الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء الثامن
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 107 “
غضب السلطان على جماعة من العلماء خرجوا عليه ووقعوا فيه ، فلما ظفر بهم أمر بقتلهم ، فبلغ الخبر شيخنا أبا مدين رحمه اللّه ، وكان مرعي الجانب عند السلطان والخاصة والعامة ، فأخذ عصاه وخرج ، فلما جاء دار السلطان أبصر القوم على تلك الحالة فبكى ، وأخبر السلطان بمكانه فتلقاه ، وقال : ما جاء بالشيخ في هذا الوقت ؟ فقال : الشفاعة في هؤلاء . فقال السلطان : أو ما تعرف يا شيخ إساءتهم ؟ فقال : يا أبا علي ، وهل على المحسنين من سبيل ؟ وهل الشفاعة إلا في أهل الكبائر من المسيئين ؟ فاستعبر السلطان وعفا عن الجميع ، وانصرف .
قرأنا في الخبر الأول أن الخليل عليه السلام اتفق له قضيتان متعارضتان : أدب في الواحدة وشكر في الأخرى ، فإن اللّه تعالى هو متولي أدب عباده الصالحين . أما التي شكر عليها فمن هذا الباب ، وذلك أنه عليه السلام نزل به رجل من عبدة الأوثان ، فأضافه الخليل وأكرمه ، فضجت الملائكة في السماوات ، وقالوا : ربنا خليلك يضيف عدوّك ،
فقال لهم :
جلّت قدرتي يا ملائكتي ، أنا أعلم بخليلي منكم . ثم أمر جبريل عليه السلام فنزل ، وعرض عليه قول الملائكة . فبكى إبراهيم عليه السلام وقال له : يا جبريل ، قل لمولاي منك تعلّمت الكرم ، يشير إلى حكاية الأدب التي أسوقها بعد هذه إن شاء اللّه تعالى ، رأيتك تحسن إلى من أساء فتعلّمت منك .
وأما حكاية الأدب ، فنزل له عليه السلام رجل من عبدة الأوثان ، فاستضافه ، فقال له إبراهيم : لا أضيفك حتى تسلم ، فأبى عليه وانصرف ، فأمر اللّه جبريل أن ينزل على إبراهيم عليهما السلام ، فقال له : يا إبراهيم ، يقول لك ربك : استضافك عبدي فشرطت عليه أن يترك دينه من أجل لقمة يأكلها عندك ، وأنا أرزقه منذ ثمانين سنة على شركه ، فلما أبى تركته . قال : فبكى إبراهيم ، ثم قام يقفو أثر الوثني إلى أن لحق به ، فعرض عليه الرجوع ، فأبى عليه أو يخبره بسبب ذلك ، فقال له إبراهيم عليه السلام : إن اللّه عاتبني فيك ، وقال لي ذيت وذيت ، فبكى الوثني وقال : يا إبراهيم ، أسلمت لرب العالمين . فأسلم الوثني هذا نتيجة الكرم .
وأنشد بعضهم :
أطعمتني بالجود حين بدأتني * أفلا أؤمّل نعمة الإتمام
حاشى الكريم إذا تفضّل منعما * مما يشين محاسن الإنعام
وفي معنى هذين البيتين ما سمعت شيخنا ابن الشحنة بإشبيلية وهو يقول لرجل ، وما رأيت رجلا قط أحسن شيبة ولا وجها منه ، ودموعه قد أخضلت لحيته : يا أخي ، حاشا
“ 108 “
الكريم أن يمنّ عليّ بالإسلام ابتداء قبل أن أسأله ، ثم ينزعه مني بعد سؤالي ، هذا نقيض الكرم . وعلا بكاؤه ، وعظم انتحابه ، فبكينا لبكائه رضي اللّه عنه . وهو من أجلّ من لقيت في طريق اللّه .
ومن حميد الخصال
ما اشترط عبد الملك بن مروان على الشعبي ، لما دخل عليه قال : يا شعبي ، جنّبني خصالا أربعا ، وما شئت فافعل . قال : يا أمير المؤمنين وما هي ؟ قال : الواحدة : لا تطريني في وجهي ، ولا أجربن عليك كذبة ، ولا تغتابن عندي أحدا ولا تفشين لي سرا . فقل ما شئت يا شعبي ، فقال الشعبي : ائذن لي يا أمير المؤمنين في الانصراف . فقال : انصرف ، فانصرف وما تكلّم .
ولبعضهم في الكتمان :
النجم أقرب من سري إذا اشتملت * منّي على السرّ أضلاعي وأحشائي
ولنا في مصراع من قصيدة :
(فالسرّ ميت بقلب الحرّ مدفون )
أخذته من قول القائل : قلوب الأحرار قبور الأسرار .
وقال الآخر :
ونفسك فاحفظها ولا تفش للعدى * من السرّ ما يطوي عليه ضميرها
فما يحفظ المكتوم من سرّ أهله * إذا عقد الأسرار شاع كبيرها
من القوم إلا ذو عفاف بعينه * على ذاك منه صدق نفس وخيرها
يقال لكاتم سرّه : من كتمانه أحد فضيلتين : الظفر بحاجته ، والسلامة من شرّه .
موطن شكر
قال في الحكمة : ينبغي لذي اللبّ أن يصون شكره عمن لا يستحقه ، ويستر ماء وجهه بالقناعة ، وهو الرضى بالموجود في الوقت ، وعدم التجاوز عنه إلى ما يذهب بماء الوجه ، فمن أراد أن تعظم منزلته فليكفّ مسألته ، ومن أحبّ الزيادة من النّعم فليشكر .
قال اللّه تعالى : لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .
يحكى عن بعض الأعراب أنه رؤي وهو متعلق بأستار الكعبة وهو يقول : أحمدك
“ 109 “
سبحانك ولا أشكرك . فعاتبه بعض الطائفين في ذلك ، فقال : إنه أعطاني الفقر ، فإن شكرته عليه أخاف من زيادة فقري ، فإن وعده حق ، ثم انصرف . فلما جاءت السنة الثانية رؤي حسن الهيئة ، وهو يحسن الثناء والشكر على اللّه ، فقيل له : فأين هذا من ذاك ؟ فقال :
إنه سبحانه أنعم عليّ بالخير بالشاء والإبل ، فأشكر للزيادة فإن وعده حق .
قال بعضهم : من أحبّ بقاء عزّه فليسقط دالته ومكره .
محل صنائع المعروف
في الحكمة الأولى : المعروف إلى الكرام يعقب خيرا ، وإلى اللئام يعقب شرا .
ومثل ذلك : المطر يشرب منه الصدف فيعقب لؤلؤا ، ويشرب منه الأفاعي فيعقب سمّا .
حكاية : ذكر أن جماعة من الأعراب أثاروا ضبعا ، فدخلت خباء شيخ ، فقصدوها ، فخرج إليهم فقال : ما بغيتكم ؟ قالوا : جارك ، قال : أما إذ قد سميتموه جاري فإن هذا السيف دونه . فتركوه . وكانت الضبع هزيلا فأحضر لها من لقامه ، وجعل يسقيها حتى عاشت ، فنام الشيخ فوثبت عليه فقتلته .
فقال شاعرهم في ذلك :
ومن يصنع المعروف مع غير أهله * يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر
أقام لها لما أناخت ببابه * لتسمن ألبان اللقاح الدرائر
فأسمنها حق إذا ما تمكنت * فرته بأنياب لها وأظافر
فقل لذوي المعروف هذا جزاء من * يعود بإحسان إلى غير شاكر
يا أخي ، أما لك فيما ترى معتبر ؟ اللّه يرسل نعمته على عبديه فالكريم منهما يطيعه بها ، واللئيم منهما يستعين على معصيته بها .
يقول سفيان : وجدنا أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام .
يحكى عن بعض الأعراب أنه أخذ جرو ذئب عندما ولد قبل أن يعرف أمه ، فاحتمل إلى خبائه وقرب له شاة ، فجعل يمتص من لبنها حتى كبر وسمن ، ثم شدّ على الشاة فقتلها . فقال الأعرابي في ذلك :
غذّتك شويهتي ونشأت عندي * فما أدراك أن أباك ذيب
فجعت نسيبتي وصغار قوم * بشاتهم وأنت لهم ربيب
إذا كان الطباع طباع سوء * فما يجدي التحفظ والأديب
“ 110 “
ومن باب الأخلاق ومكارمها
في الحكمة : عليك بالصدق ، فما السيف القاطع في كفّ الشجاع بأعزّ من الصدق .
والصدق عزّ وإن كان فيه ما تكره ، والكذب ذلّ وإن كان فيه ما تحبّ . ومن عرف بالكذب اتّهم في الصدق .
ولبعضهم :
لا يكذب المرء إلا من مهانته * أو عادة السوء أو من قلة الأدب
مذكور في كتاب لهندي : ليس لكذوب مروءة ، ولا لضجور رئاسة ، ولا لملول وفاء ، ولا لبخيل صديق .
يقول بعضهم : الصدق ميزان اللّه الذي يدور عليه العدل ، والكذب مكيال الشيطان الذي يدور عليه الجور .
من عفا عن قدرة
يحكى عن أمير المؤمنين هارون الرشيد ، أمر يحيى بن خالد بحبس رجل جنى جناية فحبسه ، ثم سأل عنه الرشيد فقيل : هو كثير الصلاة والدعاء ، فقال للموكل به : عرّض له بأن يكلّمني ويسألني إطلاقه ، فقال له الموكل ذلك ، فقال : قل لأمير المؤمنين إن كل يوم يمضي من نعمتك ينقص من محنتي ، فالأمر قريب ، والموعد الصراط ، والحاكم اللّه . فخرّ الرشيد مغشيا عليه ، ثم أفاق وأمر بإطلاقه .
حكاية
ظفر المأمون برجل كان يطلبه ، فلما دخل عليه قال : يا عدوّ اللّه ، أنت الذي تفسد في الأرض بغير الحق ؟ يا غلام ، خذه إليك فاسقه كأس المنية ، فقال : يا أمير المؤمنين ، دعني أنشدك أبياتا ، فقال : هات ، فأنشده :
زعموا بأن الصقر صادف مرة * عصفور برّ ساقه المقدور
فتكلم العصفور تحت جناحه * والصقر منقضّ عليه يطير
ما كنت خاميرا لمثلك لقمة * ولئن شويت فإنني لحقير
فتهاون الصقر المدلّ بصيده * كرما وأفلت ذلك العصفور
“ 111 “
فقال له المأمون : أحسنت ، ما جرى ذلك على لسانك إلا لبقية بقيت من عمرك .
فأطلقه ، وخلع عليه ، ووصله .
حكاية مضحكة
ذكر أن معلّما كان يعلّم الصبيان ، وكان اسمه أبو عاصم ، فبينا هو ذات يوم قاعد وبين يديه ثلاثة من صبيان العرب صغار يعلّمهم ، إذ به ضرط ، فقال أحدهم :
وضرطة جاءت على غفلة * من مفلق الشيخ أبي عاصم
فقال الآخر :
فأيقظت ما كان نائم * وأقعدت ما كان من قائم
فقال الثالث :
وانهدّت الأرض وأجبالها * والتزم المظلوم بالظالم
حكاية في معناها
حكي عن بعضهم أن واليا أتى برجل جنى جناية فأمر بضربه ، فلما مدّ قال : بحق رأس أمك إلا عفوت عني ، فقال : أوجعه ، قال : بحق خدّيها ونحرها ، قال : اضرب ، قال : بحق ثديها ، قال : اضرب ، قال : بحق سرّتها ، قال : ويلكم دعوه لا ينحدر قليلا .
وأتى محتسب كان عندنا بفاس بشاعر جنى جناية ، فأمر بضربه ، فسأله العفو حتى أغضبه ، فصاح على الضرّاب ، شدّ عليه ، ففي صيحته تلك ضرط المحتسب ضرطات .
فقال الشاعر في ذلك ، والسياط تأخذه :
اسمعوني واعجبوا * ضرط المحتسب
ضرطة صافية * طار منها العتب
سهلت حلق سلى * وعرت وادي سب
سبعة في نسق * ب ب ب بو ب ب ب
كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس وما كان منه في ذلك
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه قال : ثنا إبراهيم بن إسماعيل ، عن صالح بن كيسان قال : قال ابن شهاب ، أخبرني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة أن ابن عباس أخبره أن
“ 112 “
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد اللّه بن حذافة ، وأمر أن يدفعه إلى عظيم البحرين ، فرفعه عظيم البحرين إلى كسرى ، فلما قرأه كسرى خرّقه . قال ابن شهاب :
فحسبت أن المسيّب قال : فدعا عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يمزّقوا كل ممزّق .
قال محمد بن إسحاق : وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن حذافة بن قيس بن عديّ بن سعيد بن سهم إلى كسرى بن هرمز ملك فارس ، وكتب معه :
« بسم اللّه الرحمن الرحيم :
من محمد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس ، سلام على من اتّبع الهدى ، وآمن باللّه ، وشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأدعوك بدعاية اللّه ، فإني رسول اللّه إلى الناس كافة لأنذر مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ ، فأسلم تسلم ، فإن أبت فإن إثم المجوس عليك » .
فلما قرأ كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شققه ، وقال : يكتب إليّ بهذا الكتاب وهو عبدي . قال محمد بن إسحاق : فبلغني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « اللهم مزّق ملكه » ، حين بلغه شقّ كتابه .
ثم كتب كسرى إلى بادان وهو على اليمن : ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز من عندك رجلين جلدين ، فليأتياني به . فبعث بادان قهرمانه وهو أنوبوبة ، وكان كاتبا حاسبا بكتاب ملك فارس ، وبعث معه برجل من الفرس يقال له خر خرشونة ، وكتب معهما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى ، وقال لأنوبوبة : ويلك ، انظره ما الرجل ، وكلّمه وائتني بخبره . فخرجا حتى قدما الطائف ، فسألاهم عنه ، فقالوا : هو بالمدينة ، فاستبشروا بهما وفرحوا . فقال بعضهم لبعض : أبشروا فقد نصب له ملك الملوك . كفيتم الرجل .
فخرجا حتى قدما المدينة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فكلّمه أنوبوبة وقال : إن شاه شاه ملك الملوك كسرى بعث إلى الملك بادان يأمره بأن يبعث إليك من يأتي بك ، وقد بعثني إليك لتنطلق معي ، فإن فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك بكتاب يمنعك منه ويكفّ به عنك ، وإن أبيت فهو من قد علمت ، وهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك .
ودخلا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد حلقا لحاهما ، وأعفيا شواربهما ، فكره النظر إليهما وقال : « ويلكما ، من أمر كما بهذا ؟ » ، قالا : أمرنا بهذا ربنا ، يعنيان كسرى . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « لكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقصّ شاربي » . ثم قال لهما : « ارجعا حتى تأتياني غدا » .
“ 113 “
وأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخبر أن اللّه عز وجل سلّط على كسرى ابنه شيرويه ، فقتله في شهر كذا وكذا ، في ليلة كذا وكذا ، لعدة ما مضى من الليل ، سلّط عليه ابنه شيرويه ، فقتله .
فقالا : هل تدري ما تقول فنكتب بهذا عنك ، ونخبر الملك ؟ قال : « نعم ، أخبراه ذلك عني ، وقولا له : إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى ، وينتهي إلى منتهى الخفّ والحافر .
وقولا له : إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملّكتك على قومك » . ثم أعطى خرخرشونة منطقة فيها ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك ، فخرجا من عنده حتى قدما على بادان ، فأخبراه الخبر ، فقال : واللّه ما هذا بكلام ملك ، وإني لأرى هذا الرجل نبيّا كما يقول .
ولننظرنّ ما قال ، فلئن كان ما قد قال حقا ما فيه كلام إنه لنبي مرسل ، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا . فلم ينشب بادان أن قدم عليه كتاب شيرويه : أما بعد ، قد قتلت كسرى ، ولم أقتله إلا غضبا لفارس لما كان استحلّ من قتل أشرافهم وتجهيزهم ونعوتهم .
فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك ، وانظر الرجل الذي كتب إليك كسرى فلا تهجه حتى يأتيك أمري . فلما انتهى كتاب شيرويه إلى بادان قال : إن هذا الرجل لرسول .
فأسلم وأسلمت الأبناء من فارس من كان منهم باليمن . فكانت حمير تقول لخرخرشونة :
ذو المعجزة ، للمنطقة التي أعطاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، والمنطقة بلسان حمير المعجزة ، فبنوه اليوم باليمن ، ينسبون إليها خرخرشونة ذو المعجزة . وقد قال أنوبوبة لبادان : ما كلّمت رجلا قطّ أهيب عندي منه . فقال له بادان : - هل معه شرط ؟ قال : لا .
أنس بعرفان وخلوة برحمان
حدثنا محمد بن إسماعيل ، نبأ علي بن النفيس ، نبأ عبد الرحمن بن علي بن محمد ، أنا أبو بكر الصوفي ، أنا أبو سعيد الحيري ، أنا أبو بكر ، انا ابن باكويه الشيرازي ، نبأ عبد الواحد بن بكر الورثاني ، أنا أبو بكر أحمد بن محمد المارستاني ، عن محمد بن عيسى القرشي ، حدثني أبو الأشهب السائح : رأيت بين الثعلبية والخزيمية غلاما قائما يصلّي عند بعض الأسيال ، قد انقطع عن الناس ، فانتظرته حتى قطع صلاته ، ثم قلت له : ما معك مؤنس ؟
قال : بلى . قلت : وأين هو ؟ قال : أمامي ، ومعي ، وخلفي ، وعن شمالي ، وعن يميني ، وفوقي . فعلمت أن عنده معرفة ، فقلت له : أما معك زاد ؟ قال : بلى . قلت : وأين هو ؟
قال : الإخلاص للّه عز وجل ، والتوحيد له ، والإقرار بنبيّه صلى اللّه عليه وسلم ، وإيمان صادق ، وتوكّل واثق . قلت : هل لك في مرافقتي ؟ قال : الرفيق شغل عن اللّه عز وجل ، ولا أحبّ أن أرافق أحدا فأشتغل به عنه طرفة عين . قلت : أما تستوحش في هذه البريّة وحدك ؟ قال :
“ 114 “
الأنس باللّه قطع عني كل وحشة ، حتى لو كنت بين السباع ما خفتها ، ولا استوحشت منها .
قلت : فمن أين تأكل ؟ قال : الذي غذّاني في ظلم الأرحام صغيرا تكفّل بي كبيرا . فقلت :
في أيّ وقت تجيئك الأسباب ؟ فقال : لي حدّ معلوم ، ووقت مفهوم ، إذا احتجت إلى الطعام أصبته في أي موضع كنت ، وقد علّمني ما يصلحني ، وهو غير غافل عني . قلت :
لك حاجة ؟ قال : نعم . قلت : وما هي ؟ قال : إن رأيتني فلا تكلّمني ، ولا تعلم أحدا أنك تعرفني . قلت : لك ذلك ، فهل حاجة أخرى ؟ قال : نعم . قلت : وما هي ؟ قال : إن استطعت أن لا تنساني في دعائك وعند الشدائد إذا نزلت بك فافعل . قلت : كيف يدعو مثلي لمثلك وأنت أفضل مني خوفا وتوكّلا ؟ قال : لا تقل هذا ، إنك قد صليت للّه قبلي ، وصمت قبلي ، ولك حق الإسلام ، ومعرفة الإيمان . قلت : فإن لي أيضا حاجة . قال : وما هي ؟ قلت : ادع اللّه لي . قال : حجب اللّه طرفك عن كل معصية ، وألهم قلبك الفكر فيما يرضيه ، حتى لا يكون لك همّ إلا هو . قلت : يا حبيبي ، متى ألقاك وأين أطلبك ؟ قال : أما في الدنيا فلا تحدث نفسك بلقاء فيها ، وأما الآخرة فإنها مجمع المتّقين ، فإياك أن تخالف اللّه فيما أمرك وندبك إليه . وإن كنت تبتغي لقائي فاطلبني مع الناظرين إلى اللّه تعالى في زمرتهم . قلت : وكيف علمت ؟ قال : بغضّ طرفي له عن كل محرّم ، واجتنابي فيه كل منكر ومأثم . وقد سألته أن يجعل حبي النظر إليه . ثم صاح وأقبل يسعى حتى غاب عن بصري .
تذكرة بلسان حال
روينا من حديث المالكي ، عن محمد بن غالب ، عن محمد بن إبراهيم ، عن إسماعيل بن عبد الكريم ، عن عقيل بن معقل ، عن وهب بن منبّه قال : ما من شعرة تبيضّ إلا تقول للسوداء : يا أختاه ، قد أتاك الموت فاستعدّي .
حدثنا محمد بن أحمد الهروي ، عن عبد الرحمن بن أبي الفضل ، عن محمد بن أحمد الماهباني ، سمعت محمد بن القاسم الصقار ، سمعت حمزة بن عبد العزيز ، سمعت أبا بكر الأبهري ، سمعت يوسف بن الحسين ، سمعت ذا النون المصري يقول : الحسود لا يسود .
إيقاع وحسن استماع
حدثنا محمد بن أحمد ، ثنا الثقفي ، حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي ، حدثنا أحمد بن سعيد ، ثنا محمد بن سعيد المروزي ، ثنا العباس الترفقي ، نبأ عبد اللّه بن عمرو
“ 115 “
الورّاق ، نبأ الحسين بن علي بن منصور ، نبأ أبو غياث البصري ، عن إبراهيم بن محمد الشافعي أن سعيد بن المسيب مرّ في بعض أزقّة مكة فسمع الأخضر الجدي يتغنى في دار العاص بن وائل ويقول :
تضوّع مسكا بطن نعمان إن مشت * به زينب في نسوة عطرات
فلما رأت ركب النميري أعرضت * وهنّ من أن يلقينه حذرات
قال : فضرب برجله الأرض زمانا وقال : هذا مما يلذّ سماعه ، وكانوا يرون أن الشعر لسعيد .
وللشريف الرضيّ
أنشدني ابن فرقد :
ألا هل إلى ظلّ الأثيل تخلص * وهل لثنيّات الغوير طلوع
وهل لليالينا الطوال تصرّ * وهل لليالينا القصار رجوع
وأنشد له أيضا في ذلك :
أقول لركب رائحين لعلكم * تحلّون من بعد العقيق اليمانيا
خذوا نظري مني ولاقوا به الحمى * ونجدا وكثبان اللوى والمطاليا
ومرّوا على أبيات حيّ برامة * وقولوا لديغ يبتغي اليوم راقيا
عدمت دوائي بالعراق فربما * وجدتم بنجد لي طبيبا مداويا
وقولوا لجيران على الخيف من منى * تراكم من استبدلتم بجواريا
ومن ورد الماء الذي كنت واردا * به ورعى العشب الذي كنت راعيا
فوا حزنا كم لي على الخيف شهقة * تذوب عليها قطعة من فؤاديا
ترحلت عنكم إلى أمامي نظرة * وعشر وعشر بعدكم من ورائيا
ومن نظمه أيضا في ذلك :
من معيد لي أي * أمي بجزع السمرات
وليالينا بجمع * ومنى والجمرات
يا وقوفا ما وقف * نا في طلال السلمات
نتشاكى ما عنانا * بكلام العبرات
آه من جيد إلى الد * ار طويل اللفتات
وغرام غير ماض * بلقاء غير آت
“ 116 “
فسقى بطن منى * والخيف صوب الغاديات
غرست عندي غرس الش * وق مرور الحسنات
أين راق لغرامي * وطبيب لشكاتي
دعاء مجاب لبعض نساء الأعراب
روينا من حديث ابن مروان ، عن إسماعيل بن يونس ، عن الرياشي ، عن الأصمعي قال : سمعت أعرابية بعرفات وهي تقول : اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله ، وإن كان في الأرض فأخرجه ، وإن كان نائيا فقرّبه ، وإن كان قريبا فيسّره .
حفظ اللسان دليل على عقل الإنسان
رأيت اللسان على أهله * إذا ساسه الجهل ليثا مغيرا
وقال بعض الأعراب لآخر يعظه : إياك أن تضرب لسانك عنقك . وقال أكثم بن صيفيّ : معقل الرجل بين فكيه ، يعني لسانه . والفكان : اللحيان .
وكان أبو بكر الصدّيق رضي اللّه عنه كثيرا ما ينشد :
اخزن لسانك لا تقول فتبتلى * إن البلاء موكل بالمنطق
وقال المؤمّل :
شفّ المؤمّل يوم الحيرة النظر * ليت المؤمّل لم يخلق له بصر
فعمي في مجلسه ذلك .
ومن باب العناية الإلهية
ما حدثنا به عبد الرحمن بن علي ومحمد بن محمد . فأما محمد بن محمد فقال :
كتب إلينا ، وأما عبد الرحمن فقال : قرأت على أبي القاسم الحريري ، عن أبي طالب العشاري ، عن مبادر بن عبد اللّه الصوفي قال : سمعت أبا الأزهر عبد الواحد بن محمد الفارسي قال : لقيت إبراهيم الحتلي بمكة بعد رجوعه إلى وطنه وتزويجه ابنة عمه ، وكان قد قطع البادية حافيا ، فحدثني أنه لما رجع إلى بلده وتزوج ، شغف بابنة عمه شغفا شديدا حتى ما كان يفارقها لحظة . فتفكرت ليلة في كثرة ميلي إليها ، فقلت : ما يحسن بي أن أرد القيامة وفي قلبي هذه ، فتطهرت ، وصليت ركعتين ، وقلت : سيدي ردّ قلبي إلى ما هو
“ 117 “
أولى . فلما كان من الغد أخذتها الحمى ، وتوفيت في اليوم الثالث . فنويت الخروج حافيا من وقتي إلى مكة ، فقلت : هكذا يحمي اللّه أولياءه ويختار لهم ويرعاهم .
ومن باب حثّ النفس على المحامد
ما حدثنا به محمد بن الفضل ، عن أبي منصور القزّاز ، عن أبي بكر الخطيب ، عن أبي سعيد الصيرفي ، عن أبي عبد اللّه الأصفهاني ، عن أبي بكر القرشي ، عن الحسين بن عبد الرحمن قال : حج سعيد بن وهب ماشيا ، فبلغ منه الجهد ،
فأنشد :
قدمي اعتورا رمل الكثيب * وأطرقا الآجن من ماء القليب
ربّ يوم رحتما فيه على * زهرة الدنيا وفي واد خصيب
وسماع حسن من حسن * صحب المزهر كالظبي الربيب
فاحسبا ذاك بهذا واصبرا * وخذا من كل فنّ بنصيب
إنما أمشي لأني مذنب * فلعل اللّه يغفر عن ذنوبي
ومن هذا الباب في حنين الإبل وسيرها :
يا لزماني على الحمى عجبا * وأي زمان مضى وأي حمى
حلفت بالراقصات مجتهدا * عناقا خفوضا وأظهرا سنما
تحسب أشخاصها إذا اختلطت * بالأكم الوقص في الدجا أكما
تحمل شقا إذا هم ذكروا * ذخيرة الأجر غالطوا السّاما
غدوا نزاعا من عامهم وتقى * أيام جمع والأشهر الحرما
حتى أناخوا بذي الستور ملبّ * ين بأرض كادت تكون سما
ومن هذا الباب :
أحاديها لو أمكنت من زمامها * أريد وراء والهوى من أمامها
فما الحزن إلا بين حلمي وخوفها * وبين زفيري خائفا وبغامها
يعزّ علينا يومها تحت كورها * بما فات من أيامها في مشامها
وإن تعلف الرّطب الخليط ببابل * مكان أراك حاجر وبشامها
فليت بلاد أسرها في قصورها * فذاك بيوت خيرها في خيامها
ومن هذا الباب :
ردّوا لها أمّامها بالغميم * إن كان من بعد شقاء نعيم
ولا تدلّوها فقد آمّها * أدلة الشوق وهادي الشميم
“ 118 “
ومن هذا الباب :
أمن خفوق البرق ترزمينا * حتى فما اتبعك الحنينا
سري يمانا وسراك شامة * فضلت ما أن تتلقّنينا
نعم تشاقين ونشتاق له * ونعلن الوجد وتكتمينا
فأين منك اليوم أو منّا الهوى * وأين نجد والمغورونا
ومنه أيضا :
أين تريد يا مثير الظعن * أوطن بنا برامة بوطن
حبسا ولو زادك من مضضه * بين الفرار خائفا والوسن
لعلها أن تشتفي نائحة * بالعبرات أعين من أعين
كم كبد كريمة في برّة * خزمتها ومهجة في رسن
يا قاتل اللّه العذيب موقفا * على ثبوت قدمي أزلني
يا زمتي بالخيف بل يا جيرتي * فيه وأين جيرتي وزمتي
ليت الذي كان فطار شعبا * به الفراق بيننا لم يكن
خبر لخنبعة مع ذي نواس
ولي حمير باليمن بعد هلاك عمرو بن أسعد تبّع لخنبعة ذي شناتر ، فقتل خيارهم ، وعبث ببنين أهل مملكته ، وكان يعمل عمل قوم لوط ، فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك فيقع عليه في مشرفة له قد صنعها لذلك .
فإذا فرغ من فسقه بالغلام يطلع من مشرفته تلك إلى حرسه ، وقد أخذ سواكا فجعله في فيه يعلمهم أنه قد فرغ منه ، حتى بعث إلى ذي نواس وهو زرعة بن أسعد تبّع الذي كسا الكعبة ، وكان وسيما ذا هيبة ، وعقل من أجمل الناس .
فلما أتاه رسول ذي شناتر عرف زرعة ما يريد به ، فأخذ سكينا لطيفا فخبأه بين قدمه ونعله ، ثم أتاه .
فلما خلا معه وثب إليه ، فواثبه ذو نواس فوجأه حتى قتله ، ثم جزّ رأسه ، فوضعه في الكوّة التي كان يشرف منها ، ووضع مسواكه في فيه ، ثم خرج على الناس ، فقالوا له : ذو نواس أرطب أم يباس ؟ فقال : سل تحماس ، استرطبان ذو نواس ، استرطبن لأباس .
فنظروا إلى الكوة فإذا رأس خنبعة مقطوع ، فخرجوا في أثر ذي نواس ، أرطب ، أدركوه ، وقالوا له : ما ينبغي أن يملكنا غيرك ، إذ أرحتنا من هذا الخبيث . فملّكوه ،
“ 119 “
واجتمعت عليه حمير ، وقبائل اليمن ، فكان آخر ملوك حمير ، ويسمى يوسف . وعاش في الملك زمانا .
الشناتر : الأصابع بلغة حمير . وتحماس : الرأس بلغتهم . واسترطبان : معنى استرطب . والكلام حميريّ يفهم بالفرض والقرينة ، لأنه يخالف ألف كلام العرب .
قال محمد بن سنان الخفاجي :
ودع النسيم يعيد من أخباره * فله حواش للحديث رفاق
ما ثمّ من علق العذيب بغائب * إلا وقد شهدت به الآماق
وقال :
ومهوّن للوجد يحسب أنّه * يودي العذيب مدامع وخدود
سل بانة الوادي فليس يفوتها * خبر يطول به الجوى ويزيد
وأنشد معي ضوء الصباح وقل له * كم تستطيل بك الليالي السود
وإذا هبطت الواديين وفيهما * دمن حبس على البكا وعهود
فأخدع فؤادي في الخليط لعله * يهفو على آثارهم ويعود
أصبابة بالجزع بعد سويقه * شغل لعمرك يا أميم جديد
وقال عبد الرحمن بن علي حدثنا كتابة :
في شغل عن الرقاد شاغل * من هاجه البرق بسفح عاجل
يا صاحبي هذي رياح ربعهم * قد أخبرت شمائل الشمائل
نسيمهم سحيريّ الريح ما * تشبهه روائح الأصائل
ما للصّبا مولعة بذي الصبا * أو صبا فوق الغرام القاتل
ما للهوى لعذري في ديارنا * أين العذيب من قصور بابل
لا تطلبوا ثأرا لبنايا قومنا * دماؤنا في أذرع الرواحل
للّه درّ العيش في ظلالهم * ولي وكم آثار في المفاصل
واطربا إذا رأيت أرضهم * هذا وفيها رميت مقاتلي
باطرة الشيخ سقيت أدمعا * ولا ابتليت بالهوى تماثلي
ميلك عن زهو وميلي عن أسى * ما طرب المخمور مثل الثاكل
وقال مهيار الديلمي :
أهفو لعلويّ الرياح إذا جرت * وأظنّ رامة كل دار أقفرت
ويشوقني روض الحمى متقضبا * يصف الترائب والبروق إذا سرت
“ 120 “
يا دين قلبي من ليالي حاجر * مكرت به يوما عليه وأبكرت
رسالة إلى أبي بكر الصدّيق واتّباع عمر بن الخطاب لها
إلى علي بن أبي طالب مع أبي عبيدة بن الجراح وجواب علي عن ذلك ومبايعته لأبي بكر رضي اللّه عنهم أجمعين .
عن أبي حيّان علي بن محمد التوحيدي البغدادي قال : سمرنا ليلة عند القاضي أبي حامد أحمد بن بشر المروزي العامري في دار أبي حبشان في شارع المازبان ، فتصرف الحديث بنا كل متصرف ، وكان أبو حامد واللّه معنّا ، مغتا ، مخلطا ، مزيلا ، غزير الرواية ، لطيف الدراية ، له في جو متنفس ، ومن كل نار مقتبس .
فجرى حديث السقيفة ، وشأن الخلافة ، فركب كل منّا متنا ، وقال قولا ، وعرّض بشيء ، ونزع إلى فنّ . فقال : هل فيكم من يحفظ رسالة أبي بكر الصدّيق رضي اللّه عنه لعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، وجواب علي له ومبايعته إياه عقيب تلك المناظرة ؟
فقالت الجماعة التي بين يديه : لا واللّه . قال : هي من بنات الحقاق ، ومخبآت الصناديق في الخزائن ، ومذ حفظتها ما رويتها إلا للمهلبي أبي محمد في وزارته . وكتبها عني في خلوة ، وقال : لا أعرف على وجه الأرض رسالة أعقل منها ، ولا أبين . وإنها لتدل على حلم ، وفصاحة ، وفقاهة ، ودهاء ، ودين ، وبعد غور ، وشدة غوص . فقال له أبو بكر العباداني :
أيها القاضي ، لو أتممت المنّة بروايتها سمعناها ، ونحن أوعى لها عنك من المهلبي ، وأوجب ذماما عليك ، فاندفع فقال :
حدثنا الخزاعي بمكة قال : حدثنا ابن أبي ميسرة ، حدثنا محمد بن فليح ، نبأ عيسى بن دأب ، نبأ صالح بن كيسان ويزيد بن رومان ، وكان معلم عبد الملك بن مروان ، قالا : حدثنا هشام بن عروة ، نبأ أبو النفاح مولى أبي عبيدة بن الجراح . وروى هذا الحديث وكان له عليه جرأة ظاهرة ، وكان من محفوظاته القديمة . فلما كان بعد ذلك بدهر ذاكرنا بأحرف من هذه الرسالة ابن مروان ، وكان نسيج وحده حفظا وبيانا واتّباعا . فعرفناه أن الحديث عندنا من جهة أبي حامد . فزعم أن أستاذه ابن شجرة أحمد بن كامل القاضي سرده ، ولم يكن فيه صالح بن كيسان . وذكر مولى أبي عبيدة أبا النفاح بالنون والفاء ، وخالف في أحرف ، وأنا أكرر على الرسالة والحديث بعد ذكرهما ، وأسمّي حرفا حرفا مما وقع فيه الخلاف على جهة التصحيف ، أو على جهة التحريف ، على أنني ما سمعت بحديث في طوله وغرابته بأحسن سلامة منه . وإنما ذلك لأنه صار إلينا من رواية هذين
“ 121 “
الشيخين العلّامتين . وكان سماعنا من أبي حامد سنة ستين ، ومن أبي منصور سنة خمس وسبعين .
قال أبو حامد : قال أبو النفاح : سمعت أبا عبيدة بن الجراح يقول : لما استقامت الخلافة لأبي بكر بين المهاجرين والأنصار ، ولحظ بعين الهيبة والوقار . وإن كان لم يزل كذلك بعد هنة كاده الشيطان بها ، فدفع اللّه عز وجل شرّها ، ورحض عرّها ، ويسّر خيرها ، وأزاح ضيرها ، وردّ كيدها ، وفصم ظهر النفاق والفسوق من أهلها .
بلغ أبا بكر الصدّيق رضي اللّه عنه عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، تلكؤ وشماس ، وتهمهم ونفاس ، وكره أن يتمادى الحال ، وتبدو العداوة ، وتنفرج ذات البين ، ويصير ذلك دربة لجهل مغرور ، أو عاقل ذي دهاء ، أو صاحب سلامة ، ضعيف القلب ، خوار العنان .
دعاني فحضرته وعنده عمر بن الخطاب وحده ، وكان يرمل أرضه بالسرجين ، وكان عمر قبسا له ، ظهيرا معه ، يستضيء برأيه ، ويستملي على لسانه .
فقال لي : يا أبا عبيدة ، ما أيمن ناصيتك وأبين الخير بين عينيك وعارضتيك ، ولقد كنت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمكان المحوط ، والمحل المغبوط . ولقد قال فيك في يوم مشهود : « أبو عبيدة أمين هذه الأمة » ، وطال ما أعز اللّه بك الإسلام ، وأصلح فساده على يديك . ولم تزل للدين ملجأ ، وللمؤمنين دوحا ، ولأهلك ركنا ، ولإخوانك رداء . قد أردتك لأمر له ما بعده ، خطره مخوف ، وصلاحه معروف . وإن لم يندمل جرحه بمسبرك ، ولم تستجب حيته لرقيتك ، فقد وقع اليأس ، وأعضل البأس ، واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمرّ من ذلك وأعلق ، وأعسر منه وأغلق ، واللّه أسأل تمامه بك ، ونظامه على يديك . فتأت له يا أبا عبيدة وتلطف فيه ، وأنصح اللّه تعالى ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم ، ولهذه العصابة ، غير آل جهدا ، ولا قال جدا . واللّه كالئك وناصرك وهاديك ومبصرك ، وبه الحول والتوفيق .
امض إلى عليّ واخفض جناحك له ، واغضض من صوتك عنده . واعلم أنه سلالة أبي طالب ، ومكانه ممن قد فقدناه بالأمس صلى اللّه عليه وسلم مكانه ، وقل له : البحر مغرقه ، والبرّ مفرقه ، والجو أكلف ، والليل أغلف ، والسماء جلوا ، والأرض صلعا ، والصعود متعذر ، والهبوط متعسر ، والحق رؤوف عطوف ، والباطل شنوف عنوف ، والضغن رائد البوار ، والتعريض شجار الفتنة ، والقحة ثقوب العداوة ، وهذا الشيطان متكئ على شماله ، متحبّل بيمينه ، نافخ حضنيه لأهله ، ينتظر الشتات والفرقة ، ويدبّ بين الأمة بالشحناء والعداوة ، عنادا للّه ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم ولدينه ، ناكبا يوسوس بالفجور ، ويدلّي بالغرور ، ويمنّي أهل
الجزء الثامن
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 107 “
غضب السلطان على جماعة من العلماء خرجوا عليه ووقعوا فيه ، فلما ظفر بهم أمر بقتلهم ، فبلغ الخبر شيخنا أبا مدين رحمه اللّه ، وكان مرعي الجانب عند السلطان والخاصة والعامة ، فأخذ عصاه وخرج ، فلما جاء دار السلطان أبصر القوم على تلك الحالة فبكى ، وأخبر السلطان بمكانه فتلقاه ، وقال : ما جاء بالشيخ في هذا الوقت ؟ فقال : الشفاعة في هؤلاء . فقال السلطان : أو ما تعرف يا شيخ إساءتهم ؟ فقال : يا أبا علي ، وهل على المحسنين من سبيل ؟ وهل الشفاعة إلا في أهل الكبائر من المسيئين ؟ فاستعبر السلطان وعفا عن الجميع ، وانصرف .
قرأنا في الخبر الأول أن الخليل عليه السلام اتفق له قضيتان متعارضتان : أدب في الواحدة وشكر في الأخرى ، فإن اللّه تعالى هو متولي أدب عباده الصالحين . أما التي شكر عليها فمن هذا الباب ، وذلك أنه عليه السلام نزل به رجل من عبدة الأوثان ، فأضافه الخليل وأكرمه ، فضجت الملائكة في السماوات ، وقالوا : ربنا خليلك يضيف عدوّك ،
فقال لهم :
جلّت قدرتي يا ملائكتي ، أنا أعلم بخليلي منكم . ثم أمر جبريل عليه السلام فنزل ، وعرض عليه قول الملائكة . فبكى إبراهيم عليه السلام وقال له : يا جبريل ، قل لمولاي منك تعلّمت الكرم ، يشير إلى حكاية الأدب التي أسوقها بعد هذه إن شاء اللّه تعالى ، رأيتك تحسن إلى من أساء فتعلّمت منك .
وأما حكاية الأدب ، فنزل له عليه السلام رجل من عبدة الأوثان ، فاستضافه ، فقال له إبراهيم : لا أضيفك حتى تسلم ، فأبى عليه وانصرف ، فأمر اللّه جبريل أن ينزل على إبراهيم عليهما السلام ، فقال له : يا إبراهيم ، يقول لك ربك : استضافك عبدي فشرطت عليه أن يترك دينه من أجل لقمة يأكلها عندك ، وأنا أرزقه منذ ثمانين سنة على شركه ، فلما أبى تركته . قال : فبكى إبراهيم ، ثم قام يقفو أثر الوثني إلى أن لحق به ، فعرض عليه الرجوع ، فأبى عليه أو يخبره بسبب ذلك ، فقال له إبراهيم عليه السلام : إن اللّه عاتبني فيك ، وقال لي ذيت وذيت ، فبكى الوثني وقال : يا إبراهيم ، أسلمت لرب العالمين . فأسلم الوثني هذا نتيجة الكرم .
وأنشد بعضهم :
أطعمتني بالجود حين بدأتني * أفلا أؤمّل نعمة الإتمام
حاشى الكريم إذا تفضّل منعما * مما يشين محاسن الإنعام
وفي معنى هذين البيتين ما سمعت شيخنا ابن الشحنة بإشبيلية وهو يقول لرجل ، وما رأيت رجلا قط أحسن شيبة ولا وجها منه ، ودموعه قد أخضلت لحيته : يا أخي ، حاشا
“ 108 “
الكريم أن يمنّ عليّ بالإسلام ابتداء قبل أن أسأله ، ثم ينزعه مني بعد سؤالي ، هذا نقيض الكرم . وعلا بكاؤه ، وعظم انتحابه ، فبكينا لبكائه رضي اللّه عنه . وهو من أجلّ من لقيت في طريق اللّه .
ومن حميد الخصال
ما اشترط عبد الملك بن مروان على الشعبي ، لما دخل عليه قال : يا شعبي ، جنّبني خصالا أربعا ، وما شئت فافعل . قال : يا أمير المؤمنين وما هي ؟ قال : الواحدة : لا تطريني في وجهي ، ولا أجربن عليك كذبة ، ولا تغتابن عندي أحدا ولا تفشين لي سرا . فقل ما شئت يا شعبي ، فقال الشعبي : ائذن لي يا أمير المؤمنين في الانصراف . فقال : انصرف ، فانصرف وما تكلّم .
ولبعضهم في الكتمان :
النجم أقرب من سري إذا اشتملت * منّي على السرّ أضلاعي وأحشائي
ولنا في مصراع من قصيدة :
(فالسرّ ميت بقلب الحرّ مدفون )
أخذته من قول القائل : قلوب الأحرار قبور الأسرار .
وقال الآخر :
ونفسك فاحفظها ولا تفش للعدى * من السرّ ما يطوي عليه ضميرها
فما يحفظ المكتوم من سرّ أهله * إذا عقد الأسرار شاع كبيرها
من القوم إلا ذو عفاف بعينه * على ذاك منه صدق نفس وخيرها
يقال لكاتم سرّه : من كتمانه أحد فضيلتين : الظفر بحاجته ، والسلامة من شرّه .
موطن شكر
قال في الحكمة : ينبغي لذي اللبّ أن يصون شكره عمن لا يستحقه ، ويستر ماء وجهه بالقناعة ، وهو الرضى بالموجود في الوقت ، وعدم التجاوز عنه إلى ما يذهب بماء الوجه ، فمن أراد أن تعظم منزلته فليكفّ مسألته ، ومن أحبّ الزيادة من النّعم فليشكر .
قال اللّه تعالى : لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .
يحكى عن بعض الأعراب أنه رؤي وهو متعلق بأستار الكعبة وهو يقول : أحمدك
“ 109 “
سبحانك ولا أشكرك . فعاتبه بعض الطائفين في ذلك ، فقال : إنه أعطاني الفقر ، فإن شكرته عليه أخاف من زيادة فقري ، فإن وعده حق ، ثم انصرف . فلما جاءت السنة الثانية رؤي حسن الهيئة ، وهو يحسن الثناء والشكر على اللّه ، فقيل له : فأين هذا من ذاك ؟ فقال :
إنه سبحانه أنعم عليّ بالخير بالشاء والإبل ، فأشكر للزيادة فإن وعده حق .
قال بعضهم : من أحبّ بقاء عزّه فليسقط دالته ومكره .
محل صنائع المعروف
في الحكمة الأولى : المعروف إلى الكرام يعقب خيرا ، وإلى اللئام يعقب شرا .
ومثل ذلك : المطر يشرب منه الصدف فيعقب لؤلؤا ، ويشرب منه الأفاعي فيعقب سمّا .
حكاية : ذكر أن جماعة من الأعراب أثاروا ضبعا ، فدخلت خباء شيخ ، فقصدوها ، فخرج إليهم فقال : ما بغيتكم ؟ قالوا : جارك ، قال : أما إذ قد سميتموه جاري فإن هذا السيف دونه . فتركوه . وكانت الضبع هزيلا فأحضر لها من لقامه ، وجعل يسقيها حتى عاشت ، فنام الشيخ فوثبت عليه فقتلته .
فقال شاعرهم في ذلك :
ومن يصنع المعروف مع غير أهله * يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر
أقام لها لما أناخت ببابه * لتسمن ألبان اللقاح الدرائر
فأسمنها حق إذا ما تمكنت * فرته بأنياب لها وأظافر
فقل لذوي المعروف هذا جزاء من * يعود بإحسان إلى غير شاكر
يا أخي ، أما لك فيما ترى معتبر ؟ اللّه يرسل نعمته على عبديه فالكريم منهما يطيعه بها ، واللئيم منهما يستعين على معصيته بها .
يقول سفيان : وجدنا أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام .
يحكى عن بعض الأعراب أنه أخذ جرو ذئب عندما ولد قبل أن يعرف أمه ، فاحتمل إلى خبائه وقرب له شاة ، فجعل يمتص من لبنها حتى كبر وسمن ، ثم شدّ على الشاة فقتلها . فقال الأعرابي في ذلك :
غذّتك شويهتي ونشأت عندي * فما أدراك أن أباك ذيب
فجعت نسيبتي وصغار قوم * بشاتهم وأنت لهم ربيب
إذا كان الطباع طباع سوء * فما يجدي التحفظ والأديب
“ 110 “
ومن باب الأخلاق ومكارمها
في الحكمة : عليك بالصدق ، فما السيف القاطع في كفّ الشجاع بأعزّ من الصدق .
والصدق عزّ وإن كان فيه ما تكره ، والكذب ذلّ وإن كان فيه ما تحبّ . ومن عرف بالكذب اتّهم في الصدق .
ولبعضهم :
لا يكذب المرء إلا من مهانته * أو عادة السوء أو من قلة الأدب
مذكور في كتاب لهندي : ليس لكذوب مروءة ، ولا لضجور رئاسة ، ولا لملول وفاء ، ولا لبخيل صديق .
يقول بعضهم : الصدق ميزان اللّه الذي يدور عليه العدل ، والكذب مكيال الشيطان الذي يدور عليه الجور .
من عفا عن قدرة
يحكى عن أمير المؤمنين هارون الرشيد ، أمر يحيى بن خالد بحبس رجل جنى جناية فحبسه ، ثم سأل عنه الرشيد فقيل : هو كثير الصلاة والدعاء ، فقال للموكل به : عرّض له بأن يكلّمني ويسألني إطلاقه ، فقال له الموكل ذلك ، فقال : قل لأمير المؤمنين إن كل يوم يمضي من نعمتك ينقص من محنتي ، فالأمر قريب ، والموعد الصراط ، والحاكم اللّه . فخرّ الرشيد مغشيا عليه ، ثم أفاق وأمر بإطلاقه .
حكاية
ظفر المأمون برجل كان يطلبه ، فلما دخل عليه قال : يا عدوّ اللّه ، أنت الذي تفسد في الأرض بغير الحق ؟ يا غلام ، خذه إليك فاسقه كأس المنية ، فقال : يا أمير المؤمنين ، دعني أنشدك أبياتا ، فقال : هات ، فأنشده :
زعموا بأن الصقر صادف مرة * عصفور برّ ساقه المقدور
فتكلم العصفور تحت جناحه * والصقر منقضّ عليه يطير
ما كنت خاميرا لمثلك لقمة * ولئن شويت فإنني لحقير
فتهاون الصقر المدلّ بصيده * كرما وأفلت ذلك العصفور
“ 111 “
فقال له المأمون : أحسنت ، ما جرى ذلك على لسانك إلا لبقية بقيت من عمرك .
فأطلقه ، وخلع عليه ، ووصله .
حكاية مضحكة
ذكر أن معلّما كان يعلّم الصبيان ، وكان اسمه أبو عاصم ، فبينا هو ذات يوم قاعد وبين يديه ثلاثة من صبيان العرب صغار يعلّمهم ، إذ به ضرط ، فقال أحدهم :
وضرطة جاءت على غفلة * من مفلق الشيخ أبي عاصم
فقال الآخر :
فأيقظت ما كان نائم * وأقعدت ما كان من قائم
فقال الثالث :
وانهدّت الأرض وأجبالها * والتزم المظلوم بالظالم
حكاية في معناها
حكي عن بعضهم أن واليا أتى برجل جنى جناية فأمر بضربه ، فلما مدّ قال : بحق رأس أمك إلا عفوت عني ، فقال : أوجعه ، قال : بحق خدّيها ونحرها ، قال : اضرب ، قال : بحق ثديها ، قال : اضرب ، قال : بحق سرّتها ، قال : ويلكم دعوه لا ينحدر قليلا .
وأتى محتسب كان عندنا بفاس بشاعر جنى جناية ، فأمر بضربه ، فسأله العفو حتى أغضبه ، فصاح على الضرّاب ، شدّ عليه ، ففي صيحته تلك ضرط المحتسب ضرطات .
فقال الشاعر في ذلك ، والسياط تأخذه :
اسمعوني واعجبوا * ضرط المحتسب
ضرطة صافية * طار منها العتب
سهلت حلق سلى * وعرت وادي سب
سبعة في نسق * ب ب ب بو ب ب ب
كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس وما كان منه في ذلك
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه قال : ثنا إبراهيم بن إسماعيل ، عن صالح بن كيسان قال : قال ابن شهاب ، أخبرني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة أن ابن عباس أخبره أن
“ 112 “
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد اللّه بن حذافة ، وأمر أن يدفعه إلى عظيم البحرين ، فرفعه عظيم البحرين إلى كسرى ، فلما قرأه كسرى خرّقه . قال ابن شهاب :
فحسبت أن المسيّب قال : فدعا عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يمزّقوا كل ممزّق .
قال محمد بن إسحاق : وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن حذافة بن قيس بن عديّ بن سعيد بن سهم إلى كسرى بن هرمز ملك فارس ، وكتب معه :
« بسم اللّه الرحمن الرحيم :
من محمد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس ، سلام على من اتّبع الهدى ، وآمن باللّه ، وشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأدعوك بدعاية اللّه ، فإني رسول اللّه إلى الناس كافة لأنذر مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ ، فأسلم تسلم ، فإن أبت فإن إثم المجوس عليك » .
فلما قرأ كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شققه ، وقال : يكتب إليّ بهذا الكتاب وهو عبدي . قال محمد بن إسحاق : فبلغني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « اللهم مزّق ملكه » ، حين بلغه شقّ كتابه .
ثم كتب كسرى إلى بادان وهو على اليمن : ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز من عندك رجلين جلدين ، فليأتياني به . فبعث بادان قهرمانه وهو أنوبوبة ، وكان كاتبا حاسبا بكتاب ملك فارس ، وبعث معه برجل من الفرس يقال له خر خرشونة ، وكتب معهما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى ، وقال لأنوبوبة : ويلك ، انظره ما الرجل ، وكلّمه وائتني بخبره . فخرجا حتى قدما الطائف ، فسألاهم عنه ، فقالوا : هو بالمدينة ، فاستبشروا بهما وفرحوا . فقال بعضهم لبعض : أبشروا فقد نصب له ملك الملوك . كفيتم الرجل .
فخرجا حتى قدما المدينة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فكلّمه أنوبوبة وقال : إن شاه شاه ملك الملوك كسرى بعث إلى الملك بادان يأمره بأن يبعث إليك من يأتي بك ، وقد بعثني إليك لتنطلق معي ، فإن فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك بكتاب يمنعك منه ويكفّ به عنك ، وإن أبيت فهو من قد علمت ، وهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك .
ودخلا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد حلقا لحاهما ، وأعفيا شواربهما ، فكره النظر إليهما وقال : « ويلكما ، من أمر كما بهذا ؟ » ، قالا : أمرنا بهذا ربنا ، يعنيان كسرى . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « لكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقصّ شاربي » . ثم قال لهما : « ارجعا حتى تأتياني غدا » .
“ 113 “
وأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخبر أن اللّه عز وجل سلّط على كسرى ابنه شيرويه ، فقتله في شهر كذا وكذا ، في ليلة كذا وكذا ، لعدة ما مضى من الليل ، سلّط عليه ابنه شيرويه ، فقتله .
فقالا : هل تدري ما تقول فنكتب بهذا عنك ، ونخبر الملك ؟ قال : « نعم ، أخبراه ذلك عني ، وقولا له : إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى ، وينتهي إلى منتهى الخفّ والحافر .
وقولا له : إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملّكتك على قومك » . ثم أعطى خرخرشونة منطقة فيها ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك ، فخرجا من عنده حتى قدما على بادان ، فأخبراه الخبر ، فقال : واللّه ما هذا بكلام ملك ، وإني لأرى هذا الرجل نبيّا كما يقول .
ولننظرنّ ما قال ، فلئن كان ما قد قال حقا ما فيه كلام إنه لنبي مرسل ، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا . فلم ينشب بادان أن قدم عليه كتاب شيرويه : أما بعد ، قد قتلت كسرى ، ولم أقتله إلا غضبا لفارس لما كان استحلّ من قتل أشرافهم وتجهيزهم ونعوتهم .
فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك ، وانظر الرجل الذي كتب إليك كسرى فلا تهجه حتى يأتيك أمري . فلما انتهى كتاب شيرويه إلى بادان قال : إن هذا الرجل لرسول .
فأسلم وأسلمت الأبناء من فارس من كان منهم باليمن . فكانت حمير تقول لخرخرشونة :
ذو المعجزة ، للمنطقة التي أعطاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، والمنطقة بلسان حمير المعجزة ، فبنوه اليوم باليمن ، ينسبون إليها خرخرشونة ذو المعجزة . وقد قال أنوبوبة لبادان : ما كلّمت رجلا قطّ أهيب عندي منه . فقال له بادان : - هل معه شرط ؟ قال : لا .
أنس بعرفان وخلوة برحمان
حدثنا محمد بن إسماعيل ، نبأ علي بن النفيس ، نبأ عبد الرحمن بن علي بن محمد ، أنا أبو بكر الصوفي ، أنا أبو سعيد الحيري ، أنا أبو بكر ، انا ابن باكويه الشيرازي ، نبأ عبد الواحد بن بكر الورثاني ، أنا أبو بكر أحمد بن محمد المارستاني ، عن محمد بن عيسى القرشي ، حدثني أبو الأشهب السائح : رأيت بين الثعلبية والخزيمية غلاما قائما يصلّي عند بعض الأسيال ، قد انقطع عن الناس ، فانتظرته حتى قطع صلاته ، ثم قلت له : ما معك مؤنس ؟
قال : بلى . قلت : وأين هو ؟ قال : أمامي ، ومعي ، وخلفي ، وعن شمالي ، وعن يميني ، وفوقي . فعلمت أن عنده معرفة ، فقلت له : أما معك زاد ؟ قال : بلى . قلت : وأين هو ؟
قال : الإخلاص للّه عز وجل ، والتوحيد له ، والإقرار بنبيّه صلى اللّه عليه وسلم ، وإيمان صادق ، وتوكّل واثق . قلت : هل لك في مرافقتي ؟ قال : الرفيق شغل عن اللّه عز وجل ، ولا أحبّ أن أرافق أحدا فأشتغل به عنه طرفة عين . قلت : أما تستوحش في هذه البريّة وحدك ؟ قال :
“ 114 “
الأنس باللّه قطع عني كل وحشة ، حتى لو كنت بين السباع ما خفتها ، ولا استوحشت منها .
قلت : فمن أين تأكل ؟ قال : الذي غذّاني في ظلم الأرحام صغيرا تكفّل بي كبيرا . فقلت :
في أيّ وقت تجيئك الأسباب ؟ فقال : لي حدّ معلوم ، ووقت مفهوم ، إذا احتجت إلى الطعام أصبته في أي موضع كنت ، وقد علّمني ما يصلحني ، وهو غير غافل عني . قلت :
لك حاجة ؟ قال : نعم . قلت : وما هي ؟ قال : إن رأيتني فلا تكلّمني ، ولا تعلم أحدا أنك تعرفني . قلت : لك ذلك ، فهل حاجة أخرى ؟ قال : نعم . قلت : وما هي ؟ قال : إن استطعت أن لا تنساني في دعائك وعند الشدائد إذا نزلت بك فافعل . قلت : كيف يدعو مثلي لمثلك وأنت أفضل مني خوفا وتوكّلا ؟ قال : لا تقل هذا ، إنك قد صليت للّه قبلي ، وصمت قبلي ، ولك حق الإسلام ، ومعرفة الإيمان . قلت : فإن لي أيضا حاجة . قال : وما هي ؟ قلت : ادع اللّه لي . قال : حجب اللّه طرفك عن كل معصية ، وألهم قلبك الفكر فيما يرضيه ، حتى لا يكون لك همّ إلا هو . قلت : يا حبيبي ، متى ألقاك وأين أطلبك ؟ قال : أما في الدنيا فلا تحدث نفسك بلقاء فيها ، وأما الآخرة فإنها مجمع المتّقين ، فإياك أن تخالف اللّه فيما أمرك وندبك إليه . وإن كنت تبتغي لقائي فاطلبني مع الناظرين إلى اللّه تعالى في زمرتهم . قلت : وكيف علمت ؟ قال : بغضّ طرفي له عن كل محرّم ، واجتنابي فيه كل منكر ومأثم . وقد سألته أن يجعل حبي النظر إليه . ثم صاح وأقبل يسعى حتى غاب عن بصري .
تذكرة بلسان حال
روينا من حديث المالكي ، عن محمد بن غالب ، عن محمد بن إبراهيم ، عن إسماعيل بن عبد الكريم ، عن عقيل بن معقل ، عن وهب بن منبّه قال : ما من شعرة تبيضّ إلا تقول للسوداء : يا أختاه ، قد أتاك الموت فاستعدّي .
حدثنا محمد بن أحمد الهروي ، عن عبد الرحمن بن أبي الفضل ، عن محمد بن أحمد الماهباني ، سمعت محمد بن القاسم الصقار ، سمعت حمزة بن عبد العزيز ، سمعت أبا بكر الأبهري ، سمعت يوسف بن الحسين ، سمعت ذا النون المصري يقول : الحسود لا يسود .
إيقاع وحسن استماع
حدثنا محمد بن أحمد ، ثنا الثقفي ، حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي ، حدثنا أحمد بن سعيد ، ثنا محمد بن سعيد المروزي ، ثنا العباس الترفقي ، نبأ عبد اللّه بن عمرو
“ 115 “
الورّاق ، نبأ الحسين بن علي بن منصور ، نبأ أبو غياث البصري ، عن إبراهيم بن محمد الشافعي أن سعيد بن المسيب مرّ في بعض أزقّة مكة فسمع الأخضر الجدي يتغنى في دار العاص بن وائل ويقول :
تضوّع مسكا بطن نعمان إن مشت * به زينب في نسوة عطرات
فلما رأت ركب النميري أعرضت * وهنّ من أن يلقينه حذرات
قال : فضرب برجله الأرض زمانا وقال : هذا مما يلذّ سماعه ، وكانوا يرون أن الشعر لسعيد .
وللشريف الرضيّ
أنشدني ابن فرقد :
ألا هل إلى ظلّ الأثيل تخلص * وهل لثنيّات الغوير طلوع
وهل لليالينا الطوال تصرّ * وهل لليالينا القصار رجوع
وأنشد له أيضا في ذلك :
أقول لركب رائحين لعلكم * تحلّون من بعد العقيق اليمانيا
خذوا نظري مني ولاقوا به الحمى * ونجدا وكثبان اللوى والمطاليا
ومرّوا على أبيات حيّ برامة * وقولوا لديغ يبتغي اليوم راقيا
عدمت دوائي بالعراق فربما * وجدتم بنجد لي طبيبا مداويا
وقولوا لجيران على الخيف من منى * تراكم من استبدلتم بجواريا
ومن ورد الماء الذي كنت واردا * به ورعى العشب الذي كنت راعيا
فوا حزنا كم لي على الخيف شهقة * تذوب عليها قطعة من فؤاديا
ترحلت عنكم إلى أمامي نظرة * وعشر وعشر بعدكم من ورائيا
ومن نظمه أيضا في ذلك :
من معيد لي أي * أمي بجزع السمرات
وليالينا بجمع * ومنى والجمرات
يا وقوفا ما وقف * نا في طلال السلمات
نتشاكى ما عنانا * بكلام العبرات
آه من جيد إلى الد * ار طويل اللفتات
وغرام غير ماض * بلقاء غير آت
“ 116 “
فسقى بطن منى * والخيف صوب الغاديات
غرست عندي غرس الش * وق مرور الحسنات
أين راق لغرامي * وطبيب لشكاتي
دعاء مجاب لبعض نساء الأعراب
روينا من حديث ابن مروان ، عن إسماعيل بن يونس ، عن الرياشي ، عن الأصمعي قال : سمعت أعرابية بعرفات وهي تقول : اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله ، وإن كان في الأرض فأخرجه ، وإن كان نائيا فقرّبه ، وإن كان قريبا فيسّره .
حفظ اللسان دليل على عقل الإنسان
رأيت اللسان على أهله * إذا ساسه الجهل ليثا مغيرا
وقال بعض الأعراب لآخر يعظه : إياك أن تضرب لسانك عنقك . وقال أكثم بن صيفيّ : معقل الرجل بين فكيه ، يعني لسانه . والفكان : اللحيان .
وكان أبو بكر الصدّيق رضي اللّه عنه كثيرا ما ينشد :
اخزن لسانك لا تقول فتبتلى * إن البلاء موكل بالمنطق
وقال المؤمّل :
شفّ المؤمّل يوم الحيرة النظر * ليت المؤمّل لم يخلق له بصر
فعمي في مجلسه ذلك .
ومن باب العناية الإلهية
ما حدثنا به عبد الرحمن بن علي ومحمد بن محمد . فأما محمد بن محمد فقال :
كتب إلينا ، وأما عبد الرحمن فقال : قرأت على أبي القاسم الحريري ، عن أبي طالب العشاري ، عن مبادر بن عبد اللّه الصوفي قال : سمعت أبا الأزهر عبد الواحد بن محمد الفارسي قال : لقيت إبراهيم الحتلي بمكة بعد رجوعه إلى وطنه وتزويجه ابنة عمه ، وكان قد قطع البادية حافيا ، فحدثني أنه لما رجع إلى بلده وتزوج ، شغف بابنة عمه شغفا شديدا حتى ما كان يفارقها لحظة . فتفكرت ليلة في كثرة ميلي إليها ، فقلت : ما يحسن بي أن أرد القيامة وفي قلبي هذه ، فتطهرت ، وصليت ركعتين ، وقلت : سيدي ردّ قلبي إلى ما هو
“ 117 “
أولى . فلما كان من الغد أخذتها الحمى ، وتوفيت في اليوم الثالث . فنويت الخروج حافيا من وقتي إلى مكة ، فقلت : هكذا يحمي اللّه أولياءه ويختار لهم ويرعاهم .
ومن باب حثّ النفس على المحامد
ما حدثنا به محمد بن الفضل ، عن أبي منصور القزّاز ، عن أبي بكر الخطيب ، عن أبي سعيد الصيرفي ، عن أبي عبد اللّه الأصفهاني ، عن أبي بكر القرشي ، عن الحسين بن عبد الرحمن قال : حج سعيد بن وهب ماشيا ، فبلغ منه الجهد ،
فأنشد :
قدمي اعتورا رمل الكثيب * وأطرقا الآجن من ماء القليب
ربّ يوم رحتما فيه على * زهرة الدنيا وفي واد خصيب
وسماع حسن من حسن * صحب المزهر كالظبي الربيب
فاحسبا ذاك بهذا واصبرا * وخذا من كل فنّ بنصيب
إنما أمشي لأني مذنب * فلعل اللّه يغفر عن ذنوبي
ومن هذا الباب في حنين الإبل وسيرها :
يا لزماني على الحمى عجبا * وأي زمان مضى وأي حمى
حلفت بالراقصات مجتهدا * عناقا خفوضا وأظهرا سنما
تحسب أشخاصها إذا اختلطت * بالأكم الوقص في الدجا أكما
تحمل شقا إذا هم ذكروا * ذخيرة الأجر غالطوا السّاما
غدوا نزاعا من عامهم وتقى * أيام جمع والأشهر الحرما
حتى أناخوا بذي الستور ملبّ * ين بأرض كادت تكون سما
ومن هذا الباب :
أحاديها لو أمكنت من زمامها * أريد وراء والهوى من أمامها
فما الحزن إلا بين حلمي وخوفها * وبين زفيري خائفا وبغامها
يعزّ علينا يومها تحت كورها * بما فات من أيامها في مشامها
وإن تعلف الرّطب الخليط ببابل * مكان أراك حاجر وبشامها
فليت بلاد أسرها في قصورها * فذاك بيوت خيرها في خيامها
ومن هذا الباب :
ردّوا لها أمّامها بالغميم * إن كان من بعد شقاء نعيم
ولا تدلّوها فقد آمّها * أدلة الشوق وهادي الشميم
“ 118 “
ومن هذا الباب :
أمن خفوق البرق ترزمينا * حتى فما اتبعك الحنينا
سري يمانا وسراك شامة * فضلت ما أن تتلقّنينا
نعم تشاقين ونشتاق له * ونعلن الوجد وتكتمينا
فأين منك اليوم أو منّا الهوى * وأين نجد والمغورونا
ومنه أيضا :
أين تريد يا مثير الظعن * أوطن بنا برامة بوطن
حبسا ولو زادك من مضضه * بين الفرار خائفا والوسن
لعلها أن تشتفي نائحة * بالعبرات أعين من أعين
كم كبد كريمة في برّة * خزمتها ومهجة في رسن
يا قاتل اللّه العذيب موقفا * على ثبوت قدمي أزلني
يا زمتي بالخيف بل يا جيرتي * فيه وأين جيرتي وزمتي
ليت الذي كان فطار شعبا * به الفراق بيننا لم يكن
خبر لخنبعة مع ذي نواس
ولي حمير باليمن بعد هلاك عمرو بن أسعد تبّع لخنبعة ذي شناتر ، فقتل خيارهم ، وعبث ببنين أهل مملكته ، وكان يعمل عمل قوم لوط ، فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك فيقع عليه في مشرفة له قد صنعها لذلك .
فإذا فرغ من فسقه بالغلام يطلع من مشرفته تلك إلى حرسه ، وقد أخذ سواكا فجعله في فيه يعلمهم أنه قد فرغ منه ، حتى بعث إلى ذي نواس وهو زرعة بن أسعد تبّع الذي كسا الكعبة ، وكان وسيما ذا هيبة ، وعقل من أجمل الناس .
فلما أتاه رسول ذي شناتر عرف زرعة ما يريد به ، فأخذ سكينا لطيفا فخبأه بين قدمه ونعله ، ثم أتاه .
فلما خلا معه وثب إليه ، فواثبه ذو نواس فوجأه حتى قتله ، ثم جزّ رأسه ، فوضعه في الكوّة التي كان يشرف منها ، ووضع مسواكه في فيه ، ثم خرج على الناس ، فقالوا له : ذو نواس أرطب أم يباس ؟ فقال : سل تحماس ، استرطبان ذو نواس ، استرطبن لأباس .
فنظروا إلى الكوة فإذا رأس خنبعة مقطوع ، فخرجوا في أثر ذي نواس ، أرطب ، أدركوه ، وقالوا له : ما ينبغي أن يملكنا غيرك ، إذ أرحتنا من هذا الخبيث . فملّكوه ،
“ 119 “
واجتمعت عليه حمير ، وقبائل اليمن ، فكان آخر ملوك حمير ، ويسمى يوسف . وعاش في الملك زمانا .
الشناتر : الأصابع بلغة حمير . وتحماس : الرأس بلغتهم . واسترطبان : معنى استرطب . والكلام حميريّ يفهم بالفرض والقرينة ، لأنه يخالف ألف كلام العرب .
قال محمد بن سنان الخفاجي :
ودع النسيم يعيد من أخباره * فله حواش للحديث رفاق
ما ثمّ من علق العذيب بغائب * إلا وقد شهدت به الآماق
وقال :
ومهوّن للوجد يحسب أنّه * يودي العذيب مدامع وخدود
سل بانة الوادي فليس يفوتها * خبر يطول به الجوى ويزيد
وأنشد معي ضوء الصباح وقل له * كم تستطيل بك الليالي السود
وإذا هبطت الواديين وفيهما * دمن حبس على البكا وعهود
فأخدع فؤادي في الخليط لعله * يهفو على آثارهم ويعود
أصبابة بالجزع بعد سويقه * شغل لعمرك يا أميم جديد
وقال عبد الرحمن بن علي حدثنا كتابة :
في شغل عن الرقاد شاغل * من هاجه البرق بسفح عاجل
يا صاحبي هذي رياح ربعهم * قد أخبرت شمائل الشمائل
نسيمهم سحيريّ الريح ما * تشبهه روائح الأصائل
ما للصّبا مولعة بذي الصبا * أو صبا فوق الغرام القاتل
ما للهوى لعذري في ديارنا * أين العذيب من قصور بابل
لا تطلبوا ثأرا لبنايا قومنا * دماؤنا في أذرع الرواحل
للّه درّ العيش في ظلالهم * ولي وكم آثار في المفاصل
واطربا إذا رأيت أرضهم * هذا وفيها رميت مقاتلي
باطرة الشيخ سقيت أدمعا * ولا ابتليت بالهوى تماثلي
ميلك عن زهو وميلي عن أسى * ما طرب المخمور مثل الثاكل
وقال مهيار الديلمي :
أهفو لعلويّ الرياح إذا جرت * وأظنّ رامة كل دار أقفرت
ويشوقني روض الحمى متقضبا * يصف الترائب والبروق إذا سرت
“ 120 “
يا دين قلبي من ليالي حاجر * مكرت به يوما عليه وأبكرت
رسالة إلى أبي بكر الصدّيق واتّباع عمر بن الخطاب لها
إلى علي بن أبي طالب مع أبي عبيدة بن الجراح وجواب علي عن ذلك ومبايعته لأبي بكر رضي اللّه عنهم أجمعين .
عن أبي حيّان علي بن محمد التوحيدي البغدادي قال : سمرنا ليلة عند القاضي أبي حامد أحمد بن بشر المروزي العامري في دار أبي حبشان في شارع المازبان ، فتصرف الحديث بنا كل متصرف ، وكان أبو حامد واللّه معنّا ، مغتا ، مخلطا ، مزيلا ، غزير الرواية ، لطيف الدراية ، له في جو متنفس ، ومن كل نار مقتبس .
فجرى حديث السقيفة ، وشأن الخلافة ، فركب كل منّا متنا ، وقال قولا ، وعرّض بشيء ، ونزع إلى فنّ . فقال : هل فيكم من يحفظ رسالة أبي بكر الصدّيق رضي اللّه عنه لعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، وجواب علي له ومبايعته إياه عقيب تلك المناظرة ؟
فقالت الجماعة التي بين يديه : لا واللّه . قال : هي من بنات الحقاق ، ومخبآت الصناديق في الخزائن ، ومذ حفظتها ما رويتها إلا للمهلبي أبي محمد في وزارته . وكتبها عني في خلوة ، وقال : لا أعرف على وجه الأرض رسالة أعقل منها ، ولا أبين . وإنها لتدل على حلم ، وفصاحة ، وفقاهة ، ودهاء ، ودين ، وبعد غور ، وشدة غوص . فقال له أبو بكر العباداني :
أيها القاضي ، لو أتممت المنّة بروايتها سمعناها ، ونحن أوعى لها عنك من المهلبي ، وأوجب ذماما عليك ، فاندفع فقال :
حدثنا الخزاعي بمكة قال : حدثنا ابن أبي ميسرة ، حدثنا محمد بن فليح ، نبأ عيسى بن دأب ، نبأ صالح بن كيسان ويزيد بن رومان ، وكان معلم عبد الملك بن مروان ، قالا : حدثنا هشام بن عروة ، نبأ أبو النفاح مولى أبي عبيدة بن الجراح . وروى هذا الحديث وكان له عليه جرأة ظاهرة ، وكان من محفوظاته القديمة . فلما كان بعد ذلك بدهر ذاكرنا بأحرف من هذه الرسالة ابن مروان ، وكان نسيج وحده حفظا وبيانا واتّباعا . فعرفناه أن الحديث عندنا من جهة أبي حامد . فزعم أن أستاذه ابن شجرة أحمد بن كامل القاضي سرده ، ولم يكن فيه صالح بن كيسان . وذكر مولى أبي عبيدة أبا النفاح بالنون والفاء ، وخالف في أحرف ، وأنا أكرر على الرسالة والحديث بعد ذكرهما ، وأسمّي حرفا حرفا مما وقع فيه الخلاف على جهة التصحيف ، أو على جهة التحريف ، على أنني ما سمعت بحديث في طوله وغرابته بأحسن سلامة منه . وإنما ذلك لأنه صار إلينا من رواية هذين
“ 121 “
الشيخين العلّامتين . وكان سماعنا من أبي حامد سنة ستين ، ومن أبي منصور سنة خمس وسبعين .
قال أبو حامد : قال أبو النفاح : سمعت أبا عبيدة بن الجراح يقول : لما استقامت الخلافة لأبي بكر بين المهاجرين والأنصار ، ولحظ بعين الهيبة والوقار . وإن كان لم يزل كذلك بعد هنة كاده الشيطان بها ، فدفع اللّه عز وجل شرّها ، ورحض عرّها ، ويسّر خيرها ، وأزاح ضيرها ، وردّ كيدها ، وفصم ظهر النفاق والفسوق من أهلها .
بلغ أبا بكر الصدّيق رضي اللّه عنه عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، تلكؤ وشماس ، وتهمهم ونفاس ، وكره أن يتمادى الحال ، وتبدو العداوة ، وتنفرج ذات البين ، ويصير ذلك دربة لجهل مغرور ، أو عاقل ذي دهاء ، أو صاحب سلامة ، ضعيف القلب ، خوار العنان .
دعاني فحضرته وعنده عمر بن الخطاب وحده ، وكان يرمل أرضه بالسرجين ، وكان عمر قبسا له ، ظهيرا معه ، يستضيء برأيه ، ويستملي على لسانه .
فقال لي : يا أبا عبيدة ، ما أيمن ناصيتك وأبين الخير بين عينيك وعارضتيك ، ولقد كنت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمكان المحوط ، والمحل المغبوط . ولقد قال فيك في يوم مشهود : « أبو عبيدة أمين هذه الأمة » ، وطال ما أعز اللّه بك الإسلام ، وأصلح فساده على يديك . ولم تزل للدين ملجأ ، وللمؤمنين دوحا ، ولأهلك ركنا ، ولإخوانك رداء . قد أردتك لأمر له ما بعده ، خطره مخوف ، وصلاحه معروف . وإن لم يندمل جرحه بمسبرك ، ولم تستجب حيته لرقيتك ، فقد وقع اليأس ، وأعضل البأس ، واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمرّ من ذلك وأعلق ، وأعسر منه وأغلق ، واللّه أسأل تمامه بك ، ونظامه على يديك . فتأت له يا أبا عبيدة وتلطف فيه ، وأنصح اللّه تعالى ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم ، ولهذه العصابة ، غير آل جهدا ، ولا قال جدا . واللّه كالئك وناصرك وهاديك ومبصرك ، وبه الحول والتوفيق .
امض إلى عليّ واخفض جناحك له ، واغضض من صوتك عنده . واعلم أنه سلالة أبي طالب ، ومكانه ممن قد فقدناه بالأمس صلى اللّه عليه وسلم مكانه ، وقل له : البحر مغرقه ، والبرّ مفرقه ، والجو أكلف ، والليل أغلف ، والسماء جلوا ، والأرض صلعا ، والصعود متعذر ، والهبوط متعسر ، والحق رؤوف عطوف ، والباطل شنوف عنوف ، والضغن رائد البوار ، والتعريض شجار الفتنة ، والقحة ثقوب العداوة ، وهذا الشيطان متكئ على شماله ، متحبّل بيمينه ، نافخ حضنيه لأهله ، ينتظر الشتات والفرقة ، ويدبّ بين الأمة بالشحناء والعداوة ، عنادا للّه ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم ولدينه ، ناكبا يوسوس بالفجور ، ويدلّي بالغرور ، ويمنّي أهل
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin