الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء 21
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 305 “
تمام الكرم إتمام النّعم . أحسن المقال ما صدق بحسن الفعال . من حسن صفاؤه وجب اصطفاؤه . من زال معهود إحسانه استحال موجود إمكانه . من منع العطاء منع الثناء . من منع الإحسان سلب الإمكان . من عفّ عن الريبة كفّ عن الغيبة .
إخلاص التوبة تسقط العقوبة . إحسان النية موجب المثوبة . من غاظك بقبيح الشتم منه فغظه بحسن الحلم عنه .
آلام الناس سعيد لا يسعد به إخوانه ، وسليم لا يسلم منه جيرانه . من بخل بماله على نفسه جاد به على زوج عرسه . إذا اصطنعت المعروف فاستره وإذا اصطنع إليك فانشره . من جاور الكرام أمن من الإعدام ، ومن جاور اللئام فقد الإنعام . من شرف منصبه حسن مذهبه . من طاب أصله زكى فعله . من أنكر حسن الصنيعة استوجب قبح القطيعة .
من كفر شمول النّعم استحل حلول النقم . من منّ بمعروفه سقط شكره ، ومن أعجب بعلمه حبط أجره . من رضي من نفسه بالإساءة شهد على نفسه بالرداءة .
من رضي بذمّ أخلاقه اعترف بلوم أعراقه . من رجع في هبته بالغ في خسّته . من أغلق عن أخيه بابه ذمّ الناس خلقه وآدابه .
من بخل على نفسه بخيره لم يجد به على غيره . من تصرف على حكم المروة دلّ على شرف الأبوة . من كرم على تحبيب الرجاء دلّ على كرم الآباء . الشكر أحسن حلية والأجر أفضل قنية . أفضل الكنوز أجر يدّخر ، وأنفس الثياب شكر ينشر .
أفضل العدد أخ وفيّ وأفضل الذخائر سقى زكيّ . السلطان السوء يخيف البري ويصطنع الدنيء ، والبلد السوء يجمع السفل ويورث العلل ، والولد السوء يشين السلف ويهدم الشرف ، والجار السوء يفشي السر ويهتك الستر . أخسّ الناس من أخذ بغير حق وأنفق على غير مستحق . من غدر شأنه غدره ، ومن مكر حاق به مكره . من حمد على الظلم مكر به ، ومن شكر على الإساءة سخر منه . من حق الملك أن يختار لرعيته ما يختار لنفسه ، ويعدّ سوء سيرته من شقاء جدّه ونحسه . المرء يجني بختاره تحلة آثاره .
شرّ الأفعال ما جلب المذامّ ، وشرّ الأقوال ما جلب الملام ، وشرّ الآراء ما خالف الشريعة ، وشرّ الأعمال ما هدم الصنيعة .
ومن باب ما قيل في التصوف
ما رويناه من حديث ابن ثابت قال : نبأ أبو طالب يحيى بن علي الدسكري ، نبأ علي بن بندار الأسترآبادي قال : سئل الشبلي عن التصوف ، قال : التصوف عندي ترويح القلوب بمراوح الصفاء ، وتجليل الخواطر بأردية الوفاء ، والتخلّق بالسخاء ، والبشر في اللقاء .
“ 306 “
وأنشد ابن ثابت قال : أنشدني الحسن بن محمد البلخي ، قال : أنشدني طاهر بن الحسين ، وهو أبو الحسن المخزومي ، لنفسه :
ليس التصوّف أن يلاقيك الفتى * وعليه من نسج المسيح مرقّع
بطرائق بيض وسود لفّقت * فكأنه فيها غراب أبقع
إن التصوّف ملبس متعارف * فيه لموجده المهيمن يخشع
تذكرة ربانية
رويناها من حديث ابن ثابت قال : نبأ علي بن القاسم بن الحسن الشاهد بالبصرة ، نبأ علي بن إسحاق المارداني ، نبأ الفضل بن محمد ، نبأ إسحاق بن إبراهيم الطبري ، قال :
قال الفضيل بن عياض : قال اللّه عز وجل : يا ابن آدم ، إذا كنت أقلّبك في نعمتي وأنت تتقلب في معصيتي ، فاحذر . لا أصرعك بين معاصيك . يا ابن آدم اتقني ، ونم حيث شئت . إن ذكرتني ذكرتك ، وإن نسيتني نسيتك ، والساعة التي لا تذكرني فيها عليك لا لك .
وممن وعظه الشيب فتبرّأ من العيب
ما رويناه من حديثه قال : نبأ عبد الرحمن بن محمد النيسابوري ، نبأ محمد بن عبد اللّه بن شادان الرازي ، سمعت أبا عبد اللّه القرشي يقول : كان لي جار شاب ، وكان أديبا ، وكان يهوى غلاما أديبا ، فنظر يوما إلى طاقات شعر بيض في عارضيه ، فوقع له شيء من الحق ، فهجر الغلام ، وتركه . فلما نظر الغلام إلى ذلك منه كتب إليه يقول :
ما لي جفيت وكنت لا أجفى * ودلائل الهجران ما تخفى
وأرك تشربني فتمزجنا * ولقد عهدتك شاربي صرفا
قال : فقلب الرقعة وكتب على ظهرها :
أنغام مع الشمط * سمتني خطة شطط
لا تلمني على جفا * ئي فحسبي بما فرط
أنا رهن بما جني * ت فذرني من الغلط
قد رأينا أبا الخلا * ئق في زلة هبط
ومن باب النسيب ما قيل في معاتبة الجواري :
“ 307 “
ناديت قلبي بدمعي ثم قلت له * يا من يحبّ حبيبا لا يواتيه
فردّ قلبي على طرفي بزفرته * هذا البلاء الذي أوقعتني فيه
وقال الآخر :
يا قلب يا قلب يا مشوم * منك بلائي فمن ألوم
تعشق هذا وذا وهذا * لست على واحد تدوم
ولبعضهم في هذا الباب :
أغار طرفي على قلبي وأحشائي * بنظرة وقفت مني على دائي
وكنت غرّا بما تجني عليّ يدي * لا علم لي أن بعضي بعض أعدائي
ولبعضهم في هذا الباب :
أفيضي وانزفي العبرات عيني * فأنت فتنتني وجلبت حيني
وألهبت الفؤاد لهيب جمر * بحرقته يذوب الأسودين
فذوقي من فعالك مثل ما قد * أذقت القلب من صدّ وبين
جناية ناظر بالقلب تربى * على فعل الخوارج بالحسين
ومن هذا الباب :
يا جفونا سواهرا أعدمتها * لذة النوم والرقاد جفون
إن للّه في العباد منايا * سلّطتها على العيون العيون
ومنه أيضا :
نظر العيون إلى العيون هو الذي * جعل العيون على القلوب وبالا
ونهيت نومي عن جفوني فانتهى * وأمرت ليلي أن يطول فطالا
ومن هذا الباب :
أمر الهوى ليل الشجيّ فطالا * ونهى الهوى عنه الملام فزالا
والذي ذهبنا إليه أدخل في النسيب من الأول ، فإن الأول في حكم نفسه فإنه الآمر والناهي . والذي ذهبنا إليه بحكم الهوى ، لأن المحبّ لا حكم له مع سلطان الهوى ، فإنه الأقوى .
وللعباس بن الأحنف فيه :
خليليّ ما للعاشقين قلوب * وما للعيون الناظرات ذنوب
ويا معشر العشاق ما أصعب الهوى * إذا كان لا يلقى المحبّ حبيب
“ 308 “
ومن باب الإفراط في الحب قول قيس المجنون :
إن البلاد وما فيها من الشجر * لو بالهوى عطشت لم ترو بالمطر
لو ذاقت الحبّ أرض اللّه لاشتغلت * أشجارها بالهوى فيها عن الثمر
ليس الحديد ولا صمّ الحجار إذا * فكّرت أقوى على البلوى من البشر
كلام في السماع لبعض إخواننا
سمعت صاحبنا أحمد بن مسعود بن شداد المقري الموصلي بمنزلي بمدينة الموصل سنة إحدى وستمائة يقول : السماع سر من أسرار اللّه تعالى التي لا عمارة للقلوب إلا بها ، وهي لطيفة من لطائف الغيوب التي هي قوت القلوب ، فإذا مررت بسربه ، فسر به ، وقف مع أهله على قدم التذلل ، وأمط عنك رداء التذلل ، فإنك لن تدرك الأرب إلا بلزوم الأدب ، ولن تبلغ المقصود إلا بحفظ العهود . ومن رام قضاء الأوطار اقتحم ركوب الأخطار . فإذا برز لك توقيع تقريبه ، فلا تخل تقرى به . فهذه عناية أصلها ثابت في القدم ، وفرعها نابت ظهر إلى الوجود من كمين العدم ، مشيرا إليه في قوله تعالى : أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، فلما كمنت نار قوله في زناد : قالُوا بَلى ، قرعتها صفى الصفا بواسطة هذه الآلات ، فبرقت بارقة من تلك النغمات ، فسمت الأرواح إلى تلك النسمات ، وشفّ الجوهر الروحاني في العرض الإنساني . فلما تنسمت الأرواح وسمت إلى ما به ، وسمت ، طارت بأجنحة الطرب إلى سماء الطلب ، فرتعت في رياض الأنس ، وكرعت في حياض القدس . فلما انبسطت على بساط البسيطة ، وتعززت بعزّ العزائم النشيطة ، تثبتت أقدام أقدامها ، وناحت حمام حمامها ، وغرّدت بلابل بلابلها ، وأنشدت بلسان حالها :
أبدا تحنّ إليكم الأرواح * ووصالكم ريحانها والرّاح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم * وإلى زمان لقاكم ترتاح
وارحمتا للعاشقين تحمّلوا * ثقل المحبة والهوى فضّاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم * وكذا دماء البائحين تباح
حكاية الضّادي
حدثنا أحمد بن مسعود ، انا رسلان البغدادي قال : كان رجل بالبصرة يكثر من ذكر الضادات حتى وسم بالضادي ، وكان قاضيها يتمنى أن يقع له إليه حاجة ليسمع كلامه ، فدخل عليه بعض حجابه يوما وقال :
“ 309 “
يا سيدي ، الضادي بالباب ، قال : ائذن له ، فمحصول ما يتكلم به ضادات ، وهو أن يقول : السلام عليك أيها القاضي ، إن فلانا ظلمني ، وأنا ضعيف ، فأقول له : الظلم بالظاء وليس بالضاد ، فأقهره ، فدخل عليه وقال : السلام عليك أيها القاضي الفاضل الأفضل ابن الأفضل ، إن ضرار بن ضمرة الضبي اهتضمني ، وعضّني ، وضلع ضلعي ، وأخذ ضيعة لي على الغياض بالضيعي ، اعترضها ضمانا ، ولم يعوّضني عنها ، وأنت أيها القاضي غضبان عليّ ، معرض عني ، نتعرض بعرض عرضك ، أن تمضي إلى ضرار بن ضمرة الضبي وتحضره بحضرتك إحضارا ، وتفرض لي عليه فرضا ، ليخضع ويضرع ، ويعوّضني البعض عن الضمان ، فإني ضعيف متضعّف ، مهضوض من بين الضعفاء ، فاهتضمني بضوضائه .
قال : فأقبل القاضي على خصمه وقال له : إن خصمك هذا لمجنون ، انطلق وخذ الضيعة .
فلما ولى أخذ الضادي بأهدابه وأنشد :
أيا من أقرض القاضي * له أرضي لكي يرضى
أهذا في القضا فرض * بأن ترضى ولا أرضى
قضى قاضيك في أرضي * قضاء ليت لم يقضى
فأين المعوض المقروض * لا عوضا ولا قرضا
ضعاف مهضم ضيم * مضت ضيعتهم أيضا
قال : فاستفرغ القاضي منه ضحكا فوقع له بالضيعة .
خليفة أمن وعدل في حال شغله باللهو والغزل
احتجب عبد الرحمن بقرطبة عن الناس سنين كثيرة في أكل وشرب ولهو وطرب ، فدخل عليه بعض من له عليه إدلال فقال :
يا أمير المؤمنين ، اشتغلت باللهو عما قلّدته من أمور المسلمين ، وفوّض إليك من القيام بهم والنظر في مصالحهم ، ورعي حق اللّه فيهم ، فقال :
يا هذا ، السّبل آمنة ؟ قال : نعم ، قال : قاضيكم يعدل ؟ قال : نعم ، قال : عدوكم مقهور ؟ قال : نعم ، قال : فما تريدون مني ؟
ودخل على هذا الخليفة يوما أرسال الإفرنج ، وقد ظهر لهم من عظيم الملك ما يرغبهم ، بسط لهم الحصر من باب قرطبة إلى باب الزهراء قدر فرسخ ، وجعل الرجال عن يمين الطريق ويساره ، بأيديهم السيوف الطوال العراض مجرّدة ، يجمع بين سيف الأيمن
“ 310 “
وسيف الأيسر حتى صارت كعقد الحنايا ، وأمر بالإرسال أن يمشوا بين تلك في ظلالها ، كأنها ساباط ، فدخلهم من الرعب ما لا يعلمه إلا اللّه تعالى ، فلما وصلوا إلى باب الزهراء فرش لهم الديباج من باب المدينة إلى مقعده على تلك الحالة من الترهيب ، وأقام في مواضع مخصوصة حجّابا كأنهم الملوك ، قعودا على كراسي مزخرفة ، عليهم الديباج والحرير ، فما أبصروا حاجبا إلا سجدوا له يتخيلون أنه الخليفة ، فيقال لهم : ارفعوا رءوسكم ، هذا عبد من عبيده ، إلى أن وصلوا به إلى ساحة مفروشة بالرمل ، والخليفة في وسطها قاعد ، عليه ثياب خلق قصار ، يساوي كل ما عليه أربعة دراهم ، وهو قاعد على الأرض مطرق وبين يديه مصحف وسيف ونار . فقيل للرسل : هذا السلطان ، فسجدوا له ، فرفع رأسه إليهم قبل أن يتكلموا وقال :
إن اللّه أمرنا يا هؤلاء أن ندعوكم إلى هذا ، وأشار إلى المصحف كتاب اللّه ، فإن أبيتم فبهذا ، وأشار إلى السيف ، ومصيركم إذا قتلناكم إلى هذا ، وأشار إلى النار . فملئوا منه رعبا ، وأمر بإخراجهم ، ولم يبدو كلاما ، فصالحوه على ما أراد .
هكذا يعزّ دين اللّه وإلا فلا .
ومن باب النصائح
ما كتبنا به إلى السلطان عز الدين الغالب ، بأمر اللّه كيكاوس ، جوابا عن كتاب وصل إلينا منه أيّده اللّه :
بسم اللّه الرحمن الرحيم .
وصل الاهتمام السلطاني الغالبي بأمر اللّه العزيز ، أدام اللّه عدل سلطانه ، إلى والده الداعي له ، فيتعين عليه الجواب بالوصية الدينية ، والنصيحة السياسية الإلهية ، على قدر ما يعطيه الوقت ، ويحتمله الكتاب ، إلى أن يقدر الاجتماع ، ويرتفع الحجاب .
فقد صحّ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :
" الدين نصيحة " . قالوا : لمن يا رسول اللّه ؟ فقال : « للّه ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم » . وأنت يا هذا بلا شك من أئمة المسلمين ، قد قلّدك اللّه هذا الأمر ، وأقامك نائبا في بلاده ، ومتحكما بما توفق إليه في عباده ، ووضع لك ميزانا مستقيما تقيمه فيهم ، وأوضح لك محجّة بيضاء تسلك بهم عليها وتدعوهم إليها ، وعلى هذا الشرط ولّاك وعليه بايعناك ، فإن عدلت فلك ولهم ، وإن جرت فعليك وعليهم ، فاحذر أن أراك غدا يوم القيامة
“ 311 “
بين أئمة المسلمين من أخسر الناس أعمالا ، ولا يكون شكرك لما أنعم اللّه به عليك من استواء ملكك بكفران النعم ، واستظهار المعاصي ، وتسليط نواب السوء على الرعية الضعيفة ، فيحتكمون فيهم بالجهالة والأغراض ، وأنت المسؤول عن ذلك .
فيا هذا ، قد أحسن اللّه إليك وخلع النيابة عليك ، فأنت نائب اللّه في خلقه ، وظله الممدود في أرضه ، فانصف المظلوم من الظالم ، ولا يغرنك أن وسّع اللّه عليك سلطانك ، وسوّى لك البلاد ووطّاها ، مع إقامتك على المخالفات والجور وتعدّي الحدود ، فإن ذلك الاتساع مع بقائك على مثل هذه الصفات إمهال من الحق لا إهمال ، وما بينك وبين أن تقف على أعمالك إلا بلوغ الأجل المسمى ، وتصل إلى الدار التي سافر إليها آباؤك وأجدادك ، فلا تكن من النادمين ، فإن الندم في ذلك الوقت غير نافع .
يا هذا ، ومن أشد ما يمر على الإسلام والمسلمين ، وقليل ما هم ، رفع النواقيس ، والتظاهر بالكفر ، وإعلاء كلمته ببلادك ، ورفع الشروط التي اشترطها أمير المؤمنين وإمام المتقين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه على أهل الذمة ، من أن لا يحدثوا في مدينتهم ولا حولها كنيسة ، ولا ديرا ، ولا قلة ، ولا صومعة راهب ، ولا يجددوا ما خرب ، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزل بها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعموهم ، ولا يأووا جاسوسا ، ولا يكتموا غشا للمسلمين ، ولا يعلموا أولادهم القرآن ، ولا يظهروا شركا ، ولا يمنعوا ذوي قرابتهم من الإسلام إن أرادوه ، وأن يوقروا المسلمين ، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس ، ولا يتشبّهوا بالمسلمين ، في شيء من لباسهم في قلنسوة ، ولا عمامة ، ولا نعلين ، ولا فرق شعر ، ولا يتسمّوا بأسماء المسلمين ، ولا يتكنوا بكناهم ، ولا يركبوا سرجا ، ولا يتقلدوا سيفا ، ولا يتخذوا شيئا من السلاح ، ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية ، ولا يبيعوا الخمور ، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم ، وأن يلزموا زيهم حيث ما كانوا ، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم ، ولا يظهروا صليبا ، ولا شيئا من كتبهم في طرق المسلمين ، ولا يجاوروا موتى المسلمين بموتاهم ، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيفا ، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين ، ولا يخرجوا شعانين ، ولا يرفعوا مع موتاهم أصواتهم ، ولا يظهروا النيران معهم ، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين .
فإن خالفوا في شيء مما شرط فلا ذمة لهم ، وقد حل للمسلمين ما يحل من أهل المعاندة والشقاق .
فهذا كتاب الإمام العادل عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه .
“ 312 “
وقد ثبت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : « لا يبنى كنيسة في الإسلام ، ولا يجدّد ما خرب منها » . فتدبر كتابي ترشد إن شاء اللّه تعالى ، ما لزمت العمل به . والسلام .
وكتب إليه أيضا :
إذا أنت أعززت الهدى وتبعته * فأنت لهذا الدين عزّ كما تدعى
وإن أنت لم تحفل به وتركته * فأنت مذل الدين تخفضه وضعا
فلا تأخذ الألقاب زورا فإنه * لتسأل عنها يوم يجمعكم جمعا
يقال لعزّ الدين أعززت دينه * ويسأل دين اللّه عن عزّكم قطعا
فإن شهد الدين العزيز بعزّكم * تكن مع دين اللّه في عزّه شفعا
وإن قال دين اللّه كنت بملكه * ذليلا وأهلي في ميادينه صرعى
وما زلت في سلطانه ذا مهانة * وفي زعمه بي أنه محسن صنعا
فما حجّة السلطان إن كان قوله * كما قلت فلتسكب لما قلته الدمعا
وأدمن لباب اللّه إن كنت تبتغي * تجاوره عن ذينك الضرب والقرعا
عسى جوده يوما يجود بنفحة * فيبرز عفو اللّه يدفعه دفعا
فيا ربّ رفقا بالجميع فيا لها * إذا اجتمع الخصمان من وقعة شنعا
فأنت إمام المتّقين ورأسهم * إذا لم تزل تجبر لدين الهدى صدعا
لكم نائب في الأمر أصبح ملحدا * وأضحى لأهل الدين يقطعهم قطعا
فما لك لم تغلبه واسمك غالب * وما لك لم تعزله إذ آثر النفعا
فيها أيها السلطان حقق نصيحتي * لكم وارعني منكم لما قلته سمعا
فإني لكم واللّه أنصح ناصح * أذود الردى عنكم وأمنعه منعا
وأجلب للسلطان من كل جانب * من الدين والدنيا المعارف والنفعا
حكم منثورة
أفضل الأعمال ما أثّل مجدا ، وأجمل الطلب ما حصّل حمدا . شرّ العمل ما هدم فخرا ، وشر الطلب ما قبح ذكرا . الحليم من لم يكن حلمه لفقد النصرة وعدم القدرة ، والجواد من لم يكن جوده لدفع الأعداء وطلب الجزاء ، والشجاع من لم تكن شجاعته لفوت الفرار وفقد الأنصار ، والصّموت من لم يكن صمته لكلة لسانه وقلة بيانه ، والمنصف من لم يكن إنصافه لضعف يده وقوة خصمه ، والمحبّ من لم تكن محبته لبذل معونة أو حذف مئونة . من خان أخاه زهد في أخوّته ، ومن أعان عليه خرج من مروءته .
“ 313 “
وروينا من حديث ابن ثابت قال : أنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن رزق البزّار ، وأبو الحسين علي بن محمد بن عبد اللّه بن بشران المعدل ، نبأ إسماعيل بن محمد الصفّار ، نبأ أبو يحيى بن أسد المروزي ، نبأ معروف الكرخي قال :
قال بكر بن حبيش : إن في جهنم لواد تتعوّذ جهنم من ذلك الوادي كل يوم سبع مرات ، وإن في الوادي لجبّا يتعوذ الوادي وجهنم من ذلك الجب كل يوم سبع مرات ، وإن في الجب لحية يتعوّذ الجب والوادي وجهنم من تلك الحية كل يوم سبع مرات . يبدأ بفسقة حملة القرآن فيقولون : أي ربّ ، بدئ بنا قبل عبدة الأوثان ؟ فيقال لهم : ليس من يعلم كمن لا يعلم .
وروينا من حديثه أيضا ، عن ابن رزق قال : حدثنا أبو محمد بن جعفر محمد بن نصر الخلدي ، حدثني إبراهيم بن نصر المنصوري مولى منصور بن المهدي ، حدثني إبراهيم بن بشار الصوفي الخراساني خادم إبراهيم بن أدهم قال :
وقف رجل مرة على إبراهيم بن أدهم فقال : يا أبا إسحاق ، لم حجبت القلوب عن اللّه عز وجل ؟ فقال : لأنها أحبّت ما أبغض اللّه ، أحبت الدنيا ، ومالت إلى دار الغرور واللهو واللعب ، وتركت العمل لدار فيها حياة الأبد ، في نعيم لا يزول ولا ينفد ، خالدا مخلّدا ، في ملك لا نفاذ له ولا انقطاع .
ومن باب النسيب
ما قاله ابن الرومي في حلاوة الحب ومرارته . قال أبو بكر الصيدلاني في روايتنا :
أنشدنا أحمد الكاتب قال : أنشدني ابن الرومي :
وأزرق الفجر يبدو قبل أشهبه * وأول الغيث قطر ثم ينسكب
فمثل ذلك ودّ العاشقين هوى * بالمزح يبدو وبالإدمان يلتهب
وبلسان الوسوسة في هذا الباب :
الحبّ حلو أمرّته عواقبه * وصاحب الحب صبّ القلب ذائبه
استودع اللّه من بالقلب ودّعني * يوم الرحيل ودمع العين سائله
ثم انصرفت وداعي الحب يهتف بي * أرفق عليك فقد عزّت مطالبه
ولنا في هذا الباب :
الحبّ حلو إذا ما حبّنا وصلا * كما يمرّ إذا محبوبنا هجرا
“ 314 “
منوّع الطعم في الحالات فهو كمث * ل الماء يتبع لون الكأس إن نظرا
وقال الحسن بن هانئ :
أوائل الحب حلاوات * وآخر الحب مرارات
ومشرع الحب دواعي الردى * ومنهل الحب بليّات
كم قد أباد الحب من معشر * أمسوا وهم في التراب أموات
فسوف إن دام بنا ذا الهوى * أموت واللّه كما ماتوا
ولبعضهم :
الحبّ يترك من أحبّ مدلّها * حيران أو يقضى عليه فيسرع
وقال الآخر :
ألا قاتل اللّه الهوى كيف يقتل * وكيف بأكباد المحبين يفعل
فلا تعذلوني في هواي فإنني * أرى سورة الأبطال في الحب تبطل
وقال أبو حفص في هذا الباب :
ليس أمر الهوى يدبّر بالراء * ي ولا بالقياس والتفكير
إنما الحب والهوى خطرات * محدثات الأمور بعد الأمور
ليس خطب الهوى بخطب يسير * ليس ينبيك عنه مثل خبير
ومن قول الكميت في هذا الباب :
الحبّ فيه حلاوة ومرارة * سائل بذلك من تطعّم أو سقي
ما ذاق بؤس معيشة ونعيمها * فيما مضى أحد إذا لم يعشق
وقال بعضهم فيه :
رأيت أخا الحب الذي ليس يقصر * يقال له أعمى وإن كان يبصر
ويخبط كالعشواء في حالك الدجى * سواء عليه السهل والمتوعر
ومن باب طعم الحب :
وللحبّ أغصان تراها نظيرة * وفي طعمها للذائقين ذعاف
رأيت المنايا في عيون أو أنس * تميت بها الأرواح وهي ضعاف
ومن ذلك :
وقيل الهوى عذب فلما وردته * وردت كريها لا يسوغ لشاربه
وإني رأيت الدهر حين صحبته * محاسنه مقرونة بمعايبه
“ 315 “
إذا سرّني في أول الأمر لم أزل * على حذر من غمّه في عواقبه
ومن ذلك :
الحبّ حلو البدء مرّ العقب * وأصعب الأدواء داء الحبّ
وصاحب الحبّ حليف الكرب * مذلّة العقل عميد القلب
رؤيا عاتكة عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة فيما جرى على المشركين في يوم بدر
روينا من حديث الواحدي قال : نبأ أحمد بن الحسين الحيري ، ثنا أبو العباس أحمد بن يعقوب ، نبأ أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، نبأ يونس بن بكير ، نبأ محمد بن إسحاق ، نبأ حسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن عباس ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال :
وحدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : رأت عاتكة بنت عبد المطلب فيما يرى النائم ، قبل مقدم ضمضم على قريش بمكة بثلاث ليال ، رؤيا أعظمتها ، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت : يا أخي ، لقد رأيت الليلة رؤيا ، ليدخلنّ على قومك شرّ وبلاء . قال : وما هي ؟ قالت : رأيت فيما يرى النائم أن رجلا أقبل على بعير له ، فوقف بالأبطح ، فقال : انفروا يا آل عذراء إلى مصارعكم في ثلاث .
فأرى الناس اجتمعوا إليه ، ثم أرى بعيرا دخل به المسجد ، واجتمع إليه أناس . ثم مثل به بعيره ، فإذا هو على رأس الكعبة ، فقال : يا آل عذراء ، انفروا إلى مصارعكم في ثلاث . ثم إن بعيره مثل به على رأس أبي قبيس فقال : انفروا يا آل عذراء إلى مصارعكم في ثلاث . ثم أخذ صخرة فأرسلها من رأس الجبل ، فأقبلت تهوي حتى إذا كانت في أسفله ارفضّت ، فما بقيت دار من دور قومك ولا بيت إلا دخل فيه بعضها . قال العباس : واللّه إن هذه لرؤيا فاكتميها . قالت : وأنت فاكتمها .
فخرج العباس من عندها ولقي الوليد بن عتبة ، وكان له صديقا ، فذكرها له واستكتمه إياها ، فذكرها الوليد لابنه فتحدث بها ، فغشى الحديث . قال العباس : فغدوت لأطوف بالبيت ، فدخلت المسجد فإذا أبو جهل في نفر من قريش يتحدثون عن رؤيا عاتكة . فقال أبو جهل : يا أبا الفضل ، متى حدثت هذه النهية فيكم ؟ فقلت : وما ذاك ؟
قال : رؤيا رأتها عاتكة بنت عبد المطلب . أما رضيتم أن تنبأ رجالكم حتى تنبأ نساؤكم متربص بكم هذه الثلاث التي ذكرتها عاتكة ؟ فإن تكن عاتكة تقول حقا فسيكون ، وإلا كتبنا عنكم كتابا أكذب بيت في العرب . قال العباس : فما كان مني إليه من كبير شيء إلا أني
“ 316 “
جحدت ذلك وأنكرته . قلت : ما رأيت شيئا ولا سمعت بها . فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني ، فقلن : صرتم لمثل هذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ، ثم قد تناول النساء ، وأنت تسمع ، فلم يكن عندك في ذلك غيرة . فقلت : واللّه لقد صدقني ، وما كان عندي في ذلك من غيرة ، إلا أني أنكرت ما قال ، فلا تعرضت له ، فإن عاد لأكفينكه .
فغدوت في اليوم الثالث أتعرضه ليقول شيئا فأشاتمه ، فو اللّه إني لمقبل نحوه ، وكان رجلا حديد النظر حديد اللسان ، إذ ولّي نحو الباب يشتد . فقلت في نفسي : ما له لعنه اللّه ؟
أكل هذا فرقا من أن أشاتمه ؟ وإذا هو سمع ما لم أسمع . سمع صوت عمرو بن ضمضم الغفاري وهو يصرخ بباطن الوادي ، واقف على بعيره بالأبطح قد رحله وشق قميصه وجدع بعيره ، يقول : يا معشر قريش ، اللطيمة اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان ، وتجارتكم قد عرض لها محمد وأصحابه ، الغوث الغوث . فشغله ذلك عني ، وشغلني عنه ما جاء من الأمر .
وتجهز الناس سراعا ، وقالوا : أيظن محمد وأصحابه أن يكون كعير ابن الحضرمي ؟
كلا . واللّه ليعلمن غير ذلك . فكانوا بين رجلين ، إما خارجا وإما باعثا مكانه رجلا .
وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد . فأصابت قريش ما أصابها يوم بدر من قتل أشرافهم وأسر جبابرتهم .
قال ابن نجيح : كان أمية بن خلف قد أجمع العقود ، وكان شيخا كبيرا ثقيلا ، فأتاه عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المسجد بين ظهري قومه بمجمرة يحملها فيها نار ، حتى وضعها بين يديه فقال : يا أبا علي استجمر ، فإنما أنت من النساء . فقال : قبّحك اللّه ، وقبّح ما جئت به . ثم تجهز وخرج مع الناس .
وكان سبب تثبّط أمية عن الخروج ما رويناه أيضا من حديث الواحدي ، قال : نبأ أبو نصر أحمد بن محمد بن إبراهيم ، انا عبد اللّه بن بطاء ، أنا أبو القاسم ابن بنت منيع ، نبأ يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، نبأ خلف بن الوليد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد اللّه بن مسعود ، قال : انطلق سعد بن معاذ معتمرا ، فنزل على أمية بن خلف ، وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد بن معاذ . فقال أميد لسعد : انتظر إذا انتصف النهار وغفل الناس ، انطلقت . فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل فقال : من هذا الذي يطوف معك بالكعبة ؟ فقال : سعد ، فقال أبو جهل : تطوف بالكعبة آمنا وقد آويت محمدا وأصحابه ؟ قال : نعم . فتلاحيا بينهما . فقال أمية لسعد : لا
“ 317 “
ترفع صوتك على أبي الحكم ، فإنه سيد أهل هذا الوادي . فقال له سعد : واللّه لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك إلى الشام . فجعل أمية يقول لسعد : لا ترفع صوتك ، وجعل يمسكه . فغضب سعد ، فقال : دعنا عنك ، فإني سمعت محمدا صلى اللّه عليه وسلم يزعم أنه قاتلك . قال : إياي ؟ قال : نعم . قال : واللّه ما يكذب محمد . فرجع إلى أم صفوان ، فقال :
أما تعلمين ما قال أخي اليثربي ؟ قالت : وما قال ؟ قال : زعم أن محمدا يزعم أنه قاتلي .
قالت : واللّه ما يكذب محمد . فلما خرجوا إلى بدر وجاء الصريخ ، فقالت له امرأته : أما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي ؟
فقال له أبو جهل : إنك من أشرف أهل الوادي ، فسر معنا يوما أو يومين ، فسار معهم ، فقتله .
وقد ذكرنا قصة غزوة بدر في هذا الكتاب ، ومقتل أمية بن خلف ، وغيره فيها .
قدوم حمير على أبي بكر الصدّيق رضي اللّه عنه
روينا من حديث الرملي ، عن الحسين بن زياد ، عن أحمد بن عبد اللّه ، عن محمد بن يوسف ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك ، قال : قدمت حمير على أبي بكر رضي اللّه عنه معها ذو الكلاع الحميري ، بعدد كثير من أهل اليمن وعدّة حسنة . وجاءت مذحج فيها قيس بن هبيرة المرادي ، ومعه جمع عظيم من قومه ، فيهم الحجاج بن عبد يغوث ، وجاء حابس بن سعد الطائي في عدد كثير من طيّ ، وجاءت الأزد في عدد كثير وجمع عظيم ، فيهم جندب بن عمرو بن جمحة الدوسي ، وفيهم أبو هريرة الدوسي قيس .
فأمّر أبو بكر رضي اللّه عنه ميسرة بن مسروق العبسي عليهم ، وجاء ابن أشيم في بني كنانة .
فأما ربيعة وتميم فإنهم كانوا بالعراق ، وكانت دارهم عراقية ، وقلّ من شهدها منهم .
وكان أعظمهم وأجلّهم أهل اليمن . فمن هناك كثروا بالشام وكانوا سكانها وأهلها .
ومن باب النسيب
وما سرّني أني أطيق تصبّرا * ولا أنني أمسيت خلوا من الحبّ
إذا ما سألت اللّه عنك تسلّيا * فلست حقيقا بالإجابة من ربي
السماع في ذلك : تقول النفس الإنسانية اللطيفة الربانية الموجودة عن الروح الإلهي ، من قوله تعالى : وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي * لهذا الروح ، لما طال حبسها في هذا الهيكل الضيّق ، عن السراج في تلك المسارح الواسعة الفضاء ، الصافية الإضاء ، حيث الروح
“ 318 “
الأعلى ، والملائكة العلى ، بالمكانة الزلفى ، والنظر الأجلى ، ما سرّني أن أطيق تصبّرا عن اللحوق ، ولا أنني خلو من تعلق الهمم به والاشتياق إليه ، وكيف لا يكون ذلك مني وهو أصلي وكلي ؟ ولما تحيلت الأغراض منه عني بطول الحبس في عالم التركيب الأسفل ، تعطين التخليص والتسخير ، أردت إقامة الحجة على كل خاطر يحرّضني عن العدول عن هذه الحجة ، وعلمت أني لا بد لي من الرجوع إليه والنزول عليه ، والتخليص من هذه السّدفة الترابية واقع على كل حال ، والإقامة في عالم الفساد على الدوام محال .
سألت اللّه في السلوان عن هذا التعلق بالتضرع والإنابة ، وقد تحققت في ذلك عدم الإجابة ، فأرضيت الفريقين ، هيهات وكيف يسلو فرع عن أصله ؟ ولولاه ما غذاه الماء ، ولا امتدت إليه الأفياء .
ومنه قول الآخر :
يعيّرني قومي بذلّي في الهوى * وكم من ذليل في الهوى يكسب العزّا
إذا كنت تهوى فاجعل الذلّ جنّة * فإني رأيت الكبر من ذي الهوى عجزا
السماع في ذلك : لما كان الهوى محله النفس ، وكان تعلقه بالمجانس لها ، عيّره أهل الحجاب بذلته لمجانسه وشكله ، فقال لهم : ليس الأمر كما تزعمون ، فإن التعلق وإن كان بالمناسب ، فالمناسب هنا قوله : خلق آدم على صورته ، وليس كمثله شيء ، والتجلي في الصور مشروع ، والمناسبة في صور التجلي وهو روحها ، ومحبتها تنتج محبته ، ومحبته تورث كون المحبة من حيث هو حبيب له ، سمعا له وبصرا .
فأي عزّ ؟ وأية قوة ؟ وأي عظم يقاوم عزّ من هو مع الحق بهذه المثابة ؟ فهو قوله : وكم من ذليل في الهوى يكسب العزّا ، وذلّ الهوى جنة لهذا العز ، يتعلق الذمّ به دونه ، يقول : وإذا رأيت من يتكبّر في هواه فذلك لعدم مواصلة ، فيرى أن ذلك من كبر نفسه ، وهذا في جناب الحق غير لائق وفي سماع العارفين .
ومن باب النسيب قولنا
ألا يا نسيم الريح بلّغ مها نجد * بأني على ما تعلمون من العهد
وقل لفتاة الحي موعدنا الحمى * غديّة يوم السبت عند ربا نجد
على الربوة الحمراء من جانب الضوى * وعن أيمن الأفلاج والعلم الفرد
فإن كان حقا ما تقول وعندها * إليّ من الشوق المبرّح ما عندي
إليها ففي حرّ الظهيرة نلتقي * بخيمتها سرا على أصدق الوعد
فنلقى ونلقى ما نلاقي من الهوى * ومن شدة البلوى ومن ألم الوجد
الجزء 21
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 305 “
تمام الكرم إتمام النّعم . أحسن المقال ما صدق بحسن الفعال . من حسن صفاؤه وجب اصطفاؤه . من زال معهود إحسانه استحال موجود إمكانه . من منع العطاء منع الثناء . من منع الإحسان سلب الإمكان . من عفّ عن الريبة كفّ عن الغيبة .
إخلاص التوبة تسقط العقوبة . إحسان النية موجب المثوبة . من غاظك بقبيح الشتم منه فغظه بحسن الحلم عنه .
آلام الناس سعيد لا يسعد به إخوانه ، وسليم لا يسلم منه جيرانه . من بخل بماله على نفسه جاد به على زوج عرسه . إذا اصطنعت المعروف فاستره وإذا اصطنع إليك فانشره . من جاور الكرام أمن من الإعدام ، ومن جاور اللئام فقد الإنعام . من شرف منصبه حسن مذهبه . من طاب أصله زكى فعله . من أنكر حسن الصنيعة استوجب قبح القطيعة .
من كفر شمول النّعم استحل حلول النقم . من منّ بمعروفه سقط شكره ، ومن أعجب بعلمه حبط أجره . من رضي من نفسه بالإساءة شهد على نفسه بالرداءة .
من رضي بذمّ أخلاقه اعترف بلوم أعراقه . من رجع في هبته بالغ في خسّته . من أغلق عن أخيه بابه ذمّ الناس خلقه وآدابه .
من بخل على نفسه بخيره لم يجد به على غيره . من تصرف على حكم المروة دلّ على شرف الأبوة . من كرم على تحبيب الرجاء دلّ على كرم الآباء . الشكر أحسن حلية والأجر أفضل قنية . أفضل الكنوز أجر يدّخر ، وأنفس الثياب شكر ينشر .
أفضل العدد أخ وفيّ وأفضل الذخائر سقى زكيّ . السلطان السوء يخيف البري ويصطنع الدنيء ، والبلد السوء يجمع السفل ويورث العلل ، والولد السوء يشين السلف ويهدم الشرف ، والجار السوء يفشي السر ويهتك الستر . أخسّ الناس من أخذ بغير حق وأنفق على غير مستحق . من غدر شأنه غدره ، ومن مكر حاق به مكره . من حمد على الظلم مكر به ، ومن شكر على الإساءة سخر منه . من حق الملك أن يختار لرعيته ما يختار لنفسه ، ويعدّ سوء سيرته من شقاء جدّه ونحسه . المرء يجني بختاره تحلة آثاره .
شرّ الأفعال ما جلب المذامّ ، وشرّ الأقوال ما جلب الملام ، وشرّ الآراء ما خالف الشريعة ، وشرّ الأعمال ما هدم الصنيعة .
ومن باب ما قيل في التصوف
ما رويناه من حديث ابن ثابت قال : نبأ أبو طالب يحيى بن علي الدسكري ، نبأ علي بن بندار الأسترآبادي قال : سئل الشبلي عن التصوف ، قال : التصوف عندي ترويح القلوب بمراوح الصفاء ، وتجليل الخواطر بأردية الوفاء ، والتخلّق بالسخاء ، والبشر في اللقاء .
“ 306 “
وأنشد ابن ثابت قال : أنشدني الحسن بن محمد البلخي ، قال : أنشدني طاهر بن الحسين ، وهو أبو الحسن المخزومي ، لنفسه :
ليس التصوّف أن يلاقيك الفتى * وعليه من نسج المسيح مرقّع
بطرائق بيض وسود لفّقت * فكأنه فيها غراب أبقع
إن التصوّف ملبس متعارف * فيه لموجده المهيمن يخشع
تذكرة ربانية
رويناها من حديث ابن ثابت قال : نبأ علي بن القاسم بن الحسن الشاهد بالبصرة ، نبأ علي بن إسحاق المارداني ، نبأ الفضل بن محمد ، نبأ إسحاق بن إبراهيم الطبري ، قال :
قال الفضيل بن عياض : قال اللّه عز وجل : يا ابن آدم ، إذا كنت أقلّبك في نعمتي وأنت تتقلب في معصيتي ، فاحذر . لا أصرعك بين معاصيك . يا ابن آدم اتقني ، ونم حيث شئت . إن ذكرتني ذكرتك ، وإن نسيتني نسيتك ، والساعة التي لا تذكرني فيها عليك لا لك .
وممن وعظه الشيب فتبرّأ من العيب
ما رويناه من حديثه قال : نبأ عبد الرحمن بن محمد النيسابوري ، نبأ محمد بن عبد اللّه بن شادان الرازي ، سمعت أبا عبد اللّه القرشي يقول : كان لي جار شاب ، وكان أديبا ، وكان يهوى غلاما أديبا ، فنظر يوما إلى طاقات شعر بيض في عارضيه ، فوقع له شيء من الحق ، فهجر الغلام ، وتركه . فلما نظر الغلام إلى ذلك منه كتب إليه يقول :
ما لي جفيت وكنت لا أجفى * ودلائل الهجران ما تخفى
وأرك تشربني فتمزجنا * ولقد عهدتك شاربي صرفا
قال : فقلب الرقعة وكتب على ظهرها :
أنغام مع الشمط * سمتني خطة شطط
لا تلمني على جفا * ئي فحسبي بما فرط
أنا رهن بما جني * ت فذرني من الغلط
قد رأينا أبا الخلا * ئق في زلة هبط
ومن باب النسيب ما قيل في معاتبة الجواري :
“ 307 “
ناديت قلبي بدمعي ثم قلت له * يا من يحبّ حبيبا لا يواتيه
فردّ قلبي على طرفي بزفرته * هذا البلاء الذي أوقعتني فيه
وقال الآخر :
يا قلب يا قلب يا مشوم * منك بلائي فمن ألوم
تعشق هذا وذا وهذا * لست على واحد تدوم
ولبعضهم في هذا الباب :
أغار طرفي على قلبي وأحشائي * بنظرة وقفت مني على دائي
وكنت غرّا بما تجني عليّ يدي * لا علم لي أن بعضي بعض أعدائي
ولبعضهم في هذا الباب :
أفيضي وانزفي العبرات عيني * فأنت فتنتني وجلبت حيني
وألهبت الفؤاد لهيب جمر * بحرقته يذوب الأسودين
فذوقي من فعالك مثل ما قد * أذقت القلب من صدّ وبين
جناية ناظر بالقلب تربى * على فعل الخوارج بالحسين
ومن هذا الباب :
يا جفونا سواهرا أعدمتها * لذة النوم والرقاد جفون
إن للّه في العباد منايا * سلّطتها على العيون العيون
ومنه أيضا :
نظر العيون إلى العيون هو الذي * جعل العيون على القلوب وبالا
ونهيت نومي عن جفوني فانتهى * وأمرت ليلي أن يطول فطالا
ومن هذا الباب :
أمر الهوى ليل الشجيّ فطالا * ونهى الهوى عنه الملام فزالا
والذي ذهبنا إليه أدخل في النسيب من الأول ، فإن الأول في حكم نفسه فإنه الآمر والناهي . والذي ذهبنا إليه بحكم الهوى ، لأن المحبّ لا حكم له مع سلطان الهوى ، فإنه الأقوى .
وللعباس بن الأحنف فيه :
خليليّ ما للعاشقين قلوب * وما للعيون الناظرات ذنوب
ويا معشر العشاق ما أصعب الهوى * إذا كان لا يلقى المحبّ حبيب
“ 308 “
ومن باب الإفراط في الحب قول قيس المجنون :
إن البلاد وما فيها من الشجر * لو بالهوى عطشت لم ترو بالمطر
لو ذاقت الحبّ أرض اللّه لاشتغلت * أشجارها بالهوى فيها عن الثمر
ليس الحديد ولا صمّ الحجار إذا * فكّرت أقوى على البلوى من البشر
كلام في السماع لبعض إخواننا
سمعت صاحبنا أحمد بن مسعود بن شداد المقري الموصلي بمنزلي بمدينة الموصل سنة إحدى وستمائة يقول : السماع سر من أسرار اللّه تعالى التي لا عمارة للقلوب إلا بها ، وهي لطيفة من لطائف الغيوب التي هي قوت القلوب ، فإذا مررت بسربه ، فسر به ، وقف مع أهله على قدم التذلل ، وأمط عنك رداء التذلل ، فإنك لن تدرك الأرب إلا بلزوم الأدب ، ولن تبلغ المقصود إلا بحفظ العهود . ومن رام قضاء الأوطار اقتحم ركوب الأخطار . فإذا برز لك توقيع تقريبه ، فلا تخل تقرى به . فهذه عناية أصلها ثابت في القدم ، وفرعها نابت ظهر إلى الوجود من كمين العدم ، مشيرا إليه في قوله تعالى : أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، فلما كمنت نار قوله في زناد : قالُوا بَلى ، قرعتها صفى الصفا بواسطة هذه الآلات ، فبرقت بارقة من تلك النغمات ، فسمت الأرواح إلى تلك النسمات ، وشفّ الجوهر الروحاني في العرض الإنساني . فلما تنسمت الأرواح وسمت إلى ما به ، وسمت ، طارت بأجنحة الطرب إلى سماء الطلب ، فرتعت في رياض الأنس ، وكرعت في حياض القدس . فلما انبسطت على بساط البسيطة ، وتعززت بعزّ العزائم النشيطة ، تثبتت أقدام أقدامها ، وناحت حمام حمامها ، وغرّدت بلابل بلابلها ، وأنشدت بلسان حالها :
أبدا تحنّ إليكم الأرواح * ووصالكم ريحانها والرّاح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم * وإلى زمان لقاكم ترتاح
وارحمتا للعاشقين تحمّلوا * ثقل المحبة والهوى فضّاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم * وكذا دماء البائحين تباح
حكاية الضّادي
حدثنا أحمد بن مسعود ، انا رسلان البغدادي قال : كان رجل بالبصرة يكثر من ذكر الضادات حتى وسم بالضادي ، وكان قاضيها يتمنى أن يقع له إليه حاجة ليسمع كلامه ، فدخل عليه بعض حجابه يوما وقال :
“ 309 “
يا سيدي ، الضادي بالباب ، قال : ائذن له ، فمحصول ما يتكلم به ضادات ، وهو أن يقول : السلام عليك أيها القاضي ، إن فلانا ظلمني ، وأنا ضعيف ، فأقول له : الظلم بالظاء وليس بالضاد ، فأقهره ، فدخل عليه وقال : السلام عليك أيها القاضي الفاضل الأفضل ابن الأفضل ، إن ضرار بن ضمرة الضبي اهتضمني ، وعضّني ، وضلع ضلعي ، وأخذ ضيعة لي على الغياض بالضيعي ، اعترضها ضمانا ، ولم يعوّضني عنها ، وأنت أيها القاضي غضبان عليّ ، معرض عني ، نتعرض بعرض عرضك ، أن تمضي إلى ضرار بن ضمرة الضبي وتحضره بحضرتك إحضارا ، وتفرض لي عليه فرضا ، ليخضع ويضرع ، ويعوّضني البعض عن الضمان ، فإني ضعيف متضعّف ، مهضوض من بين الضعفاء ، فاهتضمني بضوضائه .
قال : فأقبل القاضي على خصمه وقال له : إن خصمك هذا لمجنون ، انطلق وخذ الضيعة .
فلما ولى أخذ الضادي بأهدابه وأنشد :
أيا من أقرض القاضي * له أرضي لكي يرضى
أهذا في القضا فرض * بأن ترضى ولا أرضى
قضى قاضيك في أرضي * قضاء ليت لم يقضى
فأين المعوض المقروض * لا عوضا ولا قرضا
ضعاف مهضم ضيم * مضت ضيعتهم أيضا
قال : فاستفرغ القاضي منه ضحكا فوقع له بالضيعة .
خليفة أمن وعدل في حال شغله باللهو والغزل
احتجب عبد الرحمن بقرطبة عن الناس سنين كثيرة في أكل وشرب ولهو وطرب ، فدخل عليه بعض من له عليه إدلال فقال :
يا أمير المؤمنين ، اشتغلت باللهو عما قلّدته من أمور المسلمين ، وفوّض إليك من القيام بهم والنظر في مصالحهم ، ورعي حق اللّه فيهم ، فقال :
يا هذا ، السّبل آمنة ؟ قال : نعم ، قال : قاضيكم يعدل ؟ قال : نعم ، قال : عدوكم مقهور ؟ قال : نعم ، قال : فما تريدون مني ؟
ودخل على هذا الخليفة يوما أرسال الإفرنج ، وقد ظهر لهم من عظيم الملك ما يرغبهم ، بسط لهم الحصر من باب قرطبة إلى باب الزهراء قدر فرسخ ، وجعل الرجال عن يمين الطريق ويساره ، بأيديهم السيوف الطوال العراض مجرّدة ، يجمع بين سيف الأيمن
“ 310 “
وسيف الأيسر حتى صارت كعقد الحنايا ، وأمر بالإرسال أن يمشوا بين تلك في ظلالها ، كأنها ساباط ، فدخلهم من الرعب ما لا يعلمه إلا اللّه تعالى ، فلما وصلوا إلى باب الزهراء فرش لهم الديباج من باب المدينة إلى مقعده على تلك الحالة من الترهيب ، وأقام في مواضع مخصوصة حجّابا كأنهم الملوك ، قعودا على كراسي مزخرفة ، عليهم الديباج والحرير ، فما أبصروا حاجبا إلا سجدوا له يتخيلون أنه الخليفة ، فيقال لهم : ارفعوا رءوسكم ، هذا عبد من عبيده ، إلى أن وصلوا به إلى ساحة مفروشة بالرمل ، والخليفة في وسطها قاعد ، عليه ثياب خلق قصار ، يساوي كل ما عليه أربعة دراهم ، وهو قاعد على الأرض مطرق وبين يديه مصحف وسيف ونار . فقيل للرسل : هذا السلطان ، فسجدوا له ، فرفع رأسه إليهم قبل أن يتكلموا وقال :
إن اللّه أمرنا يا هؤلاء أن ندعوكم إلى هذا ، وأشار إلى المصحف كتاب اللّه ، فإن أبيتم فبهذا ، وأشار إلى السيف ، ومصيركم إذا قتلناكم إلى هذا ، وأشار إلى النار . فملئوا منه رعبا ، وأمر بإخراجهم ، ولم يبدو كلاما ، فصالحوه على ما أراد .
هكذا يعزّ دين اللّه وإلا فلا .
ومن باب النصائح
ما كتبنا به إلى السلطان عز الدين الغالب ، بأمر اللّه كيكاوس ، جوابا عن كتاب وصل إلينا منه أيّده اللّه :
بسم اللّه الرحمن الرحيم .
وصل الاهتمام السلطاني الغالبي بأمر اللّه العزيز ، أدام اللّه عدل سلطانه ، إلى والده الداعي له ، فيتعين عليه الجواب بالوصية الدينية ، والنصيحة السياسية الإلهية ، على قدر ما يعطيه الوقت ، ويحتمله الكتاب ، إلى أن يقدر الاجتماع ، ويرتفع الحجاب .
فقد صحّ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :
" الدين نصيحة " . قالوا : لمن يا رسول اللّه ؟ فقال : « للّه ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم » . وأنت يا هذا بلا شك من أئمة المسلمين ، قد قلّدك اللّه هذا الأمر ، وأقامك نائبا في بلاده ، ومتحكما بما توفق إليه في عباده ، ووضع لك ميزانا مستقيما تقيمه فيهم ، وأوضح لك محجّة بيضاء تسلك بهم عليها وتدعوهم إليها ، وعلى هذا الشرط ولّاك وعليه بايعناك ، فإن عدلت فلك ولهم ، وإن جرت فعليك وعليهم ، فاحذر أن أراك غدا يوم القيامة
“ 311 “
بين أئمة المسلمين من أخسر الناس أعمالا ، ولا يكون شكرك لما أنعم اللّه به عليك من استواء ملكك بكفران النعم ، واستظهار المعاصي ، وتسليط نواب السوء على الرعية الضعيفة ، فيحتكمون فيهم بالجهالة والأغراض ، وأنت المسؤول عن ذلك .
فيا هذا ، قد أحسن اللّه إليك وخلع النيابة عليك ، فأنت نائب اللّه في خلقه ، وظله الممدود في أرضه ، فانصف المظلوم من الظالم ، ولا يغرنك أن وسّع اللّه عليك سلطانك ، وسوّى لك البلاد ووطّاها ، مع إقامتك على المخالفات والجور وتعدّي الحدود ، فإن ذلك الاتساع مع بقائك على مثل هذه الصفات إمهال من الحق لا إهمال ، وما بينك وبين أن تقف على أعمالك إلا بلوغ الأجل المسمى ، وتصل إلى الدار التي سافر إليها آباؤك وأجدادك ، فلا تكن من النادمين ، فإن الندم في ذلك الوقت غير نافع .
يا هذا ، ومن أشد ما يمر على الإسلام والمسلمين ، وقليل ما هم ، رفع النواقيس ، والتظاهر بالكفر ، وإعلاء كلمته ببلادك ، ورفع الشروط التي اشترطها أمير المؤمنين وإمام المتقين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه على أهل الذمة ، من أن لا يحدثوا في مدينتهم ولا حولها كنيسة ، ولا ديرا ، ولا قلة ، ولا صومعة راهب ، ولا يجددوا ما خرب ، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزل بها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعموهم ، ولا يأووا جاسوسا ، ولا يكتموا غشا للمسلمين ، ولا يعلموا أولادهم القرآن ، ولا يظهروا شركا ، ولا يمنعوا ذوي قرابتهم من الإسلام إن أرادوه ، وأن يوقروا المسلمين ، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس ، ولا يتشبّهوا بالمسلمين ، في شيء من لباسهم في قلنسوة ، ولا عمامة ، ولا نعلين ، ولا فرق شعر ، ولا يتسمّوا بأسماء المسلمين ، ولا يتكنوا بكناهم ، ولا يركبوا سرجا ، ولا يتقلدوا سيفا ، ولا يتخذوا شيئا من السلاح ، ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية ، ولا يبيعوا الخمور ، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم ، وأن يلزموا زيهم حيث ما كانوا ، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم ، ولا يظهروا صليبا ، ولا شيئا من كتبهم في طرق المسلمين ، ولا يجاوروا موتى المسلمين بموتاهم ، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيفا ، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين ، ولا يخرجوا شعانين ، ولا يرفعوا مع موتاهم أصواتهم ، ولا يظهروا النيران معهم ، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين .
فإن خالفوا في شيء مما شرط فلا ذمة لهم ، وقد حل للمسلمين ما يحل من أهل المعاندة والشقاق .
فهذا كتاب الإمام العادل عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه .
“ 312 “
وقد ثبت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : « لا يبنى كنيسة في الإسلام ، ولا يجدّد ما خرب منها » . فتدبر كتابي ترشد إن شاء اللّه تعالى ، ما لزمت العمل به . والسلام .
وكتب إليه أيضا :
إذا أنت أعززت الهدى وتبعته * فأنت لهذا الدين عزّ كما تدعى
وإن أنت لم تحفل به وتركته * فأنت مذل الدين تخفضه وضعا
فلا تأخذ الألقاب زورا فإنه * لتسأل عنها يوم يجمعكم جمعا
يقال لعزّ الدين أعززت دينه * ويسأل دين اللّه عن عزّكم قطعا
فإن شهد الدين العزيز بعزّكم * تكن مع دين اللّه في عزّه شفعا
وإن قال دين اللّه كنت بملكه * ذليلا وأهلي في ميادينه صرعى
وما زلت في سلطانه ذا مهانة * وفي زعمه بي أنه محسن صنعا
فما حجّة السلطان إن كان قوله * كما قلت فلتسكب لما قلته الدمعا
وأدمن لباب اللّه إن كنت تبتغي * تجاوره عن ذينك الضرب والقرعا
عسى جوده يوما يجود بنفحة * فيبرز عفو اللّه يدفعه دفعا
فيا ربّ رفقا بالجميع فيا لها * إذا اجتمع الخصمان من وقعة شنعا
فأنت إمام المتّقين ورأسهم * إذا لم تزل تجبر لدين الهدى صدعا
لكم نائب في الأمر أصبح ملحدا * وأضحى لأهل الدين يقطعهم قطعا
فما لك لم تغلبه واسمك غالب * وما لك لم تعزله إذ آثر النفعا
فيها أيها السلطان حقق نصيحتي * لكم وارعني منكم لما قلته سمعا
فإني لكم واللّه أنصح ناصح * أذود الردى عنكم وأمنعه منعا
وأجلب للسلطان من كل جانب * من الدين والدنيا المعارف والنفعا
حكم منثورة
أفضل الأعمال ما أثّل مجدا ، وأجمل الطلب ما حصّل حمدا . شرّ العمل ما هدم فخرا ، وشر الطلب ما قبح ذكرا . الحليم من لم يكن حلمه لفقد النصرة وعدم القدرة ، والجواد من لم يكن جوده لدفع الأعداء وطلب الجزاء ، والشجاع من لم تكن شجاعته لفوت الفرار وفقد الأنصار ، والصّموت من لم يكن صمته لكلة لسانه وقلة بيانه ، والمنصف من لم يكن إنصافه لضعف يده وقوة خصمه ، والمحبّ من لم تكن محبته لبذل معونة أو حذف مئونة . من خان أخاه زهد في أخوّته ، ومن أعان عليه خرج من مروءته .
“ 313 “
وروينا من حديث ابن ثابت قال : أنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن رزق البزّار ، وأبو الحسين علي بن محمد بن عبد اللّه بن بشران المعدل ، نبأ إسماعيل بن محمد الصفّار ، نبأ أبو يحيى بن أسد المروزي ، نبأ معروف الكرخي قال :
قال بكر بن حبيش : إن في جهنم لواد تتعوّذ جهنم من ذلك الوادي كل يوم سبع مرات ، وإن في الوادي لجبّا يتعوذ الوادي وجهنم من ذلك الجب كل يوم سبع مرات ، وإن في الجب لحية يتعوّذ الجب والوادي وجهنم من تلك الحية كل يوم سبع مرات . يبدأ بفسقة حملة القرآن فيقولون : أي ربّ ، بدئ بنا قبل عبدة الأوثان ؟ فيقال لهم : ليس من يعلم كمن لا يعلم .
وروينا من حديثه أيضا ، عن ابن رزق قال : حدثنا أبو محمد بن جعفر محمد بن نصر الخلدي ، حدثني إبراهيم بن نصر المنصوري مولى منصور بن المهدي ، حدثني إبراهيم بن بشار الصوفي الخراساني خادم إبراهيم بن أدهم قال :
وقف رجل مرة على إبراهيم بن أدهم فقال : يا أبا إسحاق ، لم حجبت القلوب عن اللّه عز وجل ؟ فقال : لأنها أحبّت ما أبغض اللّه ، أحبت الدنيا ، ومالت إلى دار الغرور واللهو واللعب ، وتركت العمل لدار فيها حياة الأبد ، في نعيم لا يزول ولا ينفد ، خالدا مخلّدا ، في ملك لا نفاذ له ولا انقطاع .
ومن باب النسيب
ما قاله ابن الرومي في حلاوة الحب ومرارته . قال أبو بكر الصيدلاني في روايتنا :
أنشدنا أحمد الكاتب قال : أنشدني ابن الرومي :
وأزرق الفجر يبدو قبل أشهبه * وأول الغيث قطر ثم ينسكب
فمثل ذلك ودّ العاشقين هوى * بالمزح يبدو وبالإدمان يلتهب
وبلسان الوسوسة في هذا الباب :
الحبّ حلو أمرّته عواقبه * وصاحب الحب صبّ القلب ذائبه
استودع اللّه من بالقلب ودّعني * يوم الرحيل ودمع العين سائله
ثم انصرفت وداعي الحب يهتف بي * أرفق عليك فقد عزّت مطالبه
ولنا في هذا الباب :
الحبّ حلو إذا ما حبّنا وصلا * كما يمرّ إذا محبوبنا هجرا
“ 314 “
منوّع الطعم في الحالات فهو كمث * ل الماء يتبع لون الكأس إن نظرا
وقال الحسن بن هانئ :
أوائل الحب حلاوات * وآخر الحب مرارات
ومشرع الحب دواعي الردى * ومنهل الحب بليّات
كم قد أباد الحب من معشر * أمسوا وهم في التراب أموات
فسوف إن دام بنا ذا الهوى * أموت واللّه كما ماتوا
ولبعضهم :
الحبّ يترك من أحبّ مدلّها * حيران أو يقضى عليه فيسرع
وقال الآخر :
ألا قاتل اللّه الهوى كيف يقتل * وكيف بأكباد المحبين يفعل
فلا تعذلوني في هواي فإنني * أرى سورة الأبطال في الحب تبطل
وقال أبو حفص في هذا الباب :
ليس أمر الهوى يدبّر بالراء * ي ولا بالقياس والتفكير
إنما الحب والهوى خطرات * محدثات الأمور بعد الأمور
ليس خطب الهوى بخطب يسير * ليس ينبيك عنه مثل خبير
ومن قول الكميت في هذا الباب :
الحبّ فيه حلاوة ومرارة * سائل بذلك من تطعّم أو سقي
ما ذاق بؤس معيشة ونعيمها * فيما مضى أحد إذا لم يعشق
وقال بعضهم فيه :
رأيت أخا الحب الذي ليس يقصر * يقال له أعمى وإن كان يبصر
ويخبط كالعشواء في حالك الدجى * سواء عليه السهل والمتوعر
ومن باب طعم الحب :
وللحبّ أغصان تراها نظيرة * وفي طعمها للذائقين ذعاف
رأيت المنايا في عيون أو أنس * تميت بها الأرواح وهي ضعاف
ومن ذلك :
وقيل الهوى عذب فلما وردته * وردت كريها لا يسوغ لشاربه
وإني رأيت الدهر حين صحبته * محاسنه مقرونة بمعايبه
“ 315 “
إذا سرّني في أول الأمر لم أزل * على حذر من غمّه في عواقبه
ومن ذلك :
الحبّ حلو البدء مرّ العقب * وأصعب الأدواء داء الحبّ
وصاحب الحبّ حليف الكرب * مذلّة العقل عميد القلب
رؤيا عاتكة عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة فيما جرى على المشركين في يوم بدر
روينا من حديث الواحدي قال : نبأ أحمد بن الحسين الحيري ، ثنا أبو العباس أحمد بن يعقوب ، نبأ أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، نبأ يونس بن بكير ، نبأ محمد بن إسحاق ، نبأ حسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن عباس ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال :
وحدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : رأت عاتكة بنت عبد المطلب فيما يرى النائم ، قبل مقدم ضمضم على قريش بمكة بثلاث ليال ، رؤيا أعظمتها ، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت : يا أخي ، لقد رأيت الليلة رؤيا ، ليدخلنّ على قومك شرّ وبلاء . قال : وما هي ؟ قالت : رأيت فيما يرى النائم أن رجلا أقبل على بعير له ، فوقف بالأبطح ، فقال : انفروا يا آل عذراء إلى مصارعكم في ثلاث .
فأرى الناس اجتمعوا إليه ، ثم أرى بعيرا دخل به المسجد ، واجتمع إليه أناس . ثم مثل به بعيره ، فإذا هو على رأس الكعبة ، فقال : يا آل عذراء ، انفروا إلى مصارعكم في ثلاث . ثم إن بعيره مثل به على رأس أبي قبيس فقال : انفروا يا آل عذراء إلى مصارعكم في ثلاث . ثم أخذ صخرة فأرسلها من رأس الجبل ، فأقبلت تهوي حتى إذا كانت في أسفله ارفضّت ، فما بقيت دار من دور قومك ولا بيت إلا دخل فيه بعضها . قال العباس : واللّه إن هذه لرؤيا فاكتميها . قالت : وأنت فاكتمها .
فخرج العباس من عندها ولقي الوليد بن عتبة ، وكان له صديقا ، فذكرها له واستكتمه إياها ، فذكرها الوليد لابنه فتحدث بها ، فغشى الحديث . قال العباس : فغدوت لأطوف بالبيت ، فدخلت المسجد فإذا أبو جهل في نفر من قريش يتحدثون عن رؤيا عاتكة . فقال أبو جهل : يا أبا الفضل ، متى حدثت هذه النهية فيكم ؟ فقلت : وما ذاك ؟
قال : رؤيا رأتها عاتكة بنت عبد المطلب . أما رضيتم أن تنبأ رجالكم حتى تنبأ نساؤكم متربص بكم هذه الثلاث التي ذكرتها عاتكة ؟ فإن تكن عاتكة تقول حقا فسيكون ، وإلا كتبنا عنكم كتابا أكذب بيت في العرب . قال العباس : فما كان مني إليه من كبير شيء إلا أني
“ 316 “
جحدت ذلك وأنكرته . قلت : ما رأيت شيئا ولا سمعت بها . فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني ، فقلن : صرتم لمثل هذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ، ثم قد تناول النساء ، وأنت تسمع ، فلم يكن عندك في ذلك غيرة . فقلت : واللّه لقد صدقني ، وما كان عندي في ذلك من غيرة ، إلا أني أنكرت ما قال ، فلا تعرضت له ، فإن عاد لأكفينكه .
فغدوت في اليوم الثالث أتعرضه ليقول شيئا فأشاتمه ، فو اللّه إني لمقبل نحوه ، وكان رجلا حديد النظر حديد اللسان ، إذ ولّي نحو الباب يشتد . فقلت في نفسي : ما له لعنه اللّه ؟
أكل هذا فرقا من أن أشاتمه ؟ وإذا هو سمع ما لم أسمع . سمع صوت عمرو بن ضمضم الغفاري وهو يصرخ بباطن الوادي ، واقف على بعيره بالأبطح قد رحله وشق قميصه وجدع بعيره ، يقول : يا معشر قريش ، اللطيمة اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان ، وتجارتكم قد عرض لها محمد وأصحابه ، الغوث الغوث . فشغله ذلك عني ، وشغلني عنه ما جاء من الأمر .
وتجهز الناس سراعا ، وقالوا : أيظن محمد وأصحابه أن يكون كعير ابن الحضرمي ؟
كلا . واللّه ليعلمن غير ذلك . فكانوا بين رجلين ، إما خارجا وإما باعثا مكانه رجلا .
وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد . فأصابت قريش ما أصابها يوم بدر من قتل أشرافهم وأسر جبابرتهم .
قال ابن نجيح : كان أمية بن خلف قد أجمع العقود ، وكان شيخا كبيرا ثقيلا ، فأتاه عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المسجد بين ظهري قومه بمجمرة يحملها فيها نار ، حتى وضعها بين يديه فقال : يا أبا علي استجمر ، فإنما أنت من النساء . فقال : قبّحك اللّه ، وقبّح ما جئت به . ثم تجهز وخرج مع الناس .
وكان سبب تثبّط أمية عن الخروج ما رويناه أيضا من حديث الواحدي ، قال : نبأ أبو نصر أحمد بن محمد بن إبراهيم ، انا عبد اللّه بن بطاء ، أنا أبو القاسم ابن بنت منيع ، نبأ يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، نبأ خلف بن الوليد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد اللّه بن مسعود ، قال : انطلق سعد بن معاذ معتمرا ، فنزل على أمية بن خلف ، وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد بن معاذ . فقال أميد لسعد : انتظر إذا انتصف النهار وغفل الناس ، انطلقت . فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل فقال : من هذا الذي يطوف معك بالكعبة ؟ فقال : سعد ، فقال أبو جهل : تطوف بالكعبة آمنا وقد آويت محمدا وأصحابه ؟ قال : نعم . فتلاحيا بينهما . فقال أمية لسعد : لا
“ 317 “
ترفع صوتك على أبي الحكم ، فإنه سيد أهل هذا الوادي . فقال له سعد : واللّه لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك إلى الشام . فجعل أمية يقول لسعد : لا ترفع صوتك ، وجعل يمسكه . فغضب سعد ، فقال : دعنا عنك ، فإني سمعت محمدا صلى اللّه عليه وسلم يزعم أنه قاتلك . قال : إياي ؟ قال : نعم . قال : واللّه ما يكذب محمد . فرجع إلى أم صفوان ، فقال :
أما تعلمين ما قال أخي اليثربي ؟ قالت : وما قال ؟ قال : زعم أن محمدا يزعم أنه قاتلي .
قالت : واللّه ما يكذب محمد . فلما خرجوا إلى بدر وجاء الصريخ ، فقالت له امرأته : أما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي ؟
فقال له أبو جهل : إنك من أشرف أهل الوادي ، فسر معنا يوما أو يومين ، فسار معهم ، فقتله .
وقد ذكرنا قصة غزوة بدر في هذا الكتاب ، ومقتل أمية بن خلف ، وغيره فيها .
قدوم حمير على أبي بكر الصدّيق رضي اللّه عنه
روينا من حديث الرملي ، عن الحسين بن زياد ، عن أحمد بن عبد اللّه ، عن محمد بن يوسف ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك ، قال : قدمت حمير على أبي بكر رضي اللّه عنه معها ذو الكلاع الحميري ، بعدد كثير من أهل اليمن وعدّة حسنة . وجاءت مذحج فيها قيس بن هبيرة المرادي ، ومعه جمع عظيم من قومه ، فيهم الحجاج بن عبد يغوث ، وجاء حابس بن سعد الطائي في عدد كثير من طيّ ، وجاءت الأزد في عدد كثير وجمع عظيم ، فيهم جندب بن عمرو بن جمحة الدوسي ، وفيهم أبو هريرة الدوسي قيس .
فأمّر أبو بكر رضي اللّه عنه ميسرة بن مسروق العبسي عليهم ، وجاء ابن أشيم في بني كنانة .
فأما ربيعة وتميم فإنهم كانوا بالعراق ، وكانت دارهم عراقية ، وقلّ من شهدها منهم .
وكان أعظمهم وأجلّهم أهل اليمن . فمن هناك كثروا بالشام وكانوا سكانها وأهلها .
ومن باب النسيب
وما سرّني أني أطيق تصبّرا * ولا أنني أمسيت خلوا من الحبّ
إذا ما سألت اللّه عنك تسلّيا * فلست حقيقا بالإجابة من ربي
السماع في ذلك : تقول النفس الإنسانية اللطيفة الربانية الموجودة عن الروح الإلهي ، من قوله تعالى : وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي * لهذا الروح ، لما طال حبسها في هذا الهيكل الضيّق ، عن السراج في تلك المسارح الواسعة الفضاء ، الصافية الإضاء ، حيث الروح
“ 318 “
الأعلى ، والملائكة العلى ، بالمكانة الزلفى ، والنظر الأجلى ، ما سرّني أن أطيق تصبّرا عن اللحوق ، ولا أنني خلو من تعلق الهمم به والاشتياق إليه ، وكيف لا يكون ذلك مني وهو أصلي وكلي ؟ ولما تحيلت الأغراض منه عني بطول الحبس في عالم التركيب الأسفل ، تعطين التخليص والتسخير ، أردت إقامة الحجة على كل خاطر يحرّضني عن العدول عن هذه الحجة ، وعلمت أني لا بد لي من الرجوع إليه والنزول عليه ، والتخليص من هذه السّدفة الترابية واقع على كل حال ، والإقامة في عالم الفساد على الدوام محال .
سألت اللّه في السلوان عن هذا التعلق بالتضرع والإنابة ، وقد تحققت في ذلك عدم الإجابة ، فأرضيت الفريقين ، هيهات وكيف يسلو فرع عن أصله ؟ ولولاه ما غذاه الماء ، ولا امتدت إليه الأفياء .
ومنه قول الآخر :
يعيّرني قومي بذلّي في الهوى * وكم من ذليل في الهوى يكسب العزّا
إذا كنت تهوى فاجعل الذلّ جنّة * فإني رأيت الكبر من ذي الهوى عجزا
السماع في ذلك : لما كان الهوى محله النفس ، وكان تعلقه بالمجانس لها ، عيّره أهل الحجاب بذلته لمجانسه وشكله ، فقال لهم : ليس الأمر كما تزعمون ، فإن التعلق وإن كان بالمناسب ، فالمناسب هنا قوله : خلق آدم على صورته ، وليس كمثله شيء ، والتجلي في الصور مشروع ، والمناسبة في صور التجلي وهو روحها ، ومحبتها تنتج محبته ، ومحبته تورث كون المحبة من حيث هو حبيب له ، سمعا له وبصرا .
فأي عزّ ؟ وأية قوة ؟ وأي عظم يقاوم عزّ من هو مع الحق بهذه المثابة ؟ فهو قوله : وكم من ذليل في الهوى يكسب العزّا ، وذلّ الهوى جنة لهذا العز ، يتعلق الذمّ به دونه ، يقول : وإذا رأيت من يتكبّر في هواه فذلك لعدم مواصلة ، فيرى أن ذلك من كبر نفسه ، وهذا في جناب الحق غير لائق وفي سماع العارفين .
ومن باب النسيب قولنا
ألا يا نسيم الريح بلّغ مها نجد * بأني على ما تعلمون من العهد
وقل لفتاة الحي موعدنا الحمى * غديّة يوم السبت عند ربا نجد
على الربوة الحمراء من جانب الضوى * وعن أيمن الأفلاج والعلم الفرد
فإن كان حقا ما تقول وعندها * إليّ من الشوق المبرّح ما عندي
إليها ففي حرّ الظهيرة نلتقي * بخيمتها سرا على أصدق الوعد
فنلقى ونلقى ما نلاقي من الهوى * ومن شدة البلوى ومن ألم الوجد
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin