الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء 21
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 304 “
نادى اللّه موسى بن عمران : يا ابن عمران ، لا تخيب من قصدك ، وأجر من أجارك . قال :
بينما موسى عليه السلام في سياحته ، إذا بجارح يطلب حماما ، فلما رآه الحمام نزل على كتفه مستجيرا له ، ونزل الجارح على الكتف الآخر ، فلما همّ به الجارح نزل الحمام على كمه ، فناداه الجارح بلسان فصيح : يا ابن عمران ، إني قاصدك فلا تخيبني ، ولا تحل بيني وبين رزقي . وناداه الحمام : يا ابن عمران ، إني مستجير بك فأجرني .
فقال : ما أسرع ما ابتليت به ، ثم مد يده ليقطع قطعة من فخذه للجارح وفاء لهما وحفظا لما عهد إليه فيهما .
فقالا : يا ابن عمران ، إنّا رسل ربك إليك ليرى صحة ما عهد إليك .
شعر :
أيا سامعا ليس السماع بنافع * إذا أنت لم تفعل فما أنت سامع
إذا كنت في الدنيا عن الخير عاجزا * فما أنت في يوم القيامة صانع
وقال آخر :
لما غلبت وزاد الشوق في ألمي * وقفت للذكر مغلوبا على قدمي
ولو قدرت جعلت العين لي قدما * يا ذا التفضل والآلاء والكرم
أشتاق ذكرك والتعظيم يمنعني * والشوق يملأ ألفاظي به وفمي
فها أنا بين شوق لا أقوم به * وبين حسرة مغلوب ومحتشم
وقال آخر :
إن قلت عبدك لم أطق نطقا به * خوفا من الزلّات والعصيان
فالعبد يبذل في التقرّب جهده * لا يستطيع تجاوز الإمكان
فارحم بفضلك زلّتي وتحيّري * وصل التجاوز منك بالإحسان
سمعت محمد بن قاسم ، قال : سمعت عمر بن عبد المجيد ، قال بعض السادة :
رأيت رجلا في تيه بني إسرائيل قد لوّحته العبادة ، حتى صار كالشن البالي ، فقلت له : ما الذي بلغ بك هذه الحالة ؟ فنظر إليّ منكرا لسؤالي ، وقال : ما أظنك من جملة الأحبّاء . هذا ثقل الأوزار ، وخوف النار ، والحياء من الملك الستّار .
شعر :
لما ذكرت عذاب النار أزعجني * ذاك التذاكر عن أهلي وأوطاني
فصرت في القفر أرعى الوحش منفردا * كما تراني على وجدي وأحزاني
وذا قليل لمثلي بعد جرأته * فما عصى اللّه عبد مثل عصياني
نادوا عليّ وقولوا في مجالسكم * هذا المسئ وهذا المذنب الجاني
فما ارعويت وما قصّرت من زللي * ولا غسلت بماء الدمع أجفاني
لكن ذكرت جوادا ماجدا صمدا * يعفو ويصفح ذا عفو وإحسان
“ 305 “
سبحانه ماجدا جلّت عوارفه * فهو الجواد بعفو منه ألجاني
هذا اعتقادي ولو صيّرت في قرن * مع الشياطين في إدراك نيران
يا ربّ عفوا فظني فيك متّسع * واغفر بفضلك إسراري وإعلاني
مثل سائر
كلب جوّال خير من أسد رابض .
يقول الحكيم : لا تدع الحيلة في التماس الرزق بكل مكان ، فإن الكريم محتال والدنيّ عيّال . وأنشد :
فسر في بلاد اللّه والتمس الغنى * تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
ولا ترض من عيش بدون ولا تنم * وكيف ينام الليل من كان معسرا
ولحبيب بن أوس الطائي :
وطول مقام المرء في الحي مخلق * لديباجتيه فاغترب تتجدّد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة * إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد
وكان ابن السماك يقول : لا تشتغل بالرزق المضمون عن العمل المفروض ، وكن اليوم مشغولا بما أنت عنه مسؤول غدا ، وإياك والفضول فإن حسابها يطول .
لعمرو بن أذينة :
إني علمت وخير العلم أنفعه * إن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعنيني تطلّبه * ولو قعدت أتاني لا يعنيني
قال بعض الأعراب : كيف يفرح عاقل بعمر تنقصه الساعات ؟ وسلامة بدن معرّض للآفات ؟ فلقد عجبت من المرء يفرّ من الموت وهو سبيله ، ولا أرى أحدا إلا سيدركه الموت ؟
روينا من حديث عليّ بن الجهم ، قال : كنت في مجلس محمد بن عمرو بن مسعدة ، فأقبلت جارية كأنها البدر ليلة التمام ، بلون كأنه الدرّ في البياض ، مع احمرار الخدين ، كشقائق النعمان ، فسلّمت ، فقال لي محمد : يا أبا الحسن ، هذه الجنة التي كنتم توعدون .
فقالت :
وما الوعد يا سؤلي ومنية مهجتي * فإن فؤادي من مقالك طائر
فقال لها أبو محمد :
“ 306 “
أما وإله العرش ما قلت سيئا * وما كان إلا أنني لك شاكر
فقال علي بن الجهم : فأقبلت تحدثنا ، فإذا عقل كامل ، وجمال فاضل ، وحسن قاتل ، وردف مائل . فقلت لها : قد أقرّ اللّه عينا تراك . فقالت : أقرّ اللّه أعينكم ، وزادكم سرورا وغبطة . ثم اندفعت تغني بنغمة لم أسمع أحسن منها ،
وتقول :
أروح بهمّ من هواك مبرّح * أناجي به قلبا كثير التفكّر
عليك سلام لا زيارة بيننا * ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
فما زلنا يومنا معها في الفردوس الأعلى . وما ذكرتها بعد إلا أسفت عليها وعلى فراقها .
وروينا من حديث ثور بن معن السلمي ، عن أبيه ، قال : قال : إني دخلت على الخنساء في الجاهلية ، وعليها صدار من شعر ، وهي عريانة . قال : قال أبي : دخلت عليها تجهّرا بيتها ، فكلمتها في طرح الصدار ، فقالت : يا أحمق ، أنا أحسن منك غرسا ، وأطيب منك نفسا ، وأرقّ منك نقلا ، وأكرم منك بعلا .
وقال عبد الرحمن بن مرة عن بعض أشياخه : إن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال للخنساء : ما أقرح مآقي عينيك ؟ قالت : بكائي على السادات من مضر .
قال : يا خنساء ، إنهم في النار . قالت : ذاك أطول بعويلي عليهم .
وقيل : إنها أقبلت حاجّة ، فمرّة بالمدينة ومعها ناس من قومها ، فأتوا عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، فقالوا : هذه الخنساء ، فلو وعظتها يا أمير المؤمنين ، فلقد طال بكاؤها في الجاهلية والإسلام . فقام عمر رضي اللّه عنه ، فأتاها فقال : يا خنساء ، فرفعت رأسها ، فقالت : ما تشاء ؟ قال : ما الذي أقرح عينيك ؟ قالت : البكاء على السادات من مضر . قال : إنهم هلكوا في الجاهلية ، وهم أعضاد اللهب ، وحشو جهنم .
قالت : فذاك الذي زادني وجعا . قال : فأنشدني مما قلت ، قالت : أما إني لا أنشدك مما قلت اليوم ، ولكن أنشدك ما قلت الساعة .
وقالت :
سقى جدثا أعراق عمره دونه * ويدنيه وعّاث الربيع ووابله
وكنت أعير الدمع قبلك من بكى * على فقد من قد فات والحزن شاغله
وأرعيهم سمعي إذا ذكروا الأسى * وفي الصدر مني زفرة لا تزايله
فقال : دعوها ، فإنها لا تزال حزينة أبدا .
ومما يستحسن الأدباء من شعرها :
“ 307 “
تعرّفني الدهر قرعا وغمزا * وأوجعني الدهر نهشا ووخزا
وأفنى رجالي فبادوا معا * وأصبح قلبي لهم مستفزّا
كأن لم يكونوا حمى يتّقى * من الناس إذ ذاك من عزّ بزّا
وكانوا سراة بني مالك * وزين العشيرة مجدا وعزّا
وهم في القديم ضحاح الأديم * والكائنون من البأس حرزا
بسمر الرماح وبيض الصفاح * فبالبيض ضربا وبالسمر وخزا
وخيل تكردس بالدّارعين * وتحت العجاجة يجمزن جمزا
جززنا نواصي فرسانها * وكانوا يظنون أن لا تجزّا
ومن ظنّ ممن يلاقي الحروب * أن لا يصاب فقد ظن عجزا
تعفّ وتعرف حق القرى * وتتخذ الحمد ذخرا وكنزا
وتلبس في الحرب نسج الحديد * وفي السلم تلبس خزّا وقزّا
حدثنا أبو جعفر الوزعي ، قال : روى الأصمعي ، عن رجل من أهل الشام ، وهو عبد اللّه بن الحارث ، قال : قدمت المدينة ، فقصدت منزل ابن هرمة ، فإذا ابنة صغيرة له تلعب ، فقلت لها : أي بنيّة ، ما فعل أبوك ؟ قالت : يا عم ، إنه قد وفد على بعض الإخوان ، قال : قلت : فانحري لي ناقة ، فأنا أضيافك ، فقالت : يا عم ، ما عندنا شيء ، قلت : فباطل ما قال أبوك ؟ قالت : وما قال ؟ قلت : قال :
كم ناقة قد وجات منحرها * بمنهل أكبر ثور أو جمل
قالت : يا عم ، فذاك القول من أبي أصارنا إلى أن ليس عندنا شيء ، قالت : فتعجبت من سرعة جوابها المسكت .
ذكر أبو حيّان التوحيدي في كتاب « الإمتاع والمؤانسة » أن الفرس إذا وطئ أثر الذئب ارتعد وخرج الدخان من جسده كله ، والذئب إن رأى الإنسان يطأ خطوه وهو ساكت سكت عنه ، فإن رآه خاف وجبن ، اجترأ وحمل عليه . وإذا وطئ الذئب على ورق العنصل مات من ساعته . ولذلك يأتي الثعلب بها في جحره لئلا يأتي الذئب فيأكل ولده .
حمار الوحش إذا ولدت أولادا ذكورا أو إناثا ، جاء الفحل فانتزع خصي تلك الذكور وقطعها بأسنانه لكيلا يصاد ويشاركه في طروقته . فربما تضع الأنثى أولادها في موضع لا يعرفه الفحل حتى يشتدوا ، وبهذا السبب يقلّ فيها الفحول .
الحريش : دابة صغيرة في جرم الحربي ساكنة جدا ، غير أنها من قوة الجسم وسرعة العدو ما يعجز القانص . ولها من وسط رأسها قرن واحد منتصب مستقيم ، به تناطح جميع
“ 308 “
الحيوان فلا يغلبها شيء . وصورة الحيلة في صيدها أن تتعرض لها جارية حسناء عذراء وضيئة ، فإن هذه الدابة إذا رأت الفتاة وثبت إلى حجرها كأنها تريد الرضاع . وهذه فيها محبة طبيعية ثابتة ، فإذا صارت إلى حجر الجارية أرضعتها من ثديها على غير حضور لبن فيها ، حتى تصير كالنشوان من الخمر والوسنان من النوم .
فيأتيها القانص وهي على تلك الحالة فيشدها وثاقا على سكون منها بهذه الحيلة .
قال أبو حيّان : إن أسنان الرجل في فيه اثنان وثلاثون سنّا ، وأسنان المرأة ثلاثون ، وأسنان الخصي ثمان وعشرون ، وأسنان الخصي من البقر أربعة وعشرون ، وأسنان الشاة إحدى وعشرون سنّا ، وأسنان المعز تسعة عشر سنّا .
قال : ومن كان من الحيوان أسنانه قليلة فعمره قصير ، ومن كانت أسنانه كثيرة فعمره طويل .
قال : والفيل إذا ولد نبتت أسنانه في الحال ، فأما أسنانه الكبار وأنيابه الطوال فتظهر إذا كبر وشبّ .
قال : والذي يكسب معاشه بالليل من الحيوان : البومة والوطواط . قال : الرجال يشتاقون إلى الجماع في الشتاء .
وقال : كل ما كان من البيض مستطيلا مجرد الطرف يفرح الإناث ، وما كان مستديرا عريض الأطراف يفرّح الذكور . وقال : من الحيوان إذا هاج ووقفت الأنثى قابلة الذكر وهبّت الريح من ناحية الذكر مقبلة إلى ناحيتها حملت من ساعتها . قيل : اسم هذا الحيوان القبح .
وأخبرني جماعة ، من جملتهم ما كان صاحب تاريخ وتجاريب . وقد وقع بيننا ذكر الثعبان العظيم ، قال : تعرفون من أبوه ومن أمه ؟
قلنا : لا . قال : إن العقاب ينكح الأنثى من الثعالب فتحمل ، فإذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة ووضعت فيها قطع لحم لها ارتعاش وارتعاد ، فتأكل بعضها بعضا تحت الأرض حتى تبقى واحدة ، فينشأ من تلك الواحدة هذا التنين العظيم .
ولنا في أسماء الطبيعة :
إن الضريبة والسليقة والخليقة والغريزة *
هي الطبيعة والنجيبة والسجية والنخيزة
وكذاك شنشنة يقا * ل وشيمة لغة عزيزة
وكتب أبو هاشم الحرّاني إلى بعض الأمراء ، عرض من الأمير معوز ، والصبر على الحرمان معجز .
وكتب بعضهم إلى صديق له : أما بعد ، فقد أصبح لنا من نعم اللّه ما لا نحصيه ، مع
“ 309 “
كثرة ما نعصيه ، وما ندري ما نشكر ، جميل ما ينشر أم كثير ما يستر ، أم عظيم ما أبلى أم كثير ما عفا . غير أنه يلزمنا في كل الأمور شكره ، ويجب علينا حمده . فاستزد اللّه في حسن بلائه ، كشكرك في حسن آلائه .
سئل بعض البلغاء عن النطق والصمت ، فقال : أخزى اللّه الساكنة ما أفسدها للّسان وأجلبها للعي ، وو اللّه لا مماراة في استخراج حق أهدم للعي من النار في يابس العرفج .
فقيل له : قد عرفت ما في المماراة من الذم .
فقال : ما فيها أقل ضررا من السكتة التي تورث عللا ، وتولد داء أيسره العي .
ولبعضهم في الكتمان :
صن السر بالكتمان يرضيك غبّه * فقد يظهر السر المذيع فيندم
حدثنا مصعب بن محمد ، قال : دخل أبو العتاهية على المهدي وقد ذاع سره في غيبته ، فقال له : ما أحسنت في حبك ولا أجملت في إذاعة سرك ، فقال :
من كان يزعم أن سيكتم حبه * حتى يشكك فيه فهو كذوب
الحب أغلب للرجال بقهره * من أن يرى للستر فيه نصيب
فإذا بدا سرّ اللبيب فإنه * لم يبد إلا والفتى مغلوب
إني لأحسد ذا هوى مستحفظا * لم تتهمه أعين وقلوب
فاستحسن المهدي شعره ، وقال : قد عذرناك على إذاعة سرك ، ووصلناك على حسن عذرك ، على أن كتمان السر أحسن من إذاعته .
وقال آخر :
لا يكتم السر إلا كل ذي خطر * والسر عند كريم الناس مكتوم
والسر عندي في بيت له غلق * قد ضاع مفتاحه والباب مردوم
قال زياد : ليس للسر موضع إلا أحد رجلين : إما صاحب آخرة يرجو ثواب اللّه ، وإما صاحب دنيا له شرف في نفسه وعقل يصون به حسبه ، وهما معدومان في هذا الوقت .
مثل سائر
أبخل من صاحب نجيح . حدثنا أبو ذرّ بن محمد بن مسعود ، قال : ذكر أن نجيح بن شاكة اليربوعي خرج يوما إلى الصيد ، فأثار حمار وحش ، فمضى أمامه ، وأتبعه نجيح ، إلى أن رفعه إلى أكمة في فلاة ، عليها رجل قاعد ، فدنا منه ، فإذا هو أعمى أسود في أطمار ، بين يديه ذهب وفضة ودرّ وياقوت . فدنا نجيح من المال ، فتناول بعضه ، فلم
“ 310 “
يستطع أن يحرّك به يده ، حتى ألقاه من يده ، فقال : يا هذا ، ما الذي بين يديك ؟ وكيف يستطاع أخذه ؟ فإني لم أجد له سبيلا . فهو لك أم لغيرك ؟ فإني أعجب مما أرى منه ، فإن كنت أيها الرجل جوادا فإني ذو حاجة إليه ، فجد بأي ما شئت منه . وإن كنت بخيلا فأخبرني أعذرك . فقال له الأعمى : اطلب رجلا قد غاب منذ سنين ، وهو سعد بن خشرم بن شماس ، فائتني به يعطيك ما تشاء مما تريد . قال : فانطلق نجيح مسرعا ، وقد استطار مما رأى فؤاده ، حتى وصل إلى قومه ، ودخل خباءه ، ووضع رأسه ، ونام لما به من الغم ، لا يدري من سعد بن خشرم ؟ فأتاه آت في منامه ، فقال له : يا نجيح ، إن سعد بن خشرم في حي بني محلم ، من ولد ذهل بن شيبان . فاسأل عن بني محلم ، ثم سل عن سعد بن خشرم بن شماس . فإذا هو بشيخ قاعد على باب خبائه ، يعني خشرم أبا سعد ، فجاءه نجيح وسلّم عليه ، فرد عليه خشرم . فقال له نجيح : من أنت ؟ قال : أنا خشرم .
قال : فأين سعد ؟
قال : خرج في طلب نجيح اليربوعي . فعرف نجيح القصة وكتمه في نفسه . وصرف نجيح فرسه ومضى وهو يقول :
أيطلبني من قد عناني طلابه * فيا ليتني ألقاك سعد بن خشرم
أتيت ابن يربوع لتبغي لقاءه * وجئت لكي ألقاك حي محلم
فلما دنا نجيح من محلته ، استقبله سعد . فقال له نجيح : يا أيها الركب ، لقيت سعدا في بني يربوع ؟ قال : أنا سعد ، فهل تدلني على نجيح ؟ قال : أنا نجيح . وحدثه بالحديث .
فقال سعد : الدال على الخير كفاعله . وهو أول من قاله . فانطلقا حتى أتيا ذلك المكان فتوارى الأعمى ، فأخذه سعد كله . فقال نجيح : يا سعد ، قاسمني . فقال له : أطوعن مالي كشحا . وأبي أن يعطيه . فانتضى نجيح سيفه فجعل يضربه حتى برد . فلما وقع قتيلا تحوّل الرجل الحافظ للمال ثعلا وأسرع في أكل سعد وعاد المال إلى مكانه . فلما رأى نجيح ذلك ولّى هاربا إلى قومه .
ويقال في المثل : أبخل من أبي عبس ، وكان من شأنه إذا وقع الدرهم في يده نقره بإصبعه ، ثم يقول : كم من مدينة قد دخلتها ؟ ويد قد وقعت فيها ؟ فالآن استقر بك القرار ، واطمأن بك الدار . ثم يرمي به في صندوقه فيكون آخر العهد به .
وشبيه ذلك شخص يقال له خليل ، من أعيان أهل فارس وأجلّهم قدرا ، دخل منزلي يوما فرآني أهب شيئا من دراهم كانت عندي ، ورأى السرور في وجهي بذلك ، فقال لي : يا سيدنا ، ما تقول في أمري ؟ قلت : وما أمرك ؟ قال : إني أعشق الناس في الدنيا والدرهم .
فقلت له : جماعة من كرام الناس يحبون الجدة من أجل الجود ، فيجدون ما يهبون .
فقال :
“ 311 “
ما أنا ممن يحب هذه الأحجار من أجل العطاء والإنفاق ، لكني أحبها لعينها ، أموت جوعا ولا أقدر أن أنفقها أصلا ، وما يخرج منها من يدي شيء إلا وتخرج روحي معه .
حديث أمية بن يزيد الأموي
قال : كنا عند عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية ، فجاء رجل من أهل بيته ، فسأله :
المعونة على التزوج . فقال له قولا ضعيفا ، ووعده وعدا فيه قلة إطماع ، فلما قام من عنده ومضى دعا صاحب خزانته ، فقال : أعطه أربعمائة دينار ، فاستكثرناها ، فقلنا له : لما كلمك رددت عليه ردا ظننا أنك تعطيه قليلا ، فإذا أنت أعطيته أكثر مما أمل .
قال : إني أحب أن يكون فعلي أحسن من قولي .
قلت : ونزل على جدي حاتم الطائي ضيف ، ولم يحضره القري ، فنحر ناقة الضيف وعشّاه وغدّاه ، وقال له : يا ضيف ، إنك قد أقرضتني ناقتك فاحتكم .
قال :راحلتين . قال حاتم : لك عشرون ، أرضيت ؟
قال : نعم ، وفوق الرضا . قال : فلك أربعون . ثم قال لمن حضره من قومه : من أتانا بناقة فله ناقتان بعد الغارة ، فأتوه بأربعين ، فدفعها إلى الضيف .
وحكي لي عن حاتم أيضا : أنه خرج في الشهر الحرام يطلب حاجة ، فلما كان بأرض غزّة ناداه أسير : يا أبا سفانة ، قد أكلني الأسر والقمل ، قال : واللّه ما أنا ببلادي ولا معي شيء ، وقد أسأت إليّ إذ نوّهت باسمي .
فذهب العرس ، فساومهم ، وقال : خلوا عنه وأنا أقيم مكانه في قيده حتى أؤدي فداءه ، فأتاهم بفدائه .
حدثنا أبو ذرّ ، وقد وقع ذكر حاتم طي ، فقال لي : ذكر من أخبار جدك أنه لما مات ، يعني حاتما ، خرج رجل من بني أسد يعرف بأبي البحتري في نفر من قومه ، وذلك قبل أن يعلم كثير من العرب بموته ، فأناخوا بقبره ، فقال : واللّه لأحلف للعرب أني نزلت بحاتم وسألته القرى ، فلم يفعل . وجعل يضرب برجله قبره ،
ويقول :
اجعل أبا سفانة قراكا * فسوف آتي سائلي ثناكا
فقال بعضهم : ما لك تنادي رمة ؟
وباتوا مكانهم . فقام صاحب القول من نومه مذعورا ، وقال : يا قوم ، عليكم مطاياكم لقرى حاتم . فقالوا : كيف ؟
قال : إنه أتاني في منامي هذا فأنشدني :
أبا البحتري وأنت امرئ * ظلوم العشيرة شتّامها
ما ذا أردت إلى رمة * بدمنة قد صبحت هامها
“ 312 “
تبغي أذاها واعسارها * وحولك غوث وأبغامها
وإنّا لننعم أضيافنا * من الكوم بالسيف نعتامها
مثل سائر : أجود من كعب بن أمامة
حكي أن جوده قتله . وذلك أنه خرج في نفر فيهم رجل من النميري قاسط ، فخلصوا في قفر بلا ماء ، فأضرّ بهم العطش ، فجعل النميري يشرب ماءه ، فإذا أراد كعب أن يشرب نصيبه يقول : آثر أخاك النميري ، فيؤثره على نفسه ، حتى أضرّ به العطش . فلما رأى ذلك استحثّ ناقته ، وبادر حتى بانت له أعلام الماء . وقيل له : رد كعب فإنك وارد . فمات قبل أن يرد الماء ، ونجا رفيقه . وكان هذا كعب من إياد .
وأنشدوا في هذا المعنى لأبي تمام :
هو البحر من أي النواحي أتيته * فلجّته المعروف والجود ساحله
كريم إذا ما جئت للعرف طالبا * حباك بما تحوي عليه أنامله
ولو لم يكن في كفه غير نفسه * لجاد بها فليتقّ اللّه سائله
حديث يحيى بن يحيى النيسابوري مع المأمون
حدثنا أبو محمد بن عبد الرحمن ، ثنا عبد اللّه بن إسماعيل ، ثنا أبو الفرج بن علي ، أنبأ إسماعيل بن أحمد ، انا أحمد ، انا يوسف بن الحسن ، قال : سمعت أبا علي بن الحسين بن بندار يقول : كان الرشيد بعث إلى مالك بن أنس يستحضره ليسمع منه الأمين والمأمون ، فأبى وقال : إن العلم يؤتى ولا يأتي . فبعث إليه : أبعثهما إليك ؟ فقال : بشرط أن لا يتخطيا رقاب الناس ، ويجلسا حيث انتهى بهما المجلس . فحضروا ، وكان يحيى بن يحيى النيسابوري يحضر المجلس ، فحضر ، فانكسر قلمه يوما فناوله المأمون قلما ، فلم يقبل . فقال له : ما اسمك ؟ فقال : يحيى بن يحيى النيسابوري . فقال : أتعرفني ؟ قال :
نعم ، أنت المأمون ابن أمير المؤمنين . فكتب المأمون على ظهر جزء : ناولت يحيى بن يحيى النيسابوري قلما في مجلس مالك فلم يقبله . فلما أفضت الخلافة إليه بعث إلى عامله بنيسابور أن تولي يحيى بن يحيى القضاء . فأرسل كتاب المأمون إليه ، فقال : قل لأمير المؤمنين : ناولتني قلما وأنا شاب فلم أقبل ، أفتجبرني على القضاء وأنا شيخ ؟ فرفع الخبر إلى المأمون فقال : رجلا يختاره .
فاختار رجلا فولّي ، فجاء القاضي إلى يحيى يسلّم عليه ، فضمّ يحيى فراشا تحته .
“ 313 “
فقال له القاضي : أيها الشيخ ، ألم تخترني ؟ قال : إنما قلت : اختاروه ، وما قلت لك : تقلّد القضاء .
حدثنا غير واحد عن علي بن أبي عمر ، عن محمد بن الحسن ، عن عبد الملك بن بشر أنه قال : أنا أبو بكر الآجري ، قال : حدثنا جعفر بن أحمد بن عاصم الدمشقي ، قال :
حدثنا أحمد بن الحواري ، قال : حدثنا إبراهيم بن السقا ، عن أضرم الخراساني ، قال :
كتب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري : عظني ، فكتب إليه الحسن :
أما بعد ، يا أمير المؤمنين ، فكن للمثل من المسلمين أخا ، وللكبير ابنا ، وللصغير أبا ، وعاقب كل واحد منهم بذنبه ، على قدر جسمه . ولا تضربن لغضبك سوطا واحدا ، فتدخل النار .
قال إسماعيل بن عياش : ظهر بإفريقية جور ، فخرج عبد الرحمن بن زياد بن الأنعم الإفريقي إلى أبي جعفر المنصور ليعلمه بذلك . فلما وصل ، قال : ما أقدمك ؟ قال : ظهر الجور ببلادنا ، فجئت لأعلمك مستجيرا بعدلك ، فإذا الجور يخرج من دارك ، فغضب المنصور ، وهمّ به ثم إنه تراجع من نفسه فأمر بإخراجه إلى بلاده .
حدثنا بذلك عبد الرحمن بن علي ، أجازه عن أبي منصور القزاز ، عن أحمد بن علي بن ثابت ، عن البرقاني ، عن محمد بن أحمد عن عبد الملك بن الآدمي ، عن محمد بن علي الإيادي ، عن زكريا بن يحيى الساجي ، عن أحمد بن محمد ، عن الهيثم بن خارجة ، عن إسماعيل بن عياش ، وذكره ، وقال :
روينا من حديث ابن عرفة ، عن ابن عياش المنصوري ، عن محمد بن يوسف ، عن محمد بن يزيد ، عن ابن إدريس ، أن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي قال : أرسل إليّ أبو جعفر المنصور ، فقدمت إليه ، فاستدناني ، ثم قال لي : يا عبد الرحمن ، كيف ما مررت به من أعمالنا إلى أن وصلت إلينا ؟ قال : قلت : أعمالا فاسدة سيئة ، وظلما فاشيا ، وظننت أن ذلك لبعد البلاد منك فجعلت كلما دنوت منك كان الأمر أعظم . فنكس المنصور رأسه ، ثم رفع ، وقال : كيف لي بالرجال يا عبد الرحمن ؟ قال : قلت : أفليس عمر بن عبد العزيز يقول : السلطان بمنزلة السوق يجلب فيها ما ينفق فيها . فإن كان برا أتوه ببرّهم ، وإن كان فاجرا أتوه بفجوره . فأطرق طويلا ، وأومأ إلى الربيع أن أخرج ، فخرجت وما عدت إليه .
حدثنا بذلك تاج النساء بنت رستم ، عن الأرموي ، عن أبي بكر الخطيب ، عن الأزهري ، عن أحمد بن إبراهيم ، عن إبراهيم ، عن محمد بن عرفة ، عن أبي العباس المنصور ، عن محمد بن يوسف ، قال : قال علي بن محمد بن الحسن القزويني : سمعت
“ 314 “
بعض أصحابنا يقول : أقبل المنصور يوما راكبا ، والفرج بن فضالة جالس عند باب الذهب .
فقام الناس ولم يقم الفرج ، فاستشاط غضبا ودعا به ، فقال : ما منعك من القيام حين رأيتني ؟ قال : خفت أن يسألني اللّه عنه لم فعلت ؟ ويسألك عنه لم رضيت به ؟ وقد كرهه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
قال : فبكى المنصور ورقّ له وقضى حوائجه . حدثني بها محمد بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن علي ، عن أبي منصور القزاز ، عن أبي بكر الخطيب ، عن محمد بن عيسى ، عن عبد العزيز ، عن علي بن محمد بن الحسن القزويني ، وذكر : حدثنا يونس بن يحيى ، نبأ محمد بن ناصر ، نبأ المبارك بن عبد الجبار ، انا محمد بن علي بن الحسين بن المأمون ، نبأ أبو بكر بن القاسم ، ثنا أحمد بن بشار ، ثنا إسحاق بن بهلول ، ثنا أبي ، ثنا إسحاق بن زياد ، عن شبيب بن شيبة ، عن خالد بن صفوان بن الهيثم ، قال : إن ملكا من الملوك خرج في عام ، قد بكر وسميه ، وتتابع وليه ، واخضرّت الأرض فيه ، ونجم نبتها ، وضحك زهرها .
وكان قد أعطى حسن الصورة والملك ، فنظر بأبعد النظر ، فقال : إن هذا الذي أنا فيه ، هل رأيتم ما أنا فيه ؟ هل أعطي أحد مثل ما أعطيته ؟ وعنده رجل من بقايا حملة الحجرة والمكبين على أدب الحق .
فقال : أيها الملك ، إنك سألت عن أمر ، أفتأذن في الجواب ؟ قال : نعم . فقال :
أرأيتك هذا الذي قد أعجبت به أهو شيء لم تزل فيه ، أم هو شيء ميراثا عن غيرك وهو زائل عنك وصائر إلى غيرك كما صار إليك ؟ قال : فكذلك هو . قال : أفلا أراك إنما أعجبت بشيء يسير تكون فيه قليلا ، وتغيب عنه طويلا ، وتكون غدا بحسابه مرتهنا . قال : ويحك ، فأين المهرب ، وأين المطلب ؟ قال : إما أن تهتم في ملكك فتعمل فيه بطاعة ربك على ما سأل وسرّك وأرمضك ، وإما أن تضع تاجك وتلبس أمساحك وتعبد ربك في هذا الجبل حتى يأتيك أجلك . قال : فإذا كان السحر فاقرع على بابي ، فإن اخترت ما أنا فيه كنت وزيرا لا تعصى ، وإن اخترت فلوات الأرض وقفر البلاد كنت رفيقا لا تخالف . فلما كان السحر قرع عليه بابه ، فإذا هو به قد وضع تاجه ولبس أمساحه وتهيأ للسياحة . فلزما واللّه الجبل حتى أتاهما الأجل .
حدثنا في آخرين ، قالوا : ثنا محمد بن عبد الباقي ، عن أحمد بن أحمد ، عن أبي نعيم ، عن عبد اللّه بن محمد بن جعفر ، عن أبي بكر بن معدان ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي الحارث الكتّاني ، عن محمد بن عبد اللّه الأمويّ ، قال : حدثنا ابن داود ، وكان قد بلغ
“ 315 “
ثمانين ، عن الزهري ، قال : نظر سليمان بن عبد الملك إلى رجل يطوف بالكعبة له تمام وكمال ، فقال له : يا ابن شهاب ، من هذا ؟ قلت : طاوس اليماني ، قد أدرك عدة من الصحابة . فأرسل إليه سليمان ، فأتاه ، فقال له : لو حدثتنا . قال : حدثني أبو موسى الأشعري ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن أهون الخلق على اللّه من ولّي من أمر المسلمين شيئا فلم يعدل فيهم » . فتغير وجه سليمان ، فأطرق طويلا ، ثم رفع رأسه فقال : لو حدثتنا .
قال : حدثني رجل من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقال ابن شهاب : ظننت أنه أراد عليا .
قال : دعاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى طعام في مجلس من مجالس قريش . قال : « إن لكم على قريش حقا ، ولهم على الناس حقا ، ما استرحموا فرحموا ، واستحكموا فعدلوا ، وائتمنوا فأدوا . فمن لم يفعل ذلك لم يقبل اللّه منه صرفا ولا عدلا » . فتغير وجه سليمان ، فأطرق طويلا ، ثم رفع رأسه ، فقال : لو حدثتنا . فقال : حدثني ابن عباس أن آخر آية نزلت :
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ .
حدثنا محمد بن إسماعيل ، نبأ عبد الرحمن بن علي ، نبأ علي بن محمد بن أبي عمر ، نا محمد بن الحسن بن أحمد ، عن عبد الملك بن بشران ، عن محمد بن الحسين الآجريّ ، حدثني عمرو بن محمد بن بكار القافلانيّ ، عن إبراهيم بن هانئ النيسابوري ، عن أبي صالح كاتب الليث بن سعد ، قال : أخذتها من الليث بن سعد رسالة الحسن بن أبي الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز .
أما بعد ، أيها الأمير ، إن الدنيا دار ظعن وليست بدار إقامة ، وإنما أهبط آدم من الجنة عقوبة . وقد يحسب من لا يدري ثواب اللّه أنها ثواب ، ومن لا يدري عقاب اللّه أنها عقاب .
ولها في كل حين صرعة ، وهي تهين من أكرمها ، والغبي فيها فقير . فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه يصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء ، يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا ، فإن أهل الفضائل كان منطقهم فيها بالصواب ومشيهم بالتواضع ومطعمهم الطيب من الرزق ، مغمضي أبصارهم عن المحارم . فخوفهم من البرّ كخوفهم من البحر ، ودعاؤهم في السرّاء كدعائهم في الضرّاء ، لولا الآجال التي كتبت لهم ما تقاربت أرواحهم في أجسادهم خوفا من العقاب وشوقا إلى الثواب ، عظم الخالق في أنفسهم فصغر المخلوق في أعينهم .
واعلم أن التفكّر يدعو إلى الخير والعمل به ، والندم على الشرّ يدعو إلى تركه . وليس ما يغني وإن كان كثيرا بأهل أن يؤثر على ما يبقى وإن كان طلبه عزيزا . واحتمال المئونة المنقطعة التي تعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تعقب مئونة باقية وندامة
“ 316 “
طويلة . فاحذر هذه الدنيا الصارعة الخاذلة القاتلة التي قد تزينت بخدعها ، وقتلت بغرورها ، وخدعت بآمالها فأصبحت كالعروس المجليّة ، فالعيون إليها ناظرة ، والقلوب إليها والهة ، والنفوس لها عاشقة ، وهي لأزواجها كلهم قاتلة ، فلا الباقي بالماضي يعتبر ، ولا الآخر لما رأى من أثرها بالأول يزدجر ، ولا العارف باللّه المصدق له حين أخبره عنها مذكر . قد أبت القلوب لها إلا حبا ، وأبت النفوس لها إلا عشقا . ومن عشق شيئا لم يعرف غيره ، ولم يعقل سواه ، ومات في طلبه ، وكان آثر الأشياء عنده ، فهما عاشقان طالبان مجتهدان . فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغترّ وطغى ونسي ولهى ، فغفل عن مبتدأ خلقه ، ووضع ما إليه معاده ، وقلّ في الدنيا لبثه ، حتى زلّت عنه قدمه ، وجاءته منيته على شرّ ما كان عليها حالا ، وأطول ما كان فيها أملا ، فعظم ندمه ، وكثرت حسرته مع ما عالج من سكرته ، فاجتمعت عليه سكرة الموت بكربته ، وحسرة الفوت بغصّته ، فغير موصوف ما نزل به ، وآخر مات قبل أن يظفر منها بحاجته ، فمات بغمّه وكمده ، ولم يدرك فيها ما طلب ، ولم يرح نفسه من التعب والنصب ، فخرجوا جميعا بلا زاد ، وقدما على غير مهاد .
فالحذر يا أمير المؤمنين ، الحذر كله منها ، فإنما مثلها مثل الحيّة ، ليّن مسّها وتقتل بسمّها ، فاعرض عما يعجبك فيها القلة ما يصحبك منها ، وضع عنك همومها لما قد أيقنت به من فراقها ، واجعل شدة ما اشتدّ منها رجاء ما ترجو بعدها ، وكن عند أسرّ ما تكون فيها .
احذر ما يكون منها ، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور صبّحته من سرورها بما يسوؤه ، وكلما ظفر منها بما يحبّ انقلبت عليه بما يكره .
فالسارّ منها لأهلها غارّ ، والنافع منها غدا ضارّ ، وقد وصل الرجاء فيها بالبلاء ، وجعل البقاء فيها إلى الفناء ، فسرورها بالحزن مشوب ، والناعم فيها مسلوب . فانظر يا أمير المؤمنين إليها انظر الزاهد المفارق ، ولا تنظر إليها نظر المبتلي العاشق .
واعلم يا أمير المؤمنين نزيل البلوى الساكن ، وتفجّع المترف الآمن . ولا يرجع فيها إلى ما ولّى منها ، ولا يتبع ما صفا منها إلا ما كدر . فاحذرها ، فإن أمانيها كاذبة ، وآمالها باطلة ، وعيشها نكد ، وصفوها كدر ، وأنت منها على خطر ، إما نعمة زائلة ، أو بليّة نازلة ، أو مصيبة فادحة ، أو منية قاضية .
فلقد كدرت المعيشة لمن عقل ، فهو من نعيمها على خطر ، ومن بليته على حذر ، ومن المنية على يقين . فلو كان الخالق تبارك اسمه لم يخبر عنها بخبر ، ولم يضرب لها مثل ، ولم يأمر فيها بزهد ، لكانت الدنيا أيقظت النائم ، ونبّهت الغافل ، وكيف وقد جاء عن اللّه عز وجل منها زاجر ، وفيها واعظ ، فما لها عنده قدر ، ولا وزن من الصغر ، وهي عنده أصغر من حصاة في الحصى ، ومن مقدار نواة في النوى . ما خلق اللّه عز وجل فيما بلغنا
الجزء 21
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 304 “
نادى اللّه موسى بن عمران : يا ابن عمران ، لا تخيب من قصدك ، وأجر من أجارك . قال :
بينما موسى عليه السلام في سياحته ، إذا بجارح يطلب حماما ، فلما رآه الحمام نزل على كتفه مستجيرا له ، ونزل الجارح على الكتف الآخر ، فلما همّ به الجارح نزل الحمام على كمه ، فناداه الجارح بلسان فصيح : يا ابن عمران ، إني قاصدك فلا تخيبني ، ولا تحل بيني وبين رزقي . وناداه الحمام : يا ابن عمران ، إني مستجير بك فأجرني .
فقال : ما أسرع ما ابتليت به ، ثم مد يده ليقطع قطعة من فخذه للجارح وفاء لهما وحفظا لما عهد إليه فيهما .
فقالا : يا ابن عمران ، إنّا رسل ربك إليك ليرى صحة ما عهد إليك .
شعر :
أيا سامعا ليس السماع بنافع * إذا أنت لم تفعل فما أنت سامع
إذا كنت في الدنيا عن الخير عاجزا * فما أنت في يوم القيامة صانع
وقال آخر :
لما غلبت وزاد الشوق في ألمي * وقفت للذكر مغلوبا على قدمي
ولو قدرت جعلت العين لي قدما * يا ذا التفضل والآلاء والكرم
أشتاق ذكرك والتعظيم يمنعني * والشوق يملأ ألفاظي به وفمي
فها أنا بين شوق لا أقوم به * وبين حسرة مغلوب ومحتشم
وقال آخر :
إن قلت عبدك لم أطق نطقا به * خوفا من الزلّات والعصيان
فالعبد يبذل في التقرّب جهده * لا يستطيع تجاوز الإمكان
فارحم بفضلك زلّتي وتحيّري * وصل التجاوز منك بالإحسان
سمعت محمد بن قاسم ، قال : سمعت عمر بن عبد المجيد ، قال بعض السادة :
رأيت رجلا في تيه بني إسرائيل قد لوّحته العبادة ، حتى صار كالشن البالي ، فقلت له : ما الذي بلغ بك هذه الحالة ؟ فنظر إليّ منكرا لسؤالي ، وقال : ما أظنك من جملة الأحبّاء . هذا ثقل الأوزار ، وخوف النار ، والحياء من الملك الستّار .
شعر :
لما ذكرت عذاب النار أزعجني * ذاك التذاكر عن أهلي وأوطاني
فصرت في القفر أرعى الوحش منفردا * كما تراني على وجدي وأحزاني
وذا قليل لمثلي بعد جرأته * فما عصى اللّه عبد مثل عصياني
نادوا عليّ وقولوا في مجالسكم * هذا المسئ وهذا المذنب الجاني
فما ارعويت وما قصّرت من زللي * ولا غسلت بماء الدمع أجفاني
لكن ذكرت جوادا ماجدا صمدا * يعفو ويصفح ذا عفو وإحسان
“ 305 “
سبحانه ماجدا جلّت عوارفه * فهو الجواد بعفو منه ألجاني
هذا اعتقادي ولو صيّرت في قرن * مع الشياطين في إدراك نيران
يا ربّ عفوا فظني فيك متّسع * واغفر بفضلك إسراري وإعلاني
مثل سائر
كلب جوّال خير من أسد رابض .
يقول الحكيم : لا تدع الحيلة في التماس الرزق بكل مكان ، فإن الكريم محتال والدنيّ عيّال . وأنشد :
فسر في بلاد اللّه والتمس الغنى * تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
ولا ترض من عيش بدون ولا تنم * وكيف ينام الليل من كان معسرا
ولحبيب بن أوس الطائي :
وطول مقام المرء في الحي مخلق * لديباجتيه فاغترب تتجدّد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة * إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد
وكان ابن السماك يقول : لا تشتغل بالرزق المضمون عن العمل المفروض ، وكن اليوم مشغولا بما أنت عنه مسؤول غدا ، وإياك والفضول فإن حسابها يطول .
لعمرو بن أذينة :
إني علمت وخير العلم أنفعه * إن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعنيني تطلّبه * ولو قعدت أتاني لا يعنيني
قال بعض الأعراب : كيف يفرح عاقل بعمر تنقصه الساعات ؟ وسلامة بدن معرّض للآفات ؟ فلقد عجبت من المرء يفرّ من الموت وهو سبيله ، ولا أرى أحدا إلا سيدركه الموت ؟
روينا من حديث عليّ بن الجهم ، قال : كنت في مجلس محمد بن عمرو بن مسعدة ، فأقبلت جارية كأنها البدر ليلة التمام ، بلون كأنه الدرّ في البياض ، مع احمرار الخدين ، كشقائق النعمان ، فسلّمت ، فقال لي محمد : يا أبا الحسن ، هذه الجنة التي كنتم توعدون .
فقالت :
وما الوعد يا سؤلي ومنية مهجتي * فإن فؤادي من مقالك طائر
فقال لها أبو محمد :
“ 306 “
أما وإله العرش ما قلت سيئا * وما كان إلا أنني لك شاكر
فقال علي بن الجهم : فأقبلت تحدثنا ، فإذا عقل كامل ، وجمال فاضل ، وحسن قاتل ، وردف مائل . فقلت لها : قد أقرّ اللّه عينا تراك . فقالت : أقرّ اللّه أعينكم ، وزادكم سرورا وغبطة . ثم اندفعت تغني بنغمة لم أسمع أحسن منها ،
وتقول :
أروح بهمّ من هواك مبرّح * أناجي به قلبا كثير التفكّر
عليك سلام لا زيارة بيننا * ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
فما زلنا يومنا معها في الفردوس الأعلى . وما ذكرتها بعد إلا أسفت عليها وعلى فراقها .
وروينا من حديث ثور بن معن السلمي ، عن أبيه ، قال : قال : إني دخلت على الخنساء في الجاهلية ، وعليها صدار من شعر ، وهي عريانة . قال : قال أبي : دخلت عليها تجهّرا بيتها ، فكلمتها في طرح الصدار ، فقالت : يا أحمق ، أنا أحسن منك غرسا ، وأطيب منك نفسا ، وأرقّ منك نقلا ، وأكرم منك بعلا .
وقال عبد الرحمن بن مرة عن بعض أشياخه : إن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال للخنساء : ما أقرح مآقي عينيك ؟ قالت : بكائي على السادات من مضر .
قال : يا خنساء ، إنهم في النار . قالت : ذاك أطول بعويلي عليهم .
وقيل : إنها أقبلت حاجّة ، فمرّة بالمدينة ومعها ناس من قومها ، فأتوا عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، فقالوا : هذه الخنساء ، فلو وعظتها يا أمير المؤمنين ، فلقد طال بكاؤها في الجاهلية والإسلام . فقام عمر رضي اللّه عنه ، فأتاها فقال : يا خنساء ، فرفعت رأسها ، فقالت : ما تشاء ؟ قال : ما الذي أقرح عينيك ؟ قالت : البكاء على السادات من مضر . قال : إنهم هلكوا في الجاهلية ، وهم أعضاد اللهب ، وحشو جهنم .
قالت : فذاك الذي زادني وجعا . قال : فأنشدني مما قلت ، قالت : أما إني لا أنشدك مما قلت اليوم ، ولكن أنشدك ما قلت الساعة .
وقالت :
سقى جدثا أعراق عمره دونه * ويدنيه وعّاث الربيع ووابله
وكنت أعير الدمع قبلك من بكى * على فقد من قد فات والحزن شاغله
وأرعيهم سمعي إذا ذكروا الأسى * وفي الصدر مني زفرة لا تزايله
فقال : دعوها ، فإنها لا تزال حزينة أبدا .
ومما يستحسن الأدباء من شعرها :
“ 307 “
تعرّفني الدهر قرعا وغمزا * وأوجعني الدهر نهشا ووخزا
وأفنى رجالي فبادوا معا * وأصبح قلبي لهم مستفزّا
كأن لم يكونوا حمى يتّقى * من الناس إذ ذاك من عزّ بزّا
وكانوا سراة بني مالك * وزين العشيرة مجدا وعزّا
وهم في القديم ضحاح الأديم * والكائنون من البأس حرزا
بسمر الرماح وبيض الصفاح * فبالبيض ضربا وبالسمر وخزا
وخيل تكردس بالدّارعين * وتحت العجاجة يجمزن جمزا
جززنا نواصي فرسانها * وكانوا يظنون أن لا تجزّا
ومن ظنّ ممن يلاقي الحروب * أن لا يصاب فقد ظن عجزا
تعفّ وتعرف حق القرى * وتتخذ الحمد ذخرا وكنزا
وتلبس في الحرب نسج الحديد * وفي السلم تلبس خزّا وقزّا
حدثنا أبو جعفر الوزعي ، قال : روى الأصمعي ، عن رجل من أهل الشام ، وهو عبد اللّه بن الحارث ، قال : قدمت المدينة ، فقصدت منزل ابن هرمة ، فإذا ابنة صغيرة له تلعب ، فقلت لها : أي بنيّة ، ما فعل أبوك ؟ قالت : يا عم ، إنه قد وفد على بعض الإخوان ، قال : قلت : فانحري لي ناقة ، فأنا أضيافك ، فقالت : يا عم ، ما عندنا شيء ، قلت : فباطل ما قال أبوك ؟ قالت : وما قال ؟ قلت : قال :
كم ناقة قد وجات منحرها * بمنهل أكبر ثور أو جمل
قالت : يا عم ، فذاك القول من أبي أصارنا إلى أن ليس عندنا شيء ، قالت : فتعجبت من سرعة جوابها المسكت .
ذكر أبو حيّان التوحيدي في كتاب « الإمتاع والمؤانسة » أن الفرس إذا وطئ أثر الذئب ارتعد وخرج الدخان من جسده كله ، والذئب إن رأى الإنسان يطأ خطوه وهو ساكت سكت عنه ، فإن رآه خاف وجبن ، اجترأ وحمل عليه . وإذا وطئ الذئب على ورق العنصل مات من ساعته . ولذلك يأتي الثعلب بها في جحره لئلا يأتي الذئب فيأكل ولده .
حمار الوحش إذا ولدت أولادا ذكورا أو إناثا ، جاء الفحل فانتزع خصي تلك الذكور وقطعها بأسنانه لكيلا يصاد ويشاركه في طروقته . فربما تضع الأنثى أولادها في موضع لا يعرفه الفحل حتى يشتدوا ، وبهذا السبب يقلّ فيها الفحول .
الحريش : دابة صغيرة في جرم الحربي ساكنة جدا ، غير أنها من قوة الجسم وسرعة العدو ما يعجز القانص . ولها من وسط رأسها قرن واحد منتصب مستقيم ، به تناطح جميع
“ 308 “
الحيوان فلا يغلبها شيء . وصورة الحيلة في صيدها أن تتعرض لها جارية حسناء عذراء وضيئة ، فإن هذه الدابة إذا رأت الفتاة وثبت إلى حجرها كأنها تريد الرضاع . وهذه فيها محبة طبيعية ثابتة ، فإذا صارت إلى حجر الجارية أرضعتها من ثديها على غير حضور لبن فيها ، حتى تصير كالنشوان من الخمر والوسنان من النوم .
فيأتيها القانص وهي على تلك الحالة فيشدها وثاقا على سكون منها بهذه الحيلة .
قال أبو حيّان : إن أسنان الرجل في فيه اثنان وثلاثون سنّا ، وأسنان المرأة ثلاثون ، وأسنان الخصي ثمان وعشرون ، وأسنان الخصي من البقر أربعة وعشرون ، وأسنان الشاة إحدى وعشرون سنّا ، وأسنان المعز تسعة عشر سنّا .
قال : ومن كان من الحيوان أسنانه قليلة فعمره قصير ، ومن كانت أسنانه كثيرة فعمره طويل .
قال : والفيل إذا ولد نبتت أسنانه في الحال ، فأما أسنانه الكبار وأنيابه الطوال فتظهر إذا كبر وشبّ .
قال : والذي يكسب معاشه بالليل من الحيوان : البومة والوطواط . قال : الرجال يشتاقون إلى الجماع في الشتاء .
وقال : كل ما كان من البيض مستطيلا مجرد الطرف يفرح الإناث ، وما كان مستديرا عريض الأطراف يفرّح الذكور . وقال : من الحيوان إذا هاج ووقفت الأنثى قابلة الذكر وهبّت الريح من ناحية الذكر مقبلة إلى ناحيتها حملت من ساعتها . قيل : اسم هذا الحيوان القبح .
وأخبرني جماعة ، من جملتهم ما كان صاحب تاريخ وتجاريب . وقد وقع بيننا ذكر الثعبان العظيم ، قال : تعرفون من أبوه ومن أمه ؟
قلنا : لا . قال : إن العقاب ينكح الأنثى من الثعالب فتحمل ، فإذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة ووضعت فيها قطع لحم لها ارتعاش وارتعاد ، فتأكل بعضها بعضا تحت الأرض حتى تبقى واحدة ، فينشأ من تلك الواحدة هذا التنين العظيم .
ولنا في أسماء الطبيعة :
إن الضريبة والسليقة والخليقة والغريزة *
هي الطبيعة والنجيبة والسجية والنخيزة
وكذاك شنشنة يقا * ل وشيمة لغة عزيزة
وكتب أبو هاشم الحرّاني إلى بعض الأمراء ، عرض من الأمير معوز ، والصبر على الحرمان معجز .
وكتب بعضهم إلى صديق له : أما بعد ، فقد أصبح لنا من نعم اللّه ما لا نحصيه ، مع
“ 309 “
كثرة ما نعصيه ، وما ندري ما نشكر ، جميل ما ينشر أم كثير ما يستر ، أم عظيم ما أبلى أم كثير ما عفا . غير أنه يلزمنا في كل الأمور شكره ، ويجب علينا حمده . فاستزد اللّه في حسن بلائه ، كشكرك في حسن آلائه .
سئل بعض البلغاء عن النطق والصمت ، فقال : أخزى اللّه الساكنة ما أفسدها للّسان وأجلبها للعي ، وو اللّه لا مماراة في استخراج حق أهدم للعي من النار في يابس العرفج .
فقيل له : قد عرفت ما في المماراة من الذم .
فقال : ما فيها أقل ضررا من السكتة التي تورث عللا ، وتولد داء أيسره العي .
ولبعضهم في الكتمان :
صن السر بالكتمان يرضيك غبّه * فقد يظهر السر المذيع فيندم
حدثنا مصعب بن محمد ، قال : دخل أبو العتاهية على المهدي وقد ذاع سره في غيبته ، فقال له : ما أحسنت في حبك ولا أجملت في إذاعة سرك ، فقال :
من كان يزعم أن سيكتم حبه * حتى يشكك فيه فهو كذوب
الحب أغلب للرجال بقهره * من أن يرى للستر فيه نصيب
فإذا بدا سرّ اللبيب فإنه * لم يبد إلا والفتى مغلوب
إني لأحسد ذا هوى مستحفظا * لم تتهمه أعين وقلوب
فاستحسن المهدي شعره ، وقال : قد عذرناك على إذاعة سرك ، ووصلناك على حسن عذرك ، على أن كتمان السر أحسن من إذاعته .
وقال آخر :
لا يكتم السر إلا كل ذي خطر * والسر عند كريم الناس مكتوم
والسر عندي في بيت له غلق * قد ضاع مفتاحه والباب مردوم
قال زياد : ليس للسر موضع إلا أحد رجلين : إما صاحب آخرة يرجو ثواب اللّه ، وإما صاحب دنيا له شرف في نفسه وعقل يصون به حسبه ، وهما معدومان في هذا الوقت .
مثل سائر
أبخل من صاحب نجيح . حدثنا أبو ذرّ بن محمد بن مسعود ، قال : ذكر أن نجيح بن شاكة اليربوعي خرج يوما إلى الصيد ، فأثار حمار وحش ، فمضى أمامه ، وأتبعه نجيح ، إلى أن رفعه إلى أكمة في فلاة ، عليها رجل قاعد ، فدنا منه ، فإذا هو أعمى أسود في أطمار ، بين يديه ذهب وفضة ودرّ وياقوت . فدنا نجيح من المال ، فتناول بعضه ، فلم
“ 310 “
يستطع أن يحرّك به يده ، حتى ألقاه من يده ، فقال : يا هذا ، ما الذي بين يديك ؟ وكيف يستطاع أخذه ؟ فإني لم أجد له سبيلا . فهو لك أم لغيرك ؟ فإني أعجب مما أرى منه ، فإن كنت أيها الرجل جوادا فإني ذو حاجة إليه ، فجد بأي ما شئت منه . وإن كنت بخيلا فأخبرني أعذرك . فقال له الأعمى : اطلب رجلا قد غاب منذ سنين ، وهو سعد بن خشرم بن شماس ، فائتني به يعطيك ما تشاء مما تريد . قال : فانطلق نجيح مسرعا ، وقد استطار مما رأى فؤاده ، حتى وصل إلى قومه ، ودخل خباءه ، ووضع رأسه ، ونام لما به من الغم ، لا يدري من سعد بن خشرم ؟ فأتاه آت في منامه ، فقال له : يا نجيح ، إن سعد بن خشرم في حي بني محلم ، من ولد ذهل بن شيبان . فاسأل عن بني محلم ، ثم سل عن سعد بن خشرم بن شماس . فإذا هو بشيخ قاعد على باب خبائه ، يعني خشرم أبا سعد ، فجاءه نجيح وسلّم عليه ، فرد عليه خشرم . فقال له نجيح : من أنت ؟ قال : أنا خشرم .
قال : فأين سعد ؟
قال : خرج في طلب نجيح اليربوعي . فعرف نجيح القصة وكتمه في نفسه . وصرف نجيح فرسه ومضى وهو يقول :
أيطلبني من قد عناني طلابه * فيا ليتني ألقاك سعد بن خشرم
أتيت ابن يربوع لتبغي لقاءه * وجئت لكي ألقاك حي محلم
فلما دنا نجيح من محلته ، استقبله سعد . فقال له نجيح : يا أيها الركب ، لقيت سعدا في بني يربوع ؟ قال : أنا سعد ، فهل تدلني على نجيح ؟ قال : أنا نجيح . وحدثه بالحديث .
فقال سعد : الدال على الخير كفاعله . وهو أول من قاله . فانطلقا حتى أتيا ذلك المكان فتوارى الأعمى ، فأخذه سعد كله . فقال نجيح : يا سعد ، قاسمني . فقال له : أطوعن مالي كشحا . وأبي أن يعطيه . فانتضى نجيح سيفه فجعل يضربه حتى برد . فلما وقع قتيلا تحوّل الرجل الحافظ للمال ثعلا وأسرع في أكل سعد وعاد المال إلى مكانه . فلما رأى نجيح ذلك ولّى هاربا إلى قومه .
ويقال في المثل : أبخل من أبي عبس ، وكان من شأنه إذا وقع الدرهم في يده نقره بإصبعه ، ثم يقول : كم من مدينة قد دخلتها ؟ ويد قد وقعت فيها ؟ فالآن استقر بك القرار ، واطمأن بك الدار . ثم يرمي به في صندوقه فيكون آخر العهد به .
وشبيه ذلك شخص يقال له خليل ، من أعيان أهل فارس وأجلّهم قدرا ، دخل منزلي يوما فرآني أهب شيئا من دراهم كانت عندي ، ورأى السرور في وجهي بذلك ، فقال لي : يا سيدنا ، ما تقول في أمري ؟ قلت : وما أمرك ؟ قال : إني أعشق الناس في الدنيا والدرهم .
فقلت له : جماعة من كرام الناس يحبون الجدة من أجل الجود ، فيجدون ما يهبون .
فقال :
“ 311 “
ما أنا ممن يحب هذه الأحجار من أجل العطاء والإنفاق ، لكني أحبها لعينها ، أموت جوعا ولا أقدر أن أنفقها أصلا ، وما يخرج منها من يدي شيء إلا وتخرج روحي معه .
حديث أمية بن يزيد الأموي
قال : كنا عند عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية ، فجاء رجل من أهل بيته ، فسأله :
المعونة على التزوج . فقال له قولا ضعيفا ، ووعده وعدا فيه قلة إطماع ، فلما قام من عنده ومضى دعا صاحب خزانته ، فقال : أعطه أربعمائة دينار ، فاستكثرناها ، فقلنا له : لما كلمك رددت عليه ردا ظننا أنك تعطيه قليلا ، فإذا أنت أعطيته أكثر مما أمل .
قال : إني أحب أن يكون فعلي أحسن من قولي .
قلت : ونزل على جدي حاتم الطائي ضيف ، ولم يحضره القري ، فنحر ناقة الضيف وعشّاه وغدّاه ، وقال له : يا ضيف ، إنك قد أقرضتني ناقتك فاحتكم .
قال :راحلتين . قال حاتم : لك عشرون ، أرضيت ؟
قال : نعم ، وفوق الرضا . قال : فلك أربعون . ثم قال لمن حضره من قومه : من أتانا بناقة فله ناقتان بعد الغارة ، فأتوه بأربعين ، فدفعها إلى الضيف .
وحكي لي عن حاتم أيضا : أنه خرج في الشهر الحرام يطلب حاجة ، فلما كان بأرض غزّة ناداه أسير : يا أبا سفانة ، قد أكلني الأسر والقمل ، قال : واللّه ما أنا ببلادي ولا معي شيء ، وقد أسأت إليّ إذ نوّهت باسمي .
فذهب العرس ، فساومهم ، وقال : خلوا عنه وأنا أقيم مكانه في قيده حتى أؤدي فداءه ، فأتاهم بفدائه .
حدثنا أبو ذرّ ، وقد وقع ذكر حاتم طي ، فقال لي : ذكر من أخبار جدك أنه لما مات ، يعني حاتما ، خرج رجل من بني أسد يعرف بأبي البحتري في نفر من قومه ، وذلك قبل أن يعلم كثير من العرب بموته ، فأناخوا بقبره ، فقال : واللّه لأحلف للعرب أني نزلت بحاتم وسألته القرى ، فلم يفعل . وجعل يضرب برجله قبره ،
ويقول :
اجعل أبا سفانة قراكا * فسوف آتي سائلي ثناكا
فقال بعضهم : ما لك تنادي رمة ؟
وباتوا مكانهم . فقام صاحب القول من نومه مذعورا ، وقال : يا قوم ، عليكم مطاياكم لقرى حاتم . فقالوا : كيف ؟
قال : إنه أتاني في منامي هذا فأنشدني :
أبا البحتري وأنت امرئ * ظلوم العشيرة شتّامها
ما ذا أردت إلى رمة * بدمنة قد صبحت هامها
“ 312 “
تبغي أذاها واعسارها * وحولك غوث وأبغامها
وإنّا لننعم أضيافنا * من الكوم بالسيف نعتامها
مثل سائر : أجود من كعب بن أمامة
حكي أن جوده قتله . وذلك أنه خرج في نفر فيهم رجل من النميري قاسط ، فخلصوا في قفر بلا ماء ، فأضرّ بهم العطش ، فجعل النميري يشرب ماءه ، فإذا أراد كعب أن يشرب نصيبه يقول : آثر أخاك النميري ، فيؤثره على نفسه ، حتى أضرّ به العطش . فلما رأى ذلك استحثّ ناقته ، وبادر حتى بانت له أعلام الماء . وقيل له : رد كعب فإنك وارد . فمات قبل أن يرد الماء ، ونجا رفيقه . وكان هذا كعب من إياد .
وأنشدوا في هذا المعنى لأبي تمام :
هو البحر من أي النواحي أتيته * فلجّته المعروف والجود ساحله
كريم إذا ما جئت للعرف طالبا * حباك بما تحوي عليه أنامله
ولو لم يكن في كفه غير نفسه * لجاد بها فليتقّ اللّه سائله
حديث يحيى بن يحيى النيسابوري مع المأمون
حدثنا أبو محمد بن عبد الرحمن ، ثنا عبد اللّه بن إسماعيل ، ثنا أبو الفرج بن علي ، أنبأ إسماعيل بن أحمد ، انا أحمد ، انا يوسف بن الحسن ، قال : سمعت أبا علي بن الحسين بن بندار يقول : كان الرشيد بعث إلى مالك بن أنس يستحضره ليسمع منه الأمين والمأمون ، فأبى وقال : إن العلم يؤتى ولا يأتي . فبعث إليه : أبعثهما إليك ؟ فقال : بشرط أن لا يتخطيا رقاب الناس ، ويجلسا حيث انتهى بهما المجلس . فحضروا ، وكان يحيى بن يحيى النيسابوري يحضر المجلس ، فحضر ، فانكسر قلمه يوما فناوله المأمون قلما ، فلم يقبل . فقال له : ما اسمك ؟ فقال : يحيى بن يحيى النيسابوري . فقال : أتعرفني ؟ قال :
نعم ، أنت المأمون ابن أمير المؤمنين . فكتب المأمون على ظهر جزء : ناولت يحيى بن يحيى النيسابوري قلما في مجلس مالك فلم يقبله . فلما أفضت الخلافة إليه بعث إلى عامله بنيسابور أن تولي يحيى بن يحيى القضاء . فأرسل كتاب المأمون إليه ، فقال : قل لأمير المؤمنين : ناولتني قلما وأنا شاب فلم أقبل ، أفتجبرني على القضاء وأنا شيخ ؟ فرفع الخبر إلى المأمون فقال : رجلا يختاره .
فاختار رجلا فولّي ، فجاء القاضي إلى يحيى يسلّم عليه ، فضمّ يحيى فراشا تحته .
“ 313 “
فقال له القاضي : أيها الشيخ ، ألم تخترني ؟ قال : إنما قلت : اختاروه ، وما قلت لك : تقلّد القضاء .
حدثنا غير واحد عن علي بن أبي عمر ، عن محمد بن الحسن ، عن عبد الملك بن بشر أنه قال : أنا أبو بكر الآجري ، قال : حدثنا جعفر بن أحمد بن عاصم الدمشقي ، قال :
حدثنا أحمد بن الحواري ، قال : حدثنا إبراهيم بن السقا ، عن أضرم الخراساني ، قال :
كتب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري : عظني ، فكتب إليه الحسن :
أما بعد ، يا أمير المؤمنين ، فكن للمثل من المسلمين أخا ، وللكبير ابنا ، وللصغير أبا ، وعاقب كل واحد منهم بذنبه ، على قدر جسمه . ولا تضربن لغضبك سوطا واحدا ، فتدخل النار .
قال إسماعيل بن عياش : ظهر بإفريقية جور ، فخرج عبد الرحمن بن زياد بن الأنعم الإفريقي إلى أبي جعفر المنصور ليعلمه بذلك . فلما وصل ، قال : ما أقدمك ؟ قال : ظهر الجور ببلادنا ، فجئت لأعلمك مستجيرا بعدلك ، فإذا الجور يخرج من دارك ، فغضب المنصور ، وهمّ به ثم إنه تراجع من نفسه فأمر بإخراجه إلى بلاده .
حدثنا بذلك عبد الرحمن بن علي ، أجازه عن أبي منصور القزاز ، عن أحمد بن علي بن ثابت ، عن البرقاني ، عن محمد بن أحمد عن عبد الملك بن الآدمي ، عن محمد بن علي الإيادي ، عن زكريا بن يحيى الساجي ، عن أحمد بن محمد ، عن الهيثم بن خارجة ، عن إسماعيل بن عياش ، وذكره ، وقال :
روينا من حديث ابن عرفة ، عن ابن عياش المنصوري ، عن محمد بن يوسف ، عن محمد بن يزيد ، عن ابن إدريس ، أن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي قال : أرسل إليّ أبو جعفر المنصور ، فقدمت إليه ، فاستدناني ، ثم قال لي : يا عبد الرحمن ، كيف ما مررت به من أعمالنا إلى أن وصلت إلينا ؟ قال : قلت : أعمالا فاسدة سيئة ، وظلما فاشيا ، وظننت أن ذلك لبعد البلاد منك فجعلت كلما دنوت منك كان الأمر أعظم . فنكس المنصور رأسه ، ثم رفع ، وقال : كيف لي بالرجال يا عبد الرحمن ؟ قال : قلت : أفليس عمر بن عبد العزيز يقول : السلطان بمنزلة السوق يجلب فيها ما ينفق فيها . فإن كان برا أتوه ببرّهم ، وإن كان فاجرا أتوه بفجوره . فأطرق طويلا ، وأومأ إلى الربيع أن أخرج ، فخرجت وما عدت إليه .
حدثنا بذلك تاج النساء بنت رستم ، عن الأرموي ، عن أبي بكر الخطيب ، عن الأزهري ، عن أحمد بن إبراهيم ، عن إبراهيم ، عن محمد بن عرفة ، عن أبي العباس المنصور ، عن محمد بن يوسف ، قال : قال علي بن محمد بن الحسن القزويني : سمعت
“ 314 “
بعض أصحابنا يقول : أقبل المنصور يوما راكبا ، والفرج بن فضالة جالس عند باب الذهب .
فقام الناس ولم يقم الفرج ، فاستشاط غضبا ودعا به ، فقال : ما منعك من القيام حين رأيتني ؟ قال : خفت أن يسألني اللّه عنه لم فعلت ؟ ويسألك عنه لم رضيت به ؟ وقد كرهه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
قال : فبكى المنصور ورقّ له وقضى حوائجه . حدثني بها محمد بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن علي ، عن أبي منصور القزاز ، عن أبي بكر الخطيب ، عن محمد بن عيسى ، عن عبد العزيز ، عن علي بن محمد بن الحسن القزويني ، وذكر : حدثنا يونس بن يحيى ، نبأ محمد بن ناصر ، نبأ المبارك بن عبد الجبار ، انا محمد بن علي بن الحسين بن المأمون ، نبأ أبو بكر بن القاسم ، ثنا أحمد بن بشار ، ثنا إسحاق بن بهلول ، ثنا أبي ، ثنا إسحاق بن زياد ، عن شبيب بن شيبة ، عن خالد بن صفوان بن الهيثم ، قال : إن ملكا من الملوك خرج في عام ، قد بكر وسميه ، وتتابع وليه ، واخضرّت الأرض فيه ، ونجم نبتها ، وضحك زهرها .
وكان قد أعطى حسن الصورة والملك ، فنظر بأبعد النظر ، فقال : إن هذا الذي أنا فيه ، هل رأيتم ما أنا فيه ؟ هل أعطي أحد مثل ما أعطيته ؟ وعنده رجل من بقايا حملة الحجرة والمكبين على أدب الحق .
فقال : أيها الملك ، إنك سألت عن أمر ، أفتأذن في الجواب ؟ قال : نعم . فقال :
أرأيتك هذا الذي قد أعجبت به أهو شيء لم تزل فيه ، أم هو شيء ميراثا عن غيرك وهو زائل عنك وصائر إلى غيرك كما صار إليك ؟ قال : فكذلك هو . قال : أفلا أراك إنما أعجبت بشيء يسير تكون فيه قليلا ، وتغيب عنه طويلا ، وتكون غدا بحسابه مرتهنا . قال : ويحك ، فأين المهرب ، وأين المطلب ؟ قال : إما أن تهتم في ملكك فتعمل فيه بطاعة ربك على ما سأل وسرّك وأرمضك ، وإما أن تضع تاجك وتلبس أمساحك وتعبد ربك في هذا الجبل حتى يأتيك أجلك . قال : فإذا كان السحر فاقرع على بابي ، فإن اخترت ما أنا فيه كنت وزيرا لا تعصى ، وإن اخترت فلوات الأرض وقفر البلاد كنت رفيقا لا تخالف . فلما كان السحر قرع عليه بابه ، فإذا هو به قد وضع تاجه ولبس أمساحه وتهيأ للسياحة . فلزما واللّه الجبل حتى أتاهما الأجل .
حدثنا في آخرين ، قالوا : ثنا محمد بن عبد الباقي ، عن أحمد بن أحمد ، عن أبي نعيم ، عن عبد اللّه بن محمد بن جعفر ، عن أبي بكر بن معدان ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي الحارث الكتّاني ، عن محمد بن عبد اللّه الأمويّ ، قال : حدثنا ابن داود ، وكان قد بلغ
“ 315 “
ثمانين ، عن الزهري ، قال : نظر سليمان بن عبد الملك إلى رجل يطوف بالكعبة له تمام وكمال ، فقال له : يا ابن شهاب ، من هذا ؟ قلت : طاوس اليماني ، قد أدرك عدة من الصحابة . فأرسل إليه سليمان ، فأتاه ، فقال له : لو حدثتنا . قال : حدثني أبو موسى الأشعري ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن أهون الخلق على اللّه من ولّي من أمر المسلمين شيئا فلم يعدل فيهم » . فتغير وجه سليمان ، فأطرق طويلا ، ثم رفع رأسه فقال : لو حدثتنا .
قال : حدثني رجل من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقال ابن شهاب : ظننت أنه أراد عليا .
قال : دعاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى طعام في مجلس من مجالس قريش . قال : « إن لكم على قريش حقا ، ولهم على الناس حقا ، ما استرحموا فرحموا ، واستحكموا فعدلوا ، وائتمنوا فأدوا . فمن لم يفعل ذلك لم يقبل اللّه منه صرفا ولا عدلا » . فتغير وجه سليمان ، فأطرق طويلا ، ثم رفع رأسه ، فقال : لو حدثتنا . فقال : حدثني ابن عباس أن آخر آية نزلت :
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ .
حدثنا محمد بن إسماعيل ، نبأ عبد الرحمن بن علي ، نبأ علي بن محمد بن أبي عمر ، نا محمد بن الحسن بن أحمد ، عن عبد الملك بن بشران ، عن محمد بن الحسين الآجريّ ، حدثني عمرو بن محمد بن بكار القافلانيّ ، عن إبراهيم بن هانئ النيسابوري ، عن أبي صالح كاتب الليث بن سعد ، قال : أخذتها من الليث بن سعد رسالة الحسن بن أبي الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز .
أما بعد ، أيها الأمير ، إن الدنيا دار ظعن وليست بدار إقامة ، وإنما أهبط آدم من الجنة عقوبة . وقد يحسب من لا يدري ثواب اللّه أنها ثواب ، ومن لا يدري عقاب اللّه أنها عقاب .
ولها في كل حين صرعة ، وهي تهين من أكرمها ، والغبي فيها فقير . فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه يصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء ، يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا ، فإن أهل الفضائل كان منطقهم فيها بالصواب ومشيهم بالتواضع ومطعمهم الطيب من الرزق ، مغمضي أبصارهم عن المحارم . فخوفهم من البرّ كخوفهم من البحر ، ودعاؤهم في السرّاء كدعائهم في الضرّاء ، لولا الآجال التي كتبت لهم ما تقاربت أرواحهم في أجسادهم خوفا من العقاب وشوقا إلى الثواب ، عظم الخالق في أنفسهم فصغر المخلوق في أعينهم .
واعلم أن التفكّر يدعو إلى الخير والعمل به ، والندم على الشرّ يدعو إلى تركه . وليس ما يغني وإن كان كثيرا بأهل أن يؤثر على ما يبقى وإن كان طلبه عزيزا . واحتمال المئونة المنقطعة التي تعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تعقب مئونة باقية وندامة
“ 316 “
طويلة . فاحذر هذه الدنيا الصارعة الخاذلة القاتلة التي قد تزينت بخدعها ، وقتلت بغرورها ، وخدعت بآمالها فأصبحت كالعروس المجليّة ، فالعيون إليها ناظرة ، والقلوب إليها والهة ، والنفوس لها عاشقة ، وهي لأزواجها كلهم قاتلة ، فلا الباقي بالماضي يعتبر ، ولا الآخر لما رأى من أثرها بالأول يزدجر ، ولا العارف باللّه المصدق له حين أخبره عنها مذكر . قد أبت القلوب لها إلا حبا ، وأبت النفوس لها إلا عشقا . ومن عشق شيئا لم يعرف غيره ، ولم يعقل سواه ، ومات في طلبه ، وكان آثر الأشياء عنده ، فهما عاشقان طالبان مجتهدان . فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغترّ وطغى ونسي ولهى ، فغفل عن مبتدأ خلقه ، ووضع ما إليه معاده ، وقلّ في الدنيا لبثه ، حتى زلّت عنه قدمه ، وجاءته منيته على شرّ ما كان عليها حالا ، وأطول ما كان فيها أملا ، فعظم ندمه ، وكثرت حسرته مع ما عالج من سكرته ، فاجتمعت عليه سكرة الموت بكربته ، وحسرة الفوت بغصّته ، فغير موصوف ما نزل به ، وآخر مات قبل أن يظفر منها بحاجته ، فمات بغمّه وكمده ، ولم يدرك فيها ما طلب ، ولم يرح نفسه من التعب والنصب ، فخرجوا جميعا بلا زاد ، وقدما على غير مهاد .
فالحذر يا أمير المؤمنين ، الحذر كله منها ، فإنما مثلها مثل الحيّة ، ليّن مسّها وتقتل بسمّها ، فاعرض عما يعجبك فيها القلة ما يصحبك منها ، وضع عنك همومها لما قد أيقنت به من فراقها ، واجعل شدة ما اشتدّ منها رجاء ما ترجو بعدها ، وكن عند أسرّ ما تكون فيها .
احذر ما يكون منها ، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور صبّحته من سرورها بما يسوؤه ، وكلما ظفر منها بما يحبّ انقلبت عليه بما يكره .
فالسارّ منها لأهلها غارّ ، والنافع منها غدا ضارّ ، وقد وصل الرجاء فيها بالبلاء ، وجعل البقاء فيها إلى الفناء ، فسرورها بالحزن مشوب ، والناعم فيها مسلوب . فانظر يا أمير المؤمنين إليها انظر الزاهد المفارق ، ولا تنظر إليها نظر المبتلي العاشق .
واعلم يا أمير المؤمنين نزيل البلوى الساكن ، وتفجّع المترف الآمن . ولا يرجع فيها إلى ما ولّى منها ، ولا يتبع ما صفا منها إلا ما كدر . فاحذرها ، فإن أمانيها كاذبة ، وآمالها باطلة ، وعيشها نكد ، وصفوها كدر ، وأنت منها على خطر ، إما نعمة زائلة ، أو بليّة نازلة ، أو مصيبة فادحة ، أو منية قاضية .
فلقد كدرت المعيشة لمن عقل ، فهو من نعيمها على خطر ، ومن بليته على حذر ، ومن المنية على يقين . فلو كان الخالق تبارك اسمه لم يخبر عنها بخبر ، ولم يضرب لها مثل ، ولم يأمر فيها بزهد ، لكانت الدنيا أيقظت النائم ، ونبّهت الغافل ، وكيف وقد جاء عن اللّه عز وجل منها زاجر ، وفيها واعظ ، فما لها عنده قدر ، ولا وزن من الصغر ، وهي عنده أصغر من حصاة في الحصى ، ومن مقدار نواة في النوى . ما خلق اللّه عز وجل فيما بلغنا
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin