة إلينا إلى إشبيلية ، وكان صاحب ديوان بها أبو عبد اللّه بن تاكفت رحمه اللّه ، فلم يجد من ينزله ، فكتب إلى صاحب الديوان أبياتا :
أتجعل بالفرزدق والكميت * وفي قيد الحيا شعر السبيتي
يروّعني بشعرهما أناس * وجهلا روّعوا حيا بميت
لئن أسكنتني بيتا رفيعا * لتسكن من ثنائي ألف بيت
فأمر له صاحب الديوان بمنزله ، ونزل وأخصب عليه . فلقيته فسألته فشكر حاله .
حكمة
قال إبراهيم عليه السلام : وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ، قالوا : الثناء الحسن .
لما قدّم بزرجمهر إلى القتل قيل له : إنك في آخر وقت من أوقات الدنيا ، وأول وقت من أوقات الآخرة ، فتكلم بكلام تذكر به . فقال : أي شيء أقول ؟ الكلام كثير ، ولكن إن أمكنك أن تكون حديثا حسنا فافعل .
وأنشدنا بعض إخواننا قال : أنشدنا أبو القاسم بن فيرة الشاطبي قال : أنشدنا أبو العباس أحمد بن مسعود القيسي قال : أنشدنا أبو عامر بن حبيب ، عن أبي الحسن بن مفوز ، عن أبي عامر بن عبد البر ، عن عبيد اللّه بن عبد الرحمن بن الفرضي لنفسه :
ما يشتهي قرب السلاطين * غير ضعيف العقل مغبون
لا تكذبن عنهم فما صحبهم * منهم على دنيا ولا دين
دنياهم بالخزي موصولة * فلا تسل عن دين مفتون
لا رأي لي في نيل دنياهم * حسبي بأن يسلم لي ديني
أخبرني بعض الحكماء قال : شكى رجل إلى أياس بن معاوية كثرة ما يهب ، ويصل به الناس ، وينفق . فقال : إن النفقة داعية الرزق . وكان جالسا على باب فقال للرجل : أغلق هذا الباب ، فأغلقه ، فقال : هل يدخل فيه الريح ؟
قال : لا . قال : فافتحه ، ففتحه ، فجعلت الرياح تخترق في البيت .
فقال : هكذا الرزق ، أغلقت فلم يدخل الريح ، فكذلك إذا أمسكت لم يأتك الرزق .
حدثنا بعض شيوخنا قال : تنازع في الضيافة رجل عربي وآخر فارسي .
فقال الأعرابي : نحن أقرى للضيف . قال : وكيف ذلك ؟ قال : لأن أحدنا لا يملك إلا بعيرا ، فإذا
“ 196 “
حلّ به ضيف نحره له . فقال الفارسي : فنحن أحسن مذهبا في القرى منكم . قال : وما ذاك ؟ قال : نحن نسمي الضيف مهمان ومعناه أنه أكبر من في المنزل والمكان .
أخبرنا عبد الرحمن بن ميمون ، أنا أبو القاسم الرعيني قال : كان شيخنا أبو محمد عليم بن هانئ العمري من أشدّ الناس انقباضا عن أهل الدنيا ، وكان كثيرا ما ينشد الأبيات المنسوبة إلى الفقيه
الإمام يونس بن مغيث :
أقرّ إليك من ظلمي لنفسي * وسلّمني العبيد وأنت أنسي
لقاؤك مأملي وبك افتخاري * وذكرك في الدّجى قمري وشمسي
قصدت إليك منقطعا غريبا * لتؤنس وحدتي في قعر رمسي
وللعظمى من الحاجات عندي * قصدت وأنت تعلم سرّ نفسي
قال الشاطبي : ودخلت عليه رضي اللّه عنه عقيب عيد الفطر فقال لي : مرّ عليّ أمس بعض الأمراء في مركب فاخر وملبس باهر والناس يغبطونه بذلك . فقلت أبياتا وهي :
محالات تجرّ إلى محال * وأحوال تحول بكل حال
ملابس قد تبدّل ثم تبلى * وأجسام تؤول إلى اضمحال
فناء عاجل لو يقض مرّت * وكل إقامة تالي ارتحال
فما المغبوط من ركب المطايا * بعزّ أو تسربل في الجمال
ولكنّ المغبّط من تردّى * بثوب الذلّ رهبة ذي الجلال
فإن شئت البقاء بلا نفاد * وعزّ لا يكدّر بالزوال
فمت حيا تعش حيا وميتا * وتنعم بالكواعب في الظلال
وقم في الليل ويحك مستكنّا * وقل يا سيّدي اسمع مقالي
حياتي في الذي تدري وموتي * وجود الهجر من بعد الوصال
فنائي في بقائي لي بقاء * وأن يفنى فنائي لا أبالي
أجرني أن أرى نفسي أعذني * حبيبي أن يخيّل لي خيالي
وجد بالمجدّ ويحك في جهاد * وبع ما شئت مبخوسا بغالي
قال الشاطبي : كان سبب موت هذا السيد أنه اضطرّ إلى الاجتماع بالسلطان في نازلة نزلت به ، فسار إليه ، فلما جاء البلد الذي السلطان فيه ، خلا بنفسه في ليلة جمعة ، فصلى بسورة فيها سجدة ، فلما سجد سأل ربه الموت ولا يجتمع بالسلطان ، فانقطع كلامه وهو ساجد ، فرفع وهو كذلك ، فلبثت يومين وهو لا يتكلم ، ومات . وكان هذا الشيخ قد نهبت داره ، فجعل يبكي ، فاجتمع إليه الفقهاء والأدباء يصبّرونه ، ويهوّنون عليه ما جرى . فقال
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin