الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء 14
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 197 “
لهم : ما أبكي لما جرى من ذهاب الدنيا ، لكن فيما رويت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :
« ما استخف قوم بعالمهم وانتهكوا حرمته إلا سلّط عليهم العدو » . وتوفي الشيخ من عامه كما ذكرنا ، وسلّط العدو على البلد في العام الذي بعده ، فأخذهم شر أخذة ، وبقوا حديثا شنيعا على وجه الدهور . على أنه كان لهم عدد عظيم ، ومدد جسيم ، فلم يغن عنهم ذلك شيئا ، وظهر فيهم ما ذكره الشيخ رضي اللّه عنه .
ما جاء في صورة جبريل التي خلق عليها
قالت عائشة رضي اللّه عنها في قوله تعالى : وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ، قالت : رأى جبريل في الصورة التي خلقه اللّه عليها له ستمائة جناح .
روينا من حديث إسحاق بن بشر القرشي ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لجبريل عليه السلام :
« إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون عليها في السماء » . قال : لن تقوى على ذلك . قال : « بلى » . قال : فأين تشاء أن أتمثل لك ؟ قال : « بالأبطح » . قال : لا يسعني ، قال : « بمنى » .
قال : لا تسعني ، قال : « بعرفات » ، فواعد ، فخرج النبي عليه السلام للوقت ، فإذا هو بجبريل قد أقبل من جبال عرفات بخشخشة وكلكلة قد ملأ ما بين المشرق والمغرب ، ورأسه في السماء ، ورجلاه في الأرض . فلما رآه النبي عليه السلام خرّ مغشيا عليه .
قال : فتحوّل جبريل في صورته التي عهده عليها ، فضمه إلى صدره وقال له : يا محمد ، لا تخف أنا أخوك جبريل . فلما أفاق قال : « يا جبريل ، ما ظننت أن للّه في السماء خلقا يشبهك » . فقال : يا محمد ، فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ، ورجلاه في التخوم السابعة ، وإن العرش على كاهله ، وإنه ليتضاءل أحيانا من مخافة اللّه تعالى حتى يصير مثل الوضع ، حتى لا يحمل عرش ربك إلا عظمته تبارك وتعالى لوضع الطير الصغير الذي يصبح في القائلة ، وتسميه العامة الأغزال والجفالة .
انتشار ولد إسماعيل وعبادتهم الحجارة
روينا من حديث أبي الوليد ، عن جده ، عن أبي سالم ، عن ابن إسحاق أن بني إسماعيل وجرهم من ساكني مكة ضاقت عليهم مكة ، فتفسحوا في البلاد ، والتمسوا المعاش ، فيزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل ، أنه كان لا يظعن من
“ 198 “
مكة ظاعن منهم إلا احتملوا معهم من حجارة الحرم ، تعظيما للحرم ، وصيانة بمكة وبالكعبة . حيثما حلوا وضعوه ، فطافوا به كالطواف ، حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة . وأعجبهم من حجارة الحرم خاصة حتى خلفت الخلوف بعد الخلوف ، ونسوا ما كانوا عليه ، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام غيره . فعبدوا الأوثان ، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم من الضلالة ، وانتحوا ما كان يعبد قوم نوح منها ، على أثر ما كان بقي فيهم من ذكرها وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل ، يتمسكون بها من تعظيم البيت ، والطواف به ، والحج ، والعمرة ، والوقوف على عرفة والمزدلفة ، وهدى البدن ، والإهلال بالحج والعمرة ، مع إدخالهم فيه ما ليس منه .
ومن منظومات الشبلي في يوم عيد ، ما رويناه من حديث ابن باكويه قال : أنشدني أبو عمرة
الحسن الحنظلي قال : سمعت الشبلي ينشد يوم العيد :
ليس عيد المحب قصد المصلى * وانتظار الجيوش والسلطان
إنما العيد أن تكون لذي الحب * كريما مقرّبا في الأمان
وله في ذلك :
عيدي مقيم وعيد الناس منصرف * والقلب مني عن اللذات منحرف
ولي قرينان ما لي منهما خلف * طول الحميم وعيني دمعها يكفّ
وله في ذلك :
إذا ما كنت لي عيدا * فما أصنع بالعيد
جرى حبّك في قلبي * كجري الماء في العود
وحدثنا يونس بن يحيى قال : انا ابن منصور ، عن الحميدي ، عن أبي بكر الأردستاني ، عن السلمي قال : سمعت عبد اللّه بن محمد الدمشقي يقول : سمعت الشبلي ينشد يوم عيد ، ولا أدري لنفسه أم لغيره :
الناس في العيد قد سرّوا وقد فرحوا * وما سررت به والواحد الصمد
لما تيقنت أنّي لا أعاينكم * غمّضت طرفي فلم أنظر إلى أحد
وحدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الباقي ، نبأ هنّا قال : سمعت محمد بن القاسم يقول : كان الشبلي ينوح يوم العيد ويصيح ، وعليه ثياب سود وزرق ، فاجتمع الناس إليه ، فسألوه عن حاله فقال :
تزين الناس يوم العيد للعيد * وقد لبست ثياب الزرق والسود
“ 199 “
وأصبح الكل مسرورا بعيدهم * ورحت فيكم على نوح وتعديد
والناس في فرح والقلب في ترح * شتّان بيني وبين الناس في العيد
وحدثنا يونس بن يحيى قال : انا ابن ناصر ، حدثنا أبو الثناء محمود بن أبي المظفّر قال : حدثنا ابن خميس قال : انا الحميدي قال : أنا أبو بكر الأردستاني قال : انا السلمي قال : سمعت عبد اللّه بن إبراهيم بن العلاء يقول : قال رجل لأبي علي الروذبادي : غدا العيد ، فغيّر من زينتك ، فأنشد يقول :
قالوا غدا العيد ما أنت لابسه * فقلت خلعة ساق حبّه جزعا
فقر وضرّهما ثوبان تحتهما * قلب يرى إلفه الأعياد والجمعا
أحرى الملابس أن تلقى الحبيب بها * يوم التزاور في الثوب الذي خلعا
الدهر لي مأثم إن غبت يا أملي * والعيد ما كنت لي مرأى ومستمعا
خبر هبل الصنم الذي كان بالكعبة
روينا من حديث هشام ، وابن إسحاق ، أن عمرو بن لحيّ خرج من مكة إلى الشام في بعض أمور ، فلما قدم مآب من أرض البلقاء ، وبها يومئذ العماليق ، رآهم يعبدون الأصنام . فقال لهم : ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون ؟
قالوا : هذه أصنام نعبدها ، فنستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا ، فقال لهم : أفلا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض المغرب فيعبدونه ؟
فأعطوه صنما يقال له هبل - بفتح الهاء - فقدم به مكة ا ه .
حديث ابن هشام : قال ابن إسحاق : فقدم بصنم يقال له هبل - بضم الهاء - من هيت من أرض الجزيرة لم يكن من أهل البلقاء ، وهو أصح . وكان هبل من أعظم أصنام قريش عندها .
فنصبه على البئر التي كانت في بطن الكعبة ، وأمر الناس بعبادته . وكانت هذه البئر في جوف الكعبة على يمين من دخلها ، عمقها ثلاثة أذرع ، حفرها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، ليكون فيها ما يهدى إلى الكعبة ، وكانت تسمى الأخسف .
وكان عند أهل هبل في الكعبة سبعة قداح ، كل قدح منها فيه كتاب : قدح فيه العقل إذا اختلفوا في العقل ، من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة عليهم ، فعلى من خرج حمله .
وقدح فيه نعم ، الأمر الذي أرادوه يضرب به في القداح ، فإن خرج قدح فيه نعم عملوا .
وقدح فيه لا ، فإذا أرادوا الأمر ضربوا به في القداح ، فإذا خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر .
وقدح فيه منكم ، وقدح فيه ملصق ، وقدح فيه من غيركم ، وقدح فيه المياه . فإذا أرادوا أن يحفروا المياه ضربوا بالقداح ، وفيها ذلك القدح ، فحيث ما خرجوا به عملوا به .
وكانوا إذا أرادوا أن
“ 200 “
يختنوا غلاما ، وينكحوا جارية ، ويدفنوا ميتا ، أو شكّوا في نسب أحد منهم ، ذهبوا به إلى هبل ، ومائة درهم جزر ، فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها ، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ، ثم قالوا : يا إلهنا هذا فلان أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق فيه .
ثم يقولون لصاحب القداح : اضرب ، فإن خرج منكم كان منهم وسطا ، وإن خرج عليه من غيركم كان حليفا ، وإن خرج عليه ملصق كان ملصقا على منزلته فيهم لا بسبب له ولا خلف . وإن خرج عليه شيء مما سوى هذا مما يعملون به نعم عملوا به ، وإن خرج لا أخّروه عامه ذلك حتى يأتوا به مرة أخرى ، ينتهون في أمرهم ذلك إلى ما خرجت به القداح .
قال ابن إسحاق : وكان هبل من خرز العقيق على صورة إنسان ، وكانت يده اليمنى مكسورة ، فأدركته قريش فجعلت له يدا من ذهب . وكانت له خزانة للقربات ، وكانت له سبعة قداح يضرب بها على الميت والعذرة والنكاح . وكان قربانه مائة بعير . وكان له حاجب ، وكانوا إذا جاءوا هبل بالقربان ضربوا بالقداح وقالوا :
إنا اختلفنا فهب السّراحا * ثلاثة يا هبل فصاحت
الميت والعذرة والنكاحا * والمبرئ المريض والصحاحا
إن لم تقله فمن القداحا
روينا من حديث أحمد بن مروان ، عن محمد بن عبد العزيز الدينوري ، عن أحمد بن أبي الحواريّ ، عن أبي سليمان الداراني ، قال : قلت لراهب : يا راهب ، أي يوم أسرّ إليك ؟ قال : يوم لا أعصي اللّه عز وجل فيه .
روينا من حديث ابن أبي الدنيا ، عن محمد بن عمرو المالكي ، عن سفيان بن عيينة ، عن إدريس بن يزيد ، عن سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، قال : قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : من خلصت نيته ولو علة نفسه كفاه اللّه ما بينه وبين الناس .
وروينا من حديثه أيضا عن يحيى بن يوسف ، عن أبي معاوية ، عن عبد الرحمن بن زيد ،
قال : كان أبي يقول : يا بنيّ ، أنوفي كل شيء تريد الخير ، حتى خروجك إلى الكناسة في حاجة .
وروينا من حديث الدينوري في كفارة الغيبة ، قال : نبأ أبو جعفر حمدان بن علي ، نبأ محمد بن علي الخزاعي ، نبأ عنبسة بن عبد الرحمن القرشيّ ، عن خالد بن يزيد المدني ، عن أنس بن مالك ، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « كفارة الاغتياب أن تستغفر لمن اغتبته » .
وروينا من حديثه أيضا في أحب العباد إلى اللّه تعالى ،
قال : حدثنا محمد بن غالب ،
“ 201 “
حدثني إسحاق بن كعب مولى ابن هشام ، نبأ عبد الحميد بن سليمان الأزرق ، عن سكين بن أبي سراج ، عن عبد اللّه بن دينار ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس ، أن رجلا أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : أيّ العباد أحبهم إلى اللّه عز وجل ؟ قال : « أنصفهم للناس ، وإن من أحب الأعمال إلى اللّه عز وجل سرور تدخله على مسلم ، أو تكشف عنه كربة ، أو تقضي عنه دينا ، أو تسدّ عنه جوعة . ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إليّ من اعتكاف شهرين في المسجد . ومن كفّ غضبه ستر اللّه عورته ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه لأمضاه ملأ اللّه قلبه أمنا وإيمانا ، ومن مشى مع أخ له في حاجة حتى يثبتها ثبّت اللّه قدمه يوم تزلّ الأقدام » .
وروينا من حديثه أيضا ، قال : نبأ أحمد بن محمد البراء ، نبأ عبد المنعم ، عن أبيه ، عن وهب بن منبّه ، قال : لما ضربت الدراهم والدنانير ، حملها إبليس وقال : سلاحي ، وقرّة عيني ، وثمرة قلبي بكما أطغي ، وبكما أكفّر بني آدم ، وبكما تستوجب النار بنو آدم حسبي .
قال وهب : فالويل ثم الويل لمن آثرهما على طاعة اللّه عز وجل .
حدثنا عبد الرحمن بن علي ، نبأ أبو المعتز الأنصاري ، أن جعفر بن أحمد ، نبأ أبو محمد الخلال ، نبأ أحمد بن محمد بن القاسم الرازي ، نبأ أحمد بن محمد الجوهري ، نبأ إبراهيم بن سهل المدائني حدثني سيف بن جابر القاضي ، عن وكيع ، قال :
قال لي أبو حنيفة النعمان بن ثابت : أخطأت في خمسة أبواب من المناسك ، فعلّمنيها حجّام ، وذلك أني حين أردت أن أحلق رأسي وقفت على حجّام ، فقلت : بكم تحلق رأسي ؟ فقال :
أعراقيّ أنت ؟ قلت : نعم . قال : النسك لا تشارط عليه ، اجلس . فجلست منحرفا عن القبلة . فقال لي : حوّل وجهك إلى القبلة ، فحوّلته ، وأردت أن أحلق رأسي من الجانب الأيسر ، فقال : أدر الشقّ الأيمن من رأسك ، فأدرته ، فجعل يحلق وأنا ساكت ،
فقال لي :
كبّر ، فجعلت أكبّر حتى قمت لأذهب ، فقال لي : أين تريد ؟ قلت : رحلي ، قال لي : صلّ ركعتين ثم امض . قلت : ما ينبغي أن يكون ما رأيت من عقل هذا الحجام إلا ومعه علم ، فقلت له : من أين لك ما أمرتني به ؟
فقال : رأيت عطاء بن رباح يفعل هذا .
ومن باب الأجواد والهمم العالية
ما حدثنا محمد بن إسماعيل ، نبأ أبو الفرج ، نبأ عبد اللّه ، انا المبارك بن عبد الجبار ، نبأ الحسين بن محمد ، انا ابن سويد ، نبأ ابن الأنباري ، حدثني أبي عن المغيرة بن
“ 202 “
محمد بن عبد الرحمن ، عن سحيم بن حفص ، عن أبيه قال : حج يزيد بن المهلب ، فطلب حلّاقا يحلق رأسه ، فجاء فحلق رأسه ، فأمر له بألف درهم ، فتحير الحلّاق ودهش ، وقال :
هذه الألف لي امضي إلى أمي فلانة أبشّرها . فقال : أعطوه ألفا أخرى . قال الحلاق : امرأته طالق إن حلق رأس أحد بعدك . فقال : أعطوه ألفين آخرين .
حدثنا يونس بن يحيى قال : حدثنا ابن ناصر ، نبأ المبارك بن عبد الجبار ، نبأ أبو طالب العشاري نبأ ابن أخي تيمي ، نبأ أبو بكر القرشي نبأ عيسى بن عبد اللّه التميمي ، نبأ ابن إدريس ، حدثني أبي ، عن وهب بن منبه قال : كان يلتقي هو والحسن البصري في الموسم كل عام في مسجد الخيف ، إذا هدأت الرجل ونامت العين ، ومعهما جلّاس لهما يتحدثون معهما .
فبينما هما يتحدثان ذات ليلة مع جلسائهما إذ أقبل طائر له خفيق حتى وقع إلى جانب وهب في الحلقة ، فسلّم فردّ عليه السلام ، وعلم أنه من الجن ، فقال وهب : من الرجل ؟ قال : من الجن من مسلميهم ، قال : فما حاجتك ؟ قال : وتنكر أن نجالسكم ، ونحمل عنكم ، إن لكم فينا رواة كثيرة .
وإنا لحاضركم في أشياء كثيرة من صلاة وجهاد وحج وعمرة ، ونحمل عنكم العلم .
قال وهب : فأيّ رواة الجن عندكم أفضل ؟
قال : رواة الشيخ ، وأشار إلى الحسن رضي اللّه عنه .
ومن شعر علي بن أفلح في الخيف :
هذه الخيف وهاتيك منى * فترفق أيها الحادي بنا
واحبس الركب علينا ساعة * نندب الركب ونبكي الدمنا
فلذا الموقف أعددنا البكا * ولذا اليوم دموع تقتنا
زمنا كان وكنا جيرة * يا أعاد اللّه ذاك الزمنا
بيننا يوم أثيلات النقا * كان من غير تراض بيننا
واقعة لبعض الفقراء
حدثني عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي بإشبيلية بالخفاقين بدار محمد اليشكري الناسخ قال : كنت بجاية في خدمة شيخنا أبي مدين ،
فقال له أبو طالب : أخبرني عن سر حياتك . فقال أبو مدين : بسر حياته ظهرت حياتي ، وبنور صفاته استنارت صفاتي ، وفي توحيده أفنيت همتي ، وبديمومته دامت محبتي .
فسر التوحيد في قوله : لا إله إلا اللّه . أنا والوجود بأسره حرف جاء لمعنى .
فبالمعاني ظهرت الحروف ، وبصفاته اتصف كل موصوف ، وبائتلافه ائتلف كل مألوف . فمصنوعاته محكمة ، ومخلوقاته مسلمة ، لأنه
“ 203 “
صانعها ومظهرها ، منه مبدأها ، وإليه مرجعها ، كما أظهرها ذرّا . ثم تلا : أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى . هو يا أبا طالب لوجوده المحرك ، والناطق الممسك ، إن نظرت يا أبا طالب بالحقيقة تلاشت الخليقة ، الوجود به قائم ، وأمره في مملكته دائم ، وحكمه في وجوده عام . حكم الأرواح في الأجسام ، فالحواس به بانت على اختلاف أنواعها ، اللسان منها للبيان ، وهو مع ذلك لا يشغله شأن عن شأن .
يا أبا طالب ، لما أمدّني بسره غرف فؤادي من بحره ، فامتلأ وجودي نورا ، وأثمر غيبة وحضورا ، وسقيت شرابا طهورا ، ففني ما كان باطلا وزورا ، فغشيت أنواره أخلاقي ، ونظرت إلى الباقي بالباقي .
ثم قال : هو الموصوف بالقدم ، ومخترع الوجود من العدم ، بنور جلاله أشرقت الظلم ، وهو ولي الكرم الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ، وصلى اللّه على سيدنا محمد سراج الظلم .
وروينا من حديث ابن باكويه ، عن أحمد بن عبد اللّه بن عبد المؤمن ، نبأ إسماعيل بن القاسم ، نبأ عبد اللّه بن مبويه ، عن عبد الرحيم الدبيلي ، عن عثمان بن عمارة قال : وردت الحجر مرة فإذا أنا بمحمد بن ثوبان ، وإبراهيم بن أدهم ، وعبّاد المنفري ، وهم يتكلمون بكلام لا أعقله ، فقلت لهم : رحمكم اللّه ، بي شأن كما تروني ، أصوم النهار ، وأقوم الليل ، وأحجّ سنة ، وأغزو سنة ، ما أرى في نفسي زيادة ، فشغل القوم عني ، حتى ظننت أنهم لم يفهموا كلامي . ثم كانت من واحد منهم التفاتة فقال : يا غلام ، إن همّ القوم لم يكن في كثرة الصلاة والصوم ، وإنما كان همّ القوم في نفاذ الأبصار حتى أبصروا .
وروينا من حديث ابن باكويه أيضا ، عن عيسى بن عمر ، عن أحمد بن محمد القرشي ، عن إبراهيم بن عيسى ، عن موسى بن عبد الملك المروزي قال : قال مالك بن دينار : بينما أنا أطوف بالبيت إذ أنا بامرأة في الحجر قد رفعت صوتها ، واستغرقت في حالها ، مناجية ربها ، وهي تقول : أتيتك من شقة بعيدة ، مؤملة لمعروفك ، فأنلني معروفا من معروفك تغنيني به عن معروف من سواك ، يا معروفا بالمعروف . فعرفت أيوب السختياني ، فسألنا عن منزلها ، وقصدناها وسلّمنا عليها ، فقال لها أيوب : قولي خيرا يرحمك اللّه ، قالت : وما أقول ؟
أشكو إلى اللّه قلبي وهواي ، قد أضرّا بي ، وشغلاني عن عبادة ربي . قوما فإني أبادر طي صحيفتي .
قال أيوب : فما حدّثت نفسي بامرأة قبلها ، فقلت لها : لو تزوجت رجلا يعينك على ما أنت فيه . قالت : لو كان مالك بن دينار وأيوب السختياني ما أردته .
فقلت : أنا مالك بن دينار وهذا أيوب السختياني . فقال : أفّ لكما ،
“ 204 “
لقد ظننت أنه يشغلكما ذكر اللّه عن محادثة النساء . وأقبلت على صلاتها ، فسألنا عنها ، فقالوا : هذه ملكية بنت المنكدر .
ومن حسن الخطاب
ما قال أبو وجرة الأسلمي حين قدم على المهلب أبي صفرة : أصلح اللّه الأمير ، إني قطعت إليك الدهناء ، وضربت إليك آباط الإبل من يثرب .
قال له المهلب : فهل أتيتنا بوسيلة أو عشيرة أو قرابة ؟
قال : لا ، ولكني رأيتك لحاجتي أهلا ، فإن قمت بها فأنت أهل لذلك ، وإن يحل دونها حائل لم أذمم يومك ولم أيأس من غدك .
قال المهلب : يعطى ما في بيت المال ، فوجد فيه مائة ألف درهم ، فدفعت إليه ، فأخذها وقال :
يا من على الجود صاغ اللّه راحته * فليس يحسن غير البذل والجود
عمّت عطاياك من بالشرق قاطبة * فأنت والجود منحوتان من عود
وفي هذا المجرى قوله :
تشبّ لمقرورين يصطليانها * وبات على النار الندى والمحلق
رضيعيّ لبان ثدي أم تحالفا * بأسجم داج عوض لا يتفرق
روينا من حديث عمرو قال : دخل أبو علقمة النحوي على أعين الطبيب ، وكان يستعمل الحواشي من الكلام ، فقال له : إني أجد معمعة في قلبي ، وقرقرة في بطني ، فقال له الطبيب : أما المعمعة فلا أعرفها ، وأما القرقرة فهي ضراط غير نضيج .
وروينا من حديثه قال : قال كعب القيسي لعروة بن الزبير : أذنبت ذنبا للوليد بن عبد الملك ، فاكتب إليه : لو لم يكن لكعب من قديم حرمة ما يغفر له عظيم جريرته ، لوجب أن لا تحرمه التفيؤ بظل عفوك الذي تأمله القلوب ولا تتعلق به الذنوب ، وقد استشفع بي إليك فوثقت له منك بعفو لا يخلطه سخط ، فحقق أمله فيّ وصدق نفسي فيك ، تجد الشكر وافيا بالنعمة .
فكتب الوليد : قد شكرت رغبته إليك ، وعفوت عنه لمعموله عليك ، وله عندي ما يحب ، فلا تقطع كتبك عني في أمثاله في سائر أمورك .
روينا من حديث أبي ودعان ، قال : نبأ علي بن محمد ، عن علي بن القاسم ، عن إسماعيل بن محمد ، عن عبد اللّه بن روح ، عن شبابة ، عن بزرجر ، عن القاسم بن
“ 205 “
عبد الرحمن ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « إنما أنتم خلف ماضين ، وبقية متقدّمين ، كانوا أكثر منكم بسطة ، وأعظم سطوة ، أزعجوا عنها أسكن ما كانوا إليها ، وغدرت بهم أوثق ما كانوا بها ، فلم تغن عنهم قوة عشيرة ، ولا قبل منهم بدل فدية ، فارحلوا أنفسكم بزاد مبلغ قبل أن تؤخذوا على فجأة ، وقد غفلتم عن الاستعداد ، ولا يغني الندم ، وقد جفّ القلم » .
قال أبو حازم
طالبة ومطلوبة : طالب الدنيا يطلبه الموت حتى يخرجه ، وطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى توفيه رزقه .
روينا عن الحسن البصري أنه قال : بينما أنا أطوف إذ أنا بعجوز متعبدة ، فقلت : من أنت ؟ قالت : من بنات ملوك غسان . قال : فمن أين طعامك ؟ قالت : إذا كان آخر النهار جاءتني امرأة مزيّنة فتضع بين يديّ كوزا من ماء ورغيفين . قلت لها : أتعرفينها ؟
قالت :
اللهم لا . قلت لها : هي الدنيا ، خدمت ربك عز ذكره ، فبعثها إليك لتخدمك .
وحدثني بعض العارفين ، عن الشيخ العارف الكبير أبي عبد اللّه الغزالي الذي كان بالمرية من أقران أبي مدين ، وأبي عبد اللّه الهواري ، وأبي يعزى ، وأبي شعيب السارية ، وأبي الفضل السكري ، وأبي النجار ، وتلك الطبقة .
قال أبو عبد اللّه : كان يحضر مجلس شيخنا أبي العباس بن العريف الصنهاجي - وهو آخر من ظهر من المؤدبين في هذه الطريقة - رجل لا يتكلم ، فإذا فرغ الشيخ خرج .
فوقع في قلبي منه شيء أحببت أن أعرفه وأعرف موضعه ، وتبعته عشية يوم بعد انفصالنا من مجلس الشيخ من حيث لا يشعر بي .
فلما كان في بعض سكك المدينة ، يعني المرية ، وإذا بشخص قد تلقّاه من الهواء ، وانقضّ عليه انقضاض الطائر ، بيده رغيف حسن ، فتناوله منه ، وانصرف عنه ، فجذبته من خلفه وقلت له : السلام عليك ، فعرفني فردّ السلام ،
فقلت له : من هذا الشخص عافاك اللّه الذي ناولك الرغيف ؟ فتوقف ، فأقسمت عليه ، فقال : يا هذا ، هذا ملك الأرزاق يأتيني كل يوم بما قدّر لي من الرزق حيث كنت من أرضى ربي .
ومرّ زياد بن أمية مع أبيه بالحيرة ، فنظر إلى دير ، فقال لخادمه : لمن هذا ؟
فقال :دير حرقة بنت النعمان بن المنذر ، فقال : ميلوا بنا إليه لنسمع كلامها . فجاءت ، فوقفت خلف الباب ، فكلّمها الخادم ، فقال لها : كلّمي الأمير .
قالت : أوجز أم أطيل ؟ قال : بل أوجزي . قالت : كنا أهل بيت طلعت الشمس علينا ، وما على الأرض أحد أعزّ منا ، فما
“ 206 “
غابت تلك الشمس حتى رحمنا عدوّنا . قال : فأمر لها بأوساق من شعير ، فقالت : أطعمتك يد شبعاء جاعت ، ولا أطعمتك يد جوعاء شبعت . فسرّ زياد بكلامها . فقال لشاعر معه :
قيّد هذا الكلام ، لا يدرس .
فقال :
سل الخير أهل الخير قدما ولا تسل * فتى ذاق طعم الخير منذ قريب
قيل للخنساء : صفي لنا صخرا . قالت : كان قطر السّنة الغبراء ، ودعاف الكتيبة الحمراء .
قيل : فمعاوية ؟ قالت : كان حيا الجدب إذا نزل ، وقرى الضيف إذا حلّ . قيل :
فأيهما كان عليك أحنى ؟
قالت : أما صخر فسقام الجسد ، وأما معاوية فجمرة الكبد ،
وأنشدت :
أسدان محمرّا المخالب نجدة * غيثان في الزمن الغضوب الأعسر
قمران في النادي رفيعا محتد * في المجد فرعا سؤدد متخيّر
عرض رجل بليلى الأخيليّة من قومها ، فقال :
ألا حيّيا ليلى وقولا لها هلا * فقد ركبت طرفا أغرّ محجّلا
فأجابته :
تعيّرني داء بأمّك مثله * وأي جواد لا يقال له هلا
روى لنا أبو عبد اللّه محمد بن زرقون أن ليلى الأخيلية دخلت يوما على عبد الملك بن مروان ، فقال لها : يا ليلى ، هل بقي في قلبك من حب ثوبة فتى الفتيان شيء ؟
قالت : يا أمير المؤمنين ، وكيف أنساه وهو الذي يقول :
ولو أن ليلى في ذرى متمنّع * بنجران لالتفّت على قصورها
حمامة يطن الواديين ترنمي * سقاك من الغرّ الغوادي مطيرها
أبيني لنا لا زال ريشك ناعما * وبيضك في خضراء غض نضيرها
تقول رجال لا يضرّك نأيها * بلى كل ما شفّ النفوس يضيرها
أيذهب ريعان الشباب ولم أزر * كواعب في همدان بيض نحورها
قال : عمرك اللّه أن تذكريه .
روينا عن بعض الأدباء ببلادنا أن غانمة بنت عامر بلغها في زمان معاوية ثلب بني أمية بني هاشم وهي بمكة ، فقالت لأهل مكة :
أيها الناس ، إن بني هاشم سادت فجادت ، وملكت وملكت ، وفصلت وفصلت ،
“ 207 “
واصطفت واصطفيت ، ليس فيها كدر عيب ، ولا أقلّ ريب ، ولا خسروا طاغين ، ولا خازين ، ولا نادمين ، ولا من المغضوب عليهم ، ولا الضالّين .
إن بني هاشم أطول الناس باعا ، وأمجد الناس أصلا ، وأعظم الناس حلما ، وأكثر الناس علما وعطاء .
منّا عبد مناف الذي يقول الشاعر فيه :
كانت قريش بيضة فتفلّقت * فالمخّ خالصها لعبد مناف
وولده هاشم الذي هشم الثريد لقومه ، وفيه يقول الشاعر :
عمرو العلا هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف
ومنّا عبد المطلب الذي سقينا به الغيث ، وفيه يقول الشاعر :
ونحن سنيّ المحل قام شفيعنا * بمكة يدعو المياه تفور
ومنّا ابنه أبو طالب عظيم قريش وسيّدها ،
وفيه يقول الشاعر :
أتيته ملكا فقام بحاجتي
ومنّا العباس بن عبد المطلب ، أردفه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأعطاه ماله ، وفيه يقول الشاعر :
رديف رسول اللّه لم تر مثله * ولا مثله حتى القيامة يولد
ومنّا حمزة سيّد الشهداء ، وفيه يقول الشاعر :
أبا يعلى بك الأركان هدّت * وأنت الماجد البرّ الوصول
ومنّا جعفر ذو الجناحين ، أحسن الناس جمالا ، وأكملهم كمالا ، ليس بغدّار ، ولا جبّار ، بدّله اللّه بكلتا يديه جناحا يطير به في الجنة ، وفيه يقول الشاعر :
هاتوا كجعفرنا ومثل عليّنا * إنّا أعزّ الناس عند الخالق
ومنّا أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أفرس بني هاشم ، وأكرم من احتفى وانتعل ، وفيه يقول الشاعر :
عليّ ألّف الفرقان صحفا * ووالى المصطفى طفلا صبيّا
ومنّا الحسن بن علي سبط رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سيّد شباب أهل الجنة ، وفيه يقول الشاعر :
يا أجلّ الأنام يا ابن الوصيّ * أنت سبط النبي وابن عليّ
ومنّا الحسين بن علي ، حمله جبريل عليه السلام على عاتقه ، وكفى بذلك فخرا ،
وفيه يقول الشاعر :
“ 208 “
بّ الحسين ذخيرة لمجنّة * يا ربّ فاحشرني غدا في حزبه
يا معشر قريش ، إني واللّه آتية معاوية ، وقائلة له في بني أمية ما يعرق منه .
فتوجهت ، فلما سمع بقدومها أمر بدار الضيافة ، فنظّفت ، وألقى فيها فرش ، فلما قربت من المدينة استقبلها يزيد في حشمه ومماليكه ، فلما دخلت المدينة أنت دارا فيها عمرو بن غانم . فقال لها يزيد : إن أبا عبد الرحمن يأمرك أن تنتقلي إلى دار ضيافته ، وكانت لا تعرفه ،
فقالت : من أنت كلاك اللّه ؟ قال : أنا يزيد بن معاوية . قالت : لا رعاك اللّه يا ناقص ، لست بزائد ، فتغيّر لون يزيد ، وأتى أباه فأخبره ، فقال : هي أسنّ قريش ، وأعظمهم حلما .
قال يزيد : كم تعدّ لها ؟ قال : كانت تعدّ على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة عام ، وهي من بقية الكرام .
فلما كان من الغد أتاها معاوية فسلّم عليها ، فقال : على أمير المؤمنين السلام ، وعلى الكافرين الهوان والملام ، ثم قالت : أفيكم عمرو بن العاص ؟
قال عمرو : ها أنذا ، فأسمعته ما يكره ، وأسمعت معاوية كذلك . فقال معاوية : أيتها الكبيرة ، أنا كافّ عن بني هاشم . قالت : فإني أكتب عليك كتابا ، فقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعا ربه أن يستجيب خمس دعوات ، فلئن لم تنته جعلتها كلها فيك . فخاف معاوية ، فحلف أن لا يعود لمثل ما بلغها أبدا .
فهذا آخر ما كان بين معاوية وبين بني هاشم من المفاخرة .
حدثنا أبو جعفر بن يحيى قال : لما استوثق أمر العراق لعبد اللّه بن الزبير ، وجّه إليه مصعب وفدا ، فلما قدموا عليه قال : وددت أن لي بكل خمسة منكم رجلا من أهل الشام ، فقال رجل من أهل العراق : يا أمير المؤمنين ، علقناك ، وعلقت بأهل الشام ، وعلق أهل الشام إلى مروان ، فما
أعرف لنا مثلا إلا قول الأعشى :
علقتها عرضا وعلقت رجلا * غيري وعلق أخرى غيرها الرجل
فما وجدنا جوابا أحسن من هذا . ينظر أيضا إلى هذا قول الآخر :
جننت بليلى وهي جنّت بغيرنا * وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
وروينا من حديث ابن مروان قال : نبأ الحربي قال : أوصى بعض أهل العلم ابنه ، وكانت له حظوة من السلطان :
يا بني ، إياك أن تلبس من الثياب ما يديم النظر إليك ، وعليك بالبياض الناعم ، واجتنب الوشي ، قلما يلبسه إلا ملك أو غني ، وإياك أن يجد منك أحد خلوقا ، وعليك بالزنجبيل واللبان ، فإنه يطيب خلوف فمك ، ويصبح عليك بدنك ، ويحدّ لك ذهنك ، وإياك وحاشية الملوك أن تتعرض لهم ، فإنهم يرضيهم منك اليسير ما لم يروا منك تحاملا
“ 209 “
لبعض على بعض ، وكن من العامة قريبا يكثر دعاؤهم لك ، ولا تنسب إلى دناءة ، فإنك لا تستقيلها ، والسلام .
حدثنا أحمد بن يحيى بقرطبة قال : اجتمع عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الزبرقان بن بدر ، وعمرو بن أهتم ، فذكر عمرو الزبرقان
قال :بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه ، إنه لمطعام ، جواد الكف ، مطاع في أدانيه ، شديد العارضة ، مانع لما وراء ظهره .
فقال الزبرقان :
بأبي وأمي يا رسول اللّه ، إنه ليعرف مني أكثر من هذا ، ولكنه يحسدني . فقال عمرو :
واللّه يا نبيّ اللّه إن هذا لذ المروءة ، ضيق العطن ، لئيم العم ، أحمق الخال ، واللّه يا نبي اللّه ما كذبت في الأول ، ولقد صدقت في الآخر .
رضيت فقلت بأحسن ما أعلم ، وسخطت فقلت بأسوإ ما أعلم .
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكما » .
قال قسام بن زهير :
يا معشر الناس ، إن كلامكم أكثر من صمتكم ، فاستعينوا على الكلام بالصمت وعلى الصواب بالفكرة .
يقال : ينبغي للعاقل أن يحفظ لسانه كما يحفظ موضع قدمه . ومن لم يحفظ لسانه فقد سلّطه على هلاكه .
قال الشاعر :
عليك حفظ اللسان مجتهدا * فإن جلّ الهلاك في زلله
وأنشدنا أبو بكر بن خلف اللخمي في مجلسه :
يموت الفتى من عثرة بلسانه * وليس يموت المرء من عثرة الرّجل
ولأبي بكر الصدّيق رضي اللّه عنه في ذلك :
أحزن لسانك أن تقول فتبتلى * إن البلاء موكل بالمنطق
كان عندنا شاب صالح ، سأل أباه أن يتركه يمشي إلى خدمة أبي مدين بجباية ، ونحن بإشبيلية ، فأبى عليه والده ، وكان له أخ صغير ، فرأى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يقول لأبيه : « دع محمدا يمشي حيث سأل ، فإني سأبشره بالساحل » . فقصّ عليه وعلى أبيه ، فدعا بولده السائل وخلّاه لوجهه ، فأخذ الولد يبكي ، فقلت له : ما أبكاك مع هذه البشارة ؟
فقال :
الجزء 14
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 197 “
لهم : ما أبكي لما جرى من ذهاب الدنيا ، لكن فيما رويت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :
« ما استخف قوم بعالمهم وانتهكوا حرمته إلا سلّط عليهم العدو » . وتوفي الشيخ من عامه كما ذكرنا ، وسلّط العدو على البلد في العام الذي بعده ، فأخذهم شر أخذة ، وبقوا حديثا شنيعا على وجه الدهور . على أنه كان لهم عدد عظيم ، ومدد جسيم ، فلم يغن عنهم ذلك شيئا ، وظهر فيهم ما ذكره الشيخ رضي اللّه عنه .
ما جاء في صورة جبريل التي خلق عليها
قالت عائشة رضي اللّه عنها في قوله تعالى : وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ، قالت : رأى جبريل في الصورة التي خلقه اللّه عليها له ستمائة جناح .
روينا من حديث إسحاق بن بشر القرشي ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لجبريل عليه السلام :
« إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون عليها في السماء » . قال : لن تقوى على ذلك . قال : « بلى » . قال : فأين تشاء أن أتمثل لك ؟ قال : « بالأبطح » . قال : لا يسعني ، قال : « بمنى » .
قال : لا تسعني ، قال : « بعرفات » ، فواعد ، فخرج النبي عليه السلام للوقت ، فإذا هو بجبريل قد أقبل من جبال عرفات بخشخشة وكلكلة قد ملأ ما بين المشرق والمغرب ، ورأسه في السماء ، ورجلاه في الأرض . فلما رآه النبي عليه السلام خرّ مغشيا عليه .
قال : فتحوّل جبريل في صورته التي عهده عليها ، فضمه إلى صدره وقال له : يا محمد ، لا تخف أنا أخوك جبريل . فلما أفاق قال : « يا جبريل ، ما ظننت أن للّه في السماء خلقا يشبهك » . فقال : يا محمد ، فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ، ورجلاه في التخوم السابعة ، وإن العرش على كاهله ، وإنه ليتضاءل أحيانا من مخافة اللّه تعالى حتى يصير مثل الوضع ، حتى لا يحمل عرش ربك إلا عظمته تبارك وتعالى لوضع الطير الصغير الذي يصبح في القائلة ، وتسميه العامة الأغزال والجفالة .
انتشار ولد إسماعيل وعبادتهم الحجارة
روينا من حديث أبي الوليد ، عن جده ، عن أبي سالم ، عن ابن إسحاق أن بني إسماعيل وجرهم من ساكني مكة ضاقت عليهم مكة ، فتفسحوا في البلاد ، والتمسوا المعاش ، فيزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل ، أنه كان لا يظعن من
“ 198 “
مكة ظاعن منهم إلا احتملوا معهم من حجارة الحرم ، تعظيما للحرم ، وصيانة بمكة وبالكعبة . حيثما حلوا وضعوه ، فطافوا به كالطواف ، حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة . وأعجبهم من حجارة الحرم خاصة حتى خلفت الخلوف بعد الخلوف ، ونسوا ما كانوا عليه ، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام غيره . فعبدوا الأوثان ، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم من الضلالة ، وانتحوا ما كان يعبد قوم نوح منها ، على أثر ما كان بقي فيهم من ذكرها وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل ، يتمسكون بها من تعظيم البيت ، والطواف به ، والحج ، والعمرة ، والوقوف على عرفة والمزدلفة ، وهدى البدن ، والإهلال بالحج والعمرة ، مع إدخالهم فيه ما ليس منه .
ومن منظومات الشبلي في يوم عيد ، ما رويناه من حديث ابن باكويه قال : أنشدني أبو عمرة
الحسن الحنظلي قال : سمعت الشبلي ينشد يوم العيد :
ليس عيد المحب قصد المصلى * وانتظار الجيوش والسلطان
إنما العيد أن تكون لذي الحب * كريما مقرّبا في الأمان
وله في ذلك :
عيدي مقيم وعيد الناس منصرف * والقلب مني عن اللذات منحرف
ولي قرينان ما لي منهما خلف * طول الحميم وعيني دمعها يكفّ
وله في ذلك :
إذا ما كنت لي عيدا * فما أصنع بالعيد
جرى حبّك في قلبي * كجري الماء في العود
وحدثنا يونس بن يحيى قال : انا ابن منصور ، عن الحميدي ، عن أبي بكر الأردستاني ، عن السلمي قال : سمعت عبد اللّه بن محمد الدمشقي يقول : سمعت الشبلي ينشد يوم عيد ، ولا أدري لنفسه أم لغيره :
الناس في العيد قد سرّوا وقد فرحوا * وما سررت به والواحد الصمد
لما تيقنت أنّي لا أعاينكم * غمّضت طرفي فلم أنظر إلى أحد
وحدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الباقي ، نبأ هنّا قال : سمعت محمد بن القاسم يقول : كان الشبلي ينوح يوم العيد ويصيح ، وعليه ثياب سود وزرق ، فاجتمع الناس إليه ، فسألوه عن حاله فقال :
تزين الناس يوم العيد للعيد * وقد لبست ثياب الزرق والسود
“ 199 “
وأصبح الكل مسرورا بعيدهم * ورحت فيكم على نوح وتعديد
والناس في فرح والقلب في ترح * شتّان بيني وبين الناس في العيد
وحدثنا يونس بن يحيى قال : انا ابن ناصر ، حدثنا أبو الثناء محمود بن أبي المظفّر قال : حدثنا ابن خميس قال : انا الحميدي قال : أنا أبو بكر الأردستاني قال : انا السلمي قال : سمعت عبد اللّه بن إبراهيم بن العلاء يقول : قال رجل لأبي علي الروذبادي : غدا العيد ، فغيّر من زينتك ، فأنشد يقول :
قالوا غدا العيد ما أنت لابسه * فقلت خلعة ساق حبّه جزعا
فقر وضرّهما ثوبان تحتهما * قلب يرى إلفه الأعياد والجمعا
أحرى الملابس أن تلقى الحبيب بها * يوم التزاور في الثوب الذي خلعا
الدهر لي مأثم إن غبت يا أملي * والعيد ما كنت لي مرأى ومستمعا
خبر هبل الصنم الذي كان بالكعبة
روينا من حديث هشام ، وابن إسحاق ، أن عمرو بن لحيّ خرج من مكة إلى الشام في بعض أمور ، فلما قدم مآب من أرض البلقاء ، وبها يومئذ العماليق ، رآهم يعبدون الأصنام . فقال لهم : ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون ؟
قالوا : هذه أصنام نعبدها ، فنستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا ، فقال لهم : أفلا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض المغرب فيعبدونه ؟
فأعطوه صنما يقال له هبل - بفتح الهاء - فقدم به مكة ا ه .
حديث ابن هشام : قال ابن إسحاق : فقدم بصنم يقال له هبل - بضم الهاء - من هيت من أرض الجزيرة لم يكن من أهل البلقاء ، وهو أصح . وكان هبل من أعظم أصنام قريش عندها .
فنصبه على البئر التي كانت في بطن الكعبة ، وأمر الناس بعبادته . وكانت هذه البئر في جوف الكعبة على يمين من دخلها ، عمقها ثلاثة أذرع ، حفرها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، ليكون فيها ما يهدى إلى الكعبة ، وكانت تسمى الأخسف .
وكان عند أهل هبل في الكعبة سبعة قداح ، كل قدح منها فيه كتاب : قدح فيه العقل إذا اختلفوا في العقل ، من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة عليهم ، فعلى من خرج حمله .
وقدح فيه نعم ، الأمر الذي أرادوه يضرب به في القداح ، فإن خرج قدح فيه نعم عملوا .
وقدح فيه لا ، فإذا أرادوا الأمر ضربوا به في القداح ، فإذا خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر .
وقدح فيه منكم ، وقدح فيه ملصق ، وقدح فيه من غيركم ، وقدح فيه المياه . فإذا أرادوا أن يحفروا المياه ضربوا بالقداح ، وفيها ذلك القدح ، فحيث ما خرجوا به عملوا به .
وكانوا إذا أرادوا أن
“ 200 “
يختنوا غلاما ، وينكحوا جارية ، ويدفنوا ميتا ، أو شكّوا في نسب أحد منهم ، ذهبوا به إلى هبل ، ومائة درهم جزر ، فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها ، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ، ثم قالوا : يا إلهنا هذا فلان أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق فيه .
ثم يقولون لصاحب القداح : اضرب ، فإن خرج منكم كان منهم وسطا ، وإن خرج عليه من غيركم كان حليفا ، وإن خرج عليه ملصق كان ملصقا على منزلته فيهم لا بسبب له ولا خلف . وإن خرج عليه شيء مما سوى هذا مما يعملون به نعم عملوا به ، وإن خرج لا أخّروه عامه ذلك حتى يأتوا به مرة أخرى ، ينتهون في أمرهم ذلك إلى ما خرجت به القداح .
قال ابن إسحاق : وكان هبل من خرز العقيق على صورة إنسان ، وكانت يده اليمنى مكسورة ، فأدركته قريش فجعلت له يدا من ذهب . وكانت له خزانة للقربات ، وكانت له سبعة قداح يضرب بها على الميت والعذرة والنكاح . وكان قربانه مائة بعير . وكان له حاجب ، وكانوا إذا جاءوا هبل بالقربان ضربوا بالقداح وقالوا :
إنا اختلفنا فهب السّراحا * ثلاثة يا هبل فصاحت
الميت والعذرة والنكاحا * والمبرئ المريض والصحاحا
إن لم تقله فمن القداحا
روينا من حديث أحمد بن مروان ، عن محمد بن عبد العزيز الدينوري ، عن أحمد بن أبي الحواريّ ، عن أبي سليمان الداراني ، قال : قلت لراهب : يا راهب ، أي يوم أسرّ إليك ؟ قال : يوم لا أعصي اللّه عز وجل فيه .
روينا من حديث ابن أبي الدنيا ، عن محمد بن عمرو المالكي ، عن سفيان بن عيينة ، عن إدريس بن يزيد ، عن سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، قال : قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : من خلصت نيته ولو علة نفسه كفاه اللّه ما بينه وبين الناس .
وروينا من حديثه أيضا عن يحيى بن يوسف ، عن أبي معاوية ، عن عبد الرحمن بن زيد ،
قال : كان أبي يقول : يا بنيّ ، أنوفي كل شيء تريد الخير ، حتى خروجك إلى الكناسة في حاجة .
وروينا من حديث الدينوري في كفارة الغيبة ، قال : نبأ أبو جعفر حمدان بن علي ، نبأ محمد بن علي الخزاعي ، نبأ عنبسة بن عبد الرحمن القرشيّ ، عن خالد بن يزيد المدني ، عن أنس بن مالك ، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « كفارة الاغتياب أن تستغفر لمن اغتبته » .
وروينا من حديثه أيضا في أحب العباد إلى اللّه تعالى ،
قال : حدثنا محمد بن غالب ،
“ 201 “
حدثني إسحاق بن كعب مولى ابن هشام ، نبأ عبد الحميد بن سليمان الأزرق ، عن سكين بن أبي سراج ، عن عبد اللّه بن دينار ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس ، أن رجلا أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : أيّ العباد أحبهم إلى اللّه عز وجل ؟ قال : « أنصفهم للناس ، وإن من أحب الأعمال إلى اللّه عز وجل سرور تدخله على مسلم ، أو تكشف عنه كربة ، أو تقضي عنه دينا ، أو تسدّ عنه جوعة . ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إليّ من اعتكاف شهرين في المسجد . ومن كفّ غضبه ستر اللّه عورته ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه لأمضاه ملأ اللّه قلبه أمنا وإيمانا ، ومن مشى مع أخ له في حاجة حتى يثبتها ثبّت اللّه قدمه يوم تزلّ الأقدام » .
وروينا من حديثه أيضا ، قال : نبأ أحمد بن محمد البراء ، نبأ عبد المنعم ، عن أبيه ، عن وهب بن منبّه ، قال : لما ضربت الدراهم والدنانير ، حملها إبليس وقال : سلاحي ، وقرّة عيني ، وثمرة قلبي بكما أطغي ، وبكما أكفّر بني آدم ، وبكما تستوجب النار بنو آدم حسبي .
قال وهب : فالويل ثم الويل لمن آثرهما على طاعة اللّه عز وجل .
حدثنا عبد الرحمن بن علي ، نبأ أبو المعتز الأنصاري ، أن جعفر بن أحمد ، نبأ أبو محمد الخلال ، نبأ أحمد بن محمد بن القاسم الرازي ، نبأ أحمد بن محمد الجوهري ، نبأ إبراهيم بن سهل المدائني حدثني سيف بن جابر القاضي ، عن وكيع ، قال :
قال لي أبو حنيفة النعمان بن ثابت : أخطأت في خمسة أبواب من المناسك ، فعلّمنيها حجّام ، وذلك أني حين أردت أن أحلق رأسي وقفت على حجّام ، فقلت : بكم تحلق رأسي ؟ فقال :
أعراقيّ أنت ؟ قلت : نعم . قال : النسك لا تشارط عليه ، اجلس . فجلست منحرفا عن القبلة . فقال لي : حوّل وجهك إلى القبلة ، فحوّلته ، وأردت أن أحلق رأسي من الجانب الأيسر ، فقال : أدر الشقّ الأيمن من رأسك ، فأدرته ، فجعل يحلق وأنا ساكت ،
فقال لي :
كبّر ، فجعلت أكبّر حتى قمت لأذهب ، فقال لي : أين تريد ؟ قلت : رحلي ، قال لي : صلّ ركعتين ثم امض . قلت : ما ينبغي أن يكون ما رأيت من عقل هذا الحجام إلا ومعه علم ، فقلت له : من أين لك ما أمرتني به ؟
فقال : رأيت عطاء بن رباح يفعل هذا .
ومن باب الأجواد والهمم العالية
ما حدثنا محمد بن إسماعيل ، نبأ أبو الفرج ، نبأ عبد اللّه ، انا المبارك بن عبد الجبار ، نبأ الحسين بن محمد ، انا ابن سويد ، نبأ ابن الأنباري ، حدثني أبي عن المغيرة بن
“ 202 “
محمد بن عبد الرحمن ، عن سحيم بن حفص ، عن أبيه قال : حج يزيد بن المهلب ، فطلب حلّاقا يحلق رأسه ، فجاء فحلق رأسه ، فأمر له بألف درهم ، فتحير الحلّاق ودهش ، وقال :
هذه الألف لي امضي إلى أمي فلانة أبشّرها . فقال : أعطوه ألفا أخرى . قال الحلاق : امرأته طالق إن حلق رأس أحد بعدك . فقال : أعطوه ألفين آخرين .
حدثنا يونس بن يحيى قال : حدثنا ابن ناصر ، نبأ المبارك بن عبد الجبار ، نبأ أبو طالب العشاري نبأ ابن أخي تيمي ، نبأ أبو بكر القرشي نبأ عيسى بن عبد اللّه التميمي ، نبأ ابن إدريس ، حدثني أبي ، عن وهب بن منبه قال : كان يلتقي هو والحسن البصري في الموسم كل عام في مسجد الخيف ، إذا هدأت الرجل ونامت العين ، ومعهما جلّاس لهما يتحدثون معهما .
فبينما هما يتحدثان ذات ليلة مع جلسائهما إذ أقبل طائر له خفيق حتى وقع إلى جانب وهب في الحلقة ، فسلّم فردّ عليه السلام ، وعلم أنه من الجن ، فقال وهب : من الرجل ؟ قال : من الجن من مسلميهم ، قال : فما حاجتك ؟ قال : وتنكر أن نجالسكم ، ونحمل عنكم ، إن لكم فينا رواة كثيرة .
وإنا لحاضركم في أشياء كثيرة من صلاة وجهاد وحج وعمرة ، ونحمل عنكم العلم .
قال وهب : فأيّ رواة الجن عندكم أفضل ؟
قال : رواة الشيخ ، وأشار إلى الحسن رضي اللّه عنه .
ومن شعر علي بن أفلح في الخيف :
هذه الخيف وهاتيك منى * فترفق أيها الحادي بنا
واحبس الركب علينا ساعة * نندب الركب ونبكي الدمنا
فلذا الموقف أعددنا البكا * ولذا اليوم دموع تقتنا
زمنا كان وكنا جيرة * يا أعاد اللّه ذاك الزمنا
بيننا يوم أثيلات النقا * كان من غير تراض بيننا
واقعة لبعض الفقراء
حدثني عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي بإشبيلية بالخفاقين بدار محمد اليشكري الناسخ قال : كنت بجاية في خدمة شيخنا أبي مدين ،
فقال له أبو طالب : أخبرني عن سر حياتك . فقال أبو مدين : بسر حياته ظهرت حياتي ، وبنور صفاته استنارت صفاتي ، وفي توحيده أفنيت همتي ، وبديمومته دامت محبتي .
فسر التوحيد في قوله : لا إله إلا اللّه . أنا والوجود بأسره حرف جاء لمعنى .
فبالمعاني ظهرت الحروف ، وبصفاته اتصف كل موصوف ، وبائتلافه ائتلف كل مألوف . فمصنوعاته محكمة ، ومخلوقاته مسلمة ، لأنه
“ 203 “
صانعها ومظهرها ، منه مبدأها ، وإليه مرجعها ، كما أظهرها ذرّا . ثم تلا : أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى . هو يا أبا طالب لوجوده المحرك ، والناطق الممسك ، إن نظرت يا أبا طالب بالحقيقة تلاشت الخليقة ، الوجود به قائم ، وأمره في مملكته دائم ، وحكمه في وجوده عام . حكم الأرواح في الأجسام ، فالحواس به بانت على اختلاف أنواعها ، اللسان منها للبيان ، وهو مع ذلك لا يشغله شأن عن شأن .
يا أبا طالب ، لما أمدّني بسره غرف فؤادي من بحره ، فامتلأ وجودي نورا ، وأثمر غيبة وحضورا ، وسقيت شرابا طهورا ، ففني ما كان باطلا وزورا ، فغشيت أنواره أخلاقي ، ونظرت إلى الباقي بالباقي .
ثم قال : هو الموصوف بالقدم ، ومخترع الوجود من العدم ، بنور جلاله أشرقت الظلم ، وهو ولي الكرم الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ، وصلى اللّه على سيدنا محمد سراج الظلم .
وروينا من حديث ابن باكويه ، عن أحمد بن عبد اللّه بن عبد المؤمن ، نبأ إسماعيل بن القاسم ، نبأ عبد اللّه بن مبويه ، عن عبد الرحيم الدبيلي ، عن عثمان بن عمارة قال : وردت الحجر مرة فإذا أنا بمحمد بن ثوبان ، وإبراهيم بن أدهم ، وعبّاد المنفري ، وهم يتكلمون بكلام لا أعقله ، فقلت لهم : رحمكم اللّه ، بي شأن كما تروني ، أصوم النهار ، وأقوم الليل ، وأحجّ سنة ، وأغزو سنة ، ما أرى في نفسي زيادة ، فشغل القوم عني ، حتى ظننت أنهم لم يفهموا كلامي . ثم كانت من واحد منهم التفاتة فقال : يا غلام ، إن همّ القوم لم يكن في كثرة الصلاة والصوم ، وإنما كان همّ القوم في نفاذ الأبصار حتى أبصروا .
وروينا من حديث ابن باكويه أيضا ، عن عيسى بن عمر ، عن أحمد بن محمد القرشي ، عن إبراهيم بن عيسى ، عن موسى بن عبد الملك المروزي قال : قال مالك بن دينار : بينما أنا أطوف بالبيت إذ أنا بامرأة في الحجر قد رفعت صوتها ، واستغرقت في حالها ، مناجية ربها ، وهي تقول : أتيتك من شقة بعيدة ، مؤملة لمعروفك ، فأنلني معروفا من معروفك تغنيني به عن معروف من سواك ، يا معروفا بالمعروف . فعرفت أيوب السختياني ، فسألنا عن منزلها ، وقصدناها وسلّمنا عليها ، فقال لها أيوب : قولي خيرا يرحمك اللّه ، قالت : وما أقول ؟
أشكو إلى اللّه قلبي وهواي ، قد أضرّا بي ، وشغلاني عن عبادة ربي . قوما فإني أبادر طي صحيفتي .
قال أيوب : فما حدّثت نفسي بامرأة قبلها ، فقلت لها : لو تزوجت رجلا يعينك على ما أنت فيه . قالت : لو كان مالك بن دينار وأيوب السختياني ما أردته .
فقلت : أنا مالك بن دينار وهذا أيوب السختياني . فقال : أفّ لكما ،
“ 204 “
لقد ظننت أنه يشغلكما ذكر اللّه عن محادثة النساء . وأقبلت على صلاتها ، فسألنا عنها ، فقالوا : هذه ملكية بنت المنكدر .
ومن حسن الخطاب
ما قال أبو وجرة الأسلمي حين قدم على المهلب أبي صفرة : أصلح اللّه الأمير ، إني قطعت إليك الدهناء ، وضربت إليك آباط الإبل من يثرب .
قال له المهلب : فهل أتيتنا بوسيلة أو عشيرة أو قرابة ؟
قال : لا ، ولكني رأيتك لحاجتي أهلا ، فإن قمت بها فأنت أهل لذلك ، وإن يحل دونها حائل لم أذمم يومك ولم أيأس من غدك .
قال المهلب : يعطى ما في بيت المال ، فوجد فيه مائة ألف درهم ، فدفعت إليه ، فأخذها وقال :
يا من على الجود صاغ اللّه راحته * فليس يحسن غير البذل والجود
عمّت عطاياك من بالشرق قاطبة * فأنت والجود منحوتان من عود
وفي هذا المجرى قوله :
تشبّ لمقرورين يصطليانها * وبات على النار الندى والمحلق
رضيعيّ لبان ثدي أم تحالفا * بأسجم داج عوض لا يتفرق
روينا من حديث عمرو قال : دخل أبو علقمة النحوي على أعين الطبيب ، وكان يستعمل الحواشي من الكلام ، فقال له : إني أجد معمعة في قلبي ، وقرقرة في بطني ، فقال له الطبيب : أما المعمعة فلا أعرفها ، وأما القرقرة فهي ضراط غير نضيج .
وروينا من حديثه قال : قال كعب القيسي لعروة بن الزبير : أذنبت ذنبا للوليد بن عبد الملك ، فاكتب إليه : لو لم يكن لكعب من قديم حرمة ما يغفر له عظيم جريرته ، لوجب أن لا تحرمه التفيؤ بظل عفوك الذي تأمله القلوب ولا تتعلق به الذنوب ، وقد استشفع بي إليك فوثقت له منك بعفو لا يخلطه سخط ، فحقق أمله فيّ وصدق نفسي فيك ، تجد الشكر وافيا بالنعمة .
فكتب الوليد : قد شكرت رغبته إليك ، وعفوت عنه لمعموله عليك ، وله عندي ما يحب ، فلا تقطع كتبك عني في أمثاله في سائر أمورك .
روينا من حديث أبي ودعان ، قال : نبأ علي بن محمد ، عن علي بن القاسم ، عن إسماعيل بن محمد ، عن عبد اللّه بن روح ، عن شبابة ، عن بزرجر ، عن القاسم بن
“ 205 “
عبد الرحمن ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « إنما أنتم خلف ماضين ، وبقية متقدّمين ، كانوا أكثر منكم بسطة ، وأعظم سطوة ، أزعجوا عنها أسكن ما كانوا إليها ، وغدرت بهم أوثق ما كانوا بها ، فلم تغن عنهم قوة عشيرة ، ولا قبل منهم بدل فدية ، فارحلوا أنفسكم بزاد مبلغ قبل أن تؤخذوا على فجأة ، وقد غفلتم عن الاستعداد ، ولا يغني الندم ، وقد جفّ القلم » .
قال أبو حازم
طالبة ومطلوبة : طالب الدنيا يطلبه الموت حتى يخرجه ، وطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى توفيه رزقه .
روينا عن الحسن البصري أنه قال : بينما أنا أطوف إذ أنا بعجوز متعبدة ، فقلت : من أنت ؟ قالت : من بنات ملوك غسان . قال : فمن أين طعامك ؟ قالت : إذا كان آخر النهار جاءتني امرأة مزيّنة فتضع بين يديّ كوزا من ماء ورغيفين . قلت لها : أتعرفينها ؟
قالت :
اللهم لا . قلت لها : هي الدنيا ، خدمت ربك عز ذكره ، فبعثها إليك لتخدمك .
وحدثني بعض العارفين ، عن الشيخ العارف الكبير أبي عبد اللّه الغزالي الذي كان بالمرية من أقران أبي مدين ، وأبي عبد اللّه الهواري ، وأبي يعزى ، وأبي شعيب السارية ، وأبي الفضل السكري ، وأبي النجار ، وتلك الطبقة .
قال أبو عبد اللّه : كان يحضر مجلس شيخنا أبي العباس بن العريف الصنهاجي - وهو آخر من ظهر من المؤدبين في هذه الطريقة - رجل لا يتكلم ، فإذا فرغ الشيخ خرج .
فوقع في قلبي منه شيء أحببت أن أعرفه وأعرف موضعه ، وتبعته عشية يوم بعد انفصالنا من مجلس الشيخ من حيث لا يشعر بي .
فلما كان في بعض سكك المدينة ، يعني المرية ، وإذا بشخص قد تلقّاه من الهواء ، وانقضّ عليه انقضاض الطائر ، بيده رغيف حسن ، فتناوله منه ، وانصرف عنه ، فجذبته من خلفه وقلت له : السلام عليك ، فعرفني فردّ السلام ،
فقلت له : من هذا الشخص عافاك اللّه الذي ناولك الرغيف ؟ فتوقف ، فأقسمت عليه ، فقال : يا هذا ، هذا ملك الأرزاق يأتيني كل يوم بما قدّر لي من الرزق حيث كنت من أرضى ربي .
ومرّ زياد بن أمية مع أبيه بالحيرة ، فنظر إلى دير ، فقال لخادمه : لمن هذا ؟
فقال :دير حرقة بنت النعمان بن المنذر ، فقال : ميلوا بنا إليه لنسمع كلامها . فجاءت ، فوقفت خلف الباب ، فكلّمها الخادم ، فقال لها : كلّمي الأمير .
قالت : أوجز أم أطيل ؟ قال : بل أوجزي . قالت : كنا أهل بيت طلعت الشمس علينا ، وما على الأرض أحد أعزّ منا ، فما
“ 206 “
غابت تلك الشمس حتى رحمنا عدوّنا . قال : فأمر لها بأوساق من شعير ، فقالت : أطعمتك يد شبعاء جاعت ، ولا أطعمتك يد جوعاء شبعت . فسرّ زياد بكلامها . فقال لشاعر معه :
قيّد هذا الكلام ، لا يدرس .
فقال :
سل الخير أهل الخير قدما ولا تسل * فتى ذاق طعم الخير منذ قريب
قيل للخنساء : صفي لنا صخرا . قالت : كان قطر السّنة الغبراء ، ودعاف الكتيبة الحمراء .
قيل : فمعاوية ؟ قالت : كان حيا الجدب إذا نزل ، وقرى الضيف إذا حلّ . قيل :
فأيهما كان عليك أحنى ؟
قالت : أما صخر فسقام الجسد ، وأما معاوية فجمرة الكبد ،
وأنشدت :
أسدان محمرّا المخالب نجدة * غيثان في الزمن الغضوب الأعسر
قمران في النادي رفيعا محتد * في المجد فرعا سؤدد متخيّر
عرض رجل بليلى الأخيليّة من قومها ، فقال :
ألا حيّيا ليلى وقولا لها هلا * فقد ركبت طرفا أغرّ محجّلا
فأجابته :
تعيّرني داء بأمّك مثله * وأي جواد لا يقال له هلا
روى لنا أبو عبد اللّه محمد بن زرقون أن ليلى الأخيلية دخلت يوما على عبد الملك بن مروان ، فقال لها : يا ليلى ، هل بقي في قلبك من حب ثوبة فتى الفتيان شيء ؟
قالت : يا أمير المؤمنين ، وكيف أنساه وهو الذي يقول :
ولو أن ليلى في ذرى متمنّع * بنجران لالتفّت على قصورها
حمامة يطن الواديين ترنمي * سقاك من الغرّ الغوادي مطيرها
أبيني لنا لا زال ريشك ناعما * وبيضك في خضراء غض نضيرها
تقول رجال لا يضرّك نأيها * بلى كل ما شفّ النفوس يضيرها
أيذهب ريعان الشباب ولم أزر * كواعب في همدان بيض نحورها
قال : عمرك اللّه أن تذكريه .
روينا عن بعض الأدباء ببلادنا أن غانمة بنت عامر بلغها في زمان معاوية ثلب بني أمية بني هاشم وهي بمكة ، فقالت لأهل مكة :
أيها الناس ، إن بني هاشم سادت فجادت ، وملكت وملكت ، وفصلت وفصلت ،
“ 207 “
واصطفت واصطفيت ، ليس فيها كدر عيب ، ولا أقلّ ريب ، ولا خسروا طاغين ، ولا خازين ، ولا نادمين ، ولا من المغضوب عليهم ، ولا الضالّين .
إن بني هاشم أطول الناس باعا ، وأمجد الناس أصلا ، وأعظم الناس حلما ، وأكثر الناس علما وعطاء .
منّا عبد مناف الذي يقول الشاعر فيه :
كانت قريش بيضة فتفلّقت * فالمخّ خالصها لعبد مناف
وولده هاشم الذي هشم الثريد لقومه ، وفيه يقول الشاعر :
عمرو العلا هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف
ومنّا عبد المطلب الذي سقينا به الغيث ، وفيه يقول الشاعر :
ونحن سنيّ المحل قام شفيعنا * بمكة يدعو المياه تفور
ومنّا ابنه أبو طالب عظيم قريش وسيّدها ،
وفيه يقول الشاعر :
أتيته ملكا فقام بحاجتي
ومنّا العباس بن عبد المطلب ، أردفه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأعطاه ماله ، وفيه يقول الشاعر :
رديف رسول اللّه لم تر مثله * ولا مثله حتى القيامة يولد
ومنّا حمزة سيّد الشهداء ، وفيه يقول الشاعر :
أبا يعلى بك الأركان هدّت * وأنت الماجد البرّ الوصول
ومنّا جعفر ذو الجناحين ، أحسن الناس جمالا ، وأكملهم كمالا ، ليس بغدّار ، ولا جبّار ، بدّله اللّه بكلتا يديه جناحا يطير به في الجنة ، وفيه يقول الشاعر :
هاتوا كجعفرنا ومثل عليّنا * إنّا أعزّ الناس عند الخالق
ومنّا أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أفرس بني هاشم ، وأكرم من احتفى وانتعل ، وفيه يقول الشاعر :
عليّ ألّف الفرقان صحفا * ووالى المصطفى طفلا صبيّا
ومنّا الحسن بن علي سبط رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سيّد شباب أهل الجنة ، وفيه يقول الشاعر :
يا أجلّ الأنام يا ابن الوصيّ * أنت سبط النبي وابن عليّ
ومنّا الحسين بن علي ، حمله جبريل عليه السلام على عاتقه ، وكفى بذلك فخرا ،
وفيه يقول الشاعر :
“ 208 “
بّ الحسين ذخيرة لمجنّة * يا ربّ فاحشرني غدا في حزبه
يا معشر قريش ، إني واللّه آتية معاوية ، وقائلة له في بني أمية ما يعرق منه .
فتوجهت ، فلما سمع بقدومها أمر بدار الضيافة ، فنظّفت ، وألقى فيها فرش ، فلما قربت من المدينة استقبلها يزيد في حشمه ومماليكه ، فلما دخلت المدينة أنت دارا فيها عمرو بن غانم . فقال لها يزيد : إن أبا عبد الرحمن يأمرك أن تنتقلي إلى دار ضيافته ، وكانت لا تعرفه ،
فقالت : من أنت كلاك اللّه ؟ قال : أنا يزيد بن معاوية . قالت : لا رعاك اللّه يا ناقص ، لست بزائد ، فتغيّر لون يزيد ، وأتى أباه فأخبره ، فقال : هي أسنّ قريش ، وأعظمهم حلما .
قال يزيد : كم تعدّ لها ؟ قال : كانت تعدّ على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة عام ، وهي من بقية الكرام .
فلما كان من الغد أتاها معاوية فسلّم عليها ، فقال : على أمير المؤمنين السلام ، وعلى الكافرين الهوان والملام ، ثم قالت : أفيكم عمرو بن العاص ؟
قال عمرو : ها أنذا ، فأسمعته ما يكره ، وأسمعت معاوية كذلك . فقال معاوية : أيتها الكبيرة ، أنا كافّ عن بني هاشم . قالت : فإني أكتب عليك كتابا ، فقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعا ربه أن يستجيب خمس دعوات ، فلئن لم تنته جعلتها كلها فيك . فخاف معاوية ، فحلف أن لا يعود لمثل ما بلغها أبدا .
فهذا آخر ما كان بين معاوية وبين بني هاشم من المفاخرة .
حدثنا أبو جعفر بن يحيى قال : لما استوثق أمر العراق لعبد اللّه بن الزبير ، وجّه إليه مصعب وفدا ، فلما قدموا عليه قال : وددت أن لي بكل خمسة منكم رجلا من أهل الشام ، فقال رجل من أهل العراق : يا أمير المؤمنين ، علقناك ، وعلقت بأهل الشام ، وعلق أهل الشام إلى مروان ، فما
أعرف لنا مثلا إلا قول الأعشى :
علقتها عرضا وعلقت رجلا * غيري وعلق أخرى غيرها الرجل
فما وجدنا جوابا أحسن من هذا . ينظر أيضا إلى هذا قول الآخر :
جننت بليلى وهي جنّت بغيرنا * وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
وروينا من حديث ابن مروان قال : نبأ الحربي قال : أوصى بعض أهل العلم ابنه ، وكانت له حظوة من السلطان :
يا بني ، إياك أن تلبس من الثياب ما يديم النظر إليك ، وعليك بالبياض الناعم ، واجتنب الوشي ، قلما يلبسه إلا ملك أو غني ، وإياك أن يجد منك أحد خلوقا ، وعليك بالزنجبيل واللبان ، فإنه يطيب خلوف فمك ، ويصبح عليك بدنك ، ويحدّ لك ذهنك ، وإياك وحاشية الملوك أن تتعرض لهم ، فإنهم يرضيهم منك اليسير ما لم يروا منك تحاملا
“ 209 “
لبعض على بعض ، وكن من العامة قريبا يكثر دعاؤهم لك ، ولا تنسب إلى دناءة ، فإنك لا تستقيلها ، والسلام .
حدثنا أحمد بن يحيى بقرطبة قال : اجتمع عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الزبرقان بن بدر ، وعمرو بن أهتم ، فذكر عمرو الزبرقان
قال :بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه ، إنه لمطعام ، جواد الكف ، مطاع في أدانيه ، شديد العارضة ، مانع لما وراء ظهره .
فقال الزبرقان :
بأبي وأمي يا رسول اللّه ، إنه ليعرف مني أكثر من هذا ، ولكنه يحسدني . فقال عمرو :
واللّه يا نبيّ اللّه إن هذا لذ المروءة ، ضيق العطن ، لئيم العم ، أحمق الخال ، واللّه يا نبي اللّه ما كذبت في الأول ، ولقد صدقت في الآخر .
رضيت فقلت بأحسن ما أعلم ، وسخطت فقلت بأسوإ ما أعلم .
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكما » .
قال قسام بن زهير :
يا معشر الناس ، إن كلامكم أكثر من صمتكم ، فاستعينوا على الكلام بالصمت وعلى الصواب بالفكرة .
يقال : ينبغي للعاقل أن يحفظ لسانه كما يحفظ موضع قدمه . ومن لم يحفظ لسانه فقد سلّطه على هلاكه .
قال الشاعر :
عليك حفظ اللسان مجتهدا * فإن جلّ الهلاك في زلله
وأنشدنا أبو بكر بن خلف اللخمي في مجلسه :
يموت الفتى من عثرة بلسانه * وليس يموت المرء من عثرة الرّجل
ولأبي بكر الصدّيق رضي اللّه عنه في ذلك :
أحزن لسانك أن تقول فتبتلى * إن البلاء موكل بالمنطق
كان عندنا شاب صالح ، سأل أباه أن يتركه يمشي إلى خدمة أبي مدين بجباية ، ونحن بإشبيلية ، فأبى عليه والده ، وكان له أخ صغير ، فرأى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يقول لأبيه : « دع محمدا يمشي حيث سأل ، فإني سأبشره بالساحل » . فقصّ عليه وعلى أبيه ، فدعا بولده السائل وخلّاه لوجهه ، فأخذ الولد يبكي ، فقلت له : ما أبكاك مع هذه البشارة ؟
فقال :
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin