الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء 12
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 166 “
نفس أبيّة وهمة عليّة
روينا من حديث إسماعيل بن يونس ، قال : أنشدنا الرياشي للخليل بن أحمد الفراهيدي :
أبلغ سليمان أني عنه في سعة * ولي غنى غير أني لست ذا مال
أسخو بنفسي لأني لا أرى أحدا * يموت هزلا ولا يبقى على حال
الرزق عن قدر لا الضعف يمنعه * ولا يزيدك فيه حول محتال
ومن ذلك وصية سنية
روينا من حديث محمد بن موسى القطان عن المازني لأعرابي :
أيها الرائب الحريص المعنّى * لك رزق فسوف تستوفيه
قبّح اللّه نائلا ترتجيه * من يدي من يريد أن يقتضيه
إنما الجود والسماح لمن يع * طيك عفوا وماء وجهك فيه
لا ينال الحريص شيئا فيكفي * ه وإن كان فوق ما يكفيه
فاسأل اللّه وحده ودع النا * س واسخطهم بما يرضيه
حكمة
قال : أنشدنا محمد بن صالح الأنماطي لبعضهم :
يخيب الفتى من حيث يزرق غيره * ويعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه
ولبعضهم :
لا تضرعنّ لمخلوق على طمع * فإن ذاك مضرّ منك بالدين
واسترزق اللّه رزقا من خزائنه * فإنما هي بين الكاف والنون
صفة حميدة وحالة سعيدة
روينا من حديث عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : نبأ ابن عيينة ، قال بعض الخلفاء لأبي حازم ، يعني الأعرج : ما مالك ؟ فقال : الرضى عن اللّه ، والغنى عن الناس .
ثم أنشد ابن قتيبة في معناها لبعضهم :
“ 167 “
للناس مال ولي مالان ما لهما * إذا تحارس أهل المال حراس
مالي الرضى بالذي أصبحت أملكه * ومالي البأس فيما يملك الناس
وهذا أبو حازم هو الذي قال له هشام لما ولّي البحرين واجتمع به : ما طعامك ؟ قال :
الخبز والزيت . فقال له : أفلا تسأمها ؟ قال أبو حازم : إذا سئمتهما تركتهما حتى اشتهيتهما .
قوله تعالى : وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ
روينا من حديث محمد بن سلام أبياتا لأعرابي وهي :
وما هذه الأيام إلا معارة * فما اسطعت من معروفها فتزوّد
فإنك لا تدري بأية بلدة * تموت ولا ما يحدث اللّه في غد
يقولون لا تبعد ومن يك بعده * ذراعين من قرب الأحبّة يبعد
عبرة بنفوذ قضاء على يد كاره له
روينا من حديث ابن أبي الدنيا ، عن أبي زيد ، قال : حدثنا الأصمعي ، قال : أتى يزيد بن مسلم رجل برقعة وسأله أن يرفعها إلى الحجاج ، فنظر فيها يزيد فقال : ليس هذه من الحوائج التي ترفع للأمير . فقال له الرجل : فإني أسألك أن ترفعها فلعلها أن توافق قدرا فيقضيها وهو كاره . فأدخلها ، وأخبره بمقالة الرجل . فنظر الحجاج في الرقعة فقال ليزيد :
قل للرجل إنها قد وافقت قدرا ، وقد قضيناها ونحن كارهون .
حكمة من امرأة
روينا من حديث أحمد بن مروان قال : أنشدنا الحسين بن علي لامرأة من ولد حسان بن ثابت شعر :
سل الخير أهل الخير قدما ولا تسل * فتى ذاق طعم العيش منذ قريب
خبر الخضر في مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم
حدثنا عبد اللّه بن عبد الرحمن قال : ثنا المبارك بن علي بن الحسين ، ثنا
“ 168 “
عبيد اللّه بن محمد ، ثنا أحمد بن الحسين ، ثنا أبو سعيد الماليني ، ثنا أبو أحمد بن عديّ الحافظ ، ثنا محمد بن يوسف بن عاصم ، ثنا أحمد بن إسماعيل القرشي ، ثنا عبد اللّه بن نافع ، عن كثير بن عبد اللّه ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان في المسجد ، فسمع كلاما من زاوية ، فإذا هو قائل : اللهم أعنّي على ما ينجيني مما خوّفتني .
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين سمع ذلك : « ألا تضم إليها أختها ؟ » ، فقال الرجل :
اللهم ارزقني شوق الصادقين إلى ما شوّقتهم إليه . قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأنس بن مالك وكان معه : « اذهب يا أنس إليه فقل له : يقول لك رسول اللّه : استغفر لي » . فجاءه أنس فبلّغه .
فقال الرجل : يا أنس ، أنت رسول رسول اللّه إليّ ؟ فقال : كما أنت ، فرجع واستثبته ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « قل له نعم » .
فقال له : اذهب فقل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فضلك على الأنبياء بمثل ما فضل به رمضان على الشهور ، وفضل أمّتك على الأمم بمثل ما فضل يوم الجمعة على سائر الأيام . فذهبوا ينظرون فإذا هو الخضر عليه السلام .
موعظة منظومة
روينا من حديث أحمد بن محرز الهروي قال : وجد على ميل في طريق مكة مكتوب :
ألا يا طالب الدنيا * دع الدنيا لشانيكا
إلى كم تطلب الدنيا * وظلّ الميل يكفيكا
هذه الأبيات لبهلول المجنون ، وعظ بها أمير المؤمنين هارون الرشيد في طريق مكة ، لما حجّ راجلا من أجل يمينه ، فقعد يستريح في ظل الميل ، فرآه بهلول ، فأنشده الأبيات . وفيها من
الزيادة في غير هذه الرواية :
هب الدنيا تؤاتيكا * أليس الموت يأتيكا
ما ينبغي أن يكون عليه الخليل
روينا من حديث إبراهيم الحربي قال : نبّأ أبو نصر ، عن الأصمعي قال : قيل لخالد بن صفوان : أيّ الإخوان أحب إليك ؟ قال : الذي يغفر زللي ، ويسدّ خللي ، ويقبل عللي .
“ 169 “
مكاتبة استلطاف
روينا من حديث ابن قتيبة قال : كتب رجل إلى صديق له : وجدت المودّة منقطعة ، ما كانت الحشمة منبسطة . وليس يزيل سلطان الحشمة إلا المؤانسة ، ولا تقع المؤانسة إلا بالبرّ والملاطفة .
إيقاظ وعبر واتّعاظ
روينا من حديث الحسن بن علي قال : أنشدنا محمد بن سلام لبعضهم :
نعي نفسي إلى مرّ الليالي * تصرّفهنّ حالا بعد حال
فما لي لست مشغولا بنفسي * وما لي لا أبالي الموت ما لي
لقد أيقنت أني غير باق * ولكني أراني ما أبالي
أما لي عبرة في ذكر قومي * تفانوا ربما خطروا ببالي
كأن ممرّضي قد قام يسعى * بنعشي بين أربعة عجال
ولو أني قنعت لكنت حرا * ولم أطلب مكاثرة بمالي
هب الدنيا تساق إليك عفوا * أليس مصير ذاك إلى زوال ؟
فما ترجو بشيء ليس يبقى * وشيكا ما تغيّره الليالي
ومن هذا الباب ما رويناه من حديث أحمد بن عباد قال : أنشدنا الرياشي :
حصنت بيتك جاهدا * ولعلّ غيرك صاحب البيت
وروينا من حديث محمد بن يونس ، عن الأصمعي قال : قيل للأحنف : إنك تطيل الصيام ، قال : إني أعدّه لسفر طويل .
تحريض على الدعاء وتحضيض
ومن روايتنا ما أنشده ابن قتيبة لبعضهم :
وإني لأدعو اللّه والأمر ضيّق * عليّ فما ينفكّ أن يتفرّجا
وربّ فتى سدّت عليه وجوهه * أصاب له في دعوة اللّه مخرجا
شروط الإيمان أخلاق حسان
حدثنا محمد بن قاسم ، نبأ هبة اللّه بن علي ، نبأ محمد بن بركات ، نبأ محمد بن
“ 170 “
سلامة ، أنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر الصفار قال : انا أحمد بن إبراهيم بن جامع بن علي بن عبد العزيز ، نبأ الحجاج ، نبأ حمّاد بن سلمة ، عن عاصم بن بهدلة ، عن أبي بهدلة ، عن أبي هريرة ، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال :
« من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه . ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم جاره . ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت » .
إفساح لسان الزمان بما هو عليه الإنسان
وروينا من حديث ابن مروان أحمد المالكي ، قال : أنشدنا أبو صالح الهمداني لبعض الشعراء :
خذ من الدهر ما كفا * ومن العيش ما صفا
لا تلحّن بالبكا * ء على منزل عفا
خلّ عنك العتاب إن * خان ذو الودّ أو هفا
عين من لا يحبّ وص * لك تبدي لك الجفا
تصاريف الزمان وتقلّب الحدثان
روينا من حديث الحارث الرياشي ، عن الأصمعي قال : قال خال الفرزدق :
إذا ما الدّهر ذلّ على أناس * حوادثه أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا * سيلقى الشامتون كما لقينا
إيمان وحسن عشرة إخوان
روينا من حديث عبيد بن مرداس ، نبأ سليمان بن حرب ، نبأ حمّاد بن زيد قال :
دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم فقال له : أتيتك في حاجة رفعتها إلى اللّه قبلك ، فإن قضيتها حمدنا اللّه وشكرناك ، وإن لم تقضها حمدنا اللّه وعذرناك . قال : فأمر له بحاجته .
استعطاف كريم واستمالة لئيم
روينا من حديث إبراهيم الحربي قال : حدثني أبو نصر ، عن الأصمعي ، عن أبي
“ 171 “
الأشهب قال : لزم بعض الحكماء باب كسرى في حاجة له دهرا ، فلم يصل إليه ، فتلطف بالحاجب في إيصال رقعة له ، ففعل ، وكان فيها أربعة أسطر :
السطر الأول : الضرورة والأمل أقدماني عليك .
والثاني : العدم لا يكون معه صبر على المطالبة .
والثالث : الانصراف بلا فائدة شماتة الأعداء .
والرابع : فإما نعم مثمرة ، وإما لا مريحة .
فلما قرأه وقع في كل سطر بأربعة آلاف ، فأعطى ستة عشر ألفا من المثاقيل .
إفصاح بغالب الأحوال ممن يعد من الأبدال
روينا من حديث إبراهيم بن أبي أليسع الشيعي ، عن أحمد بن الحارث الخرّاز ، عن المدائني قال : قال الحسن ، يعني البصري : ما أعطى رجل شيئا من الدنيا إلا قيل خذه ، ومثله من الحرص .
ومن ذلك ما رويناه من حديث أحمد بن علي المقري قال : نبأ الأصمعي قال : العيال أرصنة المال .
وبالإسناد الأول وهو من باب التذكير ، قال الحسن : أشد الناس صراخا يوم القيامة رجل سنّ ضلالا فاتّبع عليه ، ورجل سيّئ الملكة ، ورجل فادع استعان بنعم اللّه على معاصيه .
حكمة بالغة
روينا من حديث إبراهيم بن حبيب ، حدثنا نعيم بن حماد ، نبأ ابن المبارك ، نبأ حبيب بن حجر قال : كان يقال : ما أحسن الإيمان بزينة العلم ، وأحسن العلم بزينة العمل ، وأحسن العمل بزينة الرفق ، وما أضيف شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم .
تذكرة حكيم
روينا من حديث يوسف بن عبد اللّه ، عن سهل بن محمد ، عن الأصمعي ، عن عبد اللّه بن دينار ، عن عبد اللّه بن بكر المزني قال : جاء رجل فشتم الأحنف بن قيس ،
“ 172 “
فسكت عنه ، فأعاد عليه وألحّ ، والأحنف ساكت . فقال : وا لهفاه ، ما يمنعه عن جوابي إلا هواني عليه ؟
ملاطفة وحلم
روينا من حديث محمد بن يونس ، نبأ الأصمعي قال : أسمع رجل الشعبي كلاما ، فقال له الشعبي : إن كنت صادقا فغفر اللّه لي ، وإن كنت كاذبا فغفر اللّه لك .
ثم أنشأ يقول :
هنيئا مريئا غير داء مخامر * لعزّة من أعراضنا ما استحلت
نفس أبيّة
روينا من حديث أحمد بن موسى البصري ، عن أبي زيد ، عن الأصمعي ، عن أبي سفيان بن العلاء قال : إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أوزن من حلمي ، وإذا قال : هذا خلق حقير ، فعفو اللّه أسمح وحلمه أرجح .
ومن هذا الباب ما رويناه من حديث محمد بن عبد العزيز ، عن ابن عائشة قال : ذكر أعرابي رجلا ، فقال : كان أحلم من فرخ طائر .
شعر :
إني لأعرض عن أشياء أسمعها * حتى يظن رجال أن بي حمقا
أخشى جواب سفيه لا حياء له * فسل يظنّ أناس أنه صدقا
ومن هذا الباب ما رويناه من حديث ابن مروان قال : نبأ أحمد بن داود ، عن الرياشي ، عن الأصمعي قال : بلغني أن رجلا قال لآخر : واللّه إن قلت لي واحدة لتسمعن عشرا . قال : لكنك لو قلت عشرا لم تسمع واحدة .
وأنشدني لبعض الشعراء أبو بكر بن خلف :
إذا نطق السفيه فلا تجبه * فخير من إجابته السكوت
سكتّ عن السفيه فظنّ أني * عييت عن الجواب وما عييت
ولكني اكتسيت بثوب حلم * وجنّبت السفاهة ما بقيت
ومن هذا الباب ما رويناه من حديث أحمد بن داود قال : نبّأ الرياشي قال : أنبأ الأصمعي قال : كان الأحنف بن قيس يقول : من لم يصبر على كلمة سمع كلمات ، وربّ غيظ قد تجرّعته مخافة ما هو أشدّ منه .
“ 173 “
وأنشد لبعض الشعراء :
وإن اللّه ذو حلم ولكن * بقدر الحلم ينتقم الحليم
لقد ولّت بدولتك الليالي * وأنت ملعن فيها ذميم
وزالت لم يعش فيها كريم * ولا استغنى بثروتها عديم
فبعدا لا انقضاء له وسحقا * فغير حسابك الجدث العظيم
وروينا من حديث جعفر بن شاكر ، عن معاوية بن عمرو ، عن أبي إسحاق الأوزاعي ، أن عمر بن عبد العزيز كان إذا أراد أن يعاقب رجلا حبسه ثلاثة أيام ثم عاقبه ، كراهة أن يعجل في أول غضبه . أرى ذلك ، واللّه أعلم في إقامة الحدود التي ليس له أن يعفو عنها ، والتعزيز الذي فيه المصلحة للناس . وأما فيما كان يرجع إليه ، فالعفو كان شيمته .
وأسمعه رجلا كلاما فقال : أردت أن يستفزني الشيطان فأتاك منك بما تناله أنت مني في يوم القيامة . انصرف عني عافاك اللّه .
خبر الشجرة التي سلّمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإتيانها إليه
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه ، عن سليمان بن أحمد ، نبأ محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، نبأ عبادة بن زياد الأسدي قال : حدثنا حبّان بن علي ، عن صالح بن حبان ، عن ابن يزيد ، عن أبيه قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه ، قد أسلمت فأرني شيئا أزدد به يقينا . فقال : « ما الذي تريد ؟ » ، فقال : ادع تلك الشجرة فلتأتك . قال : « اذهب فادعها » .
فأتاها الأعرابي قال : فأجيبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . قال : فمالت على جانب من جوانبها قطعت عروقها ، ثم مالت على الجانب الآخر قطعت عروقها ، حتى أتت النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقالت : السلام عليك يا رسول اللّه .
فقال الأعرابي : حسبي حسبي . فقال لها النبي صلى اللّه عليه وسلم : « ارجعي » ، فرجعت ، فجلست على عروقها وفروجها .
فقال الأعرابي : ائذن لي يا رسول اللّه أن أقبّل رأسك ورجليك ، ففعل . ثم قال : ائذن لي أن أسجد لك .
فقال : « لا يسجد أحد لأحد ، ولو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظيم حقه عليها » .
“ 174 “
مرافقة المتّقين الأخيار في الأسفار
حدثنا عبد الرحمن بن علي ، نبأ عبد الوهاب الحافظ ، انا المبارك بن عبد الجبار ، نبأ علي بن أحمد الملطي ، نبأ ابن دوست ، نبأ ابن صفوان ، نبأ القرشي ، نبأ محمد بن الحسين ، حدثنا بعض أصحابي قال : جاءني بهيم العجلي فقال : تعلم لي رجلا من جيرانك وإخوانك يريد الحج ترضاه لمرافقتي ؟ قلت : نعم ، فذهبت به إلى رجل به صلاح ودين ، فجمعت بينهما ، وتواطآ على المرافقة ، ثم انطلق بهيم إلى أهله ، فلما كان بعد أتاني الرجل فقال : أريد أن تزوي عني صاحبك ، ويطلب رفيقا غيري . فقلت : ولم ؟ فو اللّه ما أعلم بالكوفة له نظيرا في حسن الأخلاق والاحتمال .
قال : حدثت أنه طويل البكاء لا يكاد يفترّ ، فهذا ينغّض علينا العيش . فقلت له : إنما يكون البكاء أحيانا عند التذكرة ، أو ما تبكي أنت ؟ قال : بلى . ولكنه بلغني أنه أمر عظيم من كثرة بكائه .
قلت : اصحبه فلعلك أن تنتفع به . قال : أستخير اللّه . فلما كان اليوم الذي أرادا أن يخرجا فيه جيء بالإبل ، فوطئ لهما ، فجلس بهيم يبكي في ظل حائط ، فوضع يده تحت لحيته ، وجعلت دموعه تسيل على خدّيه ، ثم على لحيته ، ثم على صدره ، حتى واللّه رأيت دموعه على خدّيه ثم على الأرض . فقال لي صاحبي : يا مخول ، قد ابتدأ صاحبك ، ليس هذا لي برفيق .
فقلت له : ارفق لعله ذكر عياله ومفارقته إياهم . فسمعها بهيم فقال : يا أخي ، واللّه ما هو ذاك ، وما هو إلا أني ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة ، وعلا صوته بالنحيب ، فقال لي صاحبي : ما هذا بأول عداوتك لي ، ما لي ولبهيم ؟ إنما كان ينبغي أن ترافقوا بين بهيم وبين داود الطائي وسلام أبي الأخوص ، حتى يبكي بعضهم إلى بعض فيستشفون أو يموتون .
فلم أزل أرفق به ، وأقول له : لعلها خير سفرة سافرتها ، وكل ذلك لا يعلم به بهيم ، ولو يعلم ما صاحبه ، فخرجا وحجّا ورجعا . فلما جئت أسلّم على جاري قال لي : جزاك اللّه عني يا أخي خيرا ، ما ظننت أن في هذا الخلق مثل أبي بكر ، كان واللّه يتفضل عليّ في النفقة وهو معدوم وأنا موسر ، وفي الخدمة وأنا شابّ وهو شيخ ، ويطبخ لي وأنا مفطر وهو صائم .
قلت : كيف كان أمرك معه في الذي تكرهه من طول البكاء ؟ قال : واللّه ألفت ذلك البكاء ، وسرّ قلبي حتى كنت أساعده عليه حتى تأذي بنا الرفقة ، ثم ألفوا ذلك ، فجعلوا إذا سمعونا نبكي يبكون ، وجعل بعضهم يقول لبعض : ما الذي جعلهم أولى بالبكاء منّا ، والمصير واحد ؟ فيبكون ونبكي . ثم خرجت من عنده وأتيت بهيما ، وقلت : كيف رأيت
“ 175 “
صاحبك ؟ قال : خير صاحب ، كثير الذكر للّه عز وجل ، طويل التلاوة ، سريع الدمعة ، جزاك اللّه عني خيرا .
شوق وانزعاج عند وداع الحاج
حدثنا أبو الثنا محمود بن المظفر اللبان ، عن محمد بن نصر ، نبأ الحميدي ، نبأ أبو بكر ، عن السلميّ ، قال بعضهم : خرجت أم أيمن ببنت عليّ امرأة أبي علي الروذباريّ من مصر ، لما برز الحجاج إلى الصحراء ، فكانت الجمال تمرّ بها وهي تبكي وتقول :
وا ضعفاه ، وتنشد على أثر قولها :
فقلت دعوني وأتباعي ركابكم * أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد
وما بال عني لا يهون عليهم * وقد علموا أن ليس لي منهم بدّ
وتقول : هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت ، فكيف حسرة من انقطع عن رب البيت ؟
ولمهيار الديلمي في الاشتياق :
وما اتّبعت ظعن الحيّ طرفي * لأغنم نظرة فتكون زادي
ولكني بعثت بلحظ عيني * وراء الركب يسأل عن فؤادي
وله أيضا :
سل أبرق الحنان وأحسن به * أين ليالينا على الأبرق
وكيف بانات بسقط اللوى * ما لم يجدها الدمع لم تورق
هل حملت لا حملت بعدنا * عنك الصبا عرفا لمستنشق
أغناك صوب الدمع عن منة * أحملها للمرعد المبرق
دمعي على الخيف جنى ما جنى * بكاء حسّان على جلّق
للّه دهر لك يوم النّقى * لولا وفاء الحب لم يعلق
يا سائق الأظعان رفقا وإن * لم يغن قولي للعسوف أرفق
لولا زفيري خلف أجمالهم * وحرّ أنفاسي لم تنسق
لا تبردوا بالعدل قلبي فما * استنجد الدمع على محرق
سمّيت لي نجدا على بعدها * يا وله المشأم بالمعرق
داو بها حبي فها مهجتي * أول مجنون بنجد رقي
وفي المعنى لبعضهم :
“ 176 “
يا سائق العيس ترفّق واستمع * مني وبلّغ إن وصلت عني
وقف بأكناف الحجاز ناشدا * قلبي فقد ضاع الغداة مني
وقل إذا وصلت نحو أرضهم * ذاك الأسير موثق بالحزن
عرّض بذكري عندهم عساهم * إن سمعوك سائلوك عني
قل ذلك المحبوس عن قصدكم * معذّب القلب بكل فنّ
أقول قد أمّلت أن أزوركم * في جملة الوفد فخاب ظني
أقعد في الجدلان عن قصدكم * ورمت أن أسعى فلم يدعني
ومن وقائع بعض الفقراء
ما حدثنا به عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي ، قال : رأى بعض المريدين في الواقعة شيخنا أبا مدين وجملة من الصوفية قد أحدقوا به ، فقال بعضهم لأبي مدين : ما معنى سر السر وحقيقة الحقيقة ؟ فقال : هو محل الأسرار ، وعند حقيقته عجزت الأوهام والأفكار ، وطاشت عقول ذوي الأبصار ، إذ العقول لا تعدو طورها ، ولا تعرف حدها ، جهل ذلك من جهله ، وعلمه من علمه ، فلا يدرك الحق إلا الحق ، ولا يعرف الحق إلا بالحق . فهذه خلقي وخليقتي ، وعلى هذا انطوت حقيقتي . فالتشوّق إلى هذا مما لا يدرك ، والخوض فيه واجب أن يترك .
فقال له السائل : أسألك عن التوحيد ما هو ؟ فقال : التوحيد همتي ، وهو شريعتي وسنّتي . التوحيد هو الغاية القصوى ، والملجأ والمأوى . هو الأساس الذي قام به الوجود ، وعليه فترة كل مولود . لكن الناس فيه على مراتب ، فمنهم القريب ، ومنهم الصاحب .
فالرتبة العليا هي الترقّي من الأسماء والصفات إلى توحيد الذات . هناك أفنيت عمري ، وأتعبت خاطري وفكري ، إلى أن نلت منه المعنى ، ولاحظت ذاك الجمال الأسنى . وذلك بمنّ اللّه سبحانه ابتداء وانتهاء ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها .
ثم قال :
عمرت سرّي بك فأحييتني ، ومما سواك أبعدتني ، وبك عن الكونين أثنيتني ، وبالفضل منك ألهمتني . فأنا الفقير وأنت الغني .
ثم قال للسائل : اسمع مخلوقاته بعزّ كبريائه مذلولة ، والأشياء كلها من العرش إلى الثرى معلولة ، إذ هو سبحانه مذلّها بالقهر ، وقاهرها بالأمر ، ومصرّفها بقدرته فيما نفع وضرّ . قدرته في الثرى كقدرته في العرش والسماء ، وهو معكم أينما كنتم . أحاط بكل شيء علما ، وأحصى كل شيء عددا ، هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، وهو بكل شيء عليم . على العرش استوى ، وهو خالق العرش والثرى وما
“ 177 “
بينهما . فالكل قائم به ، وممسوك بقدرته ولطفه . وما من ذرّة فما فوقها إلا وهو معها ، معية ليست بحلول وانتقال ، ولا تغيّر ولا زوال ، فالمخلوقات بأسرها ظل ، وهو سبحانه وتعالى حقيقة الكل .
ومن باب محاسن الكلام
ما قال الفضل بن سهل للمأمون ، وقد سأله حاجة لبعض بيوتات سمرقند ، وكان وعده تعجيل نفاذها ، فتأخر عن ذلك ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، هب لوعدك مذكرا من نفسك ، وهب سائلك حلاوة نعمتك ، واجعل ميلك إلى ذلك في الكرم ، وحاثا على اصطفاء شكر الطالبين ، تشهد لك القلوب بحقائق الكرم ، والألسن بنهاية الجود .
فقال المأمون : قد جعلت إليك إجابة سؤالي عني بما ترى فيهم ، وأخذك بالتقصير فيما يلزم لهم من غير استثمار ولا معاودة .
وقال الفضل بن سهل للمأمون : يا أمير المؤمنين ، اجعل نعمتك صائنة لوجوه خدمك عن إراقة مائها في غضاضة السؤال .
فقال المأمون : واللّه لا كان ذلك إلا كذلك .
وصية بخلق كريم
روينا من حديث ابن مروان قال : أنشدنا المبرّد :
إذا اعتذر الصديق إليك يوما * من التقصير عذر أخ مقر
فصنه عن عتابك واعف عنه * فإن العفو سيمة كل حرّ
حدثنا يونس بن يحيى ، نبأ محمد بن ناصر ، عن الحسن بن أحمد ، عن محمد بن أحمد ، عن محمد الورّاق ، عن خالد بن محمد ، عن محمد بن علي ، عن بشر بن الحارث قال : رأيت على جبل عرفة رجلا قد حكم عليه الوله وهو يقول :
سبحان من لو سجدنا بالعيون له * على سنا الشوك والمحمى من الإبر
لم نبلغ العشر من مشعار نعمته * ولا العشير ولا عشر من العشر
هو الرفيع فلا الأبصار تدركه * سبحانه من مليك نافذ القدر
سبحان من هو أنسي إذ خلوت به * في جوف ليلي وفي الظلما وفي السحر
أنت الحبيب وأنت الحب يا أملي * من لي سواك ومن أرجوه يا ذخري
“ 178 “
ومن باب من عمل من حيث العبودية
حدثنا عبد الواحد بن إسماعيل ، نبأ عمر بن عبد المجيد ، قال : أبو الحسن بن شمعون الواعظ قال : وصف لي رجل من العباد فسرت إليه ، فرأيت من فضله ما ملأ عيني وسمعي وقلبي ، فبتّ متعجبا من أمره ، فرأيت في النوم كأن القيامة قد قامت ، وكأن الناس يحاسبون ، فيؤمر بقوم إلى الجنة وبقوم إلى النار ، فنودي بالشيخ فأمر به إلى النار .
فرأيت ذلك ثلاث ليال متوالية ، فعرّفت الشيخ بذلك ، فقلت له : خفّف يرحمك اللّه من تعبك ، واقصر من تعبّدك . فنظر إليّ وقال لي : يا ابن شمعون ، هذا وأنت واعظ العارفين ، تأمرني أن أخفف من خدمة مولاي لما رأيت أني من أهل النار . إنما أنا عبد من جملة عبيده إن شاء نعّمني وإن شاء عذّبني . أمرني فامتثلت ، ونهاني فانتهيت ، فأمري بعد ذلك مصروف إليه .
فانصرفت من عنده ، وقد عظم تعجّبي من أمره . فلما كان الليل رأيت المنام بعينه ، فنودي بالشيخ وبين عينيه مكتوب بالنور يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ثم أمر به إلى الجنة . فبكرت إلى الشيخ مبشّرا له ، فقال : يا ابن شمعون ، إنما أدّبت بما رأيت لتعلم أن للّه عبيدا لا يقطعهم عن خدمته عذاب ولا نعيم .
شعر
سبحان من ذكره عزّ لذاكره * وإن تحفّل في الأقوال واجتهدا
لم يتخذ سكنا في قدم عزّته * ولم يلده أب حقا ولا ولدا
ولا استعان بشيء في حقيقته * ولم يزل بعظيم العزّ منفردا
لا يبلغ الخلق من تعظيمه طرفا * ولو أقاموا على تعظيمه أبدا
سبحانه وتعالى في جلالته * هو المهيمن لا أشرك به أحدا
حكمة
روينا من حديث ابن مروان ، عن الحربي ، عن مسلم بن إبراهيم ، عن الحسن بن أبي جعفر قال : قال أكثم بن صيفي : الإفراط في الأنس مكسب .
ومن حديثه ، عن يوسف بن عبد اللّه الحلواني ، عن عثمان بن الهيثم ، عن أبيه قال :
قال بزرجمهر الحكيم : احذروا أسطورة الكريم إذا شبع وصولة اللئيم إذا جاع . وبه قال أيضا : ارهب تحذر ، وأنعم تشكر ، ولا تمزح فتحقر .
“ 179 “
خبر مناة
روينا من حديث أبي الوليد ، عن جده أحمد بن محمد ، عن سعيد بن سالم القداح ، عن عثمان بن ساج ، عن محمد بن إسحاق ، أن عمر بن لحيّ نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديد ، وهي التي كانت الأزود وغسان يحجّونها ويعظّمونها ، فإذا طافوا بالبيت ، وأفاضوا من عرفات ، وفرغوا من منى لم يحلّوا إلا عند مناة ، وكانوا يهلّون لها ، ومن أهلّ لها لم يطف بين الصفا والمروة لمكان الصنمين اللذين عليهما نهيك مجاود الريح ومطعم الطير ، وكان هذا الحيّ من الأنصار يهلّون لمناة ، وكانوا إذا أهلّوا بحجّ أو عمرة لم يظلّ أحدهم سقف بيت حتى يفرغ من حجّه أو عمرته . وكان الرجل إذا أحرم لم يدخل بيته ، وإن كان له فيه حاجة تسوّر من ظهر بيته لا يحز رتاج الباب رأسه . فلما جاء اللّه بالإسلام وهدم أمر الجاهلية أنزل اللّه عز وجل في ذلك : وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها .
وكانت مناة للأوس والخزرج وغسان من الأزد ، ومن كان بدينهم من أهل يثرب وأهل الشام . ومناة صخرة لهذيل .
موعظة
حدثنا محمد بن محمد ، نبأ الحريري ، نبأ أبو بكر الخياط ، نبأ ابن دوست ، نبأ ابن صفوان ، عن أبي بكر بن أبي الدنيا ، عن أبي جعفر مولى بني هاشم ، عن عمرو بن الحصين ، عن يحيى بن العلاء ، عن زيد العمي قال : شهدت جنازة هشام بن عبد الملك فسمعت كاتبه يقول :
وما سالم عما قليل بسالم * ولو كثرت أحراسه وكتائبه
ومن يك ذا باب شديد وحجب * فعما قليل يهجر الباب حاجبه
وتصبح بعد الحجب للناس عبرة * رهينة بيت لم تسيّر جوانبه
فما كان إلا الدفن حتى تحوّلت * إلى غيره أجناده ومواكبه
وأصبح مسرورا به كل كاشح * وأسلمه جيرانه وأقاربه
ووقف الفضل الرقاشي على المقبرة فقال :
يا أهل الديار الموحشة والمحالّ المقفرة ، التي نطق بالخراب فناؤها ، وشيّد بالتراب بناؤها ، فمحلّها مقترب ، وساكنها مغترب ، لا يتواصلون تواصل الإخوان ، ولا يتزاورون
“ 180 “
تزاور الجيران ، قد طحنهم بكلكله البلا ، وأكلهم الجندل والثرى . عليكم منّا سلام .
وأنشد :
سلام على أهل القبور الدوارس * كأنكم لم تجلسوا في المجالس
ولم تشربوا من بارد الماء شربة * ولم تأكلوا ما بين رطب ويابس
ألا خبّروني أين قبر ذليلكم * وقبر العزيز الباذخ المتشاوس
ورأيت على قبر باذخ لسيده مكتوبا شعر :
أرى أهل القبور إذا توافوا * بنوا تلك المقابر بالصخور
أبوا إلا مباهاة وفخرا * على الفقراء حتى في القبور
لعمر أبيهم لو أبرزوهم * لما علموا الغنيّ من الفقير
ولا عرفوا العبيد من الموالي * ولا عرفوا الإناث من الذكور
ولا البدن الملبس ثوب صوف * ولا البدن المنعّم في الحرير
إذا ما مات هذا ثم هذا * فما فضل الغنيّ على الفقير
وقام الحسن على قبر فقال : إن امرأ هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله ، وإن امرأ هذا أوله لحقيق أن يخاف آخره .
شعر
تناجيك أجداث وهنّ صموت * وأجسامهم تحت التراب خفوت
أيا جامع الدنيا لغير بلاغة * لمن تجمع الدنيا وأنت تموت
ما يقول القبر في كل يوم وليلة
حدثنا المكين بن رستم إمام مقام إبراهيم عليه السلام ، عن الكرخيّ ، عن العورجيّ ، عن المحبوبي ، عن أبي عيسى الترمذي ، نبأ محمد بن أحمد ، وهو ابن مدوية ، نبأ القاسم بن الحكم العرقيّ ، نبأ عبيد اللّه ، قال ابن الوليد الوضافي ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال : دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مصلّاه ، فرأى أناسا كأنهم يكتشرون فقال : « أما إنكم لو أكثرتم ذكر هادم اللذات لشغلكم عما أرى ، فأكثروا ذكر هادم اللذات ، الموت ، فإنه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيقول : أنا بيت الغربة ، أنا بيت الوحدة ، أنا بيت التراب ، أنا بيت الدود . فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر : مرحبا وأهلا ، إنك كنت لأحب من يمشي على ظهري إليّ ، فإذا وليتك اليوم وصرت إليّ فسترى صنيعي بك ، فيتسع مدّ بصره ، ويفتح
“ 181 “
له باب إلى الجنة . وإذا دفن العبد الفاجر الكافر قال له القبر : لا مرحبا ولا أهلا ، أما إنك كنت لأبغض من يمشي على ظهري إليّ ، فإن أوليتك اليوم وصرت إليّ فسترى صنيعي بك » . قال : « فيلتئم عليه حتى يلتقي وتختلف أضلاعه » .
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « بأصابعه » ، فأدخل بعضها في جوف بعض ، قال : « ويقبض له تسعون تنينا ، لو أن واحدا منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئا ما بقيت الدنيا ، فتنهشه وتخدشه حتى يقضى به إلى الحساب » .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إنما القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار » .
وأنشد بعضهم :
كأني بأصحابي على حافتيّ قبري * يهيلون من فوقي وأعينهم تجري
ستنسون أيامي إذا ما رجعتم * وغادرتموني رهن دورية قفري
ألا أيها المذري عليّ دموعه * ستقصر في يومين عني وعن ذكري
عفا اللّه عني حين أصبح ثاويا * أزار فلا أدري وأجفى فلا أدري
قال عبيد اللّه بن عمير : ليس من ميت يموت إلا نادته حفرته التي يدفن فيها : أنا بيت الظلمة والوحدة ، فإن كنت في حياتك للّه مطيعا كنت اليوم عليك رحمة ، وإن كنت لربك في حياتك عاصيا فأنا اليوم عليك نقمة ، أنا بيت الذي من دخلني مطيعا خرج مني مسرورا ، ومن دخلني عاصيا خرج مني مثبورا .
وخرج عطاء السلميّ إلى المقبرة ذات ليلة ، فلما توسطها نادى بأعلى صوته :
أهل المقابر قد تساوى بينكم * أين الوضيع من الكريم السيد
أين الملوك بني الملوك وأين من * قد كان في الدنيا قليل المحفد
أين الحسان ذوو النضارة والنهى * أين المليح من القبيح الأسود
أين الذين تجبّروا وتعظّموا * وعتوا عتوّا لم يكن بالمرشد
فأجابه من قبر مجيب ينشد شعرا :
إن المنيّة عاصفتهم بغتة * فهم خمود جوف قبر ملحد
قد دبّت الديدان في أجسامهم * وسعت هوام الأرض في الوجه الندي
كم من وجوه قد تناثر لحمها * ومفاصل بانت وبان من اليد
بات بعض الصالحين المنقطعين من أهل الخلوات في المقابر ليلة ، فبينما هو يفكر في شأنها إذ هتف به هاتف ينشد :
الجزء 12
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 166 “
نفس أبيّة وهمة عليّة
روينا من حديث إسماعيل بن يونس ، قال : أنشدنا الرياشي للخليل بن أحمد الفراهيدي :
أبلغ سليمان أني عنه في سعة * ولي غنى غير أني لست ذا مال
أسخو بنفسي لأني لا أرى أحدا * يموت هزلا ولا يبقى على حال
الرزق عن قدر لا الضعف يمنعه * ولا يزيدك فيه حول محتال
ومن ذلك وصية سنية
روينا من حديث محمد بن موسى القطان عن المازني لأعرابي :
أيها الرائب الحريص المعنّى * لك رزق فسوف تستوفيه
قبّح اللّه نائلا ترتجيه * من يدي من يريد أن يقتضيه
إنما الجود والسماح لمن يع * طيك عفوا وماء وجهك فيه
لا ينال الحريص شيئا فيكفي * ه وإن كان فوق ما يكفيه
فاسأل اللّه وحده ودع النا * س واسخطهم بما يرضيه
حكمة
قال : أنشدنا محمد بن صالح الأنماطي لبعضهم :
يخيب الفتى من حيث يزرق غيره * ويعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه
ولبعضهم :
لا تضرعنّ لمخلوق على طمع * فإن ذاك مضرّ منك بالدين
واسترزق اللّه رزقا من خزائنه * فإنما هي بين الكاف والنون
صفة حميدة وحالة سعيدة
روينا من حديث عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : نبأ ابن عيينة ، قال بعض الخلفاء لأبي حازم ، يعني الأعرج : ما مالك ؟ فقال : الرضى عن اللّه ، والغنى عن الناس .
ثم أنشد ابن قتيبة في معناها لبعضهم :
“ 167 “
للناس مال ولي مالان ما لهما * إذا تحارس أهل المال حراس
مالي الرضى بالذي أصبحت أملكه * ومالي البأس فيما يملك الناس
وهذا أبو حازم هو الذي قال له هشام لما ولّي البحرين واجتمع به : ما طعامك ؟ قال :
الخبز والزيت . فقال له : أفلا تسأمها ؟ قال أبو حازم : إذا سئمتهما تركتهما حتى اشتهيتهما .
قوله تعالى : وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ
روينا من حديث محمد بن سلام أبياتا لأعرابي وهي :
وما هذه الأيام إلا معارة * فما اسطعت من معروفها فتزوّد
فإنك لا تدري بأية بلدة * تموت ولا ما يحدث اللّه في غد
يقولون لا تبعد ومن يك بعده * ذراعين من قرب الأحبّة يبعد
عبرة بنفوذ قضاء على يد كاره له
روينا من حديث ابن أبي الدنيا ، عن أبي زيد ، قال : حدثنا الأصمعي ، قال : أتى يزيد بن مسلم رجل برقعة وسأله أن يرفعها إلى الحجاج ، فنظر فيها يزيد فقال : ليس هذه من الحوائج التي ترفع للأمير . فقال له الرجل : فإني أسألك أن ترفعها فلعلها أن توافق قدرا فيقضيها وهو كاره . فأدخلها ، وأخبره بمقالة الرجل . فنظر الحجاج في الرقعة فقال ليزيد :
قل للرجل إنها قد وافقت قدرا ، وقد قضيناها ونحن كارهون .
حكمة من امرأة
روينا من حديث أحمد بن مروان قال : أنشدنا الحسين بن علي لامرأة من ولد حسان بن ثابت شعر :
سل الخير أهل الخير قدما ولا تسل * فتى ذاق طعم العيش منذ قريب
خبر الخضر في مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم
حدثنا عبد اللّه بن عبد الرحمن قال : ثنا المبارك بن علي بن الحسين ، ثنا
“ 168 “
عبيد اللّه بن محمد ، ثنا أحمد بن الحسين ، ثنا أبو سعيد الماليني ، ثنا أبو أحمد بن عديّ الحافظ ، ثنا محمد بن يوسف بن عاصم ، ثنا أحمد بن إسماعيل القرشي ، ثنا عبد اللّه بن نافع ، عن كثير بن عبد اللّه ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان في المسجد ، فسمع كلاما من زاوية ، فإذا هو قائل : اللهم أعنّي على ما ينجيني مما خوّفتني .
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين سمع ذلك : « ألا تضم إليها أختها ؟ » ، فقال الرجل :
اللهم ارزقني شوق الصادقين إلى ما شوّقتهم إليه . قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأنس بن مالك وكان معه : « اذهب يا أنس إليه فقل له : يقول لك رسول اللّه : استغفر لي » . فجاءه أنس فبلّغه .
فقال الرجل : يا أنس ، أنت رسول رسول اللّه إليّ ؟ فقال : كما أنت ، فرجع واستثبته ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « قل له نعم » .
فقال له : اذهب فقل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فضلك على الأنبياء بمثل ما فضل به رمضان على الشهور ، وفضل أمّتك على الأمم بمثل ما فضل يوم الجمعة على سائر الأيام . فذهبوا ينظرون فإذا هو الخضر عليه السلام .
موعظة منظومة
روينا من حديث أحمد بن محرز الهروي قال : وجد على ميل في طريق مكة مكتوب :
ألا يا طالب الدنيا * دع الدنيا لشانيكا
إلى كم تطلب الدنيا * وظلّ الميل يكفيكا
هذه الأبيات لبهلول المجنون ، وعظ بها أمير المؤمنين هارون الرشيد في طريق مكة ، لما حجّ راجلا من أجل يمينه ، فقعد يستريح في ظل الميل ، فرآه بهلول ، فأنشده الأبيات . وفيها من
الزيادة في غير هذه الرواية :
هب الدنيا تؤاتيكا * أليس الموت يأتيكا
ما ينبغي أن يكون عليه الخليل
روينا من حديث إبراهيم الحربي قال : نبّأ أبو نصر ، عن الأصمعي قال : قيل لخالد بن صفوان : أيّ الإخوان أحب إليك ؟ قال : الذي يغفر زللي ، ويسدّ خللي ، ويقبل عللي .
“ 169 “
مكاتبة استلطاف
روينا من حديث ابن قتيبة قال : كتب رجل إلى صديق له : وجدت المودّة منقطعة ، ما كانت الحشمة منبسطة . وليس يزيل سلطان الحشمة إلا المؤانسة ، ولا تقع المؤانسة إلا بالبرّ والملاطفة .
إيقاظ وعبر واتّعاظ
روينا من حديث الحسن بن علي قال : أنشدنا محمد بن سلام لبعضهم :
نعي نفسي إلى مرّ الليالي * تصرّفهنّ حالا بعد حال
فما لي لست مشغولا بنفسي * وما لي لا أبالي الموت ما لي
لقد أيقنت أني غير باق * ولكني أراني ما أبالي
أما لي عبرة في ذكر قومي * تفانوا ربما خطروا ببالي
كأن ممرّضي قد قام يسعى * بنعشي بين أربعة عجال
ولو أني قنعت لكنت حرا * ولم أطلب مكاثرة بمالي
هب الدنيا تساق إليك عفوا * أليس مصير ذاك إلى زوال ؟
فما ترجو بشيء ليس يبقى * وشيكا ما تغيّره الليالي
ومن هذا الباب ما رويناه من حديث أحمد بن عباد قال : أنشدنا الرياشي :
حصنت بيتك جاهدا * ولعلّ غيرك صاحب البيت
وروينا من حديث محمد بن يونس ، عن الأصمعي قال : قيل للأحنف : إنك تطيل الصيام ، قال : إني أعدّه لسفر طويل .
تحريض على الدعاء وتحضيض
ومن روايتنا ما أنشده ابن قتيبة لبعضهم :
وإني لأدعو اللّه والأمر ضيّق * عليّ فما ينفكّ أن يتفرّجا
وربّ فتى سدّت عليه وجوهه * أصاب له في دعوة اللّه مخرجا
شروط الإيمان أخلاق حسان
حدثنا محمد بن قاسم ، نبأ هبة اللّه بن علي ، نبأ محمد بن بركات ، نبأ محمد بن
“ 170 “
سلامة ، أنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر الصفار قال : انا أحمد بن إبراهيم بن جامع بن علي بن عبد العزيز ، نبأ الحجاج ، نبأ حمّاد بن سلمة ، عن عاصم بن بهدلة ، عن أبي بهدلة ، عن أبي هريرة ، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال :
« من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه . ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم جاره . ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت » .
إفساح لسان الزمان بما هو عليه الإنسان
وروينا من حديث ابن مروان أحمد المالكي ، قال : أنشدنا أبو صالح الهمداني لبعض الشعراء :
خذ من الدهر ما كفا * ومن العيش ما صفا
لا تلحّن بالبكا * ء على منزل عفا
خلّ عنك العتاب إن * خان ذو الودّ أو هفا
عين من لا يحبّ وص * لك تبدي لك الجفا
تصاريف الزمان وتقلّب الحدثان
روينا من حديث الحارث الرياشي ، عن الأصمعي قال : قال خال الفرزدق :
إذا ما الدّهر ذلّ على أناس * حوادثه أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا * سيلقى الشامتون كما لقينا
إيمان وحسن عشرة إخوان
روينا من حديث عبيد بن مرداس ، نبأ سليمان بن حرب ، نبأ حمّاد بن زيد قال :
دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم فقال له : أتيتك في حاجة رفعتها إلى اللّه قبلك ، فإن قضيتها حمدنا اللّه وشكرناك ، وإن لم تقضها حمدنا اللّه وعذرناك . قال : فأمر له بحاجته .
استعطاف كريم واستمالة لئيم
روينا من حديث إبراهيم الحربي قال : حدثني أبو نصر ، عن الأصمعي ، عن أبي
“ 171 “
الأشهب قال : لزم بعض الحكماء باب كسرى في حاجة له دهرا ، فلم يصل إليه ، فتلطف بالحاجب في إيصال رقعة له ، ففعل ، وكان فيها أربعة أسطر :
السطر الأول : الضرورة والأمل أقدماني عليك .
والثاني : العدم لا يكون معه صبر على المطالبة .
والثالث : الانصراف بلا فائدة شماتة الأعداء .
والرابع : فإما نعم مثمرة ، وإما لا مريحة .
فلما قرأه وقع في كل سطر بأربعة آلاف ، فأعطى ستة عشر ألفا من المثاقيل .
إفصاح بغالب الأحوال ممن يعد من الأبدال
روينا من حديث إبراهيم بن أبي أليسع الشيعي ، عن أحمد بن الحارث الخرّاز ، عن المدائني قال : قال الحسن ، يعني البصري : ما أعطى رجل شيئا من الدنيا إلا قيل خذه ، ومثله من الحرص .
ومن ذلك ما رويناه من حديث أحمد بن علي المقري قال : نبأ الأصمعي قال : العيال أرصنة المال .
وبالإسناد الأول وهو من باب التذكير ، قال الحسن : أشد الناس صراخا يوم القيامة رجل سنّ ضلالا فاتّبع عليه ، ورجل سيّئ الملكة ، ورجل فادع استعان بنعم اللّه على معاصيه .
حكمة بالغة
روينا من حديث إبراهيم بن حبيب ، حدثنا نعيم بن حماد ، نبأ ابن المبارك ، نبأ حبيب بن حجر قال : كان يقال : ما أحسن الإيمان بزينة العلم ، وأحسن العلم بزينة العمل ، وأحسن العمل بزينة الرفق ، وما أضيف شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم .
تذكرة حكيم
روينا من حديث يوسف بن عبد اللّه ، عن سهل بن محمد ، عن الأصمعي ، عن عبد اللّه بن دينار ، عن عبد اللّه بن بكر المزني قال : جاء رجل فشتم الأحنف بن قيس ،
“ 172 “
فسكت عنه ، فأعاد عليه وألحّ ، والأحنف ساكت . فقال : وا لهفاه ، ما يمنعه عن جوابي إلا هواني عليه ؟
ملاطفة وحلم
روينا من حديث محمد بن يونس ، نبأ الأصمعي قال : أسمع رجل الشعبي كلاما ، فقال له الشعبي : إن كنت صادقا فغفر اللّه لي ، وإن كنت كاذبا فغفر اللّه لك .
ثم أنشأ يقول :
هنيئا مريئا غير داء مخامر * لعزّة من أعراضنا ما استحلت
نفس أبيّة
روينا من حديث أحمد بن موسى البصري ، عن أبي زيد ، عن الأصمعي ، عن أبي سفيان بن العلاء قال : إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أوزن من حلمي ، وإذا قال : هذا خلق حقير ، فعفو اللّه أسمح وحلمه أرجح .
ومن هذا الباب ما رويناه من حديث محمد بن عبد العزيز ، عن ابن عائشة قال : ذكر أعرابي رجلا ، فقال : كان أحلم من فرخ طائر .
شعر :
إني لأعرض عن أشياء أسمعها * حتى يظن رجال أن بي حمقا
أخشى جواب سفيه لا حياء له * فسل يظنّ أناس أنه صدقا
ومن هذا الباب ما رويناه من حديث ابن مروان قال : نبأ أحمد بن داود ، عن الرياشي ، عن الأصمعي قال : بلغني أن رجلا قال لآخر : واللّه إن قلت لي واحدة لتسمعن عشرا . قال : لكنك لو قلت عشرا لم تسمع واحدة .
وأنشدني لبعض الشعراء أبو بكر بن خلف :
إذا نطق السفيه فلا تجبه * فخير من إجابته السكوت
سكتّ عن السفيه فظنّ أني * عييت عن الجواب وما عييت
ولكني اكتسيت بثوب حلم * وجنّبت السفاهة ما بقيت
ومن هذا الباب ما رويناه من حديث أحمد بن داود قال : نبّأ الرياشي قال : أنبأ الأصمعي قال : كان الأحنف بن قيس يقول : من لم يصبر على كلمة سمع كلمات ، وربّ غيظ قد تجرّعته مخافة ما هو أشدّ منه .
“ 173 “
وأنشد لبعض الشعراء :
وإن اللّه ذو حلم ولكن * بقدر الحلم ينتقم الحليم
لقد ولّت بدولتك الليالي * وأنت ملعن فيها ذميم
وزالت لم يعش فيها كريم * ولا استغنى بثروتها عديم
فبعدا لا انقضاء له وسحقا * فغير حسابك الجدث العظيم
وروينا من حديث جعفر بن شاكر ، عن معاوية بن عمرو ، عن أبي إسحاق الأوزاعي ، أن عمر بن عبد العزيز كان إذا أراد أن يعاقب رجلا حبسه ثلاثة أيام ثم عاقبه ، كراهة أن يعجل في أول غضبه . أرى ذلك ، واللّه أعلم في إقامة الحدود التي ليس له أن يعفو عنها ، والتعزيز الذي فيه المصلحة للناس . وأما فيما كان يرجع إليه ، فالعفو كان شيمته .
وأسمعه رجلا كلاما فقال : أردت أن يستفزني الشيطان فأتاك منك بما تناله أنت مني في يوم القيامة . انصرف عني عافاك اللّه .
خبر الشجرة التي سلّمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإتيانها إليه
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه ، عن سليمان بن أحمد ، نبأ محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، نبأ عبادة بن زياد الأسدي قال : حدثنا حبّان بن علي ، عن صالح بن حبان ، عن ابن يزيد ، عن أبيه قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه ، قد أسلمت فأرني شيئا أزدد به يقينا . فقال : « ما الذي تريد ؟ » ، فقال : ادع تلك الشجرة فلتأتك . قال : « اذهب فادعها » .
فأتاها الأعرابي قال : فأجيبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . قال : فمالت على جانب من جوانبها قطعت عروقها ، ثم مالت على الجانب الآخر قطعت عروقها ، حتى أتت النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقالت : السلام عليك يا رسول اللّه .
فقال الأعرابي : حسبي حسبي . فقال لها النبي صلى اللّه عليه وسلم : « ارجعي » ، فرجعت ، فجلست على عروقها وفروجها .
فقال الأعرابي : ائذن لي يا رسول اللّه أن أقبّل رأسك ورجليك ، ففعل . ثم قال : ائذن لي أن أسجد لك .
فقال : « لا يسجد أحد لأحد ، ولو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظيم حقه عليها » .
“ 174 “
مرافقة المتّقين الأخيار في الأسفار
حدثنا عبد الرحمن بن علي ، نبأ عبد الوهاب الحافظ ، انا المبارك بن عبد الجبار ، نبأ علي بن أحمد الملطي ، نبأ ابن دوست ، نبأ ابن صفوان ، نبأ القرشي ، نبأ محمد بن الحسين ، حدثنا بعض أصحابي قال : جاءني بهيم العجلي فقال : تعلم لي رجلا من جيرانك وإخوانك يريد الحج ترضاه لمرافقتي ؟ قلت : نعم ، فذهبت به إلى رجل به صلاح ودين ، فجمعت بينهما ، وتواطآ على المرافقة ، ثم انطلق بهيم إلى أهله ، فلما كان بعد أتاني الرجل فقال : أريد أن تزوي عني صاحبك ، ويطلب رفيقا غيري . فقلت : ولم ؟ فو اللّه ما أعلم بالكوفة له نظيرا في حسن الأخلاق والاحتمال .
قال : حدثت أنه طويل البكاء لا يكاد يفترّ ، فهذا ينغّض علينا العيش . فقلت له : إنما يكون البكاء أحيانا عند التذكرة ، أو ما تبكي أنت ؟ قال : بلى . ولكنه بلغني أنه أمر عظيم من كثرة بكائه .
قلت : اصحبه فلعلك أن تنتفع به . قال : أستخير اللّه . فلما كان اليوم الذي أرادا أن يخرجا فيه جيء بالإبل ، فوطئ لهما ، فجلس بهيم يبكي في ظل حائط ، فوضع يده تحت لحيته ، وجعلت دموعه تسيل على خدّيه ، ثم على لحيته ، ثم على صدره ، حتى واللّه رأيت دموعه على خدّيه ثم على الأرض . فقال لي صاحبي : يا مخول ، قد ابتدأ صاحبك ، ليس هذا لي برفيق .
فقلت له : ارفق لعله ذكر عياله ومفارقته إياهم . فسمعها بهيم فقال : يا أخي ، واللّه ما هو ذاك ، وما هو إلا أني ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة ، وعلا صوته بالنحيب ، فقال لي صاحبي : ما هذا بأول عداوتك لي ، ما لي ولبهيم ؟ إنما كان ينبغي أن ترافقوا بين بهيم وبين داود الطائي وسلام أبي الأخوص ، حتى يبكي بعضهم إلى بعض فيستشفون أو يموتون .
فلم أزل أرفق به ، وأقول له : لعلها خير سفرة سافرتها ، وكل ذلك لا يعلم به بهيم ، ولو يعلم ما صاحبه ، فخرجا وحجّا ورجعا . فلما جئت أسلّم على جاري قال لي : جزاك اللّه عني يا أخي خيرا ، ما ظننت أن في هذا الخلق مثل أبي بكر ، كان واللّه يتفضل عليّ في النفقة وهو معدوم وأنا موسر ، وفي الخدمة وأنا شابّ وهو شيخ ، ويطبخ لي وأنا مفطر وهو صائم .
قلت : كيف كان أمرك معه في الذي تكرهه من طول البكاء ؟ قال : واللّه ألفت ذلك البكاء ، وسرّ قلبي حتى كنت أساعده عليه حتى تأذي بنا الرفقة ، ثم ألفوا ذلك ، فجعلوا إذا سمعونا نبكي يبكون ، وجعل بعضهم يقول لبعض : ما الذي جعلهم أولى بالبكاء منّا ، والمصير واحد ؟ فيبكون ونبكي . ثم خرجت من عنده وأتيت بهيما ، وقلت : كيف رأيت
“ 175 “
صاحبك ؟ قال : خير صاحب ، كثير الذكر للّه عز وجل ، طويل التلاوة ، سريع الدمعة ، جزاك اللّه عني خيرا .
شوق وانزعاج عند وداع الحاج
حدثنا أبو الثنا محمود بن المظفر اللبان ، عن محمد بن نصر ، نبأ الحميدي ، نبأ أبو بكر ، عن السلميّ ، قال بعضهم : خرجت أم أيمن ببنت عليّ امرأة أبي علي الروذباريّ من مصر ، لما برز الحجاج إلى الصحراء ، فكانت الجمال تمرّ بها وهي تبكي وتقول :
وا ضعفاه ، وتنشد على أثر قولها :
فقلت دعوني وأتباعي ركابكم * أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد
وما بال عني لا يهون عليهم * وقد علموا أن ليس لي منهم بدّ
وتقول : هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت ، فكيف حسرة من انقطع عن رب البيت ؟
ولمهيار الديلمي في الاشتياق :
وما اتّبعت ظعن الحيّ طرفي * لأغنم نظرة فتكون زادي
ولكني بعثت بلحظ عيني * وراء الركب يسأل عن فؤادي
وله أيضا :
سل أبرق الحنان وأحسن به * أين ليالينا على الأبرق
وكيف بانات بسقط اللوى * ما لم يجدها الدمع لم تورق
هل حملت لا حملت بعدنا * عنك الصبا عرفا لمستنشق
أغناك صوب الدمع عن منة * أحملها للمرعد المبرق
دمعي على الخيف جنى ما جنى * بكاء حسّان على جلّق
للّه دهر لك يوم النّقى * لولا وفاء الحب لم يعلق
يا سائق الأظعان رفقا وإن * لم يغن قولي للعسوف أرفق
لولا زفيري خلف أجمالهم * وحرّ أنفاسي لم تنسق
لا تبردوا بالعدل قلبي فما * استنجد الدمع على محرق
سمّيت لي نجدا على بعدها * يا وله المشأم بالمعرق
داو بها حبي فها مهجتي * أول مجنون بنجد رقي
وفي المعنى لبعضهم :
“ 176 “
يا سائق العيس ترفّق واستمع * مني وبلّغ إن وصلت عني
وقف بأكناف الحجاز ناشدا * قلبي فقد ضاع الغداة مني
وقل إذا وصلت نحو أرضهم * ذاك الأسير موثق بالحزن
عرّض بذكري عندهم عساهم * إن سمعوك سائلوك عني
قل ذلك المحبوس عن قصدكم * معذّب القلب بكل فنّ
أقول قد أمّلت أن أزوركم * في جملة الوفد فخاب ظني
أقعد في الجدلان عن قصدكم * ورمت أن أسعى فلم يدعني
ومن وقائع بعض الفقراء
ما حدثنا به عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي ، قال : رأى بعض المريدين في الواقعة شيخنا أبا مدين وجملة من الصوفية قد أحدقوا به ، فقال بعضهم لأبي مدين : ما معنى سر السر وحقيقة الحقيقة ؟ فقال : هو محل الأسرار ، وعند حقيقته عجزت الأوهام والأفكار ، وطاشت عقول ذوي الأبصار ، إذ العقول لا تعدو طورها ، ولا تعرف حدها ، جهل ذلك من جهله ، وعلمه من علمه ، فلا يدرك الحق إلا الحق ، ولا يعرف الحق إلا بالحق . فهذه خلقي وخليقتي ، وعلى هذا انطوت حقيقتي . فالتشوّق إلى هذا مما لا يدرك ، والخوض فيه واجب أن يترك .
فقال له السائل : أسألك عن التوحيد ما هو ؟ فقال : التوحيد همتي ، وهو شريعتي وسنّتي . التوحيد هو الغاية القصوى ، والملجأ والمأوى . هو الأساس الذي قام به الوجود ، وعليه فترة كل مولود . لكن الناس فيه على مراتب ، فمنهم القريب ، ومنهم الصاحب .
فالرتبة العليا هي الترقّي من الأسماء والصفات إلى توحيد الذات . هناك أفنيت عمري ، وأتعبت خاطري وفكري ، إلى أن نلت منه المعنى ، ولاحظت ذاك الجمال الأسنى . وذلك بمنّ اللّه سبحانه ابتداء وانتهاء ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها .
ثم قال :
عمرت سرّي بك فأحييتني ، ومما سواك أبعدتني ، وبك عن الكونين أثنيتني ، وبالفضل منك ألهمتني . فأنا الفقير وأنت الغني .
ثم قال للسائل : اسمع مخلوقاته بعزّ كبريائه مذلولة ، والأشياء كلها من العرش إلى الثرى معلولة ، إذ هو سبحانه مذلّها بالقهر ، وقاهرها بالأمر ، ومصرّفها بقدرته فيما نفع وضرّ . قدرته في الثرى كقدرته في العرش والسماء ، وهو معكم أينما كنتم . أحاط بكل شيء علما ، وأحصى كل شيء عددا ، هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، وهو بكل شيء عليم . على العرش استوى ، وهو خالق العرش والثرى وما
“ 177 “
بينهما . فالكل قائم به ، وممسوك بقدرته ولطفه . وما من ذرّة فما فوقها إلا وهو معها ، معية ليست بحلول وانتقال ، ولا تغيّر ولا زوال ، فالمخلوقات بأسرها ظل ، وهو سبحانه وتعالى حقيقة الكل .
ومن باب محاسن الكلام
ما قال الفضل بن سهل للمأمون ، وقد سأله حاجة لبعض بيوتات سمرقند ، وكان وعده تعجيل نفاذها ، فتأخر عن ذلك ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، هب لوعدك مذكرا من نفسك ، وهب سائلك حلاوة نعمتك ، واجعل ميلك إلى ذلك في الكرم ، وحاثا على اصطفاء شكر الطالبين ، تشهد لك القلوب بحقائق الكرم ، والألسن بنهاية الجود .
فقال المأمون : قد جعلت إليك إجابة سؤالي عني بما ترى فيهم ، وأخذك بالتقصير فيما يلزم لهم من غير استثمار ولا معاودة .
وقال الفضل بن سهل للمأمون : يا أمير المؤمنين ، اجعل نعمتك صائنة لوجوه خدمك عن إراقة مائها في غضاضة السؤال .
فقال المأمون : واللّه لا كان ذلك إلا كذلك .
وصية بخلق كريم
روينا من حديث ابن مروان قال : أنشدنا المبرّد :
إذا اعتذر الصديق إليك يوما * من التقصير عذر أخ مقر
فصنه عن عتابك واعف عنه * فإن العفو سيمة كل حرّ
حدثنا يونس بن يحيى ، نبأ محمد بن ناصر ، عن الحسن بن أحمد ، عن محمد بن أحمد ، عن محمد الورّاق ، عن خالد بن محمد ، عن محمد بن علي ، عن بشر بن الحارث قال : رأيت على جبل عرفة رجلا قد حكم عليه الوله وهو يقول :
سبحان من لو سجدنا بالعيون له * على سنا الشوك والمحمى من الإبر
لم نبلغ العشر من مشعار نعمته * ولا العشير ولا عشر من العشر
هو الرفيع فلا الأبصار تدركه * سبحانه من مليك نافذ القدر
سبحان من هو أنسي إذ خلوت به * في جوف ليلي وفي الظلما وفي السحر
أنت الحبيب وأنت الحب يا أملي * من لي سواك ومن أرجوه يا ذخري
“ 178 “
ومن باب من عمل من حيث العبودية
حدثنا عبد الواحد بن إسماعيل ، نبأ عمر بن عبد المجيد ، قال : أبو الحسن بن شمعون الواعظ قال : وصف لي رجل من العباد فسرت إليه ، فرأيت من فضله ما ملأ عيني وسمعي وقلبي ، فبتّ متعجبا من أمره ، فرأيت في النوم كأن القيامة قد قامت ، وكأن الناس يحاسبون ، فيؤمر بقوم إلى الجنة وبقوم إلى النار ، فنودي بالشيخ فأمر به إلى النار .
فرأيت ذلك ثلاث ليال متوالية ، فعرّفت الشيخ بذلك ، فقلت له : خفّف يرحمك اللّه من تعبك ، واقصر من تعبّدك . فنظر إليّ وقال لي : يا ابن شمعون ، هذا وأنت واعظ العارفين ، تأمرني أن أخفف من خدمة مولاي لما رأيت أني من أهل النار . إنما أنا عبد من جملة عبيده إن شاء نعّمني وإن شاء عذّبني . أمرني فامتثلت ، ونهاني فانتهيت ، فأمري بعد ذلك مصروف إليه .
فانصرفت من عنده ، وقد عظم تعجّبي من أمره . فلما كان الليل رأيت المنام بعينه ، فنودي بالشيخ وبين عينيه مكتوب بالنور يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ثم أمر به إلى الجنة . فبكرت إلى الشيخ مبشّرا له ، فقال : يا ابن شمعون ، إنما أدّبت بما رأيت لتعلم أن للّه عبيدا لا يقطعهم عن خدمته عذاب ولا نعيم .
شعر
سبحان من ذكره عزّ لذاكره * وإن تحفّل في الأقوال واجتهدا
لم يتخذ سكنا في قدم عزّته * ولم يلده أب حقا ولا ولدا
ولا استعان بشيء في حقيقته * ولم يزل بعظيم العزّ منفردا
لا يبلغ الخلق من تعظيمه طرفا * ولو أقاموا على تعظيمه أبدا
سبحانه وتعالى في جلالته * هو المهيمن لا أشرك به أحدا
حكمة
روينا من حديث ابن مروان ، عن الحربي ، عن مسلم بن إبراهيم ، عن الحسن بن أبي جعفر قال : قال أكثم بن صيفي : الإفراط في الأنس مكسب .
ومن حديثه ، عن يوسف بن عبد اللّه الحلواني ، عن عثمان بن الهيثم ، عن أبيه قال :
قال بزرجمهر الحكيم : احذروا أسطورة الكريم إذا شبع وصولة اللئيم إذا جاع . وبه قال أيضا : ارهب تحذر ، وأنعم تشكر ، ولا تمزح فتحقر .
“ 179 “
خبر مناة
روينا من حديث أبي الوليد ، عن جده أحمد بن محمد ، عن سعيد بن سالم القداح ، عن عثمان بن ساج ، عن محمد بن إسحاق ، أن عمر بن لحيّ نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديد ، وهي التي كانت الأزود وغسان يحجّونها ويعظّمونها ، فإذا طافوا بالبيت ، وأفاضوا من عرفات ، وفرغوا من منى لم يحلّوا إلا عند مناة ، وكانوا يهلّون لها ، ومن أهلّ لها لم يطف بين الصفا والمروة لمكان الصنمين اللذين عليهما نهيك مجاود الريح ومطعم الطير ، وكان هذا الحيّ من الأنصار يهلّون لمناة ، وكانوا إذا أهلّوا بحجّ أو عمرة لم يظلّ أحدهم سقف بيت حتى يفرغ من حجّه أو عمرته . وكان الرجل إذا أحرم لم يدخل بيته ، وإن كان له فيه حاجة تسوّر من ظهر بيته لا يحز رتاج الباب رأسه . فلما جاء اللّه بالإسلام وهدم أمر الجاهلية أنزل اللّه عز وجل في ذلك : وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها .
وكانت مناة للأوس والخزرج وغسان من الأزد ، ومن كان بدينهم من أهل يثرب وأهل الشام . ومناة صخرة لهذيل .
موعظة
حدثنا محمد بن محمد ، نبأ الحريري ، نبأ أبو بكر الخياط ، نبأ ابن دوست ، نبأ ابن صفوان ، عن أبي بكر بن أبي الدنيا ، عن أبي جعفر مولى بني هاشم ، عن عمرو بن الحصين ، عن يحيى بن العلاء ، عن زيد العمي قال : شهدت جنازة هشام بن عبد الملك فسمعت كاتبه يقول :
وما سالم عما قليل بسالم * ولو كثرت أحراسه وكتائبه
ومن يك ذا باب شديد وحجب * فعما قليل يهجر الباب حاجبه
وتصبح بعد الحجب للناس عبرة * رهينة بيت لم تسيّر جوانبه
فما كان إلا الدفن حتى تحوّلت * إلى غيره أجناده ومواكبه
وأصبح مسرورا به كل كاشح * وأسلمه جيرانه وأقاربه
ووقف الفضل الرقاشي على المقبرة فقال :
يا أهل الديار الموحشة والمحالّ المقفرة ، التي نطق بالخراب فناؤها ، وشيّد بالتراب بناؤها ، فمحلّها مقترب ، وساكنها مغترب ، لا يتواصلون تواصل الإخوان ، ولا يتزاورون
“ 180 “
تزاور الجيران ، قد طحنهم بكلكله البلا ، وأكلهم الجندل والثرى . عليكم منّا سلام .
وأنشد :
سلام على أهل القبور الدوارس * كأنكم لم تجلسوا في المجالس
ولم تشربوا من بارد الماء شربة * ولم تأكلوا ما بين رطب ويابس
ألا خبّروني أين قبر ذليلكم * وقبر العزيز الباذخ المتشاوس
ورأيت على قبر باذخ لسيده مكتوبا شعر :
أرى أهل القبور إذا توافوا * بنوا تلك المقابر بالصخور
أبوا إلا مباهاة وفخرا * على الفقراء حتى في القبور
لعمر أبيهم لو أبرزوهم * لما علموا الغنيّ من الفقير
ولا عرفوا العبيد من الموالي * ولا عرفوا الإناث من الذكور
ولا البدن الملبس ثوب صوف * ولا البدن المنعّم في الحرير
إذا ما مات هذا ثم هذا * فما فضل الغنيّ على الفقير
وقام الحسن على قبر فقال : إن امرأ هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله ، وإن امرأ هذا أوله لحقيق أن يخاف آخره .
شعر
تناجيك أجداث وهنّ صموت * وأجسامهم تحت التراب خفوت
أيا جامع الدنيا لغير بلاغة * لمن تجمع الدنيا وأنت تموت
ما يقول القبر في كل يوم وليلة
حدثنا المكين بن رستم إمام مقام إبراهيم عليه السلام ، عن الكرخيّ ، عن العورجيّ ، عن المحبوبي ، عن أبي عيسى الترمذي ، نبأ محمد بن أحمد ، وهو ابن مدوية ، نبأ القاسم بن الحكم العرقيّ ، نبأ عبيد اللّه ، قال ابن الوليد الوضافي ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال : دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مصلّاه ، فرأى أناسا كأنهم يكتشرون فقال : « أما إنكم لو أكثرتم ذكر هادم اللذات لشغلكم عما أرى ، فأكثروا ذكر هادم اللذات ، الموت ، فإنه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيقول : أنا بيت الغربة ، أنا بيت الوحدة ، أنا بيت التراب ، أنا بيت الدود . فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر : مرحبا وأهلا ، إنك كنت لأحب من يمشي على ظهري إليّ ، فإذا وليتك اليوم وصرت إليّ فسترى صنيعي بك ، فيتسع مدّ بصره ، ويفتح
“ 181 “
له باب إلى الجنة . وإذا دفن العبد الفاجر الكافر قال له القبر : لا مرحبا ولا أهلا ، أما إنك كنت لأبغض من يمشي على ظهري إليّ ، فإن أوليتك اليوم وصرت إليّ فسترى صنيعي بك » . قال : « فيلتئم عليه حتى يلتقي وتختلف أضلاعه » .
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « بأصابعه » ، فأدخل بعضها في جوف بعض ، قال : « ويقبض له تسعون تنينا ، لو أن واحدا منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئا ما بقيت الدنيا ، فتنهشه وتخدشه حتى يقضى به إلى الحساب » .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إنما القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار » .
وأنشد بعضهم :
كأني بأصحابي على حافتيّ قبري * يهيلون من فوقي وأعينهم تجري
ستنسون أيامي إذا ما رجعتم * وغادرتموني رهن دورية قفري
ألا أيها المذري عليّ دموعه * ستقصر في يومين عني وعن ذكري
عفا اللّه عني حين أصبح ثاويا * أزار فلا أدري وأجفى فلا أدري
قال عبيد اللّه بن عمير : ليس من ميت يموت إلا نادته حفرته التي يدفن فيها : أنا بيت الظلمة والوحدة ، فإن كنت في حياتك للّه مطيعا كنت اليوم عليك رحمة ، وإن كنت لربك في حياتك عاصيا فأنا اليوم عليك نقمة ، أنا بيت الذي من دخلني مطيعا خرج مني مسرورا ، ومن دخلني عاصيا خرج مني مثبورا .
وخرج عطاء السلميّ إلى المقبرة ذات ليلة ، فلما توسطها نادى بأعلى صوته :
أهل المقابر قد تساوى بينكم * أين الوضيع من الكريم السيد
أين الملوك بني الملوك وأين من * قد كان في الدنيا قليل المحفد
أين الحسان ذوو النضارة والنهى * أين المليح من القبيح الأسود
أين الذين تجبّروا وتعظّموا * وعتوا عتوّا لم يكن بالمرشد
فأجابه من قبر مجيب ينشد شعرا :
إن المنيّة عاصفتهم بغتة * فهم خمود جوف قبر ملحد
قد دبّت الديدان في أجسامهم * وسعت هوام الأرض في الوجه الندي
كم من وجوه قد تناثر لحمها * ومفاصل بانت وبان من اليد
بات بعض الصالحين المنقطعين من أهل الخلوات في المقابر ليلة ، فبينما هو يفكر في شأنها إذ هتف به هاتف ينشد :
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin