الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء 15
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 210 “
أخاف من قوله تعالى : فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * . فقلت : لا جزاك اللّه عن نفسك خيرا ، ولا عن جهلك في تأويلك ، هو ما قلت . وسافر عنّا ، فلحق بأبي مدين ، فأكرمه مدة ، ثم هجره ، وطرده من عنده ، فلما كان بعد عشر سنين ، اجتمعت به بمنزلة بإشبيلية ، وقد بدّل اللّه حالة الموافقة منه بالمخالفة ، والطاعة بالمعصية ، والإيمان بالزندقة ، ففارقته ، وخرج ما عبر به رؤيا أخيه . فنسأل اللّه العافية من كلمة تؤدي إلى الهلكة في دين أو دنيا .
ولبعضهم :
وجرح السيف تأسوه فيبرا * وجرح الدهر ما جرح اللسان
جراحات السنان لها التئام * ولا يلتام ما جرح اللسان
حدّث محمد بن قاسم رواية قال :
تكلم أربعة من الملوك بأربع كلمات ، كأنما رميت عن قوس واحدة .
قال كسرى : أنا على ردّ ما لم أقل أقدر مني على ردّ ما قلت .
وقال ملك الهند : إذا تكلمت بكلمة ملكتني وكنت أملكها .
وقال قيصر : لم أندم على ما لم أقل وقد ندمت على ما قلت .
وقال ملك الصين : عاقبة ما قد جرى به القول أشد من الندم على ترك القول .
ولبعضهم في المعنى :
لعمرك ما شيء علمت مكانه * أحق بسجن من لسان مدلل
على فيك مما ليس يعنيك قوله * بقفل شديد حيث ما كنت أقفل
روينا من حديث المالكي قال : حدثنا أبو صالح ، نبأ علي بن حجر ، قال بعض الحكماء : من طاب ريحه زاد عقله ، ومن نظفت ثيابه قلّ همّه .
روينا من حديث ابن أبي الدنيا ، نبأ محمد بن الحارث ، عن المدائني قال : قالت عائشة رضي اللّه عنها : خلال المكارم عشرة ، تكون في الرجل ولا تكون في ابنه ، وتكون في العبد ولا تكون في سيّده .
صدق الحديث ، وصدق الناس ، وإعطاء السائل ، والمكافأة بالصنائع ، والتذمم للجار والصاحب ، وصلة الرحم ، وقري الضيف ، وأداء الأمانة ، ورأسهن الحياء .
وقال بعضهم : كتمان سرّك يعقبك السلامة ، وإفشاؤك سرك يعقبك الندامة ، والصبر على كتمان السر أيسر من الندم على إفشائه .
“ 211 “
وفي الحكمة : ما أقبح بالإنسان أن يخاف على ما كان في يده اللصوص فيخفيه ، ويمكّن عدوّه من نفسه بإظهار ما في قلبه من سرّ نفسه أو سرّ أخيه .
قال معاوية رضي اللّه عنه : ما أفشيت سرّي إلى أحد إلا أعقبني طول الندامة وشدة الأسف ، ولا أودعته جوانح صدري فحكّمته بين أضلاعي إلا أكسبني مجدا وذكرا وثناء ورفعة .
فقيل : ولا ابن العاص ؟ فقال : ولا ابن العاص .
وكان يقول : ما كنت كاتمه عن عدوّك فلا تظهر عليه صديقك .
يريد ، واللّه أعلم ، ما سمعت أبا بكر بن خلف بن مناف أستاذنا ينشده في مجلسه مرارا .
وفي وصيته أبياتا ويقول :
احذر عدوّك مرة * واحذر صديقك ألف مرة
فلربما هجر الصدي * ق فكان أعلم بالمضرّة
في الخبر المروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من كتم سرّه كانت الخيرة في يده ، ومن عرّض نفسه للتهمة فلا يلومنّ من أساء به الظن . وضع أمر أخيك على أحسنه ، ولا تظنن بكلمة خرجت منه سوءا . وما كافأت من عصى اللّه فيك بأفضل من أن تطيع اللّه جلّ اسمه فيه . وعليك بإخوان الصدق فإنهم زينة عند الرخاء ، عصمة عند البلاء » .
روينا من حديث الدينوري عن الأصمعي ، على ما حدّث عنه الرياشي ، قال : كان يقول أبا الأسود : العمامة جنة في الحرب ، ومكنّة في الحر والقر ، وزيادة في القامة .
أنشدني بعض الأدباء ، وكان إلى جانبه من يحبّه ، فعبته بعض الحاضرين فيه بما لم يحسن
وجهه عند العاتب . فالتفت إلى المحب ، فقال وهو يسمعه :
رأى وجه من أهوى عدوي فقال لي * أجلّك عن وجه أراه كريها
فقلت له وجه الحبيب مراءة * وأنت ترى تمثال وجهك فيها
وذلك بقرطبة ، وكان الحبيب سعيد بن كرز ، والمحب أبو بكر الزهري .
وأنشدنا بعض الأدباء مما أنشده المازني لبعضهم :
لئن كنت محتاجا إلى العلم إنني * إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم * ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوّم * ومن شاء تعويجي فإني معوّج
وما كنت أرضى الجهل خدنا ولا أخا * ولكنني أرضى به حين أحوج
ألا ربما ضاق الفضاء بأهله * وأمكن من بين الأسنّة مخرج
“ 212 “
روينا من حديث ابن ودعان ، قال : نبأ أبو عبد اللّه الصيرفي ، عن محمد بن القاسم ، عن أبي منصور ، عن الحجبي ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ، قال :
سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « يا معشر المسلمين ، شمّروا فإن الأمر جد ، وتأهبوا فإن الرحيل قريب ، وتزوّدوا فإن السفر بعيد ، وخفّفوا أثقالكم فإن وراءكم عقبة كئود لا يقطعها إلا المخفّون . أيها الناس ، إن بين يدي الساعة أمورا شدادا ، وأهوالا عظاما ، وزمانا صعبا ، يتملك فيه الظّلمة ، ويتصدر فيه الفسقة ، فيضطهد الآمرون بالمعروف ، ويضام الناهون عن المنكر . فأعدوا لذلك الإيمان ، وعضّوا عليه بالنواجذ ، والجأوا إلى العمل الصالح ، وأكرهوا عليه النفوس ، واصبروا على الضرّاء ، تقضوا إلى النعيم الدائم » .
أنشد الحطيئة عمر رضي اللّه عنه ، وكعب الأحبار عنده ،
فقال :
من يفعل الخير لا يعدم جوائزه * لا يذهب العرف بين اللّه والناس
فقال كعب : يا أمير المؤمنين ، هذا الذي قاله مكتوب في التوراة . فقال عمر : كيف ذلك ؟
قال : في التوراة مكتوب : من يصنع الخير لا يضيع عندي ، ولا يذهب بيني وبين عبدي .
نسيان النعمة أول درجات الكفر
شعر :
يد المعروف غنم حيث كانت * تحمّلها كفور أم شكور
فعند الشاكرين له جزاء * وعند اللّه ما كفر الكفور
مثل سائر
جزاء سنمار : وكان سنمار هذا رجلا بنّاء ، فبنى للنعمان بن المنذر الخورنق فأعجبه ، وكره أن يبنى مثله لغيره ، فقعد النعمان في أعلاه ، واستدعى سنمارا ، وأخذ يحدّثه ، وغمز بعض خدّامه أن يدفعه من أعلاه ، فسقط فمات ، فقيل فيه :
جزونا بني سعد بحسن بلائنا * جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
مثل سمّن الكلب يأكلك
أخذه بعضهم فقال :
هم سمّنوا كلبا ليأكل بعضهم * ولو ظفروا بالحزم ما سمّوا كلبا
“ 213 “
وقال الآخر :
وإني وقيسا كالسمن كلبه * فخدّشه أنيابه وأظافره
مثل في عي بأقل
وكان بأقل هذا اشترى عنزا بأحد عشر درهما . فقيل له : بكم اشتريت العنز ؟
ففتح كفيه ، وفرّق أصابعه ، وأخرج لسانه ، يريد أحد عشر ، فعيّروه بذلك ،
فقال القائل :
يلومون في حمقه باقلا * كأن الحماقة لم تخلق
فلا تكثروا العذل في عيّه * فللصمت أجمل بالأموق
خروج اللسان وفتح البنان * أحبّ إلينا من المنطق
خبر الظبية التي كلّمت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه ، نبأ أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريف ، نبأ أحمد بن موسى ، عن أنس بن أبي نصر بن عبد اللّه بن محمد بن سيرين بالبصرة ، نبأ زكريا بن يحيى بن خلّاد بن حسان بن أغلب بن تميم حدثني أبي ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن ، عن ضبة بن محصن ، عن أم سلمة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم قالت :
بينما النبي صلى اللّه عليه وسلم في صحراء إذا هاتف يهتف : يا رسول اللّه ، فالتفتّ فلم أر أحدا .
فمضيت غير بعيد ، فإذا الهاتف يهتف : يا رسول اللّه ، فالتفتّ فلم أر أحدا .
فمضيت غير بعيد ، فإذا الهاتف يهتف : يا رسول اللّه ، فاتّبعت الصوت ، فهجمت علي ظبية مشدودة في وثاق ، وإذا أعرابي منجدل في شمله نائم في الشمس .
فقالت الظبية : يا رسول اللّه ، إن هذا الأعرابي صادني قبيلا ، ولي خشفان في هذا الجبل ، فإن رأيت أن تطلقني حتى أرضعهما ، ثم أعود إلى وثاقي .
قال : « أو تفعلين ؟ » ، قالت : عذّبني اللّه عذاب العشار إن لم أفعل . فأطلقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فمضت ، فأرضعت الخشفين ثم عادت .
فبينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوثقها إذ انتبه الأعرابي فقال : بأبي وأمي أنت ، إني أصبتها قبيلا ، فلك فيها من حاجة ؟
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « قلت : نعم » ،
قال : هي لك ، فأطلقها ، فخرجت تعدو في الصحراء فرحا ، وهي تضرب برجلها الأرض ، وتقول : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أنك رسول اللّه .
“ 214 “
ولاية بني إسماعيل الكعبة وأمر جرهم
روينا من حديث أبي الوليد ، حدثني جدي ، نبأ سعيد بن سالم ، عن عثمان بن ساج قال : أخبرني ابن إسحاق قال : ولد لإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام اثنا عشر رجلا وأمهم أسيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي ، فولدت له ثابت ، وقيدار ، وقياس ، وآزر ، وذابل ، ومنشى ، ومشنى ، وطيما ، وقطوار ، وقبس ، وقيدمان ، ومسمع ، وماشي ، ورما .
وكان عمر إسماعيل عليه السلام فيما يذكرون مائة وثلاثين سنة . فمن ثابت بن إسماعيل وقيدار نشر اللّه العرب . وكان أكبرهم قيدار وثابت ابنا إسماعيل . وكان من حديث جرهم وبني إسماعيل ، أن إسماعيل لما توفي دفن في الحجر مع أمه ، فولي البيت ثابت بن إسماعيل ما شاء اللّه أن يليه .
ثم توفي ثابت بن إسماعيل ، فولي البيت بعده مضاض بن عمرو الجرهمي وهو جدّ ثابت بن إسماعيل أبو أمه ، وضمّ بني ثابت بن إسماعيل وبني إسماعيل إليه ، فصاروا مع جدهم مضاض ومع أخوالهم من جرهم ، وجرهم وقطورا يومئذ أهل مكة ، وعلى جرهم مضاض بن عمرو ملكا عليهم ، وعلى قطورا رجل منهم يقال له السميدع ملكا عليهم .
وكانا حين ظعنا من اليمن أقبلا سيّارة ، وكانوا إذا خرجوا من اليمن لم يخرجوا إلا ولهم ملك يقيم أمرهم .
فلما نزلا مكة ، رأيا بلدا طيبا ، وإذا ماء وشجر ، فأعجبهما ، فنزلا به ، فنزل مضاض بن عمرو بمن معه من جرهم أعلى مكة وقيقعان ، فحاز ذلك . ونزل السميدع أجيادين وأسفل مكة .
وكان مضاض بن عمرو يعشر من دخل مكة من أسفلها ، ومن كدى ، وكل في قومه على جباله لا يدخل واحد منهما على صاحبه في ملكه .
ثم إن جرهم وقطورا بغى بعضهم على بعض ، وتنافسوا الملك بها ، واقتتلوا بها ، حتى نشبت أو شبّت الحرب بينهم . وولاة الأمر بمكة مضاض بن عمرو ، وبنو ثابت بن إسماعيل ، وبنو إسماعيل ، وإليه ولاية البيت دون السميدع . فلم يزل بهم البغي حتى سار بعضهم إلى بعض ، فخرج مضاض بن عمرو من قيقعان في كتيبة سائرا إلى السميدع ، ومعه كتيبة عدّتها من الرماح والدرق والسيوف والجعاب ، تقعقع بذلك .
ويقال : ما سمّيت قيقعان إلا بذلك .
وخرج السميدع بقطورا من أجياد معه الخيل والرجال . ويقال : ما سمي أجياد إلا لخروج الخيل الجياد مع السميدع حتى التقوا بفاضح . فاقتتلوا قتالا شديدا ، فقتل السميدع
“ 215 “
وفضحت قطورا . ويقال : ما سمي فاضح فاضحا إلا لذلك . ثم إن القوم تداعوا إلى الصلح ، فساروا حتى دخلوا المطابخ شعبا بأعلى مكة ، يقال له شعب عبد اللّه بن عامر بن كرين بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس . فاصطلحوا بذلك الشعب ، وأسلموا الأمر إلى مضاض بن عمرو . فلما جمع عمرو أهل مكة وصار ملكها دون السميدع ، نحر للناس وأطعمهم ، فأطبخ للناس فأكلوا . فيقال : ما سمي المطابخ إلا لذلك .
قال : فكان الذي كان بين مضاض بن عمرو والجرهمي في ذلك الحرب بذكر السميدع وقتله وبغيه والتماسه ما ليس له :
ونحن قتلنا سيد القوم عنوة * فأصبح فيها وهو حيران موجع
وما كان يبقى أن يكون سواءنا * بها ملك حتى أتانا السميدع
فذاق وبالا حين جاول ملكنا * وعالج منّا غصّة تتجرع
فنحن عمّرنا البيت كنا ولاته * نحامي عنه من أتانا وندفع
وكنّا ملوكا في الدهور التي مضت * ورثنا ملوكا لا ترام فتوضع
قال أبو الوليد : قال ابن إسحاق : وقد زعم بعض أهل العلم إنما سمّيت المطابخ لما كان تبّع نحر بها ، وأطعم بها ، وكانت منزله . قال : ثم نشر اللّه بني إسماعيل بمكة ، وأخوالهم جرهم إذ ذاك الحكّام بها ، وولاة البيت ، كانوا كذلك بعد ثابت بن إسماعيل .
فلما ضاقت عليهم مكة ، وانتشروا بها ، انبسطوا في الأرض ، وابتغوا المعاش والتفسح في الأرض .
ولا يأتون قوما ، ولا ينزلون بلدا ، إلا أظفرهم اللّه عليهم بدينهم ، فوطئوهم وغلبوهم عليها ، حتى ملكوا البلاد ، ونفوا عنها العماليق ، ومن كان ساكنا بلادهم التي كانوا اصطلحوا عليها من غيرهم . وجرهم على ذلك بمكة ولاة البيت لا ينازعهم إياه بنو إسماعيل لخئولتهم وقرابتهم ، وإعظام الحرم أن يكون فيه بغي وقتال .
قال أبو الوليد : وحدثني بعض أهل العلم ، قالوا : كانت العماليق هم ولاة الحكم بمكة ، فضيّعوا حرمة الحرم ، واستحلوا منه أمورا عظاما ، ونالوا ما لم يكونوا ينالوا ، فقام رجل منهم يقال له عموق فقال : يا قوم ، اتقوا اللّه على أنفسكم ، فقد رأيتم وسمعتم من أهلك من صدر الأمم قبلكم ، قوم صالح ، وهود ، وشعيب ، فلا تفعلوا ، وتوصلوا ، فلا تستخفوا بحرمة حرم اللّه ، وموضع بيته ، وإياكم والظلم فيه والإلحاد ، فإنه ما سكنه أحد قد فظلم فيه وألحد إلا قطع اللّه دابرهم ، واستأصل شأفتهم ، وبدّل أرضها غيرهم ، حتى لا يبقى لهم باقية . فلم يقبلوا منه ذلك ، وتمادوا في هلكة أنفسهم .
قالوا : ثم إن جرهما وقطورا خرجوا سيّارة من اليمن ، فأجدبت عليهم ، فساروا
“ 216 “
بذراريهم وأنفسهم وأموالهم ، وقالوا : نطلب مكانا فيه مرعى نسمّن فيه ماشيتنا ، فإن أعجبنا أقمنا به ، فإن كل بلد نزل به أحد ومعه ذريّته وماله فهو وطنه ، وإلا رجعنا إلى بلادنا .
فلما قدموا مكة وجدوا ماء معينا ، وعضاها ملتفة من سلم وسمر ، ونباتا يسمّن مواشيهم ، وسعة من البلاد ، ودفاء من البرد في الشتاء .
فقالوا : إن هذا الموضع يجمع لنا ما نريد . فأقاموا مع العماليق ، فكان لا يخرج من اليمن قوم إلا ولهم ملك يقيم أمرهم ، وكان ذلك سنّة فيهم ، ولو كانوا نفرا يسيرا .
وكان مضاض بن عمرو ملك جرهم ، والمطاع فيهم .
وكان السميدع ملك قطورا ، فنزل مضاض بن عمرو على مكة ، فكان يعشر من دخلها من أعلاها ، وكان ناحيتهم وجه الكعبة ، الركن الأسود ، والمقام ، وموضع زمزم ، مصعدا يمينا وشمالا ، وقيقعان إلى أعلى الوادي .
ونزل السميدع أسفل مكة ، وإلى أجيادين ، وكان يعشر من دخل مكة من أسفلها . فكان حوزهم المسفلة ظهر الكعبة ، والركن اليماني والغربي ، وأجيادين ، والثنية إلى الرمضة . فبنيا فيها البيوت ، واتّسعا في المنازل ، وكثروا على العماليق ، فنازعتهم العماليق ، فمنعتهم جرهم ، وأخرجوهم من الحرم كله ، فكانوا في أطرافه لا يدخلونه . فقال لهم صاحبهم عموق : ألم أقل لكم لا تستخفوا بحرمة الحرم فغلبتموني ؟
فجعل مضاض والسميدع يقطعان المنازل لمن ورد عليهما من قومهما ، وكثروا ، وأعجبهم البلاد ، وكانوا قوما عربا ، وكان اللسان عربيا .
وكان إبراهيم خليل اللّه يزور إسماعيل ، فلما سمع بلسانهم وأعرابهم ، سمع كلاما حسنا ، ورأى قوما عربا ، وكان إسماعيل قد أخذ بلسانهم .
أمر إسماعيل أن ينكح فيهم ، فخطب إلى مضاض بن عمرو بنته دعلة ، فزوّجه إياها ، فولدت له عشر ذكور ، وهي زوجته التي غسلت رأس إبراهيم حين وضع رجله على المقام .
قال : وتوفي إسماعيل ، وترك ولدا من دعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي ، فقام مضاض بأمر ولد إسماعيل وكفلهم ، لأنهم بنو ابنته ، فلم يزل أمر جرهم يعظم بمكة ، فكانوا ولاة البيت وحجابه ، وولاة الأحكام بها ، ثم إن جرهما استخفت بأمر البيت والحرم ، وارتكبت أمورا عظاما وأحدثوا إحداثا لم تكن ، فقام مضاض بن عمرو بن الحرث بن مضاض فيهم فقال :
“ 217 “
يا قوم ، احذروا البغي فإنه لا بقاء لأهله ، قد رأيتم من كان قبلكم من العماليق ، استخفوا بأمر الحرم فسلطكم اللّه عليهم فأخرجتموهم ، فلا تستخفوا بحق الحرم وحرمة بيت اللّه ، ولا تظلموا من دخله وجاءه معظّما ، أو جاء بائعا ، أو مترغّبا في جواركم ، فإنكم إن فعلتم ذلك تخوّفت أن تخرجوا منه خروج ذلّ وصغار .
فقال له مجدع : من الذي يخرجنا منه ؟ ألسنا أعز العرب وأكثرهم رجالا وسلاحا ؟
فقال له مضاض :
إذا جاء الأمر بطل ما تقولون ، فلم يقصروا عن شيء مما كانوا يصنعون ، وكانت لهم خزانة بئر في بطن البيت يلقي فيه الحلي والمتاع الذي يهدى له ، وهو يومئذ لا سقف له ، فتواعد له خمسة نفر من جرهم أن يسرقوا ما فيه ، فقام على كل زاوية من البيت رجل منهم ، واقتحم الخامس ، فجعل اللّه أعلاه أسفله ، وسقط منكسا فهلك ، وفرّ الأربعة الآخرون .
ومن ذلك الوقت بعث اللّه حية سوداء الظهر بيضاء البطن ، رأسها مثل رأس الجدي ، فحرست البيت خمسمائة سنة .
كتاب حكيم إلى حكيم
روينا من حديث الدينوري ، عن محمد بن إسحاق ، نبأ هارون بن معروف قال :
كتب حكيم إلى حكيم :
أما بعد ، فقد أصبحنا وبنا من نعم اللّه ما لا نحصيه ، ولا ندري أيهما أشكر : أشكر جميل ما ينشر ؟ أم قبيح ما يستر ؟
وحدثنيه أيضا عن محمد بن يونس ، عن الأصمعي قال : قيل لمحمد بن واسع :
كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت موفورا بالنّعم ، وربنا يتحبب إلينا وهو غني عنّا ، ونتبغّض إليه بالمعاصي ونحن إليه فقراء .
ألا لو سمعت البدر بن المختار يقول ، وقد رأى عليّ ثوبا أحمر : الحمرة أجمل ، والخضرة أنبل ، والسواد أهول ، والبياض أفضل .
حدثنا يونس بن يحيى ، نبأ محمد بن عمرو بن يوسف ، نبأ أبو بكر بن ثابت ، عن أحمد بن محمد بن إبراهيم ، عن أبي عصمة محمد بن أحمد بن عباد العبادي ، عن أبي علي الحسين بن محمد بن مصعب ، عن محمد بن عبد اللّه الواسطي ، عن العلاء بن عبد
“ 218 “
الجبار ، عن نافع بن الجمحي قال : قالت أم محمد بن المنكدر لابنها : يا بنيّ ، إني أشتهي أن أراك نائما .
قال : يا أمه ، إن الليل لمهجم عليّ فيهولني ، فيدركني الصبح ولم أقض منه وطري .
حدثنا محمد بن محمد ، عن هبة الرحمن بن عبد الواحد بن عبد الكريم ، قال :
أنشدني عبد الكريم بن هوازن القشيري إملاء لنفسه :
المرء من هذّب أحواله * وكان عن دعواه أقواله
تصاغر الإنسان في نفسه * أوفى لمعناه وأقوى له
وإن من يحمد أفعاله * أخاف أن ترجع أفعى له
وبه قال : أنشدني القشيريّ لنفسه :
يا نسيم الشمال بلّغ خطابي * واشف مني الجوى بحمل الجواب
طف بساحات ذلك الربع واحمل * ذرّة من تراب ذاك الباب
واهدها من متيّم مستهام * دائم الكرب ذائب الأتراب
قل لمولاي والذي ملء نفسي * والذي فيه ذلّتي وانتحابي
كنت أخشى الوشاة فيك ولكن * جفوة الحب لم تكن في حسابي
روينا من حديث ابن مروان قال : حدثنا علي بن الحسن ، حدثني أبي ، قال : جاء أعرابي إلى ابن طاهر وهو راكب فأنشده :
سألت عن المكارم أين صارت * فكل الناس أرشدني إليكا
فجد لي يا ابن طاهر أن فعلي * سيثني بالذي تولى عليكا
فقال له : كم ثمن هذين البيتين ؟ قال : ألفا درهم . قال : لقد أرخصت يا غلام ، أعطه أربعة آلاف درهم ، ثم أنشد :
صدقت ظني وظن الناس كلهم * فأنت أكرمهم نفسا وأجدادا
لا زلت في روضة خضراء واسعة * فأنت أخضرها روضا وأعوادا
فقال : يا غلام ، أعطه أربعة آلاف أخرى .
فقال :
لو كان قولي بهذا الشعر مستمعا * لكنت أحوى خراج الشرق والغرب
أنت الكريم الذي يعطي بلا نكد * وأنت تحيي الفتى قد مات من جدب
فقال ابن طاهر للغلام : أعطه أربعة آلاف درهم أخرى . فلما قبضها قال : أيها الأمير ، فملّني شعر ، ولم يضق صدرك .
“ 219 “
همة شريفة وزهد كريم
قلت : دخلت مسجد العماد بن الحدوس بالموصل على المهذب ثابت بن عنبر الحلويّ ، وكان رفيع الهمة من أزهد الناس ، وكان يغلب عليه الأدب ، فاستنشدته في حاله ، فأنشدني ونحن في جماعة ، وهو من التجنيس :
إذا قنعنا بأدام بقلنا * وخلنا من الخلّ فخلنا
من ذكر لذّات الوجود * من التّرك خلنا
ففقرنا بخلنا على * ثراء من الخلة خلنا
من آثر آخرته على دنياه وغلب عقله على هواه
حدثنا عبد الرحمن ، نبأ عمر بن ظفر ، نبأ جعفر بن أحمد ، نبأ عبد العزيز بن علي ، نبأ أبو الحسن الصوفي ، قال : سمعت محمد بن داود قال : حدثني أبو الحسن اللؤلؤي قال :
كنت في البحر ، فانكسر المركب وغرق كل ما فيه . وكان في وطائي لؤلؤ قيمته أربعة آلاف دينار . وقربت أيام الحج وخف الفوات . فلما سلّم اللّه روحي ، ونجّاني من الغرق مشيت ، فقال لي جماعة كانوا في المركب : لو توقفت عسى أن يجيء من يخرج شيئا فيخرج لك من رحلك شيئا . فقلت : قد علم اللّه عز وجل ما مرّ مني ، وفي وطائي شيء قيمته أربعة آلاف دينار ، وما كنت الذي أؤثره على وقفتي بعرفة .
فقالوا : وما الذي ورثك هذا ؟ فقلت : أنا رجل مولع بالحج ، أطلب الربح والثواب ، فحججت في بعض السنين ، وعطشت عطشا شديدا ، فأجلست عديلي في وسط محملي ، ونزلت أطلب الماء ، والناس قد عطشوا ، فلم أزل أسأل رجلا رجلا ومحملا محملا : معكم ماء ؟
وإذا الناس شرع واحد ، حتى صرت في ساقة القابلة بميل أو ميلين ، فمررت بمصنع وصهريج ، وإذا رجل فقير جالس في أرض المصنع والماء ينبع من موضع العصا ، وهو يشرب ، فنزلت إليه ، وشربت حتى رويت ، وجئت إلى القافلة والناس قد نزلوا ، فأخرجت قربة ومضيت فملأتها ، فرآني الناس ، فتبادروا بالقرب ، فرووا عن آخرهم ، فلما روي الناس ، وسارت القافلة ، جئت لأنظر ،
وإذا البركة ملئت تلتطم أمواجها ، فموسم يحضره مثل هؤلاء يقولون :
اللهم اغفر لمن حضر هذا الموقف ولجماعة المسلمين ، أؤثر عليه الدنيا ، لا واللّه ، وترك اللؤلؤ وجميع قماشه . قال الشيخ : فبلغني أن قيمة ما كان غرق له خمسين ألف دينار .
ومما تضمنه الأشواق قول بعض العشاق ، يصرفه الصالحون في التخلف عن السياق ، المسارعين إلى مرضاة اللّه ومغفرته :
“ 220 “
شيّعتهم فاسترابوني فقلت لهم * إني بعثت مع الأجمال أحدوها
قالوا فما نفس يعلو كذا صعدا * وما لعينك لا ترقأ مآقيها
قلت التنفس من أدمان سيركم * والعين تذرف دمعا من قذى فيها
روحي تسير إذا سارت ركائبكم * فإن عزمتم على قتلي فحثّوها
حدثنا عبد الرحمن بن علي الجوزي كتابة قال : وصلني كتاب من بعض إخواني من الحاج يتضمن الاستيحاش لي في طريق مكة ، فهيّج شوقي إلى تلك الأماكن .
قال : فكتبت إليه أبياتا منها :
أتراكم فالنقا فالمنحنا * يوم سلع تذكرونا ذكرنا
انقطعنا ووصلتم فاعلموا * واشكروا المنعم يا أهل منى
قد ربحتم وخسرنا فصلوا * بفضول الربح من قد غبنا
يا سقى اللّه الحمى أنتم به * ورعى تلك الرّبى والدمنا
سار قلبي خلف أجمالكم * غير أن الوهن عاق البدنا
ما قطعتم واديا إلا وقد * جئته أسعى بأقدام المنى
إن سقيتم ديمة هاطلة * فدموعي قد جرت لي أعينا
وأنادي كلما لبّيتم * في فؤادي أسفا وا حزنا
بدني نضو لأبدانكم * والذي أقلقني أني هنا
آه وا شوقي إلى ذاك الحمى * شوق محزون حليف شجنا
سلّموا مني على أربابه * أخبروهم أنني حلف الضنا
أنا مذ غبتم على تذكاركم * أتراكم عندكم ما عندنا
عرفكم تعرفه ريح الصبا * كلما مرّت به مرّ بنا
درّ درّ الوصل ما أعذبه * ليته يرضى بروحي ثمنا
زمنا مذ زال أولى زمنا * فأعاد اللّه ذاك الزمنا
روينا من حديث ابن مروان ، نبأ محمد بن عمرو ، نبأ محبوب بن المكرم قال :
قال يوسف بن أسباط : تخليص النية من فسادها أشدّ على العالمين من طول الاجتهاد .
روينا عن محمد بن يونس ، عن الأصمعي ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن أنه قيل له : ما الإيمان ؟
قال : الصبر والسماحة . فقيل : ما الصبر والسماحة ؟
قال : الصبر عن محارم اللّه ، والسماحة بفرائض اللّه .
“ 221 “
مجنون وعظ عاقلا فما ظنك بعاقلهم
قال ابن حبيب : قال عبد اللّه بن خالد الطوسي : لما خرج الرشيد إلى مكة ماشيا من أجل يمينه ، فرش له من العراق إلى الحجاز اللبود والمرعزي ، فاستند يوما وقد تعب إلى ميل ، فإذا بسعدون المجنون قد عارضه فقال :
هب الدنيا تواتيكا * أليس الموت يأتيكا
فما تصنع الدنيا بالدنيا * وظلّ الميل يكفيكا
ألا يا طالب الدنيا * دع الدنيا لشانيكا
كما أضحكك الدهر * كذاك الدهر يبكيكا
فشهق الرشيد شهقة وخرّ مغشيا عليه ، حتى فاتته ثلاث صلوات . ثم قال :
الحمد للّه ثم الحمد للّه * ما ذا على الأرض من ساه ولا ولاه
ما ذا يعاين ذو عينين من عجب * يوم الخروج من الدنيا إلى اللّه
ومن شعر المهدي محمد بن عبد اللّه بن تونارت في عبد المؤمن بن علي يقول :
تكاملت فيك أخلاق خصصت بها * فكلّنا بك مسرور ومغتبط
السنّ ضاحكة والكفّ مانحة * والصدر متّسع والوجه منبسط
خبر رويناه في مواقف يوم القيامة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة
حدثنا يونس بن يحيى بمكة تجاه الكعبة المعظمة سنة تسع وتسعين وخمسمائة قال :
أنا أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي ، أنا أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن موسى بن جعفر المعروف بابن الخياط المقرئ قال :
قرأ عليّ ابن سهل محمود بن عمر بن إسحاق العكبري ، وأنا أسمع ، قيل له :
حدثكم أبو بكر محمد بن الحسن النقاس ، نبأ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي الطبري البروزي ، ثنا محمد بن حميد الرازي أبو عبد اللّه ، نبأ سلمة بن صالح ، انا القاسم بن الحكم ، عن سلام الطويل ، عن غياث بن المسيب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، وزيد بن وهب ، عن عبد اللّه بن مسعود قال :
كنت جالسا عند علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، وعنده ابن عباس ، وحوله عدة جماعة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال علي :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن في القيامة لخمسين موقفا ، كل موقف منها ألف سنة » .
“ 222 “
فأول موقف ، إذا خرج الناس من قبورهم ، يقومون على أبواب قبورهم ألف سنة ، عراة حفاة جياعا عطاشا ، فمن خرج من قبره مؤمنا بربه ، مؤمنا بنبيّه ، مؤمنا بجنّته وناره ، مؤمنا بالبعث والقيامة ، مؤمنا بالقضاء والقدر خيره وشره من اللّه ، مصدّقا بما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم من عند ربه ، نجا وفاز وغنم وسعد .
ومن شك في شيء من هذا بقي في جوعه وعطشه وغمّه وكربه ألف سنة ، حتى يقضي اللّه فيه بما يشاء . ثم يساقون من ذلك المقام إلى المحشر ، فيقفون على أرجلهم ألف عام في سرادقات النيران ، في حر الشمس ، والنار عن أيمانهم ، والنار عن شمائلهم ، والنار من بين أيديهم ، والنار من خلفهم ، والشمس من فوق رؤوسهم ، ولا ظل إلا ظل العرش .
فمن لقي اللّه تبارك وتعالى شاهدا له بالإخلاص ، مقرّا بنبيّه صلى اللّه عليه وسلم ، بريئا من الشرك ومن السحر ، وبريئا من إهراق دماء المسلمين ، ناصحا للّه ورسوله ، محبّا لمن أطاع اللّه ورسوله ، مبغضا لمن عصى اللّه ورسوله ، استظل تحت ظل عرش الرحمن عز وجل ، ونجا من غمّه .
ومن حاد عن ذلك ، ووقع في شيء من هذه الذنوب بكلمة واحدة ، أو تغيّر قلبه ، أو شك في شيء من دينه ، بقي ألف سنة في الحر والهمّ والعذاب ، حتى يقضي اللّه فيه بما يشاء . ثم تساق الخلق من النور إلى الظلمة فيقومون في تلك الظلمة ألف عام .
فمن لقي اللّه تبارك وتعالى لم يشرك به شيئا ، ولم يدخل في قلبه شيء من النفاق ، ولم يشكّ في شيء من أمر دينه ، وأعطى الحق من نفسه ، وقال الحق ، وأنصف الناس من نفسه ، وأطاع اللّه عز وجل في السر والعلانية ، وقضى بقضاء اللّه ، وقنع بما أعطاه اللّه ، خرج من الظلمة إلى النور في مقدار طرفة عين مبيضّا وجهه ، وقد نجا من الغموم كلها .
ومن خالف في شيء منها بقي في الغم والعذاب ألف سنة ، ثم خرج منها مسودّا وجهه ، وهو في مشيئة اللّه يفعل به ما يشاء . ثم يساق الخلق إلى سرادقات الحساب ، وهو عشر سرادقات ، يقفون في كل سرادق منها ألف سنة . فيسأل ابن آدم عند أول سرادق منها عن المحارم ، فإن لم يكن وقع في شيء منها جاز إلى السرادق الثاني ، فيسأل عن الأهواء ، فإن كان نجا منها جاز إلى السرادق الثالث ، فيسأل عن عقوق الوالدين ، فإن لم يكن عاقّا جاز إلى السرادق الرابع ، فيسأل عن حقوق من فوّض اللّه أمرهم إليه ، وعن تعليمهم القرآن ، وعن أمر دينهم وتأديبهم ، فإن كان قد فعل جاز إلى السرادق الخامس ، فيسأل عما ملكت يمينه ، فإن كان محسنا إليهم جاز إلى السرادق السادس ، فيسأل عن حق قرابته ، فإن كان قد أدى حقوقهم جاز إلى السرادق السابع ، فيسأل عن صلة الرحم ، فإن كان وصولا
“ 223 “
لرحمه جاز إلى السرادق الثامن ، فيسأل عن الحسد ، فإن كان لم يكن حاسدا جاز إلى السرادق التاسع ، فيسأل عن المكر ، فإن لم يكن مكر بأحد جاز إلى السرادق العاشر ،
فيسأل عن الخديعة ، فإن لم يكن خدع أحدا نجا ، فنزل في ظل عرش اللّه عز وجل ، مقرّة عينه ، فرحا قلبه ، ضاحكا فاه . وإن كان قد وقع في شيء من هذه الخصال بقي في كل موقف منها ألف عام ، جائعا ، عطشا ، باكيا ، حزينا ، مهموما مغموما ، لا تنفعه شفاعة شافع .
ثم يحشرون إلى أخذ كتبهم بأيمانهم وشمائلهم ، فيحبسون عن ذلك في خمسة عشر موقفا :
كل موقف منها ألف سنة .
فيسألون في أول موقف منها عن الصدقات وما فرض اللّه عليهم في أموالهم ، فمن أدّاها كاملة جاز إلى الموقف الثاني .
فيسأل عن قول الحق والعفو عن الناس ، فمن عفا عفي عنه ، وجاز إلى الموقف الثالث .
فيسأل عن الأمر بالمعروف ، فإن كان أمر بالمعروف جاز إلى الموقف الرابع .
فيسأل عن النهي عن المنكر ، فإن كان ناهيا عن المنكر جاز إلى الموقف الخامس .
فيسأل عن حسن الخلق ، فإن كان حسن الخلق جاز إلى الموقف السادس .
فيسأل عن الحب في اللّه ، والبغض في اللّه ، فإن كان محبّا في اللّه ، مبغضا في اللّه عز وجل جاز إلى الموقف السابع .
فيسأل عن المال الحرام ، فإن لم يكن أخذ شيئا جاز إلى الموقف الثامن .
فيسأل عن شرب الخمر ، فإن لم يكن شرب من الخمور شيئا جاز إلى الموقف التاسع .
فيسأل عن الفروج الحرام ، فإن لم يكن أتاها جاز إلى الموقف العاشر . فيسأل عن قول الزور ، فإن لم يكن قالها جاز إلى الموقف الحادي عشر .
فيسأل عن الأيمان الكاذبة ، فإن لم يكن حلفها جاز إلى الموقف الثاني عشر .
فيسأل عن أكل الربا ، فإن لم يكن أكله جاز إلى الموقف الثالث عشر .
فيسأل عن قذف المحصنات ، فإن لم يكن قذف المحصنات جاز إلى الموقف الرابع عشر .
فيسأل عن شهادة الزور ، فإن لم يكن شهدها جاز إلى الموقف الخامس عشر .
فيسأل عن البهتان ، فإن لم يكن بهت مسلما نزل تحت لواء الحمد ، وأعطي كتابه بيمينه ، ونجا من همّ الكتاب وهوله ، وحوسب حسابا يسيرا .
وإن كان قد وقع في شيء من هذه الذنوب الكبائر ، ثم خرج من الدنيا غير تائب من ذلك ، بقي في كل موقف من هذه الخمسة عشر موقفا ألف سنة في الهمّ والغمّ والهول والحزن والجوع والعطش ، حتى يقضي اللّه عز وجل فيه بما يشاء .
ثم يقام الناس في قراءة كتبهم ألف عام ، فمن كان سخيا قدّم ماله ليوم فقره وحاجته وفاقته ، قرأ كتابه ، وهوّن عليه قراءته وكسي من ثياب الجنة ، وتوّج من تيجان الجنة ، وأقعد تحت ظل العرش عز وجل آمنا مطمئنا .
الجزء 15
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 210 “
أخاف من قوله تعالى : فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * . فقلت : لا جزاك اللّه عن نفسك خيرا ، ولا عن جهلك في تأويلك ، هو ما قلت . وسافر عنّا ، فلحق بأبي مدين ، فأكرمه مدة ، ثم هجره ، وطرده من عنده ، فلما كان بعد عشر سنين ، اجتمعت به بمنزلة بإشبيلية ، وقد بدّل اللّه حالة الموافقة منه بالمخالفة ، والطاعة بالمعصية ، والإيمان بالزندقة ، ففارقته ، وخرج ما عبر به رؤيا أخيه . فنسأل اللّه العافية من كلمة تؤدي إلى الهلكة في دين أو دنيا .
ولبعضهم :
وجرح السيف تأسوه فيبرا * وجرح الدهر ما جرح اللسان
جراحات السنان لها التئام * ولا يلتام ما جرح اللسان
حدّث محمد بن قاسم رواية قال :
تكلم أربعة من الملوك بأربع كلمات ، كأنما رميت عن قوس واحدة .
قال كسرى : أنا على ردّ ما لم أقل أقدر مني على ردّ ما قلت .
وقال ملك الهند : إذا تكلمت بكلمة ملكتني وكنت أملكها .
وقال قيصر : لم أندم على ما لم أقل وقد ندمت على ما قلت .
وقال ملك الصين : عاقبة ما قد جرى به القول أشد من الندم على ترك القول .
ولبعضهم في المعنى :
لعمرك ما شيء علمت مكانه * أحق بسجن من لسان مدلل
على فيك مما ليس يعنيك قوله * بقفل شديد حيث ما كنت أقفل
روينا من حديث المالكي قال : حدثنا أبو صالح ، نبأ علي بن حجر ، قال بعض الحكماء : من طاب ريحه زاد عقله ، ومن نظفت ثيابه قلّ همّه .
روينا من حديث ابن أبي الدنيا ، نبأ محمد بن الحارث ، عن المدائني قال : قالت عائشة رضي اللّه عنها : خلال المكارم عشرة ، تكون في الرجل ولا تكون في ابنه ، وتكون في العبد ولا تكون في سيّده .
صدق الحديث ، وصدق الناس ، وإعطاء السائل ، والمكافأة بالصنائع ، والتذمم للجار والصاحب ، وصلة الرحم ، وقري الضيف ، وأداء الأمانة ، ورأسهن الحياء .
وقال بعضهم : كتمان سرّك يعقبك السلامة ، وإفشاؤك سرك يعقبك الندامة ، والصبر على كتمان السر أيسر من الندم على إفشائه .
“ 211 “
وفي الحكمة : ما أقبح بالإنسان أن يخاف على ما كان في يده اللصوص فيخفيه ، ويمكّن عدوّه من نفسه بإظهار ما في قلبه من سرّ نفسه أو سرّ أخيه .
قال معاوية رضي اللّه عنه : ما أفشيت سرّي إلى أحد إلا أعقبني طول الندامة وشدة الأسف ، ولا أودعته جوانح صدري فحكّمته بين أضلاعي إلا أكسبني مجدا وذكرا وثناء ورفعة .
فقيل : ولا ابن العاص ؟ فقال : ولا ابن العاص .
وكان يقول : ما كنت كاتمه عن عدوّك فلا تظهر عليه صديقك .
يريد ، واللّه أعلم ، ما سمعت أبا بكر بن خلف بن مناف أستاذنا ينشده في مجلسه مرارا .
وفي وصيته أبياتا ويقول :
احذر عدوّك مرة * واحذر صديقك ألف مرة
فلربما هجر الصدي * ق فكان أعلم بالمضرّة
في الخبر المروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من كتم سرّه كانت الخيرة في يده ، ومن عرّض نفسه للتهمة فلا يلومنّ من أساء به الظن . وضع أمر أخيك على أحسنه ، ولا تظنن بكلمة خرجت منه سوءا . وما كافأت من عصى اللّه فيك بأفضل من أن تطيع اللّه جلّ اسمه فيه . وعليك بإخوان الصدق فإنهم زينة عند الرخاء ، عصمة عند البلاء » .
روينا من حديث الدينوري عن الأصمعي ، على ما حدّث عنه الرياشي ، قال : كان يقول أبا الأسود : العمامة جنة في الحرب ، ومكنّة في الحر والقر ، وزيادة في القامة .
أنشدني بعض الأدباء ، وكان إلى جانبه من يحبّه ، فعبته بعض الحاضرين فيه بما لم يحسن
وجهه عند العاتب . فالتفت إلى المحب ، فقال وهو يسمعه :
رأى وجه من أهوى عدوي فقال لي * أجلّك عن وجه أراه كريها
فقلت له وجه الحبيب مراءة * وأنت ترى تمثال وجهك فيها
وذلك بقرطبة ، وكان الحبيب سعيد بن كرز ، والمحب أبو بكر الزهري .
وأنشدنا بعض الأدباء مما أنشده المازني لبعضهم :
لئن كنت محتاجا إلى العلم إنني * إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم * ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوّم * ومن شاء تعويجي فإني معوّج
وما كنت أرضى الجهل خدنا ولا أخا * ولكنني أرضى به حين أحوج
ألا ربما ضاق الفضاء بأهله * وأمكن من بين الأسنّة مخرج
“ 212 “
روينا من حديث ابن ودعان ، قال : نبأ أبو عبد اللّه الصيرفي ، عن محمد بن القاسم ، عن أبي منصور ، عن الحجبي ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ، قال :
سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « يا معشر المسلمين ، شمّروا فإن الأمر جد ، وتأهبوا فإن الرحيل قريب ، وتزوّدوا فإن السفر بعيد ، وخفّفوا أثقالكم فإن وراءكم عقبة كئود لا يقطعها إلا المخفّون . أيها الناس ، إن بين يدي الساعة أمورا شدادا ، وأهوالا عظاما ، وزمانا صعبا ، يتملك فيه الظّلمة ، ويتصدر فيه الفسقة ، فيضطهد الآمرون بالمعروف ، ويضام الناهون عن المنكر . فأعدوا لذلك الإيمان ، وعضّوا عليه بالنواجذ ، والجأوا إلى العمل الصالح ، وأكرهوا عليه النفوس ، واصبروا على الضرّاء ، تقضوا إلى النعيم الدائم » .
أنشد الحطيئة عمر رضي اللّه عنه ، وكعب الأحبار عنده ،
فقال :
من يفعل الخير لا يعدم جوائزه * لا يذهب العرف بين اللّه والناس
فقال كعب : يا أمير المؤمنين ، هذا الذي قاله مكتوب في التوراة . فقال عمر : كيف ذلك ؟
قال : في التوراة مكتوب : من يصنع الخير لا يضيع عندي ، ولا يذهب بيني وبين عبدي .
نسيان النعمة أول درجات الكفر
شعر :
يد المعروف غنم حيث كانت * تحمّلها كفور أم شكور
فعند الشاكرين له جزاء * وعند اللّه ما كفر الكفور
مثل سائر
جزاء سنمار : وكان سنمار هذا رجلا بنّاء ، فبنى للنعمان بن المنذر الخورنق فأعجبه ، وكره أن يبنى مثله لغيره ، فقعد النعمان في أعلاه ، واستدعى سنمارا ، وأخذ يحدّثه ، وغمز بعض خدّامه أن يدفعه من أعلاه ، فسقط فمات ، فقيل فيه :
جزونا بني سعد بحسن بلائنا * جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
مثل سمّن الكلب يأكلك
أخذه بعضهم فقال :
هم سمّنوا كلبا ليأكل بعضهم * ولو ظفروا بالحزم ما سمّوا كلبا
“ 213 “
وقال الآخر :
وإني وقيسا كالسمن كلبه * فخدّشه أنيابه وأظافره
مثل في عي بأقل
وكان بأقل هذا اشترى عنزا بأحد عشر درهما . فقيل له : بكم اشتريت العنز ؟
ففتح كفيه ، وفرّق أصابعه ، وأخرج لسانه ، يريد أحد عشر ، فعيّروه بذلك ،
فقال القائل :
يلومون في حمقه باقلا * كأن الحماقة لم تخلق
فلا تكثروا العذل في عيّه * فللصمت أجمل بالأموق
خروج اللسان وفتح البنان * أحبّ إلينا من المنطق
خبر الظبية التي كلّمت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه ، نبأ أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريف ، نبأ أحمد بن موسى ، عن أنس بن أبي نصر بن عبد اللّه بن محمد بن سيرين بالبصرة ، نبأ زكريا بن يحيى بن خلّاد بن حسان بن أغلب بن تميم حدثني أبي ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن ، عن ضبة بن محصن ، عن أم سلمة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم قالت :
بينما النبي صلى اللّه عليه وسلم في صحراء إذا هاتف يهتف : يا رسول اللّه ، فالتفتّ فلم أر أحدا .
فمضيت غير بعيد ، فإذا الهاتف يهتف : يا رسول اللّه ، فالتفتّ فلم أر أحدا .
فمضيت غير بعيد ، فإذا الهاتف يهتف : يا رسول اللّه ، فاتّبعت الصوت ، فهجمت علي ظبية مشدودة في وثاق ، وإذا أعرابي منجدل في شمله نائم في الشمس .
فقالت الظبية : يا رسول اللّه ، إن هذا الأعرابي صادني قبيلا ، ولي خشفان في هذا الجبل ، فإن رأيت أن تطلقني حتى أرضعهما ، ثم أعود إلى وثاقي .
قال : « أو تفعلين ؟ » ، قالت : عذّبني اللّه عذاب العشار إن لم أفعل . فأطلقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فمضت ، فأرضعت الخشفين ثم عادت .
فبينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوثقها إذ انتبه الأعرابي فقال : بأبي وأمي أنت ، إني أصبتها قبيلا ، فلك فيها من حاجة ؟
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « قلت : نعم » ،
قال : هي لك ، فأطلقها ، فخرجت تعدو في الصحراء فرحا ، وهي تضرب برجلها الأرض ، وتقول : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أنك رسول اللّه .
“ 214 “
ولاية بني إسماعيل الكعبة وأمر جرهم
روينا من حديث أبي الوليد ، حدثني جدي ، نبأ سعيد بن سالم ، عن عثمان بن ساج قال : أخبرني ابن إسحاق قال : ولد لإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام اثنا عشر رجلا وأمهم أسيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي ، فولدت له ثابت ، وقيدار ، وقياس ، وآزر ، وذابل ، ومنشى ، ومشنى ، وطيما ، وقطوار ، وقبس ، وقيدمان ، ومسمع ، وماشي ، ورما .
وكان عمر إسماعيل عليه السلام فيما يذكرون مائة وثلاثين سنة . فمن ثابت بن إسماعيل وقيدار نشر اللّه العرب . وكان أكبرهم قيدار وثابت ابنا إسماعيل . وكان من حديث جرهم وبني إسماعيل ، أن إسماعيل لما توفي دفن في الحجر مع أمه ، فولي البيت ثابت بن إسماعيل ما شاء اللّه أن يليه .
ثم توفي ثابت بن إسماعيل ، فولي البيت بعده مضاض بن عمرو الجرهمي وهو جدّ ثابت بن إسماعيل أبو أمه ، وضمّ بني ثابت بن إسماعيل وبني إسماعيل إليه ، فصاروا مع جدهم مضاض ومع أخوالهم من جرهم ، وجرهم وقطورا يومئذ أهل مكة ، وعلى جرهم مضاض بن عمرو ملكا عليهم ، وعلى قطورا رجل منهم يقال له السميدع ملكا عليهم .
وكانا حين ظعنا من اليمن أقبلا سيّارة ، وكانوا إذا خرجوا من اليمن لم يخرجوا إلا ولهم ملك يقيم أمرهم .
فلما نزلا مكة ، رأيا بلدا طيبا ، وإذا ماء وشجر ، فأعجبهما ، فنزلا به ، فنزل مضاض بن عمرو بمن معه من جرهم أعلى مكة وقيقعان ، فحاز ذلك . ونزل السميدع أجيادين وأسفل مكة .
وكان مضاض بن عمرو يعشر من دخل مكة من أسفلها ، ومن كدى ، وكل في قومه على جباله لا يدخل واحد منهما على صاحبه في ملكه .
ثم إن جرهم وقطورا بغى بعضهم على بعض ، وتنافسوا الملك بها ، واقتتلوا بها ، حتى نشبت أو شبّت الحرب بينهم . وولاة الأمر بمكة مضاض بن عمرو ، وبنو ثابت بن إسماعيل ، وبنو إسماعيل ، وإليه ولاية البيت دون السميدع . فلم يزل بهم البغي حتى سار بعضهم إلى بعض ، فخرج مضاض بن عمرو من قيقعان في كتيبة سائرا إلى السميدع ، ومعه كتيبة عدّتها من الرماح والدرق والسيوف والجعاب ، تقعقع بذلك .
ويقال : ما سمّيت قيقعان إلا بذلك .
وخرج السميدع بقطورا من أجياد معه الخيل والرجال . ويقال : ما سمي أجياد إلا لخروج الخيل الجياد مع السميدع حتى التقوا بفاضح . فاقتتلوا قتالا شديدا ، فقتل السميدع
“ 215 “
وفضحت قطورا . ويقال : ما سمي فاضح فاضحا إلا لذلك . ثم إن القوم تداعوا إلى الصلح ، فساروا حتى دخلوا المطابخ شعبا بأعلى مكة ، يقال له شعب عبد اللّه بن عامر بن كرين بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس . فاصطلحوا بذلك الشعب ، وأسلموا الأمر إلى مضاض بن عمرو . فلما جمع عمرو أهل مكة وصار ملكها دون السميدع ، نحر للناس وأطعمهم ، فأطبخ للناس فأكلوا . فيقال : ما سمي المطابخ إلا لذلك .
قال : فكان الذي كان بين مضاض بن عمرو والجرهمي في ذلك الحرب بذكر السميدع وقتله وبغيه والتماسه ما ليس له :
ونحن قتلنا سيد القوم عنوة * فأصبح فيها وهو حيران موجع
وما كان يبقى أن يكون سواءنا * بها ملك حتى أتانا السميدع
فذاق وبالا حين جاول ملكنا * وعالج منّا غصّة تتجرع
فنحن عمّرنا البيت كنا ولاته * نحامي عنه من أتانا وندفع
وكنّا ملوكا في الدهور التي مضت * ورثنا ملوكا لا ترام فتوضع
قال أبو الوليد : قال ابن إسحاق : وقد زعم بعض أهل العلم إنما سمّيت المطابخ لما كان تبّع نحر بها ، وأطعم بها ، وكانت منزله . قال : ثم نشر اللّه بني إسماعيل بمكة ، وأخوالهم جرهم إذ ذاك الحكّام بها ، وولاة البيت ، كانوا كذلك بعد ثابت بن إسماعيل .
فلما ضاقت عليهم مكة ، وانتشروا بها ، انبسطوا في الأرض ، وابتغوا المعاش والتفسح في الأرض .
ولا يأتون قوما ، ولا ينزلون بلدا ، إلا أظفرهم اللّه عليهم بدينهم ، فوطئوهم وغلبوهم عليها ، حتى ملكوا البلاد ، ونفوا عنها العماليق ، ومن كان ساكنا بلادهم التي كانوا اصطلحوا عليها من غيرهم . وجرهم على ذلك بمكة ولاة البيت لا ينازعهم إياه بنو إسماعيل لخئولتهم وقرابتهم ، وإعظام الحرم أن يكون فيه بغي وقتال .
قال أبو الوليد : وحدثني بعض أهل العلم ، قالوا : كانت العماليق هم ولاة الحكم بمكة ، فضيّعوا حرمة الحرم ، واستحلوا منه أمورا عظاما ، ونالوا ما لم يكونوا ينالوا ، فقام رجل منهم يقال له عموق فقال : يا قوم ، اتقوا اللّه على أنفسكم ، فقد رأيتم وسمعتم من أهلك من صدر الأمم قبلكم ، قوم صالح ، وهود ، وشعيب ، فلا تفعلوا ، وتوصلوا ، فلا تستخفوا بحرمة حرم اللّه ، وموضع بيته ، وإياكم والظلم فيه والإلحاد ، فإنه ما سكنه أحد قد فظلم فيه وألحد إلا قطع اللّه دابرهم ، واستأصل شأفتهم ، وبدّل أرضها غيرهم ، حتى لا يبقى لهم باقية . فلم يقبلوا منه ذلك ، وتمادوا في هلكة أنفسهم .
قالوا : ثم إن جرهما وقطورا خرجوا سيّارة من اليمن ، فأجدبت عليهم ، فساروا
“ 216 “
بذراريهم وأنفسهم وأموالهم ، وقالوا : نطلب مكانا فيه مرعى نسمّن فيه ماشيتنا ، فإن أعجبنا أقمنا به ، فإن كل بلد نزل به أحد ومعه ذريّته وماله فهو وطنه ، وإلا رجعنا إلى بلادنا .
فلما قدموا مكة وجدوا ماء معينا ، وعضاها ملتفة من سلم وسمر ، ونباتا يسمّن مواشيهم ، وسعة من البلاد ، ودفاء من البرد في الشتاء .
فقالوا : إن هذا الموضع يجمع لنا ما نريد . فأقاموا مع العماليق ، فكان لا يخرج من اليمن قوم إلا ولهم ملك يقيم أمرهم ، وكان ذلك سنّة فيهم ، ولو كانوا نفرا يسيرا .
وكان مضاض بن عمرو ملك جرهم ، والمطاع فيهم .
وكان السميدع ملك قطورا ، فنزل مضاض بن عمرو على مكة ، فكان يعشر من دخلها من أعلاها ، وكان ناحيتهم وجه الكعبة ، الركن الأسود ، والمقام ، وموضع زمزم ، مصعدا يمينا وشمالا ، وقيقعان إلى أعلى الوادي .
ونزل السميدع أسفل مكة ، وإلى أجيادين ، وكان يعشر من دخل مكة من أسفلها . فكان حوزهم المسفلة ظهر الكعبة ، والركن اليماني والغربي ، وأجيادين ، والثنية إلى الرمضة . فبنيا فيها البيوت ، واتّسعا في المنازل ، وكثروا على العماليق ، فنازعتهم العماليق ، فمنعتهم جرهم ، وأخرجوهم من الحرم كله ، فكانوا في أطرافه لا يدخلونه . فقال لهم صاحبهم عموق : ألم أقل لكم لا تستخفوا بحرمة الحرم فغلبتموني ؟
فجعل مضاض والسميدع يقطعان المنازل لمن ورد عليهما من قومهما ، وكثروا ، وأعجبهم البلاد ، وكانوا قوما عربا ، وكان اللسان عربيا .
وكان إبراهيم خليل اللّه يزور إسماعيل ، فلما سمع بلسانهم وأعرابهم ، سمع كلاما حسنا ، ورأى قوما عربا ، وكان إسماعيل قد أخذ بلسانهم .
أمر إسماعيل أن ينكح فيهم ، فخطب إلى مضاض بن عمرو بنته دعلة ، فزوّجه إياها ، فولدت له عشر ذكور ، وهي زوجته التي غسلت رأس إبراهيم حين وضع رجله على المقام .
قال : وتوفي إسماعيل ، وترك ولدا من دعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي ، فقام مضاض بأمر ولد إسماعيل وكفلهم ، لأنهم بنو ابنته ، فلم يزل أمر جرهم يعظم بمكة ، فكانوا ولاة البيت وحجابه ، وولاة الأحكام بها ، ثم إن جرهما استخفت بأمر البيت والحرم ، وارتكبت أمورا عظاما وأحدثوا إحداثا لم تكن ، فقام مضاض بن عمرو بن الحرث بن مضاض فيهم فقال :
“ 217 “
يا قوم ، احذروا البغي فإنه لا بقاء لأهله ، قد رأيتم من كان قبلكم من العماليق ، استخفوا بأمر الحرم فسلطكم اللّه عليهم فأخرجتموهم ، فلا تستخفوا بحق الحرم وحرمة بيت اللّه ، ولا تظلموا من دخله وجاءه معظّما ، أو جاء بائعا ، أو مترغّبا في جواركم ، فإنكم إن فعلتم ذلك تخوّفت أن تخرجوا منه خروج ذلّ وصغار .
فقال له مجدع : من الذي يخرجنا منه ؟ ألسنا أعز العرب وأكثرهم رجالا وسلاحا ؟
فقال له مضاض :
إذا جاء الأمر بطل ما تقولون ، فلم يقصروا عن شيء مما كانوا يصنعون ، وكانت لهم خزانة بئر في بطن البيت يلقي فيه الحلي والمتاع الذي يهدى له ، وهو يومئذ لا سقف له ، فتواعد له خمسة نفر من جرهم أن يسرقوا ما فيه ، فقام على كل زاوية من البيت رجل منهم ، واقتحم الخامس ، فجعل اللّه أعلاه أسفله ، وسقط منكسا فهلك ، وفرّ الأربعة الآخرون .
ومن ذلك الوقت بعث اللّه حية سوداء الظهر بيضاء البطن ، رأسها مثل رأس الجدي ، فحرست البيت خمسمائة سنة .
كتاب حكيم إلى حكيم
روينا من حديث الدينوري ، عن محمد بن إسحاق ، نبأ هارون بن معروف قال :
كتب حكيم إلى حكيم :
أما بعد ، فقد أصبحنا وبنا من نعم اللّه ما لا نحصيه ، ولا ندري أيهما أشكر : أشكر جميل ما ينشر ؟ أم قبيح ما يستر ؟
وحدثنيه أيضا عن محمد بن يونس ، عن الأصمعي قال : قيل لمحمد بن واسع :
كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت موفورا بالنّعم ، وربنا يتحبب إلينا وهو غني عنّا ، ونتبغّض إليه بالمعاصي ونحن إليه فقراء .
ألا لو سمعت البدر بن المختار يقول ، وقد رأى عليّ ثوبا أحمر : الحمرة أجمل ، والخضرة أنبل ، والسواد أهول ، والبياض أفضل .
حدثنا يونس بن يحيى ، نبأ محمد بن عمرو بن يوسف ، نبأ أبو بكر بن ثابت ، عن أحمد بن محمد بن إبراهيم ، عن أبي عصمة محمد بن أحمد بن عباد العبادي ، عن أبي علي الحسين بن محمد بن مصعب ، عن محمد بن عبد اللّه الواسطي ، عن العلاء بن عبد
“ 218 “
الجبار ، عن نافع بن الجمحي قال : قالت أم محمد بن المنكدر لابنها : يا بنيّ ، إني أشتهي أن أراك نائما .
قال : يا أمه ، إن الليل لمهجم عليّ فيهولني ، فيدركني الصبح ولم أقض منه وطري .
حدثنا محمد بن محمد ، عن هبة الرحمن بن عبد الواحد بن عبد الكريم ، قال :
أنشدني عبد الكريم بن هوازن القشيري إملاء لنفسه :
المرء من هذّب أحواله * وكان عن دعواه أقواله
تصاغر الإنسان في نفسه * أوفى لمعناه وأقوى له
وإن من يحمد أفعاله * أخاف أن ترجع أفعى له
وبه قال : أنشدني القشيريّ لنفسه :
يا نسيم الشمال بلّغ خطابي * واشف مني الجوى بحمل الجواب
طف بساحات ذلك الربع واحمل * ذرّة من تراب ذاك الباب
واهدها من متيّم مستهام * دائم الكرب ذائب الأتراب
قل لمولاي والذي ملء نفسي * والذي فيه ذلّتي وانتحابي
كنت أخشى الوشاة فيك ولكن * جفوة الحب لم تكن في حسابي
روينا من حديث ابن مروان قال : حدثنا علي بن الحسن ، حدثني أبي ، قال : جاء أعرابي إلى ابن طاهر وهو راكب فأنشده :
سألت عن المكارم أين صارت * فكل الناس أرشدني إليكا
فجد لي يا ابن طاهر أن فعلي * سيثني بالذي تولى عليكا
فقال له : كم ثمن هذين البيتين ؟ قال : ألفا درهم . قال : لقد أرخصت يا غلام ، أعطه أربعة آلاف درهم ، ثم أنشد :
صدقت ظني وظن الناس كلهم * فأنت أكرمهم نفسا وأجدادا
لا زلت في روضة خضراء واسعة * فأنت أخضرها روضا وأعوادا
فقال : يا غلام ، أعطه أربعة آلاف أخرى .
فقال :
لو كان قولي بهذا الشعر مستمعا * لكنت أحوى خراج الشرق والغرب
أنت الكريم الذي يعطي بلا نكد * وأنت تحيي الفتى قد مات من جدب
فقال ابن طاهر للغلام : أعطه أربعة آلاف درهم أخرى . فلما قبضها قال : أيها الأمير ، فملّني شعر ، ولم يضق صدرك .
“ 219 “
همة شريفة وزهد كريم
قلت : دخلت مسجد العماد بن الحدوس بالموصل على المهذب ثابت بن عنبر الحلويّ ، وكان رفيع الهمة من أزهد الناس ، وكان يغلب عليه الأدب ، فاستنشدته في حاله ، فأنشدني ونحن في جماعة ، وهو من التجنيس :
إذا قنعنا بأدام بقلنا * وخلنا من الخلّ فخلنا
من ذكر لذّات الوجود * من التّرك خلنا
ففقرنا بخلنا على * ثراء من الخلة خلنا
من آثر آخرته على دنياه وغلب عقله على هواه
حدثنا عبد الرحمن ، نبأ عمر بن ظفر ، نبأ جعفر بن أحمد ، نبأ عبد العزيز بن علي ، نبأ أبو الحسن الصوفي ، قال : سمعت محمد بن داود قال : حدثني أبو الحسن اللؤلؤي قال :
كنت في البحر ، فانكسر المركب وغرق كل ما فيه . وكان في وطائي لؤلؤ قيمته أربعة آلاف دينار . وقربت أيام الحج وخف الفوات . فلما سلّم اللّه روحي ، ونجّاني من الغرق مشيت ، فقال لي جماعة كانوا في المركب : لو توقفت عسى أن يجيء من يخرج شيئا فيخرج لك من رحلك شيئا . فقلت : قد علم اللّه عز وجل ما مرّ مني ، وفي وطائي شيء قيمته أربعة آلاف دينار ، وما كنت الذي أؤثره على وقفتي بعرفة .
فقالوا : وما الذي ورثك هذا ؟ فقلت : أنا رجل مولع بالحج ، أطلب الربح والثواب ، فحججت في بعض السنين ، وعطشت عطشا شديدا ، فأجلست عديلي في وسط محملي ، ونزلت أطلب الماء ، والناس قد عطشوا ، فلم أزل أسأل رجلا رجلا ومحملا محملا : معكم ماء ؟
وإذا الناس شرع واحد ، حتى صرت في ساقة القابلة بميل أو ميلين ، فمررت بمصنع وصهريج ، وإذا رجل فقير جالس في أرض المصنع والماء ينبع من موضع العصا ، وهو يشرب ، فنزلت إليه ، وشربت حتى رويت ، وجئت إلى القافلة والناس قد نزلوا ، فأخرجت قربة ومضيت فملأتها ، فرآني الناس ، فتبادروا بالقرب ، فرووا عن آخرهم ، فلما روي الناس ، وسارت القافلة ، جئت لأنظر ،
وإذا البركة ملئت تلتطم أمواجها ، فموسم يحضره مثل هؤلاء يقولون :
اللهم اغفر لمن حضر هذا الموقف ولجماعة المسلمين ، أؤثر عليه الدنيا ، لا واللّه ، وترك اللؤلؤ وجميع قماشه . قال الشيخ : فبلغني أن قيمة ما كان غرق له خمسين ألف دينار .
ومما تضمنه الأشواق قول بعض العشاق ، يصرفه الصالحون في التخلف عن السياق ، المسارعين إلى مرضاة اللّه ومغفرته :
“ 220 “
شيّعتهم فاسترابوني فقلت لهم * إني بعثت مع الأجمال أحدوها
قالوا فما نفس يعلو كذا صعدا * وما لعينك لا ترقأ مآقيها
قلت التنفس من أدمان سيركم * والعين تذرف دمعا من قذى فيها
روحي تسير إذا سارت ركائبكم * فإن عزمتم على قتلي فحثّوها
حدثنا عبد الرحمن بن علي الجوزي كتابة قال : وصلني كتاب من بعض إخواني من الحاج يتضمن الاستيحاش لي في طريق مكة ، فهيّج شوقي إلى تلك الأماكن .
قال : فكتبت إليه أبياتا منها :
أتراكم فالنقا فالمنحنا * يوم سلع تذكرونا ذكرنا
انقطعنا ووصلتم فاعلموا * واشكروا المنعم يا أهل منى
قد ربحتم وخسرنا فصلوا * بفضول الربح من قد غبنا
يا سقى اللّه الحمى أنتم به * ورعى تلك الرّبى والدمنا
سار قلبي خلف أجمالكم * غير أن الوهن عاق البدنا
ما قطعتم واديا إلا وقد * جئته أسعى بأقدام المنى
إن سقيتم ديمة هاطلة * فدموعي قد جرت لي أعينا
وأنادي كلما لبّيتم * في فؤادي أسفا وا حزنا
بدني نضو لأبدانكم * والذي أقلقني أني هنا
آه وا شوقي إلى ذاك الحمى * شوق محزون حليف شجنا
سلّموا مني على أربابه * أخبروهم أنني حلف الضنا
أنا مذ غبتم على تذكاركم * أتراكم عندكم ما عندنا
عرفكم تعرفه ريح الصبا * كلما مرّت به مرّ بنا
درّ درّ الوصل ما أعذبه * ليته يرضى بروحي ثمنا
زمنا مذ زال أولى زمنا * فأعاد اللّه ذاك الزمنا
روينا من حديث ابن مروان ، نبأ محمد بن عمرو ، نبأ محبوب بن المكرم قال :
قال يوسف بن أسباط : تخليص النية من فسادها أشدّ على العالمين من طول الاجتهاد .
روينا عن محمد بن يونس ، عن الأصمعي ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن أنه قيل له : ما الإيمان ؟
قال : الصبر والسماحة . فقيل : ما الصبر والسماحة ؟
قال : الصبر عن محارم اللّه ، والسماحة بفرائض اللّه .
“ 221 “
مجنون وعظ عاقلا فما ظنك بعاقلهم
قال ابن حبيب : قال عبد اللّه بن خالد الطوسي : لما خرج الرشيد إلى مكة ماشيا من أجل يمينه ، فرش له من العراق إلى الحجاز اللبود والمرعزي ، فاستند يوما وقد تعب إلى ميل ، فإذا بسعدون المجنون قد عارضه فقال :
هب الدنيا تواتيكا * أليس الموت يأتيكا
فما تصنع الدنيا بالدنيا * وظلّ الميل يكفيكا
ألا يا طالب الدنيا * دع الدنيا لشانيكا
كما أضحكك الدهر * كذاك الدهر يبكيكا
فشهق الرشيد شهقة وخرّ مغشيا عليه ، حتى فاتته ثلاث صلوات . ثم قال :
الحمد للّه ثم الحمد للّه * ما ذا على الأرض من ساه ولا ولاه
ما ذا يعاين ذو عينين من عجب * يوم الخروج من الدنيا إلى اللّه
ومن شعر المهدي محمد بن عبد اللّه بن تونارت في عبد المؤمن بن علي يقول :
تكاملت فيك أخلاق خصصت بها * فكلّنا بك مسرور ومغتبط
السنّ ضاحكة والكفّ مانحة * والصدر متّسع والوجه منبسط
خبر رويناه في مواقف يوم القيامة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة
حدثنا يونس بن يحيى بمكة تجاه الكعبة المعظمة سنة تسع وتسعين وخمسمائة قال :
أنا أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي ، أنا أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن موسى بن جعفر المعروف بابن الخياط المقرئ قال :
قرأ عليّ ابن سهل محمود بن عمر بن إسحاق العكبري ، وأنا أسمع ، قيل له :
حدثكم أبو بكر محمد بن الحسن النقاس ، نبأ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي الطبري البروزي ، ثنا محمد بن حميد الرازي أبو عبد اللّه ، نبأ سلمة بن صالح ، انا القاسم بن الحكم ، عن سلام الطويل ، عن غياث بن المسيب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، وزيد بن وهب ، عن عبد اللّه بن مسعود قال :
كنت جالسا عند علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، وعنده ابن عباس ، وحوله عدة جماعة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال علي :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن في القيامة لخمسين موقفا ، كل موقف منها ألف سنة » .
“ 222 “
فأول موقف ، إذا خرج الناس من قبورهم ، يقومون على أبواب قبورهم ألف سنة ، عراة حفاة جياعا عطاشا ، فمن خرج من قبره مؤمنا بربه ، مؤمنا بنبيّه ، مؤمنا بجنّته وناره ، مؤمنا بالبعث والقيامة ، مؤمنا بالقضاء والقدر خيره وشره من اللّه ، مصدّقا بما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم من عند ربه ، نجا وفاز وغنم وسعد .
ومن شك في شيء من هذا بقي في جوعه وعطشه وغمّه وكربه ألف سنة ، حتى يقضي اللّه فيه بما يشاء . ثم يساقون من ذلك المقام إلى المحشر ، فيقفون على أرجلهم ألف عام في سرادقات النيران ، في حر الشمس ، والنار عن أيمانهم ، والنار عن شمائلهم ، والنار من بين أيديهم ، والنار من خلفهم ، والشمس من فوق رؤوسهم ، ولا ظل إلا ظل العرش .
فمن لقي اللّه تبارك وتعالى شاهدا له بالإخلاص ، مقرّا بنبيّه صلى اللّه عليه وسلم ، بريئا من الشرك ومن السحر ، وبريئا من إهراق دماء المسلمين ، ناصحا للّه ورسوله ، محبّا لمن أطاع اللّه ورسوله ، مبغضا لمن عصى اللّه ورسوله ، استظل تحت ظل عرش الرحمن عز وجل ، ونجا من غمّه .
ومن حاد عن ذلك ، ووقع في شيء من هذه الذنوب بكلمة واحدة ، أو تغيّر قلبه ، أو شك في شيء من دينه ، بقي ألف سنة في الحر والهمّ والعذاب ، حتى يقضي اللّه فيه بما يشاء . ثم تساق الخلق من النور إلى الظلمة فيقومون في تلك الظلمة ألف عام .
فمن لقي اللّه تبارك وتعالى لم يشرك به شيئا ، ولم يدخل في قلبه شيء من النفاق ، ولم يشكّ في شيء من أمر دينه ، وأعطى الحق من نفسه ، وقال الحق ، وأنصف الناس من نفسه ، وأطاع اللّه عز وجل في السر والعلانية ، وقضى بقضاء اللّه ، وقنع بما أعطاه اللّه ، خرج من الظلمة إلى النور في مقدار طرفة عين مبيضّا وجهه ، وقد نجا من الغموم كلها .
ومن خالف في شيء منها بقي في الغم والعذاب ألف سنة ، ثم خرج منها مسودّا وجهه ، وهو في مشيئة اللّه يفعل به ما يشاء . ثم يساق الخلق إلى سرادقات الحساب ، وهو عشر سرادقات ، يقفون في كل سرادق منها ألف سنة . فيسأل ابن آدم عند أول سرادق منها عن المحارم ، فإن لم يكن وقع في شيء منها جاز إلى السرادق الثاني ، فيسأل عن الأهواء ، فإن كان نجا منها جاز إلى السرادق الثالث ، فيسأل عن عقوق الوالدين ، فإن لم يكن عاقّا جاز إلى السرادق الرابع ، فيسأل عن حقوق من فوّض اللّه أمرهم إليه ، وعن تعليمهم القرآن ، وعن أمر دينهم وتأديبهم ، فإن كان قد فعل جاز إلى السرادق الخامس ، فيسأل عما ملكت يمينه ، فإن كان محسنا إليهم جاز إلى السرادق السادس ، فيسأل عن حق قرابته ، فإن كان قد أدى حقوقهم جاز إلى السرادق السابع ، فيسأل عن صلة الرحم ، فإن كان وصولا
“ 223 “
لرحمه جاز إلى السرادق الثامن ، فيسأل عن الحسد ، فإن كان لم يكن حاسدا جاز إلى السرادق التاسع ، فيسأل عن المكر ، فإن لم يكن مكر بأحد جاز إلى السرادق العاشر ،
فيسأل عن الخديعة ، فإن لم يكن خدع أحدا نجا ، فنزل في ظل عرش اللّه عز وجل ، مقرّة عينه ، فرحا قلبه ، ضاحكا فاه . وإن كان قد وقع في شيء من هذه الخصال بقي في كل موقف منها ألف عام ، جائعا ، عطشا ، باكيا ، حزينا ، مهموما مغموما ، لا تنفعه شفاعة شافع .
ثم يحشرون إلى أخذ كتبهم بأيمانهم وشمائلهم ، فيحبسون عن ذلك في خمسة عشر موقفا :
كل موقف منها ألف سنة .
فيسألون في أول موقف منها عن الصدقات وما فرض اللّه عليهم في أموالهم ، فمن أدّاها كاملة جاز إلى الموقف الثاني .
فيسأل عن قول الحق والعفو عن الناس ، فمن عفا عفي عنه ، وجاز إلى الموقف الثالث .
فيسأل عن الأمر بالمعروف ، فإن كان أمر بالمعروف جاز إلى الموقف الرابع .
فيسأل عن النهي عن المنكر ، فإن كان ناهيا عن المنكر جاز إلى الموقف الخامس .
فيسأل عن حسن الخلق ، فإن كان حسن الخلق جاز إلى الموقف السادس .
فيسأل عن الحب في اللّه ، والبغض في اللّه ، فإن كان محبّا في اللّه ، مبغضا في اللّه عز وجل جاز إلى الموقف السابع .
فيسأل عن المال الحرام ، فإن لم يكن أخذ شيئا جاز إلى الموقف الثامن .
فيسأل عن شرب الخمر ، فإن لم يكن شرب من الخمور شيئا جاز إلى الموقف التاسع .
فيسأل عن الفروج الحرام ، فإن لم يكن أتاها جاز إلى الموقف العاشر . فيسأل عن قول الزور ، فإن لم يكن قالها جاز إلى الموقف الحادي عشر .
فيسأل عن الأيمان الكاذبة ، فإن لم يكن حلفها جاز إلى الموقف الثاني عشر .
فيسأل عن أكل الربا ، فإن لم يكن أكله جاز إلى الموقف الثالث عشر .
فيسأل عن قذف المحصنات ، فإن لم يكن قذف المحصنات جاز إلى الموقف الرابع عشر .
فيسأل عن شهادة الزور ، فإن لم يكن شهدها جاز إلى الموقف الخامس عشر .
فيسأل عن البهتان ، فإن لم يكن بهت مسلما نزل تحت لواء الحمد ، وأعطي كتابه بيمينه ، ونجا من همّ الكتاب وهوله ، وحوسب حسابا يسيرا .
وإن كان قد وقع في شيء من هذه الذنوب الكبائر ، ثم خرج من الدنيا غير تائب من ذلك ، بقي في كل موقف من هذه الخمسة عشر موقفا ألف سنة في الهمّ والغمّ والهول والحزن والجوع والعطش ، حتى يقضي اللّه عز وجل فيه بما يشاء .
ثم يقام الناس في قراءة كتبهم ألف عام ، فمن كان سخيا قدّم ماله ليوم فقره وحاجته وفاقته ، قرأ كتابه ، وهوّن عليه قراءته وكسي من ثياب الجنة ، وتوّج من تيجان الجنة ، وأقعد تحت ظل العرش عز وجل آمنا مطمئنا .
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin