الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء 17
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 249 “
العرب ، فقاتلهم ، فهزمهم أبرهة ، وأخذ له نفيل أسيرا فأتى به ، فلما همّ بقتله قال له نفيل :
لا تقتلني ، فإني دليلك بأرض العرب ، وهاتان يدان لك على قبيلتي خثعم شهران وناهس بالسمع والطاعة . فخلّى سبيله ، فخرج به معه يدلّه ، حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عرف بن ثقيف في رجال ثقيف ، فقالوا : أيها الملك ، إنما نحن عبيدك ، سامعون لك ، مطيعون ، وليس لك عندنا خلاف ، وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد ، يعنون اللّات والعزّى ، إنما تريد البيت الذي بمكة ، ونحن نبعث معك من يدلك عليه فتجاوز عنهم .
فبعثوا معه أبا رغال يدلّه على الطريق إلى مكة ، وفي ثقيف يقول ضرار بن الخطاب الفهري لما فعلت هذا :
وقرب ثقيف إلى لاتها * بمنقلب الخائب الخاسر
فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله بالمغمّس ، فلما أنزله به مات أبو رغال ، فرجمت قبره العرب ، فهو قبره الذي يرجم بالمغمّس ، وهو الذي قال فيه جرير بن الخطفاء :
إذا مات الفرزدق فارجموه * كما ترمون قبر أبي رغال
فلما نزل أبرهة بالمغمّس ، بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة ، فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم ، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها . فهمت قريش وكنانة وخزاعة وهذيل ومن كان في الحرم بقتاله ، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به ، فتركوا ذلك .
وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة ، وقال : اسأل عن سيد هذا البلد وشريفهم ، ثم قل له : إن الملك يقول لكم : إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت ، فإن لم تعرضوا إلى الحرب والقتال فلا حاجة لي بدمائكم ، فإن هو لم يرد حربي فائتني به . فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها ، فقيل له : عبد المطلب بن هاشم ، فجاءه ، فقال له ما أمره به أبرهة .
فقال عبد المطلب : واللّه ما نريد حربه ، وما لنا بذلك من طاقة ، هذا بيت اللّه الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام ، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه ، وإن يخلّ بينه وبينه فو اللّه ما عندنا دفع عنه . فقال حناطة : فانطلق معي إليه ، فإنه أمرني أن آتيه بك .
فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر ، فسأل عن ذي نفر وكان له صديقا ، حتى دخل عليه وهو في مجلسه ، فقال : يا ذا نفر ، هل عندك غنى فيما نزل بنا ؟
فقال له ذو نفر : وما غنى عند رجل أسير بين يدي ملك ينتظر أن يقتله بكرة وعشية ؟ ما
“ 250 “
عندي غنى في شيء مما نزل بك إلا أنيسا سائس الفيل ، وكان صديقا له ، فأرسل إليه ، فأوصيه بك ، وأعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك أن يكلمك فيما بدا لك ، ويشفع عنده بخير إن قدر على ذلك .
فقال : حسبي . فبعث ذو نفر إلى أنيس ، فقال له : إن عبد المطلب سيد قريش ، وصاحب عير مكة ، وعينها ، وعظيمها ، يطعم الناس بالسهل والجبل ، والوحوش في رؤوس الجبال ، وقد أصاب له الملك مائتي بعير ، فاستأذن له عليه ، وانفعه عنده بما استطعت . قال : افعل . فلما كلّم أنيس أبرهة ، قال له : أيها الملك ، سيد قريش ببابك يستأذن عليك ، وهو صاحب مكة وعيرها ، وهو يطعم الناس في السهل والجبل ، والوحوش في رؤوس الجبال ، فأذن له عليك يكلمك في حاجته . قال : فأذن له أبرهة .
وكان عبد المطلب أوسم الناس وأعظمهم وأجملهم ، فلما رآه أبرهة أجلّه وأكرمه عن أن يجلس تحته ، وكره أن تراه الحبشة أن يجلسه معه على سرير ملكه ، فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه ، وأجلسه معه عليه إلى جنبه .
ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك ؟ قال له لترجمان : يقول لك الملك : ما حاجتك ؟ قال : حاجتي أن يرد عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي . فلما قال ذلك قال أبرهة لترجمانه : قل له : كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلّمتني . أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك وقد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ؟ فقال عبد المطلب : إن هذه الإبل لي وأنا ربها ، وإن للبيت ربا سيمنعه .
قال : ما كان ليمنع مني . قال : أنت وذاك . قال ابن إسحاق : وقد كان ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه حناطة الحميري يعمر بن نعامة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناف بن كنانة وهو سيد بني بكر ، وخويلد بن وائلة الهذلي وهو يومئذ سيد بني هذيل ، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت ، فأبى عليهم ، فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى مكة ، فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرّز في شعب الجبال ، تخوّفا عليهم من مضرّة الجيش . ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام نفر معه من قريش يدعون إليه ويستنصرون على أبرهة وجنوده . فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :
يا رب إن المرء يم * نع رحله فامنع رحالك
وانصر على آل الصّلي * ب وعابديه اليوم آلك
لا يغلبن صليبهم * ومحالهم أبدا محالك
إن كنت تاركهم وقب * لتنا فأمر ما بدا لك
“ 251 “
فلئن فعلت فإنه * أمر يتم به فعالك
ثم قال عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن عبد الدار :
لا هم أخذ الأسود بن مقصود * الأخذ الهجمة فيها لتقليد
بين حرّا وثبير والبيد * يحبسها وهي أولات التطريد
فضمّها إلى جماجم سود * أحقره يا رب وأنت محمود
ثم أرسل عبد المطلب حلقة الباب ، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعب الجبال ليتحرّزوا فيها ، ينظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها .
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله وحبا جيشه ، وكان اسم الفيل محمودا ، وأبرهة مجمع يهدم الكعبة ثم الانصراف إلى اليمن .
فلما وجّهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى قام إلى جنب الفيل ، ثم أخذ بأذنه فقال : ابرك محمودا ، وارجع راشدا من حيث جئت ، فإنك في بلد اللّه الحرام . ثم أرسل أذنه فبرك الفيل ، وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل .
وضربوا الفيل ليقوم فأبى ، فضربوه في رأسه بالطبرزين فأبى ، فأدخلوه محاجن لهم لي مراقة فنزعوه بها ليقوم فأبى ، فوجموه راجعا إلى اليمن فقام يهرول ، ووجّهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ، ووجّهوه إلى الشرق ففعل مثل ذلك ، ووجّهوه إلى مكة فبرك ، فأرسل اللّه عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طير منها ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره ، وحجران برجليه ، أمثال الحمص والعدس ، ولا يصيب منهم أحد إلا هلك ، وليس كلهم أصابتهم ، فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق إلى اليمن ، فقال نفيل أيضا حين رأى ما أنزل اللّه بهم من نقمة
شعرا :
أين المفرّ والإله الطالب * والأشرم المغلوب ليس الغالب
وقال أيضا حين ولّوا :
ألا حيّيت عنا يا ردينا * نعمناكم مع الأصباح عينا
ردينة لو رأيت ولن تريه * لدى جنب المحصّب ما رأينا
إذا لعذرتنا وحمدت أمري * ولن تأسى على ما فات بينا
حمدت اللّه إذ عاينت طيرا * وخفت حجارة تلقى علينا
وكل القوم يسأل عن نفيل * كأن عليّ للحبشان دينا
فقال عبد المطلب :
قلت والأشرم تردي خيله * إن ذا الأشرم غربا بالحرم
كاده يتبع فيمن جنّدت * حمير والحي من آل قدم
“ 252 “
فانثنى عنه وفي أوداجه * جارح أمسك فيه بالكظم
نحن أهل اللّه في بلدته * لم يزل ذاك على عهد أبرم
نعبد اللّه وفينا شيمة * صلة القربى وأبناء الذّمم
إن للبيت لربا مانعا * من يرده بإثام يظطلم
وقال أيضا :
وكنت إذا أتى باغ نسلم * ونرجو أن يكون لنا كذلك
فولّوا لم ينالوا غير خزي * وكان الحين مهلكهم هنالك
ولم أسمع بأرجس من رجال * أرادوا بانتهاكهم حرامك
يريد : أرادوا العزّ ، فلما لم يبرز حذف لدلالة المعنى عليه . وقد روينا بانتهاكم حرامك ، فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون على كل منهل ، وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به يسقط أنملة أنملة ، كلما سقطت أنملة منه تبعتها مدة تمث قيح ودم ، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون .
قال ابن إسحاق : حدثني يعقوب بن عيينة أنه حدث أن أول ما رأيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام ، وأنه أول أول ما رئي به مرائر شجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام .
قال أبو الوليد فيما حدّث : إنه أول ما كانت بمكة حمام اليمام حمام مكة الحرمية ذلك الزمان ، وقال : إنها من نسل الطير التي رمت أصحاب الفيل حين خرجت من بحر جدة .
ولما ردّ اللّه الحبشة عن مكة وأصابهم ما أصابهم من النعمة ، عظّمت العرب قريشا وقالوا : أهل اللّه قاتل عنهم وكفاهم مئونة عدوّهم ؟ وجعلوا في ذلك يقولون الأشعار ويذكرون فيها ما جرى .
فمن ذلك ما قال عبد اللّه بن الزبعرى بن عديّ بن قيس بن عديّ بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي :
يتكلموا عن بطن مكة أنها * كانت قديما لا يرام حريمها
لم يخلق الشّعري ليالي حرّمت * إذ لا عزيز من الأنام يرومها
سائل أمير الجيش عنها ما رأى * ولسوف ينبئ الجاهلين عليمها
ستون ألفا لم يؤبوا أرضهم * بل لم يعش بعد الإياب سقيمها
“ 253 “
كانت بها عاد وجرهم قبلهم * واللّه من فوق العباد يقيمها
وقال صفيّ بن خيثم بن وائل ، ثم الخطميّ بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس الأنصاري :
ومن صنعه يوم فيل الحبوش * إذا كلما بعثوه رزم
محاجنهم تحت أقرابه * وقد شرموا أنفه فانخرم
وقد جعلوا سوطهم معولا * إذا يمموه قفاه كلم
فولّى وأدبر درّاجه * وقد باء بالظلم من كان ثم
فأرسل من فوقهم حاصبا * يلفّهم مثل لفّ القزم
تخرّ على الصبر أجسادهم * فقد ثأجوا كثواج الغنم
وقال أيضا :
فقوموا فصلّوا ربكم فتمسّحوا * بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء ومصدق * غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
كتيبته بالسهل تمشي ورحله * على العادقات في رؤوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردّهم * جنود مليك بين ساق وصاحب
فولّوا سراعا هاربين ولم يئوب * إلى أهله بالحبش غير عصائب
وقال طالب بن أبي طالب بن عبد المطلب :
ألم تعلموا ما كان في حرب داحس * وجيش أبي يكسوم إذ ملئوا الشّعبا
فلو لا دفاع اللّه لا شيء غيره * لأصبحتم لا يمنعون لكم سربا
وقال أمية بن الصلت بن ربيعة : كذا قال ابن هشام .
وقال ابن إسحاق ، وأبو الوليد : قال أبو الصلت بن ربيعة الثقفي ، وهو جاهلي بذكر الحنيفية ، وساق الشعر من حديث ابن هشام :
إن آيات ربنا باقيات * ما يماري فيهن إلا الكفور
يخلق الليل والنهار فكلّ * مستنير حسابه مقدور
ثم يجلو بها وربّ رحيم * بمهاة شعاعها منشور
حبس الفيل بالمغمّس حتى * ظلّ يحبو كأنه معقور
لازما خلفة الحران كما * قطّر من رأس كوكب محدور
حوله من ملوك كندة أبطأ * ل ملاويث في الحروب صقور
خلّفوه ثم ابدعرّوا جميعا * كلهم عظم ساقه مكسور
“ 254 “
كل دين يوم القيامة عند * اللّه إلا دين الحنيفة بور
وقال المغيرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم ، وهو من حديث أبي الوليد ، وابن إسحاق رحمهما اللّه تعالى :
أنت حبست الفيل بالمغمّس * حبسته كأنه مكردس
مذ ما هم همّ بشرّ مجلس * بمجلس تزهق فيه الأنفس
وقت بباب ربنا لم يدنس * يا واهب الحيّ الجميع الأخمس
وما لهم من طارف ومنفس * وجاره مثل الجواري الكنّس
أنت لنا في كل أمر مضرّس * ونفثات أخذت بالأنفس
وقال الفرزدق ، واسمه همام بن غالب أحد بني مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك ، ويذكر الحجاج والفيل :
فلما طغى الحجاج حين طغى به * غنا قال إني مرتق في السلالم
فكان كما قال ابن نوح سأرتقي * إلى جبل من خشية الماء عاصم
رمى اللّه في جثمانه مثل ما رمى * عن القبلة البيضاء ذات المحارم
جنودا لسوق الفيل حتى أعادهم * هباء وكانوا مطرخمي الطراخم
نصرت كنصر البيت إذ ساق فيله * إليه عظيم المشركين الأعاجم
وقال عبد اللّه بن قيس الرّقيات أحد بني عامر بن لؤي بن غالب يذكر أبرهة الأشرم وفيله :
كاد الأشرم الذي جاء بألفي * ل فولّى وجيشه مهزوم
واستهلت عليهم الطير بالجن * دل حتى كأنه مرجوم
ذلك من يعزو من الناس يرجع * وهو فلّ من الجيوش رميم
قول ابن عمر رضي اللّه عنه لحنين في استلام الركن
روينا من حديث أبي الوليد ، عن جده ، عن يحيى بن سليم ، عن إسماعيل بن كثير ، عن مجاهد ، قال : كنا مع عبد اللّه بن عمر في الطواف ، فنظر إلى رجل يطوف كالبدويّ لا يستلم الركن ، ولا يكبّر ، ولا يذكر اللّه ، فقال له ابن عمر : أي شيء تصنع هاهنا ؟ قال :
أطوف . قال ابن عمر : مثل الجمل يخبط ، لا تستلم ، ولا تكبّر ، ولا تذكر اللّه ؟ ثم قال له :
ما اسمك ؟ قال : حنين . قال : فكان ابن عمر إذا رأى الرجل لا يستلم الركن قال : أحنينيّ هو ؟ قلت : وقد رأيت أنا في مجاورتي رجلا من المجاورين ، يسكن برباط تون بباب السدّة
“ 255 “
يقال له إسماعيل الموصلي ، يطوف بالبيت كثيرا مثل طواف حنين ، وربما يستدبر البيت أحيانا في طوافه ، فسألت عن صنعته فقيل لي : يبيع القفع .
فاتفق أن حضرني أبيات فذكرتها موعظة وتنبيها واعتذارا عنه :
يطوف بالبيت من يدين به * لكنه خارج عن البشر
كأنه في طوافه جمل * يخبط لا يلوي على الحجر
مثل حنين وقد رآه فتى * من أعلم الناس من بني عمر
فقال هذا الذي أقول به * في حق هذا الأنيس فازدجر
لكنني قد وجدت معذرة * كان عليها في سالف العمر
كان له قفع يطوف به * ومن أتى عادة فقد يحر
ولنا من باب اللطائف والإشارات :
يا حادي العيس لا تعجل بها وقفا * فإنني زمن في أثرها غادي
قف بالمطايا وشمّر عن أزمتها * باللّه بالوجد بالتبريح يا حادي
نفسي تريد ولكن لا تساعدها * رجلي فمن لي بإسعاف وإسعاد
ما يفعل الصانع النحرير في شغل * آلاته أذنت فيه بإفساد
عرج ففي أيمن الوادي خيامهم * للّه درّك ما تحويه يا وادي
جمعت قوما هم نفسي وهم نفسي * وهم سواد سويدا خلب أكبادي
لا درّ در الهوى إن لم أمت كمدا * بحاجر أو بسلع أو بأجياد
ولنا في هذا الباب :
يذكرني حال الشبيبة والشرخ * حديث لنا بين المدينة والكرخ
فقلت لنفسي بعد خمسين حجة * وقد صرت من طول التفكر كالفرخ
يذكرني أكناف سلع وحاجر * ويذكر لي حل الشبيبة والشرخ
وسوقي المطايا منجدا ثم متهما * وقدحي لها نار الغفار مع المرخ
روينا من حديث ابن مروان ، عن محمد بن عبد العزيز ، قال : حدثنا المضا بن جارود ، عن محمد بن عبد اللّه القرشي ، عن أبيه ، قال أبو الدرداء : ما من رجل من المسلمين إذا أصبح إلا اجتمع هواه وعمله ، فإن كان هواه تابعا لعمله فيومه صالح ، وإن كان عمله تابعا لهواه فيومه يوم شر .
ولنا من باب الإشارات العلوية :
بان العزاء وبان الصبر إذ بانوا * بانوا وهم في سويد القلب سكان
“ 256 “
سألتهم عن مقيل الركب قيل لنا * مقيلهم حيث فاح الشيح والبان
فقلت للريح سيري والحقين بهم * فإنهم في ظلال الأيك قطان
وبلّغيهم سلاما من أخي شجن * في قلبه من فراق القوم أشجان
قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : « أنا ابن الذبيحين »
يريد إسماعيل وأباه عبد اللّه . فأما إسماعيل ، فما ذكر اللّه من قصة إبراهيم عليه السلام في رؤياه في ذبح ولده على اختلاف بين إسحاق وإسماعيل ، وما فداه اللّه به ، على أنه يحتمل إذا صح قول النبي صلى اللّه عليه وسلم إنه ابن الذبيحين ، أنه يريد إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام . فإن وزن فعيل يكون للفاعل ويكون للمفعول ، فذبيح بمعنى ذابح وهو إبراهيم ، ومذبوح وهو إسماعيل . وقد يصح نسب النبوّة للعم كما تنسب للأب ، على أن يكون الذبيح إسحاق .
قال تعالى في قول بني يعقوب : قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ .
وكان إسماعيل عم يعقوب ولم يكن أباه ، وإنما أبوه إسحاق . فأما ما كان من خبر عبد اللّه بن عبد المطلب والد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو ما رويناه من حديث ابن إسحاق ، قال ابن إسحاق : كان عبد المطلب بن هاشم قد لقي من قريش شدّة عند حفر زمزم ، فلما نصره اللّه عليهم نذر لئن ولد له عشرة أولاد ذكورا ، ثم بلغوا معه حتى يمنعوه ، لينحرن أحدهم للّه عند الكعبة .
فلما توافى بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه جمعهم ثم أخبرهم بنذره ، ودعاهم إلى الوفاء للّه بذلك ، فأطاعوه ، وقالوا : كيف ذلك تصنع ؟
فقال : ليأخذ كل رجل منكم قدحا ، ثم يكتب عليه اسمه ، ثم ائتوني . ففعلوا ، ثم أتوه ، فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة ،
فقال لصاحب القداح : اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه ، وأخبره بنذره الذي نذره ، فأعطاه كل رجل منهم قدحه الذي فيه اسمه ، فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها ، قام عبد المطلب عند هبل يدعو اللّه ، ثم ضرب صاحب القداح فخرج القدح على عبد اللّه ، وكان أحب أولاده إليه ، فأخذ شفرة ثم أقبل إلى أساف ونائلة ليذبحه .
فقامت إليه قريش من أنديتها فقالوا : ما تريد يا عبد المطلب ؟
قال : اذبحه . قالت له قريش وبنوه : واللّه لا تذبحه أبدا حتى تعذّر فيه ، ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه ، فما بقي الناس على هذا .
فقال له المغيرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم ، وكان عبد اللّه بن أحب الناس إليه : واللّه لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه ، فإن كان فداؤه
“ 257 “
بأموالنا فديناه . وقالت له قريش وبنوه : لا تفعل ، وانطلق إلى الحجاز ، فإن بها عرّافة لها تابع ، فاسألها ، ثم أنت على رأس أمرك ، إن أمرتك بذبحه ذبحته ، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته . فانطلقوا حتى قدموا المدينة ، فوجدوها بخيبر ، فركبوا حتى جاءوها ، فقصّ عليها عبد المطلب خبره ، والقصّة كما جرت.
فقالت لهم : ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله .
فرجعوا من عندها وعبد المطلب يدعو اللّه ، ثم غدوا عليها فقالت لهم : جاء في الخبر : كم الدّية فيكم ؟ قالوا : عشرة من الإبل . قالت : ارجعوا إلى بلادكم وقرّبوا صاحبكم وقرّبوا عشرا من الإبل ، ثم اضربوا عليها فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم ، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه . وقد رضي ربكم ونجا صاحبكم .
فخرجوا حتى قدموا مكة ، فلما أجمعوا لذلك الأمر قام جانبا عبد المطلب يدعو اللّه ، ثم قرّبوا عبد اللّه وعشرا من الإبل ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد اللّه ، فزادوا عشرا من الإبل ، فلم يزالوا يضربون عليها وعلى عبد اللّه فتخرج على عبد اللّه ، فيزيدون عشرا ، حتى بلغت مائة ، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل ، فقالت قريش ومن حضر : إنه رضي ربك يا عبد المطلب . فزعموا أن عبد المطلب قال : لا واللّه حتى أضرب عليها ثلاث مرات ، فضربوا على عبد اللّه وعلى الإبل ثلاثا ، كل ذلك تخرج القداح على الإبل ، فنحرت ، ثم تركت لا يصدّ عنها إنسان ولا يمنع .
وانصرف عبد المطلب مسرورا آخذا بيد عبد اللّه ، فمرّ به على امرأة من بني أسد بن عبد العزّى ، وهي أخت ورقة بن نوفل ، فنظرت إليه وهي عند الكعبة ، فقالت له وهي تنظر في وجهه : أين تذهب يا عبد اللّه ؟ قال : مع أبي . قالت : هل لك مثل الإبل التي نحرت عنك وتقع عليّ الآن ؟ قال : أنا مع أبي ، ولا أستطيع فراقه الآن .
وانصرف ، فأتى به عبد المطلب إلى وهب بن عبد مناف سيد بني زهرة يومئذ ، فزوّجه آمنة بنت وهب ، فدخل عليها حين أملكها مكانه ، فوقع عليها ، فحملت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
ثم خرج من عندها ، فأتى أخت ورقة التي عرضت عليه نفسها ، فقال لها : ما لك لا تعرضين عليّ ما كنت عرضت ؟
قالت له : فارقك النور الذي كنت رأيته في وجهك ، فليس لي بك اليوم حاجة .
وفي رواية ابن إسحاق بن يسار ، من حديث ابن إسحاق عنه : أنه حدث أو أخبر أن عبد اللّه لما دخل على امرأة كانت له مع آمنة بنت وهب وقد عمل في طين له ، وله أثر من الطين ، فدعاها إلى نفسها ، فأبطأت عليه لما رأت من أثر الطين ، فغسل ما كان به من الطين ، ثم خرج عامدا إلى آمنة ، فمرّ بها ، فدعته إلى نفسها ، فأبى عليها ، ودخل على
“ 258 “
آمنة ، فأصابها ، فحملت بمحمد صلى اللّه عليه وسلم . ثم مرّ بامرأته تلك ، فقال لها : هل لك ؟ قالت : لا ، مررت بي وبين عينيك غرّة ، ودعوتك فأبيت ،
ودخلت على آمنة فذهبت بها :
تخبّرك اللّه من آدم * فما زلت منحدرا ترتقي
فقيل لآمنة : إنك حملت بسيد هذه الأمة يقول لك الملك ، فإذا وقع على الأرض فقولي : أعيذه بالواحد ، من شر كل حاسد ، وقائم وقاعد ، يأخذ بالمراصد ، في طرق الموارد ، وسميته محمدا .
وروينا من حديث ابن جهضم ، عن محمد بن القاسم ، عن محمد بن عبيد ، عن محمد بن صالح ، قال : بينما أنا في الطواف ، نظرت أعرابيا متعلقا بأستار الكعبة ، وقد شخص ببصره نحو السماء ، وهو يقول : يا من وفد العباد إليه ، ذهبت أيامي ، وضعفت قوتي ، وقد فررت إليك إلى بيتك المعظم المكرم بذنوب كثيرة لا تسعها الأرض ، ولا تغسلها البحار ، مستجيرا بعفوك منها ، وحططت رحلي بفنائك ، وأنفقت مالي في رضاك .
فما الذي يكون من جزائك يا مولاي ؟ ثم أقبل على الناس بوجهه ، فقال : معاشر الناس ، ادعوا لمن وكزته الخطايا ، وعمرته البلايا ، ارحموا أسير ضرّ ، غريب فاقة ، سائلكم :
بالذي قد عمتكم الرغبة إليه ، ألا سألتم اللّه عز وجل أن يهب لي جرمي ، ويغفر لي ذنوبي .
ثم عاد فتعلق بأستار الكعبة ، وقال : إلهي وسيدي عظيم الذنب مكروب ، وعن صالح الأعمال مطرود ، ذا فاقة إلى رحمتك .
قال محمد بن صالح : ثم رأيته بعرفات ، وقد وضع يساره على أم رأسه ، وهو يصرخ ويبكي ويشهق ، ويقول : إلهي وسيدي ومولاي ، أضحكت الأرض بالزهر ، وأمطرت السماء بالرحمة ، والذي أعطيت الموحدين إن نفسي لواثقة لي منك ، وكيف لا يكون كذلك وأنت حبيب من تحبب إليك ، وقرة عين من لاذ بك وانقطع إليك ، حقا حقا أقول : لقد أمرت بمكارم الأخلاق ، فاجعل قرائي منك عتق رقبتي من النار .
وممن دعا فهتف بإجابته ، ما كتب إلينا عبد الرحمن ، عن أحمد بن ظفر ، عن أحمد ، عن الحسن ، عن هلال بن محمد ، عن عمر بن أحمد ، عن عبيد اللّه ، عن زكريا ، عن الأصمعي ، عن سفيان بن عيينة ، قال : سمعت أعرابيا متعلقا بأستار الكعبة وهو يقول :
السائل سائل انقضت أيامه ، وبقيت آثامه ، وانقضت شهواته ، وبقيت تبعاته . ولكل ضعيف قرى ، فاجعل قراي الجنة .
ثم كتب : وحدثنا أحمد ، عن الحسن ، عن عبد العزيز بن جعفر ، عن حمزة بن محمد بن عيسى المدائني ، قال : تعلّق شاب بأستار الكعبة ، وقال : إلهي لا لك شريك
“ 259 “
فيؤتى ، ولا وزير فيرشى ، إن أطعتك فبفضلك ، ولك الحمد ، وإن عصيتك ، فبجهلي ولك الحجّة عليّ ، فبإثبات حجتك عليّ ، وبانقطاع حجتي لديك ، إلا غفرت لي . فسمع هاتفا يقول : الفتى عتيقنا من النار .
موعظة نبوية
حدثنا محمد بن قاسم ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن علي ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن قاسم ، عن الشيباني ، عن ابن زهير ، عن موسى بن معاذ ، عن يحيى بن عبد الحميد ، عن قيس بن الربيع ، عن حر بن الصباح ، عن خليفة بن الحصين ، عن قيس بن عاصم ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يا قيس ، إن مع العز ذلّا ، وإن مع الحياة موتا ، وإن مع الدنيا آخرة ، وإن لكل سيئة عقابا ، وإن لكل أجل كتابا . إنه لا بد يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي ، وتدفن معه وأنت ميت ، فإن كان كريما أكرمك ، وإن كان لئيما أسلمك ، ثم لا يحشر إلا معك ، ولا تبعث إلا معه ، ولا تسأل إلا عنده ، فلا تجعله إلا صالحا ، فإنه إن كان صالحا لم تستأنس إلا به ، وإن كان فاحشا لم تستوحش إلا منه ، وهو فعلك » .
شعر في هذا المعنى :
تزوّد قرينا من فعالك إنما * قرين الفتى في القبر ما كان يعمل
وإن كنت مشغولا بشيء فلا يكن * بغير الذي يرضى به اللّه تشغل
فلن يصحب الإنسان من بعد موته * إلى قبره إلا الذي كان يفعل
ألا إنما الإنسان ضيف لأهله * يقيم قليلا عندهم ثم يرحل
وقال الآخر في القبر :
القبر بيت كريه سوف تسكنه * ما ذا عملت ليوم القبر يا ساهي
ولأبي العتامية من قصيدة :
يا بيت بيت الرجا يا بيت منقطعي * يا بيت بيت الردى يا بيت وحشته
ورأيت على قبر بسبا مكتوبا :
ولقد وقفت كما وقفت * ولكم نظرت فما اعتبرت
حصّل لنفسك منزلا * قبل الحصول لما حصلت
ورئي على قبر مكتوب :
“ 260 “
أنا في قبري وحدي * قد تبرأ الأهل مني
أسلموني لذنوبي * خبت إن لم يعف عني
وسماعنا على قول ابن حبوس حيث يقول :
أسكّان نعمان الأراك تيقنوا * بأنكم في ربع قلبي سكان
ودوموا على حسن الوداد فإنني * بليت بأقوام إذا أحفظوا خانوا
سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم * هل اكتحلت بالنوم في فيه أجفان
السماع الروحاني في ذلك سكان نعمان الأراك هم العارفون في نعيم حضرة المشاهدة ، ومحلها قلوبهم يقول لطيفته الربانية لهذه الهمم : داوموا فإني دفعت إلى نفوس أخذ عليها العهد الإلهي في الميثاق الأول فخانوا ، ثم أخذ يصف نفسه بالقيومية تخلقا إليها ، أي قدر على التجرّد من عالم التركيب الذي هو محل النوم ، إلى العالم الأنزه الأقدس الذي لا نوم فيه ، ميراثا نبويا من أنه لا ينام قلبه صلى اللّه عليه وسلم . ثم أخذ يخاطب الهمم : إن لمعان سيوفها إذا برقت من منازلها منازل الأحبة ، فغمد هاتيك السيوف أجفاني ، أي لا أنام ، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار .
وسماعنا على قول مهيار حيث يقول :
من ناظر لي بين سلع وقبا * كيف أضاء البرق أم كيف خبا
نبّهني وميضه ولم تنم * عينيّ ولكن ردّ عقلا غربا
قرب له قد صار قلبي خافقا * واستبردته أضلعي ملتهبا
يا لبعيد من منى ناديته * يوهمني الصدق بريق كذبا
وللنسيم سحرا بحاجر * ردّت به عهد الصباريح الصّبا
آلية ما فتح العطار عن * أعبق منها نفسا وأطيبا
سل من يدلّ الناشدين بالغضا * على الطريد ويرد السلبا
أراجع لي والمنى هل هلّة * وطالع نجم والزبان غرّبا
وطوله بين القباب يمنى * لا خائفا عتبا ولا مرتقبا
السماع الروحاني للعارف في ذلك : من ناظر لي بين المقامات المحمدية ؟ كيف لمع برق المعرفة ؟ أم كيف خبا مطويا في غيم الكون ؟
أيقظني لمعانه ، على أن عيني ما نامت عنه ، ولكن كان العقل منصرفا إلى عالم التدبير ، فردّه إلى العالم المدبر ، فسكنت له همم القلوب بعد طيرانها خضعا كسلسلة على صفوان ، واستبردت برد السرور عطفات الجنوح ، ما كان حاميا بنود التنزلات الإلهية .
فلما لاح له المعين من خلق خلقة الرصد مثال النور
“ 261 “
المنزل ليقبله منه ، عرفه بالحفظ الإلهي ، فقال : يوهمني الصدق بريق كذبا ، ثم رجع ينادي أيضا بالبعد من عالم الأنفاس ، في البرزخ المشترك بين النور والظلمة ، دلّ عليه وعلى عصر شبابه ريح الصبا ، شروق نفس التنفس من نفس الرحمن ، بما هو أطيب من المسك عرفا ونشرا .
ثم قال : سل من يدل الناشدين قلوبهم بمقام الاشتياق على الطريق ، عن البناء الأعز ، ويرد قلبه الذي أخذ منه على عزّة .
ثم قال : أراجع لي ذلك السلب ؟ والمنى قد يكون أماني ، وهل يطلع نجم سعد غربا ؟
أي صار في الحجاب . وهل أراني طائفا مترددا بين القباب الساترة شموسا ؟ لا خائفا عتبا . يقول : لم وأما ولا مترقبا ، وعدل الحصول :
الاتصال وانتظام الشمل بالأحباب .
ومما نظمنا في هذا الباب قولنا :
بأبي الغصون المائسات عواطفا * العاطفات على الخدود سوالفا
المرسلات من الشعور غدائرا * اللينات معاقدا ومعاطفا
الساحبات من الدلال دلادلا * اللابسات من الجمال مطارفا
الباخلات بحسنهنّ صيانة * الواهبات متالدا ومطارفا
المونقات مضاحكا ومباسما * الطيبات مقبلا ومراشفا
الناعمات مجرّدا والكاعبا * ت مهندا والمهديات طرائفا
الخالبات بكل سحر معجب * عند الحديث مسامعا ولطائفا
الساترات من الحياء محاسنا * تسبي بها القلب التقي الخائفا
المبديات من الثغور لآلئا * تشفي بريقتها ضعيفا تالفا
الراميات من العيون رواشقا * قلبا خبيرا بالحروب مثاقفا
المطلعات من الحبوب أهلة * لا يلفين مع التمام كواسفا
المنشيات من الدموع سحائبا * المسمعات من الزفير قواصفا
يا صاحبي بمهجتي خمصانة * أسدت إليّ أياديا وعوارفا
نظمت نظام النمل فهي نظامنا * عربيّة عجماء تلهي العارفا
مهما رنت سلت عليك صوارما * ويريك مبسمها بريقا خاطفا
يا صاحبيّ قفا بأكناف الحمى * من حاجر يا صاحبي قفا قفا
حتى أسائل أين سارت عيسهم * فقد اقتحمت معاطبا ومخاوفا
وقطعت أبغي رسم دار قد عفى * من أجلهنّ مهالكا ومتالفا
ومعالما ومجاهلا بشملة * تشكو الوجا وسباسبا وتنايفا
مطوية الأقراب أذهب سيرها * بحثيثة منها قوى وسدائفا
الجزء 17
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 249 “
العرب ، فقاتلهم ، فهزمهم أبرهة ، وأخذ له نفيل أسيرا فأتى به ، فلما همّ بقتله قال له نفيل :
لا تقتلني ، فإني دليلك بأرض العرب ، وهاتان يدان لك على قبيلتي خثعم شهران وناهس بالسمع والطاعة . فخلّى سبيله ، فخرج به معه يدلّه ، حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عرف بن ثقيف في رجال ثقيف ، فقالوا : أيها الملك ، إنما نحن عبيدك ، سامعون لك ، مطيعون ، وليس لك عندنا خلاف ، وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد ، يعنون اللّات والعزّى ، إنما تريد البيت الذي بمكة ، ونحن نبعث معك من يدلك عليه فتجاوز عنهم .
فبعثوا معه أبا رغال يدلّه على الطريق إلى مكة ، وفي ثقيف يقول ضرار بن الخطاب الفهري لما فعلت هذا :
وقرب ثقيف إلى لاتها * بمنقلب الخائب الخاسر
فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله بالمغمّس ، فلما أنزله به مات أبو رغال ، فرجمت قبره العرب ، فهو قبره الذي يرجم بالمغمّس ، وهو الذي قال فيه جرير بن الخطفاء :
إذا مات الفرزدق فارجموه * كما ترمون قبر أبي رغال
فلما نزل أبرهة بالمغمّس ، بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة ، فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم ، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها . فهمت قريش وكنانة وخزاعة وهذيل ومن كان في الحرم بقتاله ، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به ، فتركوا ذلك .
وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة ، وقال : اسأل عن سيد هذا البلد وشريفهم ، ثم قل له : إن الملك يقول لكم : إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت ، فإن لم تعرضوا إلى الحرب والقتال فلا حاجة لي بدمائكم ، فإن هو لم يرد حربي فائتني به . فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها ، فقيل له : عبد المطلب بن هاشم ، فجاءه ، فقال له ما أمره به أبرهة .
فقال عبد المطلب : واللّه ما نريد حربه ، وما لنا بذلك من طاقة ، هذا بيت اللّه الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام ، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه ، وإن يخلّ بينه وبينه فو اللّه ما عندنا دفع عنه . فقال حناطة : فانطلق معي إليه ، فإنه أمرني أن آتيه بك .
فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر ، فسأل عن ذي نفر وكان له صديقا ، حتى دخل عليه وهو في مجلسه ، فقال : يا ذا نفر ، هل عندك غنى فيما نزل بنا ؟
فقال له ذو نفر : وما غنى عند رجل أسير بين يدي ملك ينتظر أن يقتله بكرة وعشية ؟ ما
“ 250 “
عندي غنى في شيء مما نزل بك إلا أنيسا سائس الفيل ، وكان صديقا له ، فأرسل إليه ، فأوصيه بك ، وأعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك أن يكلمك فيما بدا لك ، ويشفع عنده بخير إن قدر على ذلك .
فقال : حسبي . فبعث ذو نفر إلى أنيس ، فقال له : إن عبد المطلب سيد قريش ، وصاحب عير مكة ، وعينها ، وعظيمها ، يطعم الناس بالسهل والجبل ، والوحوش في رؤوس الجبال ، وقد أصاب له الملك مائتي بعير ، فاستأذن له عليه ، وانفعه عنده بما استطعت . قال : افعل . فلما كلّم أنيس أبرهة ، قال له : أيها الملك ، سيد قريش ببابك يستأذن عليك ، وهو صاحب مكة وعيرها ، وهو يطعم الناس في السهل والجبل ، والوحوش في رؤوس الجبال ، فأذن له عليك يكلمك في حاجته . قال : فأذن له أبرهة .
وكان عبد المطلب أوسم الناس وأعظمهم وأجملهم ، فلما رآه أبرهة أجلّه وأكرمه عن أن يجلس تحته ، وكره أن تراه الحبشة أن يجلسه معه على سرير ملكه ، فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه ، وأجلسه معه عليه إلى جنبه .
ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك ؟ قال له لترجمان : يقول لك الملك : ما حاجتك ؟ قال : حاجتي أن يرد عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي . فلما قال ذلك قال أبرهة لترجمانه : قل له : كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلّمتني . أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك وقد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ؟ فقال عبد المطلب : إن هذه الإبل لي وأنا ربها ، وإن للبيت ربا سيمنعه .
قال : ما كان ليمنع مني . قال : أنت وذاك . قال ابن إسحاق : وقد كان ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه حناطة الحميري يعمر بن نعامة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناف بن كنانة وهو سيد بني بكر ، وخويلد بن وائلة الهذلي وهو يومئذ سيد بني هذيل ، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت ، فأبى عليهم ، فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى مكة ، فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرّز في شعب الجبال ، تخوّفا عليهم من مضرّة الجيش . ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام نفر معه من قريش يدعون إليه ويستنصرون على أبرهة وجنوده . فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :
يا رب إن المرء يم * نع رحله فامنع رحالك
وانصر على آل الصّلي * ب وعابديه اليوم آلك
لا يغلبن صليبهم * ومحالهم أبدا محالك
إن كنت تاركهم وقب * لتنا فأمر ما بدا لك
“ 251 “
فلئن فعلت فإنه * أمر يتم به فعالك
ثم قال عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن عبد الدار :
لا هم أخذ الأسود بن مقصود * الأخذ الهجمة فيها لتقليد
بين حرّا وثبير والبيد * يحبسها وهي أولات التطريد
فضمّها إلى جماجم سود * أحقره يا رب وأنت محمود
ثم أرسل عبد المطلب حلقة الباب ، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعب الجبال ليتحرّزوا فيها ، ينظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها .
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله وحبا جيشه ، وكان اسم الفيل محمودا ، وأبرهة مجمع يهدم الكعبة ثم الانصراف إلى اليمن .
فلما وجّهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى قام إلى جنب الفيل ، ثم أخذ بأذنه فقال : ابرك محمودا ، وارجع راشدا من حيث جئت ، فإنك في بلد اللّه الحرام . ثم أرسل أذنه فبرك الفيل ، وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل .
وضربوا الفيل ليقوم فأبى ، فضربوه في رأسه بالطبرزين فأبى ، فأدخلوه محاجن لهم لي مراقة فنزعوه بها ليقوم فأبى ، فوجموه راجعا إلى اليمن فقام يهرول ، ووجّهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ، ووجّهوه إلى الشرق ففعل مثل ذلك ، ووجّهوه إلى مكة فبرك ، فأرسل اللّه عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طير منها ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره ، وحجران برجليه ، أمثال الحمص والعدس ، ولا يصيب منهم أحد إلا هلك ، وليس كلهم أصابتهم ، فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق إلى اليمن ، فقال نفيل أيضا حين رأى ما أنزل اللّه بهم من نقمة
شعرا :
أين المفرّ والإله الطالب * والأشرم المغلوب ليس الغالب
وقال أيضا حين ولّوا :
ألا حيّيت عنا يا ردينا * نعمناكم مع الأصباح عينا
ردينة لو رأيت ولن تريه * لدى جنب المحصّب ما رأينا
إذا لعذرتنا وحمدت أمري * ولن تأسى على ما فات بينا
حمدت اللّه إذ عاينت طيرا * وخفت حجارة تلقى علينا
وكل القوم يسأل عن نفيل * كأن عليّ للحبشان دينا
فقال عبد المطلب :
قلت والأشرم تردي خيله * إن ذا الأشرم غربا بالحرم
كاده يتبع فيمن جنّدت * حمير والحي من آل قدم
“ 252 “
فانثنى عنه وفي أوداجه * جارح أمسك فيه بالكظم
نحن أهل اللّه في بلدته * لم يزل ذاك على عهد أبرم
نعبد اللّه وفينا شيمة * صلة القربى وأبناء الذّمم
إن للبيت لربا مانعا * من يرده بإثام يظطلم
وقال أيضا :
وكنت إذا أتى باغ نسلم * ونرجو أن يكون لنا كذلك
فولّوا لم ينالوا غير خزي * وكان الحين مهلكهم هنالك
ولم أسمع بأرجس من رجال * أرادوا بانتهاكهم حرامك
يريد : أرادوا العزّ ، فلما لم يبرز حذف لدلالة المعنى عليه . وقد روينا بانتهاكم حرامك ، فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون على كل منهل ، وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به يسقط أنملة أنملة ، كلما سقطت أنملة منه تبعتها مدة تمث قيح ودم ، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون .
قال ابن إسحاق : حدثني يعقوب بن عيينة أنه حدث أن أول ما رأيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام ، وأنه أول أول ما رئي به مرائر شجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام .
قال أبو الوليد فيما حدّث : إنه أول ما كانت بمكة حمام اليمام حمام مكة الحرمية ذلك الزمان ، وقال : إنها من نسل الطير التي رمت أصحاب الفيل حين خرجت من بحر جدة .
ولما ردّ اللّه الحبشة عن مكة وأصابهم ما أصابهم من النعمة ، عظّمت العرب قريشا وقالوا : أهل اللّه قاتل عنهم وكفاهم مئونة عدوّهم ؟ وجعلوا في ذلك يقولون الأشعار ويذكرون فيها ما جرى .
فمن ذلك ما قال عبد اللّه بن الزبعرى بن عديّ بن قيس بن عديّ بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي :
يتكلموا عن بطن مكة أنها * كانت قديما لا يرام حريمها
لم يخلق الشّعري ليالي حرّمت * إذ لا عزيز من الأنام يرومها
سائل أمير الجيش عنها ما رأى * ولسوف ينبئ الجاهلين عليمها
ستون ألفا لم يؤبوا أرضهم * بل لم يعش بعد الإياب سقيمها
“ 253 “
كانت بها عاد وجرهم قبلهم * واللّه من فوق العباد يقيمها
وقال صفيّ بن خيثم بن وائل ، ثم الخطميّ بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس الأنصاري :
ومن صنعه يوم فيل الحبوش * إذا كلما بعثوه رزم
محاجنهم تحت أقرابه * وقد شرموا أنفه فانخرم
وقد جعلوا سوطهم معولا * إذا يمموه قفاه كلم
فولّى وأدبر درّاجه * وقد باء بالظلم من كان ثم
فأرسل من فوقهم حاصبا * يلفّهم مثل لفّ القزم
تخرّ على الصبر أجسادهم * فقد ثأجوا كثواج الغنم
وقال أيضا :
فقوموا فصلّوا ربكم فتمسّحوا * بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء ومصدق * غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
كتيبته بالسهل تمشي ورحله * على العادقات في رؤوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردّهم * جنود مليك بين ساق وصاحب
فولّوا سراعا هاربين ولم يئوب * إلى أهله بالحبش غير عصائب
وقال طالب بن أبي طالب بن عبد المطلب :
ألم تعلموا ما كان في حرب داحس * وجيش أبي يكسوم إذ ملئوا الشّعبا
فلو لا دفاع اللّه لا شيء غيره * لأصبحتم لا يمنعون لكم سربا
وقال أمية بن الصلت بن ربيعة : كذا قال ابن هشام .
وقال ابن إسحاق ، وأبو الوليد : قال أبو الصلت بن ربيعة الثقفي ، وهو جاهلي بذكر الحنيفية ، وساق الشعر من حديث ابن هشام :
إن آيات ربنا باقيات * ما يماري فيهن إلا الكفور
يخلق الليل والنهار فكلّ * مستنير حسابه مقدور
ثم يجلو بها وربّ رحيم * بمهاة شعاعها منشور
حبس الفيل بالمغمّس حتى * ظلّ يحبو كأنه معقور
لازما خلفة الحران كما * قطّر من رأس كوكب محدور
حوله من ملوك كندة أبطأ * ل ملاويث في الحروب صقور
خلّفوه ثم ابدعرّوا جميعا * كلهم عظم ساقه مكسور
“ 254 “
كل دين يوم القيامة عند * اللّه إلا دين الحنيفة بور
وقال المغيرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم ، وهو من حديث أبي الوليد ، وابن إسحاق رحمهما اللّه تعالى :
أنت حبست الفيل بالمغمّس * حبسته كأنه مكردس
مذ ما هم همّ بشرّ مجلس * بمجلس تزهق فيه الأنفس
وقت بباب ربنا لم يدنس * يا واهب الحيّ الجميع الأخمس
وما لهم من طارف ومنفس * وجاره مثل الجواري الكنّس
أنت لنا في كل أمر مضرّس * ونفثات أخذت بالأنفس
وقال الفرزدق ، واسمه همام بن غالب أحد بني مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك ، ويذكر الحجاج والفيل :
فلما طغى الحجاج حين طغى به * غنا قال إني مرتق في السلالم
فكان كما قال ابن نوح سأرتقي * إلى جبل من خشية الماء عاصم
رمى اللّه في جثمانه مثل ما رمى * عن القبلة البيضاء ذات المحارم
جنودا لسوق الفيل حتى أعادهم * هباء وكانوا مطرخمي الطراخم
نصرت كنصر البيت إذ ساق فيله * إليه عظيم المشركين الأعاجم
وقال عبد اللّه بن قيس الرّقيات أحد بني عامر بن لؤي بن غالب يذكر أبرهة الأشرم وفيله :
كاد الأشرم الذي جاء بألفي * ل فولّى وجيشه مهزوم
واستهلت عليهم الطير بالجن * دل حتى كأنه مرجوم
ذلك من يعزو من الناس يرجع * وهو فلّ من الجيوش رميم
قول ابن عمر رضي اللّه عنه لحنين في استلام الركن
روينا من حديث أبي الوليد ، عن جده ، عن يحيى بن سليم ، عن إسماعيل بن كثير ، عن مجاهد ، قال : كنا مع عبد اللّه بن عمر في الطواف ، فنظر إلى رجل يطوف كالبدويّ لا يستلم الركن ، ولا يكبّر ، ولا يذكر اللّه ، فقال له ابن عمر : أي شيء تصنع هاهنا ؟ قال :
أطوف . قال ابن عمر : مثل الجمل يخبط ، لا تستلم ، ولا تكبّر ، ولا تذكر اللّه ؟ ثم قال له :
ما اسمك ؟ قال : حنين . قال : فكان ابن عمر إذا رأى الرجل لا يستلم الركن قال : أحنينيّ هو ؟ قلت : وقد رأيت أنا في مجاورتي رجلا من المجاورين ، يسكن برباط تون بباب السدّة
“ 255 “
يقال له إسماعيل الموصلي ، يطوف بالبيت كثيرا مثل طواف حنين ، وربما يستدبر البيت أحيانا في طوافه ، فسألت عن صنعته فقيل لي : يبيع القفع .
فاتفق أن حضرني أبيات فذكرتها موعظة وتنبيها واعتذارا عنه :
يطوف بالبيت من يدين به * لكنه خارج عن البشر
كأنه في طوافه جمل * يخبط لا يلوي على الحجر
مثل حنين وقد رآه فتى * من أعلم الناس من بني عمر
فقال هذا الذي أقول به * في حق هذا الأنيس فازدجر
لكنني قد وجدت معذرة * كان عليها في سالف العمر
كان له قفع يطوف به * ومن أتى عادة فقد يحر
ولنا من باب اللطائف والإشارات :
يا حادي العيس لا تعجل بها وقفا * فإنني زمن في أثرها غادي
قف بالمطايا وشمّر عن أزمتها * باللّه بالوجد بالتبريح يا حادي
نفسي تريد ولكن لا تساعدها * رجلي فمن لي بإسعاف وإسعاد
ما يفعل الصانع النحرير في شغل * آلاته أذنت فيه بإفساد
عرج ففي أيمن الوادي خيامهم * للّه درّك ما تحويه يا وادي
جمعت قوما هم نفسي وهم نفسي * وهم سواد سويدا خلب أكبادي
لا درّ در الهوى إن لم أمت كمدا * بحاجر أو بسلع أو بأجياد
ولنا في هذا الباب :
يذكرني حال الشبيبة والشرخ * حديث لنا بين المدينة والكرخ
فقلت لنفسي بعد خمسين حجة * وقد صرت من طول التفكر كالفرخ
يذكرني أكناف سلع وحاجر * ويذكر لي حل الشبيبة والشرخ
وسوقي المطايا منجدا ثم متهما * وقدحي لها نار الغفار مع المرخ
روينا من حديث ابن مروان ، عن محمد بن عبد العزيز ، قال : حدثنا المضا بن جارود ، عن محمد بن عبد اللّه القرشي ، عن أبيه ، قال أبو الدرداء : ما من رجل من المسلمين إذا أصبح إلا اجتمع هواه وعمله ، فإن كان هواه تابعا لعمله فيومه صالح ، وإن كان عمله تابعا لهواه فيومه يوم شر .
ولنا من باب الإشارات العلوية :
بان العزاء وبان الصبر إذ بانوا * بانوا وهم في سويد القلب سكان
“ 256 “
سألتهم عن مقيل الركب قيل لنا * مقيلهم حيث فاح الشيح والبان
فقلت للريح سيري والحقين بهم * فإنهم في ظلال الأيك قطان
وبلّغيهم سلاما من أخي شجن * في قلبه من فراق القوم أشجان
قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : « أنا ابن الذبيحين »
يريد إسماعيل وأباه عبد اللّه . فأما إسماعيل ، فما ذكر اللّه من قصة إبراهيم عليه السلام في رؤياه في ذبح ولده على اختلاف بين إسحاق وإسماعيل ، وما فداه اللّه به ، على أنه يحتمل إذا صح قول النبي صلى اللّه عليه وسلم إنه ابن الذبيحين ، أنه يريد إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام . فإن وزن فعيل يكون للفاعل ويكون للمفعول ، فذبيح بمعنى ذابح وهو إبراهيم ، ومذبوح وهو إسماعيل . وقد يصح نسب النبوّة للعم كما تنسب للأب ، على أن يكون الذبيح إسحاق .
قال تعالى في قول بني يعقوب : قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ .
وكان إسماعيل عم يعقوب ولم يكن أباه ، وإنما أبوه إسحاق . فأما ما كان من خبر عبد اللّه بن عبد المطلب والد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو ما رويناه من حديث ابن إسحاق ، قال ابن إسحاق : كان عبد المطلب بن هاشم قد لقي من قريش شدّة عند حفر زمزم ، فلما نصره اللّه عليهم نذر لئن ولد له عشرة أولاد ذكورا ، ثم بلغوا معه حتى يمنعوه ، لينحرن أحدهم للّه عند الكعبة .
فلما توافى بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه جمعهم ثم أخبرهم بنذره ، ودعاهم إلى الوفاء للّه بذلك ، فأطاعوه ، وقالوا : كيف ذلك تصنع ؟
فقال : ليأخذ كل رجل منكم قدحا ، ثم يكتب عليه اسمه ، ثم ائتوني . ففعلوا ، ثم أتوه ، فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة ،
فقال لصاحب القداح : اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه ، وأخبره بنذره الذي نذره ، فأعطاه كل رجل منهم قدحه الذي فيه اسمه ، فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها ، قام عبد المطلب عند هبل يدعو اللّه ، ثم ضرب صاحب القداح فخرج القدح على عبد اللّه ، وكان أحب أولاده إليه ، فأخذ شفرة ثم أقبل إلى أساف ونائلة ليذبحه .
فقامت إليه قريش من أنديتها فقالوا : ما تريد يا عبد المطلب ؟
قال : اذبحه . قالت له قريش وبنوه : واللّه لا تذبحه أبدا حتى تعذّر فيه ، ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه ، فما بقي الناس على هذا .
فقال له المغيرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم ، وكان عبد اللّه بن أحب الناس إليه : واللّه لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه ، فإن كان فداؤه
“ 257 “
بأموالنا فديناه . وقالت له قريش وبنوه : لا تفعل ، وانطلق إلى الحجاز ، فإن بها عرّافة لها تابع ، فاسألها ، ثم أنت على رأس أمرك ، إن أمرتك بذبحه ذبحته ، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته . فانطلقوا حتى قدموا المدينة ، فوجدوها بخيبر ، فركبوا حتى جاءوها ، فقصّ عليها عبد المطلب خبره ، والقصّة كما جرت.
فقالت لهم : ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله .
فرجعوا من عندها وعبد المطلب يدعو اللّه ، ثم غدوا عليها فقالت لهم : جاء في الخبر : كم الدّية فيكم ؟ قالوا : عشرة من الإبل . قالت : ارجعوا إلى بلادكم وقرّبوا صاحبكم وقرّبوا عشرا من الإبل ، ثم اضربوا عليها فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم ، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه . وقد رضي ربكم ونجا صاحبكم .
فخرجوا حتى قدموا مكة ، فلما أجمعوا لذلك الأمر قام جانبا عبد المطلب يدعو اللّه ، ثم قرّبوا عبد اللّه وعشرا من الإبل ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد اللّه ، فزادوا عشرا من الإبل ، فلم يزالوا يضربون عليها وعلى عبد اللّه فتخرج على عبد اللّه ، فيزيدون عشرا ، حتى بلغت مائة ، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل ، فقالت قريش ومن حضر : إنه رضي ربك يا عبد المطلب . فزعموا أن عبد المطلب قال : لا واللّه حتى أضرب عليها ثلاث مرات ، فضربوا على عبد اللّه وعلى الإبل ثلاثا ، كل ذلك تخرج القداح على الإبل ، فنحرت ، ثم تركت لا يصدّ عنها إنسان ولا يمنع .
وانصرف عبد المطلب مسرورا آخذا بيد عبد اللّه ، فمرّ به على امرأة من بني أسد بن عبد العزّى ، وهي أخت ورقة بن نوفل ، فنظرت إليه وهي عند الكعبة ، فقالت له وهي تنظر في وجهه : أين تذهب يا عبد اللّه ؟ قال : مع أبي . قالت : هل لك مثل الإبل التي نحرت عنك وتقع عليّ الآن ؟ قال : أنا مع أبي ، ولا أستطيع فراقه الآن .
وانصرف ، فأتى به عبد المطلب إلى وهب بن عبد مناف سيد بني زهرة يومئذ ، فزوّجه آمنة بنت وهب ، فدخل عليها حين أملكها مكانه ، فوقع عليها ، فحملت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
ثم خرج من عندها ، فأتى أخت ورقة التي عرضت عليه نفسها ، فقال لها : ما لك لا تعرضين عليّ ما كنت عرضت ؟
قالت له : فارقك النور الذي كنت رأيته في وجهك ، فليس لي بك اليوم حاجة .
وفي رواية ابن إسحاق بن يسار ، من حديث ابن إسحاق عنه : أنه حدث أو أخبر أن عبد اللّه لما دخل على امرأة كانت له مع آمنة بنت وهب وقد عمل في طين له ، وله أثر من الطين ، فدعاها إلى نفسها ، فأبطأت عليه لما رأت من أثر الطين ، فغسل ما كان به من الطين ، ثم خرج عامدا إلى آمنة ، فمرّ بها ، فدعته إلى نفسها ، فأبى عليها ، ودخل على
“ 258 “
آمنة ، فأصابها ، فحملت بمحمد صلى اللّه عليه وسلم . ثم مرّ بامرأته تلك ، فقال لها : هل لك ؟ قالت : لا ، مررت بي وبين عينيك غرّة ، ودعوتك فأبيت ،
ودخلت على آمنة فذهبت بها :
تخبّرك اللّه من آدم * فما زلت منحدرا ترتقي
فقيل لآمنة : إنك حملت بسيد هذه الأمة يقول لك الملك ، فإذا وقع على الأرض فقولي : أعيذه بالواحد ، من شر كل حاسد ، وقائم وقاعد ، يأخذ بالمراصد ، في طرق الموارد ، وسميته محمدا .
وروينا من حديث ابن جهضم ، عن محمد بن القاسم ، عن محمد بن عبيد ، عن محمد بن صالح ، قال : بينما أنا في الطواف ، نظرت أعرابيا متعلقا بأستار الكعبة ، وقد شخص ببصره نحو السماء ، وهو يقول : يا من وفد العباد إليه ، ذهبت أيامي ، وضعفت قوتي ، وقد فررت إليك إلى بيتك المعظم المكرم بذنوب كثيرة لا تسعها الأرض ، ولا تغسلها البحار ، مستجيرا بعفوك منها ، وحططت رحلي بفنائك ، وأنفقت مالي في رضاك .
فما الذي يكون من جزائك يا مولاي ؟ ثم أقبل على الناس بوجهه ، فقال : معاشر الناس ، ادعوا لمن وكزته الخطايا ، وعمرته البلايا ، ارحموا أسير ضرّ ، غريب فاقة ، سائلكم :
بالذي قد عمتكم الرغبة إليه ، ألا سألتم اللّه عز وجل أن يهب لي جرمي ، ويغفر لي ذنوبي .
ثم عاد فتعلق بأستار الكعبة ، وقال : إلهي وسيدي عظيم الذنب مكروب ، وعن صالح الأعمال مطرود ، ذا فاقة إلى رحمتك .
قال محمد بن صالح : ثم رأيته بعرفات ، وقد وضع يساره على أم رأسه ، وهو يصرخ ويبكي ويشهق ، ويقول : إلهي وسيدي ومولاي ، أضحكت الأرض بالزهر ، وأمطرت السماء بالرحمة ، والذي أعطيت الموحدين إن نفسي لواثقة لي منك ، وكيف لا يكون كذلك وأنت حبيب من تحبب إليك ، وقرة عين من لاذ بك وانقطع إليك ، حقا حقا أقول : لقد أمرت بمكارم الأخلاق ، فاجعل قرائي منك عتق رقبتي من النار .
وممن دعا فهتف بإجابته ، ما كتب إلينا عبد الرحمن ، عن أحمد بن ظفر ، عن أحمد ، عن الحسن ، عن هلال بن محمد ، عن عمر بن أحمد ، عن عبيد اللّه ، عن زكريا ، عن الأصمعي ، عن سفيان بن عيينة ، قال : سمعت أعرابيا متعلقا بأستار الكعبة وهو يقول :
السائل سائل انقضت أيامه ، وبقيت آثامه ، وانقضت شهواته ، وبقيت تبعاته . ولكل ضعيف قرى ، فاجعل قراي الجنة .
ثم كتب : وحدثنا أحمد ، عن الحسن ، عن عبد العزيز بن جعفر ، عن حمزة بن محمد بن عيسى المدائني ، قال : تعلّق شاب بأستار الكعبة ، وقال : إلهي لا لك شريك
“ 259 “
فيؤتى ، ولا وزير فيرشى ، إن أطعتك فبفضلك ، ولك الحمد ، وإن عصيتك ، فبجهلي ولك الحجّة عليّ ، فبإثبات حجتك عليّ ، وبانقطاع حجتي لديك ، إلا غفرت لي . فسمع هاتفا يقول : الفتى عتيقنا من النار .
موعظة نبوية
حدثنا محمد بن قاسم ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن علي ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن قاسم ، عن الشيباني ، عن ابن زهير ، عن موسى بن معاذ ، عن يحيى بن عبد الحميد ، عن قيس بن الربيع ، عن حر بن الصباح ، عن خليفة بن الحصين ، عن قيس بن عاصم ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يا قيس ، إن مع العز ذلّا ، وإن مع الحياة موتا ، وإن مع الدنيا آخرة ، وإن لكل سيئة عقابا ، وإن لكل أجل كتابا . إنه لا بد يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي ، وتدفن معه وأنت ميت ، فإن كان كريما أكرمك ، وإن كان لئيما أسلمك ، ثم لا يحشر إلا معك ، ولا تبعث إلا معه ، ولا تسأل إلا عنده ، فلا تجعله إلا صالحا ، فإنه إن كان صالحا لم تستأنس إلا به ، وإن كان فاحشا لم تستوحش إلا منه ، وهو فعلك » .
شعر في هذا المعنى :
تزوّد قرينا من فعالك إنما * قرين الفتى في القبر ما كان يعمل
وإن كنت مشغولا بشيء فلا يكن * بغير الذي يرضى به اللّه تشغل
فلن يصحب الإنسان من بعد موته * إلى قبره إلا الذي كان يفعل
ألا إنما الإنسان ضيف لأهله * يقيم قليلا عندهم ثم يرحل
وقال الآخر في القبر :
القبر بيت كريه سوف تسكنه * ما ذا عملت ليوم القبر يا ساهي
ولأبي العتامية من قصيدة :
يا بيت بيت الرجا يا بيت منقطعي * يا بيت بيت الردى يا بيت وحشته
ورأيت على قبر بسبا مكتوبا :
ولقد وقفت كما وقفت * ولكم نظرت فما اعتبرت
حصّل لنفسك منزلا * قبل الحصول لما حصلت
ورئي على قبر مكتوب :
“ 260 “
أنا في قبري وحدي * قد تبرأ الأهل مني
أسلموني لذنوبي * خبت إن لم يعف عني
وسماعنا على قول ابن حبوس حيث يقول :
أسكّان نعمان الأراك تيقنوا * بأنكم في ربع قلبي سكان
ودوموا على حسن الوداد فإنني * بليت بأقوام إذا أحفظوا خانوا
سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم * هل اكتحلت بالنوم في فيه أجفان
السماع الروحاني في ذلك سكان نعمان الأراك هم العارفون في نعيم حضرة المشاهدة ، ومحلها قلوبهم يقول لطيفته الربانية لهذه الهمم : داوموا فإني دفعت إلى نفوس أخذ عليها العهد الإلهي في الميثاق الأول فخانوا ، ثم أخذ يصف نفسه بالقيومية تخلقا إليها ، أي قدر على التجرّد من عالم التركيب الذي هو محل النوم ، إلى العالم الأنزه الأقدس الذي لا نوم فيه ، ميراثا نبويا من أنه لا ينام قلبه صلى اللّه عليه وسلم . ثم أخذ يخاطب الهمم : إن لمعان سيوفها إذا برقت من منازلها منازل الأحبة ، فغمد هاتيك السيوف أجفاني ، أي لا أنام ، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار .
وسماعنا على قول مهيار حيث يقول :
من ناظر لي بين سلع وقبا * كيف أضاء البرق أم كيف خبا
نبّهني وميضه ولم تنم * عينيّ ولكن ردّ عقلا غربا
قرب له قد صار قلبي خافقا * واستبردته أضلعي ملتهبا
يا لبعيد من منى ناديته * يوهمني الصدق بريق كذبا
وللنسيم سحرا بحاجر * ردّت به عهد الصباريح الصّبا
آلية ما فتح العطار عن * أعبق منها نفسا وأطيبا
سل من يدلّ الناشدين بالغضا * على الطريد ويرد السلبا
أراجع لي والمنى هل هلّة * وطالع نجم والزبان غرّبا
وطوله بين القباب يمنى * لا خائفا عتبا ولا مرتقبا
السماع الروحاني للعارف في ذلك : من ناظر لي بين المقامات المحمدية ؟ كيف لمع برق المعرفة ؟ أم كيف خبا مطويا في غيم الكون ؟
أيقظني لمعانه ، على أن عيني ما نامت عنه ، ولكن كان العقل منصرفا إلى عالم التدبير ، فردّه إلى العالم المدبر ، فسكنت له همم القلوب بعد طيرانها خضعا كسلسلة على صفوان ، واستبردت برد السرور عطفات الجنوح ، ما كان حاميا بنود التنزلات الإلهية .
فلما لاح له المعين من خلق خلقة الرصد مثال النور
“ 261 “
المنزل ليقبله منه ، عرفه بالحفظ الإلهي ، فقال : يوهمني الصدق بريق كذبا ، ثم رجع ينادي أيضا بالبعد من عالم الأنفاس ، في البرزخ المشترك بين النور والظلمة ، دلّ عليه وعلى عصر شبابه ريح الصبا ، شروق نفس التنفس من نفس الرحمن ، بما هو أطيب من المسك عرفا ونشرا .
ثم قال : سل من يدل الناشدين قلوبهم بمقام الاشتياق على الطريق ، عن البناء الأعز ، ويرد قلبه الذي أخذ منه على عزّة .
ثم قال : أراجع لي ذلك السلب ؟ والمنى قد يكون أماني ، وهل يطلع نجم سعد غربا ؟
أي صار في الحجاب . وهل أراني طائفا مترددا بين القباب الساترة شموسا ؟ لا خائفا عتبا . يقول : لم وأما ولا مترقبا ، وعدل الحصول :
الاتصال وانتظام الشمل بالأحباب .
ومما نظمنا في هذا الباب قولنا :
بأبي الغصون المائسات عواطفا * العاطفات على الخدود سوالفا
المرسلات من الشعور غدائرا * اللينات معاقدا ومعاطفا
الساحبات من الدلال دلادلا * اللابسات من الجمال مطارفا
الباخلات بحسنهنّ صيانة * الواهبات متالدا ومطارفا
المونقات مضاحكا ومباسما * الطيبات مقبلا ومراشفا
الناعمات مجرّدا والكاعبا * ت مهندا والمهديات طرائفا
الخالبات بكل سحر معجب * عند الحديث مسامعا ولطائفا
الساترات من الحياء محاسنا * تسبي بها القلب التقي الخائفا
المبديات من الثغور لآلئا * تشفي بريقتها ضعيفا تالفا
الراميات من العيون رواشقا * قلبا خبيرا بالحروب مثاقفا
المطلعات من الحبوب أهلة * لا يلفين مع التمام كواسفا
المنشيات من الدموع سحائبا * المسمعات من الزفير قواصفا
يا صاحبي بمهجتي خمصانة * أسدت إليّ أياديا وعوارفا
نظمت نظام النمل فهي نظامنا * عربيّة عجماء تلهي العارفا
مهما رنت سلت عليك صوارما * ويريك مبسمها بريقا خاطفا
يا صاحبيّ قفا بأكناف الحمى * من حاجر يا صاحبي قفا قفا
حتى أسائل أين سارت عيسهم * فقد اقتحمت معاطبا ومخاوفا
وقطعت أبغي رسم دار قد عفى * من أجلهنّ مهالكا ومتالفا
ومعالما ومجاهلا بشملة * تشكو الوجا وسباسبا وتنايفا
مطوية الأقراب أذهب سيرها * بحثيثة منها قوى وسدائفا
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin