الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء 11
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 151 “
وقال مطرود بن كعب الخزاعي يبكيه :
يا أيها الرجل المحول رحله * هلّا سألت عن آل عبد مناف
هبلتك أمك لو حللت بدارهم * ضمنوك من جرم ومن إقراف
المنعمين إذا النجوم تغيّرت * والظاعنين لرحلة الإيلاف
والمطعمين إذا الرياح تناوحت * حتى تغيب الشمس في الرجاف
أما هلكت أبا الفعال فما جرى * من فوق مثلك عقد ذات نطاف
إلا أبيك أخي المكارم وحده * والفيض مطلبه أبي الأضياف
ومما سمع من بكاء الجن على عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه ، عن سليمان بن أحمد ، عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، نبأ عمي أبو بكر ، نبأ عبد اللّه بن إدريس ، عن ليث ، عن معروف بن أبي معروف
قال : لما أصيب عمر رضي اللّه عنه سمعت صوتا يقول :
ليبك على الإسلام من كان باكيا * فقد أوشكوا هلكي وما قدم العهد
وأدبرت الدنيا وأدبر خيرها * وقد ملّها من كان يؤمن بالوعد
قال أحمد بن عبد اللّه : وحدثنا أيضا أبو حامد بن جبلة ، نبأ محمد بن إسحاق ، نبأ الجوهري حاتم بن الليث ، حدثني سلمة بن حفص السعدي ، نبأ أبو عامر الأسدي ، عن المطلب بن زياد بسنده قال : رثت الجن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه حين مات
وكان فيما قالوا :
ستبكيك نساء الحي * تبكين الشجيات
وتخمس وجوها كالد * نانير النقيات
ويلبس ثياب السو * د بعد القصبيات
وقال الجن تبكيه :
أبعد قتيل بالمدينة أصبحت * له الأرض تهتز العصاة بأسوق
جزى اللّه خيرا من أمير وباركت * يد اللّه في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناح نعامة * ليدرك ما سريت بالأمس يستبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها * بوائق في أكمامها لم تفتق
وما كنت أخشى أن تكون وفاته * بكفي سبتني أزرق العين مطرق
فلقاك ربي في الجنان تحية * ومن كسوة الفردوس لا تتمزّق
“ 152 “
حدثنا بهذه الأبيات ، عن أبي نعيم ، عن الحسن بن علي الوراق ، عن عبد اللّه بن محمد البغوي ، عن شجاع ، عن مخلد ، عن محمد بن بشر ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن عمير ، عن الصقر بن عبد اللّه ، عن عروة ، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : بكت الجن على عمر بعد ثلاث ، وذكرت الأبيات ما عدا البيت الأخير فإنه من حديث أنس بن مالك ، وقال الإهاب بدل الأديم .
ومن حديث ابن أبي مليكة ( عليك سلام من أمير باركت ) بدل ( جزى اللّه خيرا من أمير وباركت ) .
ومما بكت الجن به عثمان بن عفان رضي اللّه عنه
وروينا أيضا من حديث أحمد بن عبد اللّه ، عن أبي أحمد بن محمد بن أحمد ، عن محمد بن إبراهيم الغازي ، نبأ عبد الرحمن بن عمر بن سنة ، نبأ أبو عاصم ، نبأ عثمان بن مرّة ، عن أمه قالت : سمعت الجن تنوح على عثمان فوق مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاث ليال .
قال : فكانت تنشد لنا بعض ما قالوا :
ليلة الحصبة إذ ير * مون بالصخر الصلاب
ثم جاءوا بكرة ين * عون صقرا كالشهاب
زينهم في الحي والمج * لس فكاك الرقاب
قال أحمد بن عبد اللّه : وحدثني إبراهيم بن عبد اللّه وابن جبلة قالا : نبأ محمد بن إسحاق ، عن قتيبة بن سعد ، عن الليث بن سعد ، عن الزهري أن رجلا رأى في زمان عثمان كأن آت أتاه في منامه ، فقال له : ع عني ما أقول لك :
لعمر أبيك وآبائه * لقد ذهب الخير إلا قليلا
لقد سفه الناس في دينهم * وخلى ابن عفان شرا طويلا
قال : فأتاه مخليا به ، فقال : واللّه ما أنا بشاعر ولا راوية للشعر ، وقد أتيت الليلة فألقي عليّ هذان البيتان .
فقال له عثمان : اسكت عن هذا . فلما كان العام المقبل أتاه ذلك الرجل أيضا فقال :
واللّه ما أنا بشاعر ولا أروي الشعر ، وقد ألقي عليّ بيتان :
لعمري لقد نغصتمونا معيشة * تقرّ بها عين التقيّ المهاجر
فيا ليت هذا اشترى العين قبله * وليت فلانا غيّبته المقابر
“ 153 “
فقال له عثمان : اسكت من ذكرها . فلم يلبث إلا قليلا حتى قتل عثمان رضي اللّه عنه .
وقال جدّي عديّ بن حاتم ، وكان يقال له مقبل الظعن لطوله : سمعت صوتا يوم قتل عثمان بن عفان رضي اللّه عنه وهو :
ألا أبشر يا ابن عفان ، بروح وريحان ، ورب غير غضبان .
ألا أبشر يا ابن عفان ، برضوان وغفران .
روينا من حديث أبي نعيم ، عن محمد بن أحمد بن الحسن ، عن الحسن بن علي بن الوليد ، عن أحمد بن عمران الأخنسي ، عن خالد بن عيسى ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، عن عدي بن حاتم ، مما ناحت به الجن على الحسين بن علي رضي اللّه عنهما :
مسح النبيّ جبينه * فله بريق في الخدود
أبواه في عليا قريش * وجدّه خير الجدود
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه ، عن أبي حامد بن جبلة ، عن محمد بن الحسين ، عن أبي بكر بن خلف ، عن محمد بن الحجاج عن معروف بن واصل ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : سمعت الجن تنوح على الحسين رضي اللّه عنه ، وذكر البيتين .
ومن حديثه أيضا ، عن سليمان بن أحمد ، عن القاسم بن عبّاد ، عن سويد بن سعيد ، عن عمرو بن ثابت ، عن حبيب ، عن أبي ثابت ، قال : قالت أم سلمة رضي اللّه عنهما : ما سمعت نوح الجن مذ قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا ليلة ، وما أرى الحسين إلا قتل ، فأخرجت جاريتها تسأل ، فأخبرت بقتل الحسين ، فإذا جنيّة تنوح :
ألا يا عين فاحتفلي بجهد * ومن يبكي على الشهداء بعدي
على رهط تقودهم المنايا * إلى متجبّر في ملك عبد
ومن حديثه ، عن سليمان بن أحمد ، عن زكريا بن يحيى الساجيّ ، عن محمد بن يحيى بن صالح الأزديّ ، عن السريّ بن منصور بن عبّاد ، عن أبيه ، عن أبي لهيعة ، عن أبي قبيل قال : لما قتل الحسين رضي اللّه عنه اجتزّوا رأسه ، وقعدوا في أول مرحلة يشربون النبيذ ، ويتحيّون بالرأس . فخرج عليهم قلم من حديد من حائط فكتب سطرا بدم شعر :
أترجو أمة قتلت حسينا * شفاعة جدّه يوم الحساب ؟
قال : فهربوا وتركوا الرأس ثم رجعوا .
وقال جابر الحضرميّ ، عن أمه ، قال : سمعت الجن تنوح على الحسين وهي تقول :
“ 154 “
أنعي حسينا هبلا * كان حسين رجلا
لسان كريم
روينا من حديث المالكي ، عن عبد اللّه بن عمرو الوراق ، نبأ أبي ، عن يحيى بن خليفة المجاشعيّ ، نبأ إدريس ، عن مروان بن أبي حفصة يعني عن أبيه ، قال : أنشدت معن بن زائدة أربعة أبيات فأعطاني أربعة آلاف دينار ، فبلّغت أبا جعفر فقال : ويلي على الأعرابي الجلف . فاعتذر إليه وقال له : يا أمير المؤمنين ، إنما أعطيته على جودك ، فسوّغه إياها .
فلما مات معن بن زائدة رثاه مروان فقال :
ألمّا على معن وقولا لغيره * سقيت الغوادي مربعا ثم مربعا
فيا قبر معن كنت أول حفرة * من الأرض خطت للمكارم مضجعا
ويا قبر معن كيف واريت جوده * وقد كان منه البحر والبرّ ممرعا
ولكن ضممت الجود والجود ميت * ولو كان حيا ضقت حتى تصدعا
ولما مضى معن مضى الجود والندى * وأصبح عرنين المكارم أجدعا
وما كان إلا الجود صورة خلقه * فعاش زمانا ثم مات وودّعا
فتى عيش من معروفه قبل موته * كما كان قبل السيل مجراه مرتعا
تعزّ أبا العباس عنه ولا تكن * ثوابك من معن بأن يتضعضعا
تمنّى رجال شأوه من ضلالهم * فأضحوا على الأذقان صرعى وطلعا
وحدثني المهدي عبد الكريم بن يوسف بالموصل ، عن الحسن بن عمار قال : قدم علينا نور الهدى الواعظ الإسكندراني الموصلي ، وكان بينه وبين أخي صحبة جميلة ، وكان أخي قد توفي فسألني أن أزور معه قبره ، فزرنا قبره ، وترحّمنا عليه ساعة ، وذكر ما كان بينهما من جميل العشرة ، وخلوص الولاء ، وإيثار الصحبة . ثم عدنا إلى المنزل فقال :
فرأيت أخي في النوم ، فذكرت له ما كان من نور الهدى ومني في زيارة قبره ، من ذكر ليال سلفت بينهما في اللّه وللّه . فقال الميت : رأيته عندما زارني ، وأنست بجميل طلعته ، وتذكار عهده ، وسررت بترحّمه ودعائه ، واستقللت زمان وقوفه ، فما اشتفيت من سماع لفظه الشهي ، وبديع منطقه البهي .
وقد قلت في ذلك شعرا . قال ابن عمار : فأنشدني :
أهلا بزائرنا الذي * أهدى تحيته إلينا
فشفت أوام الاشتياق * وجدّدت روحا علينا
“ 155 “
لما التقت أرواحنا * عجل الفراق وما اشتفينا
قال : فاستيقظت وقد حفظتها من قبله فذكرتها لنور الهدى ، فأوردها على المنبر في مجلسه . فلم أر أحسن من مجلس ذلك اليوم ، ولا أكثر باكيا منه .
وقال مهيار الديلمي في الاشتياق :
ألا فتى يسأل قلبي ما له * ينزو إذا برق الحمى بدا له
فهبّ يرجو خبرا من الغضا * يسنده عنه فما روى له
أراد نجدا معه ببابل * إرادة هاجت له بلباله
وابتسم الريح الصبا ومن له * بنفحة من الصبا طوبى له
ويوم ذي البان وما أشار من * ذي البان إلا أن أقول ما له
المعرفة أشرف من صفة
قال أبو عبد اللّه البراثي : بالمعرفة هانت على العالمين العبادة ، والرضى عن اللّه عز وجل في تدبيره . زهدوا في الدنيا ، ورضوا منها لأنفسهم بتقديره .
رويناه من حديث ابن مروان ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن حكيم بن جعفر ، عن البراثي . ومن حديثه أيضا ، عن محمد بن عيسى البغدادي قال : ما لك من عمرك إلا ما أطعت اللّه عز وجل فيه ، فأما ما عصيت اللّه فيه فلا تعدّه عمرا .
ومن الشعر الذي هو برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أولى إذ ذاك النعت له حقيقة ، قول أبي نواس :
أوجده اللّه فما مثله * لطالب ذاك ولا ناشد
وما على اللّه بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد
ومن باب مطارحة العشاق :
دعوني ونعمان الأراك أروده * يجاوب صوتي طيره المتناوحا
عسى سارح من دار ميّة آمن * يقيّض لي عن شائم طار بارحا
ومن باب حنين الإبل وسيرها :
يقودها الحادي إلى مراده * وهمها أحرى إليها لم تقد
وإنما يتمّها بحاجر * أيامها بحاجر لم تسترد
لو كان لي على الزمان إمرة * مطاعة قلت أعدها لي أعد
فكم على وادي الغضا من كبد * يحكم فيها بسوي العدل والكبد
“ 156 “
ومنه :
متى رفعت لها بالغور نار * وقرّ بذي الأراك لها قرار
فكل دم أراق العين منها * بحكم الشوق مطلول جبار
ومنه :
أثرها على حبّ الوفاء وحسنه * تصعّب في أسطانها وتلين
جوافل من طرد الرماح قريبة * عليها فجاج الأرض وهي شطون
لها وهي خرسى تحت عفر رحالها * تشكّ إذا شدّ الثرى وأنين
حدثنا يونس بن يحيى بن منصور ، انا هبة اللّه بن أحمد الموصلي ، انا عبد الملك بن أحمد بن بشران ، نبأ أبو سهل أحمد بن محمد القطّان ، انا محمد بن يونس الشامي ، انا محمد بن عبيد اللّه العتبي قال : حدثني أبي ، عن المسيب بن شريك ، عن عبد الوهاب بن عبيد اللّه بن أبي بكرة قال : وقف أعرابي على عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه وقال :
يا عمر الخير جزيت الجنة * اكس بنيّاتي وأمّهنّه
أقسم باللّه لتفعلنه
قال عمر رضي اللّه عنه : فإن لم أفعل يكون ما ذا ؟ قال :
تكون عن حالي لتسألنه * يوم تكون الأعطيات ثمّه
والوقف المسؤول بينهنه * إما إلى نار وإما جنّه
فبكى عمر رضي اللّه عنه حتى اخضلت لحيته ، وقال لغلامه : يا غلام ، أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره . قال : أما واللّه لا أملك غيره . فكان عمر يدني يده من النار ، ثم يقول : يا ابن الخطاب ، هل لك على هذا صبر ؟ وبكى حتى كان بوجهه خطان أسودان من البكاء . وكان يقول : ألا من يأخذها بما فيها ، يعني الخلافة ، ليتني لم أخلق ، ليت أمي لم تلدني ، ليتني لم أكن شيئا ، ليتني كنت نسيا منسيا .
وروينا من حديث ابن أبي الوليد ، عن أبي الحسن ، عن ابن جعدويه ، عن إسماعيل بن أبي حكيم ، عن سعيد بن المسيب قال : حج عمر رضي اللّه عنه ، فلما كان بصحبات قال : لا إله إلا اللّه العظيم المعطي ما شاء لمن يشاء . كنت أرعى إبل الخطاب بهذا الوادي في مدرعة صوف ، وكان فظا يتعبني إذا عملت ، ويضربني إذا قصّرت ، وقد أمسيت ليس بيني وبين اللّه أحد . ثم تمثل :
لا شيء فيما ترى تبقى بشاشته * يبقى الإله ويودي المال والولد
“ 157 “
لم تغن عن هرم يوما خزائنه * والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له * والأنس والجن فيما بينها ترد
أين الملوك التي كانت نوافلها * من كل أوب إليها راكب يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب * لا بد من ورده يوما كما وردوا
هذا كان لباسه وهو يرعى الغنم . وخطب الناس وهو خليفة وعليه إزار فيه اثني عشرة رقعة رضي اللّه عنه .
خطبة سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين
روينا من حديث ابن أبي الدنيا قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، عن جابر بن عوف قال : أول كلام تكلم به سليمان بن عبد الملك أن قال ، يعني في خلافته : الحمد للّه الذي ما شاء صنع ، وما شاء رفع ، وما شاء وضع ، وما شاء أعطى ، وما شاء منع . إن الدنيا دار غرور ، ومنزل باطل وزينة ، تضحك باكيا ، وتبكي ضاحكا ، وتخيف آمنا ، وتؤمن خائفا وتفقر مثريها ، وتثري فقيرها ، ميّالة لاعبة بأهلها .
يا عباد اللّه ، اتخذوا كتاب اللّه إماما ، وارضوا به حكما ، واجعلوه لكم قائدا . فإنه ناسخ لما كان قبله ، ولا ينسخه كتاب بعده . فاعلموا عباد اللّه أن القرآن يجلو كيد الشيطان كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس وإدبار الليل إذا عسعس .
خبر خولة بنت حكيم مع عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه
روينا عن قتادة قال : خرج عمر بن الخطاب من المسجد والجارود العبدي معه ، فبينما هما خارجان إذا بامرأة على ظهر الطريق ، فسلّم عليها عمر فردّت عليه السلام ، ثم قالت : رويدك يا عمر حتى أكلمك كلمات قليلة ، قال لها : قولي ، قالت : يا عمر ، عهدي بك وأنت تسمّى عميرا في سوق عكاظ تصارع الصبيان ، فلم تذهب الأيام حتى سمّيت عمر ، ثم لا تذهب الأيام حتى سمّيت أمير المؤمنين . فاتق اللّه في الرعية ، واعلم أنه من خاف الموت خشي الفوت .
فبكى عمر رضي اللّه عنه . فقال الجارود : هيه ، قد اجترأت على أمير المؤمنين وأبكيتيه . فقال عمر : دعها ، أما تعرف هذه يا جارود ؟ هذه خولة بنت حكيم التي سمع اللّه قولها من فوق سمائه ، فعمر واللّه أحرى أن يسمع كلامها . أراد بذلك قوله تعالى : قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ .
“ 158 “
ومن خطب الحجاج
ما روينا من حديث ابن أبي الدنيا قال : حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا خلف بن تميم ، نبأ أبو رجاء الهروي ، عن أبي بكر الهذلي قال : رأيت الحجاج يخطب على المنبر ، فسمعته يقول :
أيها الناس ، إنكم غدا موقوفون بين يدي اللّه عز وجل ، ومسؤولون . فليتقّ اللّه امرؤ ، ولينظر ما يعدّ لذلك الموقف ، فإنه موقف يخسر فيه المبطلون ، وتذهل فيه العقول ، ويرجع الأمر فيه إلى اللّه لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ * .
بادروا آجالكم بأعمالكم قبل أن تخترموا دون آمالكم . قال : ثم بكى وانتحب وهو على المنبر ، فرأيت دموعه تنحدر على لحيته .
حديث أبي ذرّ مع عبد اللّه بن عامر
حدثنا محمد بن محمد ، نبأ أبو القاسم الحريري ، أنا أبو طالب العشاري ، أنا أبو بكر البرقاني ، نبأ إبراهيم بن محمد المزكي ، انا محمد بن محمد بن إسحاق الثقفي ، نبأ هارون بن عبد اللّه ، نبأ سيار ، نبأ جعفر ، نبأ أبو عمران الجوني ، عن نافع الطاحي قال :
مررت بأبي ذرّ فقال لي : ممن أنت ؟ قلت : من أهل العراق . قال : أتعرف عبد اللّه بن عامر ؟ قلت : نعم . قال : فإنه كان يتقرأ معي ويلزمني ، ثم طلب الإمارة ، فإذا قدمت البصرة فتراءى له ، فإنه سيقول لك حاجة فقل : اخلني . فقل له : أنا رسول أبي ذرّ إليك ، وهو يقرئك السلام . فلما قلتها خشع لها قلبه . ويقول لك : إنّا نأكل من التمر ، ونروى من الماء ، ونعيش كما تعيش . قال : فحلّ إزاره ، ثم أدخل رأسه في جيبه ، ثم بكى حتى ملأ جيبه بالبكاء .
روينا من حديث أحمد بن حنبل قال : حدثنا عبد اللّه ، نبأ سعيد بن أبي أيوب عبد اللّه بن الوليد قال : سمعت عبد الرحمن بن حجيرة يحدّث عن أبيه ، عن ابن مسعود أنه كان يقول :
أما بعد ، إنكم في ممرّ الليل والنهار في آجال منقوصة ، وأعمال محفوظة ، والموت يأتي بغتة .
فمن زرع خيرا يوشك أن يحصد رغبة ، ومن زرع شرا يوشك أن يحصد ندامة ، ولكل زارع ما زرع ، لا يسبق بطيء بحظه ، ولا يدرك حريص ما لا يقدر له .
“ 159 “
حديث ملك متقدم
حدثنا يونس ، عن محمد بن ناصر ، انا محفوظ بن أحمد ، انا محمد بن الحسين ، نبأ المعافى ، انا عبد اللّه بن محمد بن جعفر ، نبأ أبو بكر بن أبي الدنيا ، عن القاسم ، عن هاشم ، نبأ الحكيم بن هاشم ، عن صفوان بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد اللّه الخزاعي ، أن ذا القرنين أتى على أمة من الأمم ليس في أيديهم شيء مما يستمتع به الناس من دنياهم ، قد احتفروا قبورا ، فإذا أصبحوا تعاهدوا تلك القبور ، فكنسوها ، وصلوا عندها ، ورعوا البقل كما ترعى البهائم .
وقد قيّض اللّه لهم من ذلك معاشا من نبات الأرض . فأرسل ذو القرنين إلى ملكهم ، فقال الرسول : أجب الملك ذا القرنين ، فقال : ما لي إليه حاجة ، فأقبل إليه ذو القرنين فقال : إني أرسلت إليك لتأتيني فأبيت ، فها أنا ذا قد أتيتك . فقال : لو كانت لي إليك حاجة لأتيتك . فقال له ذو القرنين : ما لي أراكم على الحالة التي رأيت لم أر أحدا من الأمم عليها ؟ قالوا : وما ذاك ؟ قال : ليس لكم دنيا ولا شيء ، أفلا اتخذتم الذهب والفضة فاستمتعتم بها ؟ قالوا : إنما كرهناها ، لأن أحدا لم يعط منها شيئا إلا تاقت نفسه إلى أفضل منه .
فقال : ما بالكم قد احتفرتم قبورا فإذا أصبحتم تعهّدتموها وكنستموها وصليتم عندها ؟ قالوا : أردنا إذا نظرنا إليها وأملنا الدنيا منعتنا قبورنا من الأمل . قال : وأراكم لا طعام لكم إلا البقل من الأرض ، أفلا اتخذتم البهائم من الأنعام فاحتلبتموها وذبحتموها واستمتعتم بها ؟ فقالوا : إنّا رأينا أن في نبات الأرض بلاغا .
ثم بسط ملك تلك الأرض يده خلف ذي القرنين ، فتناول جمجمة ، فقال : يا ذا القرنين ، أتدري من هذا ؟ قال : لا ، من هو ؟ قال : هذا ملك من ملوك الأرض ، أعطاه اللّه سلطانا على أهل الأرض ، فغشم وظلم وعتا . فلما رأى ذلك منه جسمه بالموت فصار كالحجر الملقى ، قد أحصى اللّه عمله عليه ، حتى يجزيه في آخرته . ثم تناول جمجمة أخرى بالية فقال : يا ذا القرنين ، أتدري من هذا ؟
قال : ومن هذا ؟ قال : ملك ملّكه اللّه بعده ، قد كان يرى ما يصنع الذي قبله بالناس من الظلم والتجبّر ، فتواضع وخشع للّه عز وجل ، وعمل بالعدل في مملكته ، فصار كما ترى قد أحصى اللّه عليه عمله حتى يجزيه في آخرته .
ثم أهوى إلى جمجمة ذي القرنين فقال :
وهذه الجمجمة كان قد كانت كهاتين ، فانظر يا ذا القرنين ما أنت صانع . فقال له ذو القرنين : هل لك في صحبتي فأتخذك وزيرا وشريكا فيما أتاني من هذا المال ؟ فقال : ما
“ 160 “
أصلح أنا وأنت في مكان ، قال : ولم ؟ قال : من أجل أن الناس كلهم لك عدو ولي صديق ، قال : ولم ذلك ؟ قال : يعادونك لما في يديك من المال والملك ، ولا أجد أحدا يعاديني لرفضي في ذلك . فانصرف عنه ذو القرنين . هو ذو القرنين الأكبر ، وقيل : هو المذكور في القرآن .
قال بعض المؤرخين : هو أول القياصرة ، وهو ابن سام بن نوح . يقال : إنه لقي إبراهيم عليه السلام ، فطاف البلاد ، وسدّ على يأجوج ومأجوج . واختلف في تسميته ذو القرنين ، لأنه لقب له ، واسمه عبد اللّه بن الضحاك ، روي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه عنهما . وقال بعضهم : كان بعد نمرود بن كنعان ، وهو الذي بنى الإسكندرية . وقد ذكرنا في هذا الكتاب من أخباره بعض ما وصل إلينا . قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : كان عبدا صالحا ولم يكن نبيا بعثه اللّه في قومه ، فضربوه على قرنه فقتلوه ، ثم بعثه اللّه أخرى فضربوه على قرنه فقتلوه ، ثم بعثه اللّه أخرى فضربوه على قرنه فمات .
قال غيره : كان له شبه القرنين نابتين في رأسه ، وقيل : لبلوغه قطري الأرض ، ومات بأرض بابل .
وأما ذو القرنين الأصغر فهو الإسكندر ابن فيلسوف اليونانيّ ، قتل دارا ، وسلبه ملكه ، وتزوج ابنته ، وكانت من أجمل الناس . فلما اجتمع له ملك الروم وملك فارس سمّي ذو القرنين لهما . وقيل : إنه رأى في منامه كأنه أخذ بقرني الشمس ، فسمّي بذلك . ثم رجع إلى العراق بعد طلبه عين الخلد ، ومات بشهرزور ، وقيل : بميافارقين . وحمل إلى أمه في تابوت من ذهب إلى الإسكندرية ، وكان عمره ستة وثلاثين سنة ، ومدة ملكه أربع عشرة سنة . وكان قبل المسيح بثلاثمائة وثلاث سنين ، وقيل : تسع عشرة سنة . وقد روي أنه هو الذي سدّ على يأجوج ومأجوج .
روي من حديث أسلم أنه قال : خرجنا مع عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ليلا ، حتى إذا كنا بموضع إذا نار ، فقال : يا أسلم ، إني لأرى هنا ركبا قصّر بهم الليل والبرد ، فانطلق بنا ، فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم ، فإذا بامرأة معها صبيان صغار ، وإذا بقدر منصوبة على نار وصبيانها يتضاعفون ، فقال عمر : السلام عليكم يا أصحاب الضوء ، وكره أن يقول : يا أصحاب النار ، فقالت : وعليكم السلام ، فقال : أدنو ؟ فقالت : ادن بخير أو دع ، قال : فدنا فقال : ما بالكم ؟ قالت : قصّر بنا الليل والبرد ، قال : وما بال هذه الصبية يتضاعفون ؟ قالت : من الجوع ، قال : فأي شيء في هذا القدر ؟ قالت : ماء ، أسكتهم حتى يناموا ، واللّه بيننا وبين عمر . قال : أي رحمك اللّه ، وما يدري عمر بكم ؟ قلت : يتولى أمرنا
“ 161 “
ثم يتغافل عنّا . قال : فأقبل عليّ فقال : انطلق بنا ، فخرجنا حتى أتينا دار الدقيق ، فأخرجنا عدلا من دقيق وكبة من شحم ، فقال : احمله عليّ ، فقلت : أنا أحمله عنك ، فقال : أنت تحمل وزري ؟ لا أمّ لك ، فحمّلته عليه ، فانطلق وانطلقت معه إليها أهرول ، فألقى ذلك عندها ، وأخرج من الدقيق شيئا وجعل يقول لها : درّي عليّ وأنا أحرّك لك . وجعل ينفخ تحت القدر ، ثم أفرغها في صفحة ، وقال : أطعميه للصبية ، ولم يزل حتى شبعوا ، وترك عندها فضل ذلك .
فجعلت تقول : جزاك اللّه خيرا ، كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين . فيقول :
قولي خيرا ، إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك . ثم تنحّى ناحية وربض كالأسد .
فقلت : لك شأن غير هذا ؟ فلم يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرخون ، ثم ناموا وهدوا .
فقال : يا أسلم ، إن الجوع أسهرهم وأبكاهم ، فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيت .
سؤال معاوية لضرار أن يصف عليّا رضي اللّه عنهم
روينا من حديث ابن باكويه قال : نبأ عبد اللّه بن فهد بن إبراهيم الساجي قال : نبأ محمد بن زكريا بن دينار ، نبأ العباس بن بكار ، نبأ عبد الواحد بن أبي عمرو الأسدي ، عن الكلبي ، عن أبي صالح قال : قال معاوية بن أبي سفيان لضرار بن ضمرة :
صف لي عليّا ، قال : أو تعفيني ؟ قال : لا أعفيك . قال : أما إذ لا بد ، إنه واللّه كان بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ، ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل وظلمته . كان واللّه غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يقلب كفه ، ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما خشب .
كان واللّه كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ، ويأتينا إذا دعوناه ، ويتجنى . واللّه مع تقريبه لنا ، وقربه هنا ، لا نكلمه هيبة ، ولا نبتديه لعظمته عندنا . إن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ، ويحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف في عدله . فأشهد باللّه لرأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سجوفه ، وغارت نجومه ، وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين .
فكأني أسمعه يقول :
يا دنيا يا دنيا ، إليّ تعرّضت ، أم إليّ تشوفت ؟ هيهات هيهات ، غرّي غيري ، قد
“ 162 “
أبنتك ثلاثا ، لا رجعة لي فيك ، فعمرك قصير ، وعيشك حقير ، وخطرك كثير . آه من قلّة الزاد ، وبعد السفر ، ووحشة الطريق .
قال : فذرفت دموع معاوية ، فما ملكها وهو ينشّفها بكمّه . وقد اختنق القوم بالبكاء .
ثم قال معاوية : رحم اللّه أبا الحسن ، كان واللّه كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال :
حزن من ذبح ولدها في حجرها ، فلا ترقأ عبرتها ، ولا يسكن حزنها .
روي أن عليّا رضي اللّه عنه رأى رجلا من قريش يمشي ويخطر بيده تكبّرا ، فقال :
يا مؤثر الدنيا على دينه * والتائه الحيران في قصده
أصبحت ترجو الخلد فيها وقد * أبرز ناب الموت عن حدّه
هيهات إن الموت ذو أسهم * من يرمه يوما بها يرده
لا يشرح الواعظ صدر امرئ * لم يعزم اللّه على رشده
وروينا من حديث ابن حنبل قال : نبأ وهب بن إسماعيل قال : نبأ محمد بن قيس ، عن علي بن أبي ربيعة ، عن علي بن أبي طالب ، قال : جاءه ابن التياح فقال : يا أمير المؤمنين ، امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء ، قال : اللّه أكبر ، فقام متوكئا على ابن التياح حتى قام على بيت المال فقال :
هذا جناء وخياره فيه * وكل جان يده إلى فيه
قال : ثم نادى في الناس فأعطى جميع ما في بيت المال للمسلمين وهو يقول : يا صفراء ، يا بيضاء ، غرّي غيري . ها وها ، حتى ما بقي فيه دينار ولا درهم . ثم أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين .
حدثنا يونس بن يحيى بمكة ، عن محمد بن ناصر ، عن جعفر بن أحمد ، عن أبي علي التميمي ، عن أبي بكر بن جعفر ، عن عبد اللّه بن أحمد ، عن أبيه أحمد بن حنبل ، بالإسناد .
ومن كلام عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه
ما حدثنا يوسف بن علي ، ويونس بن يحيى ، قال يونس : انا عبد الوهاب ، انا عبد اللّه بن أحمد السكري ، قال : انا أحمد بن محمد بن الصلت ، قال : حدثنا حمزة بن قاسم الهاشمي قال : نبأ حنبل بن إسحاق قال : نبأ داود بن سبيب ، نبأ حمّاد بن سلمة ، عن عمرو ، أن عمر بن عبد العزيز قال لعنبسة بن سعيد : يا عنبسة ، أكثر ذكر الموت ، فإنك لا تكون في ضيق من أمر معيشتك فتذكر الموت إلا وسّع ذلك عليك .
“ 163 “
كلام أبي بكرة لمعاوية رضي اللّه عنه
حدثنا يونس ، انا عبد الوهاب ، انا المبارك بن عبد الجبار ، انا أحمد بن علي الثوري ، انا عمر بن ثابت ، انا علي بن قيس ، أنا أبو بكر القرشي ، انا العباس بن هشام بن محمد ، عن أبيه ، عن شيخ من الأزد ، أن أبا بكرة دخل على معاوية فقال : اتق اللّه يا معاوية ، واعلم أنك في كل يوم يخرج عنك ، وفي كل ليلة تأتي عليك لا تزداد من الدنيا إلا بعدا ، ومن الآخرة إلا قربا ، وإن على أثرك طالبا لا تفوته ، وقد نصب لك علما لا تجوزه ، فما أسرع ما تبلغ ، وما أوشك أن يلحقك الطالب . وإنّا وما نحن فيه وأنت زائل ، والذي نحن إليه صائرون باق ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
ما كلّم به أبو مسلم الخولاني معاوية
وبالإسناد إلى أبي بكر القرشي قال : نبّأ شجاع بن الأشرس ، عن إسماعيل بن عيّاش ، عن أبي بكر بن عبد اللّه ، عن عطية بن قيس ، أن أبا مسلم أتى معاوية ، فقام بين السّماطين ، فقال : السلام عليك أيها الأجير ، فقال من عنده : السلام عليك أيها الأمير ، فقال أبو مسلم : السلام عليك أيها الأجير ، فقال معاوية : دعوا أبا مسلم ، فإنه أعلم بما يريد . فقال : اعلم أنه ليس من أحد استرعى رعية إلا ربّ الرعية سائله عنها ، فإن كان داوى مرضاها ، وجبر كسراها ، وهنا جرباها ، وردّ أولاها على أخراها ، ووضعها في أنف من الكلأ وصفو من الماء ، وفاه أجره . وإن كان لم يداو مرضاها ، ولم يهن جرباها ، ولم يجبر كسراها ، ولم يردّ أولاها على أخراها ، ولم يضعها في أنف من الكلأ وصفو من الماء ، لم يؤته أجرها . فانظر أين أنت يا معاوية من ذلك . فقال معاوية :
يرحمك اللّه يا أبا مسلم .
ودخل عليه مرة فقال له : ما اسمك ؟ قال : اسمي معاوية . قال : لا بل أحدوثة ، فإن جئت بشيء فلك شيء ، وإن لم تأت بشيء فلا شيء لك . يا معاوية ، إنك لو عدلت بين جميع قبائل العرب ، ثم ملت إلى أقلّها قبيلة ، مال جورك بعد ذلك . يا معاوية ، إنّا لا نبالي بكدر الأنهار إذا صفي لنا رأس العين .
حدثنا بهذا محمد بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن علي ، عن إسماعيل بن أحمد ، عن عمر بن عبد اللّه ، عن أبي الحسين بن بشران ، عن عثمان بن أحمد ، عن جنبل ، عن جعفر بن ميمون ، عن أبيه ، عن عبد اللّه بن يوسف ، عن خالد بن يزيد ، عن أبي عيلة ، أن أبا مسلم الخولاني دخل على معاوية فذكره .
“ 164 “
آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
روينا من حديث ابن قتيبة قال : ثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب قال : نبأ قريش بن أنس ، عن كليب بن وائل ، أن رجلا من الصالحين قال : بلاد الهند شجر له ورد أحمر فيه بياض مكتوب : محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
وأنشدني عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة لبعض الشعراء في النبي صلى اللّه عليه وسلم :
لو لم تكن فيه آيات مبيّنة * كانت بديهته تنبيك بالخبر
بلاغة أبانت عن حقيقة
روينا من حديث محمد بن يونس قال : حدثنا الأصمعي قال : مررت بأعرابية وبين يديها شاب في السياق .
ثم رجعت وبين يديها قدح من سويق تشربه ، فقلت لها : ما فعل الشاب ؟ قالت :
واريناه ، قلت : ما هذا ؟ فقالت :
على كل حال يأكل القوم زادهم * على البؤس والنعمى وفي الحدثان
ومن روايتنا : قال محمد بن عبد الرحمن الحنفي : أنشدنا أبي لغيره :
اصبر لكل مصيبة وتجلّد * واعلم بأن المرء غير مخلّد
وإذا ذكرت مصيبة تشجى بها * فاذكر مصابك بالنبي محمد
من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه
روينا من حديث يعقوب بن يوسف المطوعي ، نبأ أبو الربيع الزهراني ، عن محمد ، عن حمّاد بن زيد قال : قيل للأحنف بن قيس : بم سدت قومك ؟ وأراد عيبه ، فقال الأحنف : بتركي من أمرك ما لا يعنيني ، كما عناك من أمري ما لا يعنيك .
تأديب حكيم وتعليم عاقل عليم
وروينا منه بحديث محمد بن يونس ، انا الأصمعي ، عن أبي عمرو بن العلاء وعن أبيه قالا : قال الأحنف بن قيس : ما دخلت بين اثنين قط حتى يكونا هما يدخلاني في أمرهما ، ولا أقمت من مجلس قط ، ولا حجبت عن باب قط ، ولا رددت عن حاجة قط .
قيل له : ولم ؟ قال : لأني لا أطلب المحال .
“ 165 “
استمالة حكيم عفو سلطان حليم
وروينا من حديث عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة قال : حدثنا الرياشي قال : أخذ بعض الأمراء رجلا فقال له : إن عاقبت جازيت ، وإن عفوت أحسنت ، والعفو أقرب .
وصية محكمة وموعظة منظمة
وروينا من حديث إبراهيم الشيعي قال :
وأنشدني الرياشي لأبي العتاهية :
ألا إن خير الدهر خيرا تنيله * وشرّ كلام القائلين فضوله
ألم تر أن المرء في دار بلغة * إلى غيرها والموت فيها سبيله
وأي بلاغ يكتفي بكثيره * إذا كان لا يكفيك منه قليله
مضاجع سكان القبور مضاجع * يفارق فيهنّ الخليل خليله
تزوّد من الدنيا بزاد من التّقى * فكلّ بها ضيف وشيك رحيله
وخذ للمنايا لا أبا لك عدّة * فإن المنايا من أتت لا تقيله
وما حادثات الدهر إلا لعزّة * تبثّ قواها أو لملك تزيله
ومن ذلك بالإسناد لأبي العتاهية :
عيب ابن آدم ما علمت كثير * ومجيئه وذهابه تغرير
غرّتك نفسك للحياة محبّة * والموت حقّ والبقاء يسير
لا تغبط الدنيا فإن جميع ما * فيها يسير لو علمت حقير
يا ساكن الدنيا ألم تر زهرة * الدنيا على الأيام كيف تصير ؟
بل ما بدا لك أن تنال من الغنى * إن أنت لم تقنع فأنت فقير
يا جامع المال الكثير لغيره * إن الصغير من الذنوب كبير
هل في يديك من الحوادث قوة * أم هل عليك من المنون خفير
ما ذا تقول إذا رحلت إلى البلا * وإذا خلا بك منكر ونكير
خلق كريم مع ذي ذمة ذميم
روينا من حديث أبي حصين ، قال : نزل يهودي بأعرابي فمات عنده ، فقام الأعرابي فصلى عليه ، وقال : اللهم ضيف ، وقد علمت حق الضيف ، فأمهلنا إلى أن يقضي زمامه ، ثم شأنك به .
الجزء 11
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 151 “
وقال مطرود بن كعب الخزاعي يبكيه :
يا أيها الرجل المحول رحله * هلّا سألت عن آل عبد مناف
هبلتك أمك لو حللت بدارهم * ضمنوك من جرم ومن إقراف
المنعمين إذا النجوم تغيّرت * والظاعنين لرحلة الإيلاف
والمطعمين إذا الرياح تناوحت * حتى تغيب الشمس في الرجاف
أما هلكت أبا الفعال فما جرى * من فوق مثلك عقد ذات نطاف
إلا أبيك أخي المكارم وحده * والفيض مطلبه أبي الأضياف
ومما سمع من بكاء الجن على عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه ، عن سليمان بن أحمد ، عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، نبأ عمي أبو بكر ، نبأ عبد اللّه بن إدريس ، عن ليث ، عن معروف بن أبي معروف
قال : لما أصيب عمر رضي اللّه عنه سمعت صوتا يقول :
ليبك على الإسلام من كان باكيا * فقد أوشكوا هلكي وما قدم العهد
وأدبرت الدنيا وأدبر خيرها * وقد ملّها من كان يؤمن بالوعد
قال أحمد بن عبد اللّه : وحدثنا أيضا أبو حامد بن جبلة ، نبأ محمد بن إسحاق ، نبأ الجوهري حاتم بن الليث ، حدثني سلمة بن حفص السعدي ، نبأ أبو عامر الأسدي ، عن المطلب بن زياد بسنده قال : رثت الجن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه حين مات
وكان فيما قالوا :
ستبكيك نساء الحي * تبكين الشجيات
وتخمس وجوها كالد * نانير النقيات
ويلبس ثياب السو * د بعد القصبيات
وقال الجن تبكيه :
أبعد قتيل بالمدينة أصبحت * له الأرض تهتز العصاة بأسوق
جزى اللّه خيرا من أمير وباركت * يد اللّه في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناح نعامة * ليدرك ما سريت بالأمس يستبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها * بوائق في أكمامها لم تفتق
وما كنت أخشى أن تكون وفاته * بكفي سبتني أزرق العين مطرق
فلقاك ربي في الجنان تحية * ومن كسوة الفردوس لا تتمزّق
“ 152 “
حدثنا بهذه الأبيات ، عن أبي نعيم ، عن الحسن بن علي الوراق ، عن عبد اللّه بن محمد البغوي ، عن شجاع ، عن مخلد ، عن محمد بن بشر ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن عمير ، عن الصقر بن عبد اللّه ، عن عروة ، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : بكت الجن على عمر بعد ثلاث ، وذكرت الأبيات ما عدا البيت الأخير فإنه من حديث أنس بن مالك ، وقال الإهاب بدل الأديم .
ومن حديث ابن أبي مليكة ( عليك سلام من أمير باركت ) بدل ( جزى اللّه خيرا من أمير وباركت ) .
ومما بكت الجن به عثمان بن عفان رضي اللّه عنه
وروينا أيضا من حديث أحمد بن عبد اللّه ، عن أبي أحمد بن محمد بن أحمد ، عن محمد بن إبراهيم الغازي ، نبأ عبد الرحمن بن عمر بن سنة ، نبأ أبو عاصم ، نبأ عثمان بن مرّة ، عن أمه قالت : سمعت الجن تنوح على عثمان فوق مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاث ليال .
قال : فكانت تنشد لنا بعض ما قالوا :
ليلة الحصبة إذ ير * مون بالصخر الصلاب
ثم جاءوا بكرة ين * عون صقرا كالشهاب
زينهم في الحي والمج * لس فكاك الرقاب
قال أحمد بن عبد اللّه : وحدثني إبراهيم بن عبد اللّه وابن جبلة قالا : نبأ محمد بن إسحاق ، عن قتيبة بن سعد ، عن الليث بن سعد ، عن الزهري أن رجلا رأى في زمان عثمان كأن آت أتاه في منامه ، فقال له : ع عني ما أقول لك :
لعمر أبيك وآبائه * لقد ذهب الخير إلا قليلا
لقد سفه الناس في دينهم * وخلى ابن عفان شرا طويلا
قال : فأتاه مخليا به ، فقال : واللّه ما أنا بشاعر ولا راوية للشعر ، وقد أتيت الليلة فألقي عليّ هذان البيتان .
فقال له عثمان : اسكت عن هذا . فلما كان العام المقبل أتاه ذلك الرجل أيضا فقال :
واللّه ما أنا بشاعر ولا أروي الشعر ، وقد ألقي عليّ بيتان :
لعمري لقد نغصتمونا معيشة * تقرّ بها عين التقيّ المهاجر
فيا ليت هذا اشترى العين قبله * وليت فلانا غيّبته المقابر
“ 153 “
فقال له عثمان : اسكت من ذكرها . فلم يلبث إلا قليلا حتى قتل عثمان رضي اللّه عنه .
وقال جدّي عديّ بن حاتم ، وكان يقال له مقبل الظعن لطوله : سمعت صوتا يوم قتل عثمان بن عفان رضي اللّه عنه وهو :
ألا أبشر يا ابن عفان ، بروح وريحان ، ورب غير غضبان .
ألا أبشر يا ابن عفان ، برضوان وغفران .
روينا من حديث أبي نعيم ، عن محمد بن أحمد بن الحسن ، عن الحسن بن علي بن الوليد ، عن أحمد بن عمران الأخنسي ، عن خالد بن عيسى ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، عن عدي بن حاتم ، مما ناحت به الجن على الحسين بن علي رضي اللّه عنهما :
مسح النبيّ جبينه * فله بريق في الخدود
أبواه في عليا قريش * وجدّه خير الجدود
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه ، عن أبي حامد بن جبلة ، عن محمد بن الحسين ، عن أبي بكر بن خلف ، عن محمد بن الحجاج عن معروف بن واصل ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : سمعت الجن تنوح على الحسين رضي اللّه عنه ، وذكر البيتين .
ومن حديثه أيضا ، عن سليمان بن أحمد ، عن القاسم بن عبّاد ، عن سويد بن سعيد ، عن عمرو بن ثابت ، عن حبيب ، عن أبي ثابت ، قال : قالت أم سلمة رضي اللّه عنهما : ما سمعت نوح الجن مذ قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا ليلة ، وما أرى الحسين إلا قتل ، فأخرجت جاريتها تسأل ، فأخبرت بقتل الحسين ، فإذا جنيّة تنوح :
ألا يا عين فاحتفلي بجهد * ومن يبكي على الشهداء بعدي
على رهط تقودهم المنايا * إلى متجبّر في ملك عبد
ومن حديثه ، عن سليمان بن أحمد ، عن زكريا بن يحيى الساجيّ ، عن محمد بن يحيى بن صالح الأزديّ ، عن السريّ بن منصور بن عبّاد ، عن أبيه ، عن أبي لهيعة ، عن أبي قبيل قال : لما قتل الحسين رضي اللّه عنه اجتزّوا رأسه ، وقعدوا في أول مرحلة يشربون النبيذ ، ويتحيّون بالرأس . فخرج عليهم قلم من حديد من حائط فكتب سطرا بدم شعر :
أترجو أمة قتلت حسينا * شفاعة جدّه يوم الحساب ؟
قال : فهربوا وتركوا الرأس ثم رجعوا .
وقال جابر الحضرميّ ، عن أمه ، قال : سمعت الجن تنوح على الحسين وهي تقول :
“ 154 “
أنعي حسينا هبلا * كان حسين رجلا
لسان كريم
روينا من حديث المالكي ، عن عبد اللّه بن عمرو الوراق ، نبأ أبي ، عن يحيى بن خليفة المجاشعيّ ، نبأ إدريس ، عن مروان بن أبي حفصة يعني عن أبيه ، قال : أنشدت معن بن زائدة أربعة أبيات فأعطاني أربعة آلاف دينار ، فبلّغت أبا جعفر فقال : ويلي على الأعرابي الجلف . فاعتذر إليه وقال له : يا أمير المؤمنين ، إنما أعطيته على جودك ، فسوّغه إياها .
فلما مات معن بن زائدة رثاه مروان فقال :
ألمّا على معن وقولا لغيره * سقيت الغوادي مربعا ثم مربعا
فيا قبر معن كنت أول حفرة * من الأرض خطت للمكارم مضجعا
ويا قبر معن كيف واريت جوده * وقد كان منه البحر والبرّ ممرعا
ولكن ضممت الجود والجود ميت * ولو كان حيا ضقت حتى تصدعا
ولما مضى معن مضى الجود والندى * وأصبح عرنين المكارم أجدعا
وما كان إلا الجود صورة خلقه * فعاش زمانا ثم مات وودّعا
فتى عيش من معروفه قبل موته * كما كان قبل السيل مجراه مرتعا
تعزّ أبا العباس عنه ولا تكن * ثوابك من معن بأن يتضعضعا
تمنّى رجال شأوه من ضلالهم * فأضحوا على الأذقان صرعى وطلعا
وحدثني المهدي عبد الكريم بن يوسف بالموصل ، عن الحسن بن عمار قال : قدم علينا نور الهدى الواعظ الإسكندراني الموصلي ، وكان بينه وبين أخي صحبة جميلة ، وكان أخي قد توفي فسألني أن أزور معه قبره ، فزرنا قبره ، وترحّمنا عليه ساعة ، وذكر ما كان بينهما من جميل العشرة ، وخلوص الولاء ، وإيثار الصحبة . ثم عدنا إلى المنزل فقال :
فرأيت أخي في النوم ، فذكرت له ما كان من نور الهدى ومني في زيارة قبره ، من ذكر ليال سلفت بينهما في اللّه وللّه . فقال الميت : رأيته عندما زارني ، وأنست بجميل طلعته ، وتذكار عهده ، وسررت بترحّمه ودعائه ، واستقللت زمان وقوفه ، فما اشتفيت من سماع لفظه الشهي ، وبديع منطقه البهي .
وقد قلت في ذلك شعرا . قال ابن عمار : فأنشدني :
أهلا بزائرنا الذي * أهدى تحيته إلينا
فشفت أوام الاشتياق * وجدّدت روحا علينا
“ 155 “
لما التقت أرواحنا * عجل الفراق وما اشتفينا
قال : فاستيقظت وقد حفظتها من قبله فذكرتها لنور الهدى ، فأوردها على المنبر في مجلسه . فلم أر أحسن من مجلس ذلك اليوم ، ولا أكثر باكيا منه .
وقال مهيار الديلمي في الاشتياق :
ألا فتى يسأل قلبي ما له * ينزو إذا برق الحمى بدا له
فهبّ يرجو خبرا من الغضا * يسنده عنه فما روى له
أراد نجدا معه ببابل * إرادة هاجت له بلباله
وابتسم الريح الصبا ومن له * بنفحة من الصبا طوبى له
ويوم ذي البان وما أشار من * ذي البان إلا أن أقول ما له
المعرفة أشرف من صفة
قال أبو عبد اللّه البراثي : بالمعرفة هانت على العالمين العبادة ، والرضى عن اللّه عز وجل في تدبيره . زهدوا في الدنيا ، ورضوا منها لأنفسهم بتقديره .
رويناه من حديث ابن مروان ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن حكيم بن جعفر ، عن البراثي . ومن حديثه أيضا ، عن محمد بن عيسى البغدادي قال : ما لك من عمرك إلا ما أطعت اللّه عز وجل فيه ، فأما ما عصيت اللّه فيه فلا تعدّه عمرا .
ومن الشعر الذي هو برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أولى إذ ذاك النعت له حقيقة ، قول أبي نواس :
أوجده اللّه فما مثله * لطالب ذاك ولا ناشد
وما على اللّه بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد
ومن باب مطارحة العشاق :
دعوني ونعمان الأراك أروده * يجاوب صوتي طيره المتناوحا
عسى سارح من دار ميّة آمن * يقيّض لي عن شائم طار بارحا
ومن باب حنين الإبل وسيرها :
يقودها الحادي إلى مراده * وهمها أحرى إليها لم تقد
وإنما يتمّها بحاجر * أيامها بحاجر لم تسترد
لو كان لي على الزمان إمرة * مطاعة قلت أعدها لي أعد
فكم على وادي الغضا من كبد * يحكم فيها بسوي العدل والكبد
“ 156 “
ومنه :
متى رفعت لها بالغور نار * وقرّ بذي الأراك لها قرار
فكل دم أراق العين منها * بحكم الشوق مطلول جبار
ومنه :
أثرها على حبّ الوفاء وحسنه * تصعّب في أسطانها وتلين
جوافل من طرد الرماح قريبة * عليها فجاج الأرض وهي شطون
لها وهي خرسى تحت عفر رحالها * تشكّ إذا شدّ الثرى وأنين
حدثنا يونس بن يحيى بن منصور ، انا هبة اللّه بن أحمد الموصلي ، انا عبد الملك بن أحمد بن بشران ، نبأ أبو سهل أحمد بن محمد القطّان ، انا محمد بن يونس الشامي ، انا محمد بن عبيد اللّه العتبي قال : حدثني أبي ، عن المسيب بن شريك ، عن عبد الوهاب بن عبيد اللّه بن أبي بكرة قال : وقف أعرابي على عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه وقال :
يا عمر الخير جزيت الجنة * اكس بنيّاتي وأمّهنّه
أقسم باللّه لتفعلنه
قال عمر رضي اللّه عنه : فإن لم أفعل يكون ما ذا ؟ قال :
تكون عن حالي لتسألنه * يوم تكون الأعطيات ثمّه
والوقف المسؤول بينهنه * إما إلى نار وإما جنّه
فبكى عمر رضي اللّه عنه حتى اخضلت لحيته ، وقال لغلامه : يا غلام ، أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره . قال : أما واللّه لا أملك غيره . فكان عمر يدني يده من النار ، ثم يقول : يا ابن الخطاب ، هل لك على هذا صبر ؟ وبكى حتى كان بوجهه خطان أسودان من البكاء . وكان يقول : ألا من يأخذها بما فيها ، يعني الخلافة ، ليتني لم أخلق ، ليت أمي لم تلدني ، ليتني لم أكن شيئا ، ليتني كنت نسيا منسيا .
وروينا من حديث ابن أبي الوليد ، عن أبي الحسن ، عن ابن جعدويه ، عن إسماعيل بن أبي حكيم ، عن سعيد بن المسيب قال : حج عمر رضي اللّه عنه ، فلما كان بصحبات قال : لا إله إلا اللّه العظيم المعطي ما شاء لمن يشاء . كنت أرعى إبل الخطاب بهذا الوادي في مدرعة صوف ، وكان فظا يتعبني إذا عملت ، ويضربني إذا قصّرت ، وقد أمسيت ليس بيني وبين اللّه أحد . ثم تمثل :
لا شيء فيما ترى تبقى بشاشته * يبقى الإله ويودي المال والولد
“ 157 “
لم تغن عن هرم يوما خزائنه * والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له * والأنس والجن فيما بينها ترد
أين الملوك التي كانت نوافلها * من كل أوب إليها راكب يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب * لا بد من ورده يوما كما وردوا
هذا كان لباسه وهو يرعى الغنم . وخطب الناس وهو خليفة وعليه إزار فيه اثني عشرة رقعة رضي اللّه عنه .
خطبة سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين
روينا من حديث ابن أبي الدنيا قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، عن جابر بن عوف قال : أول كلام تكلم به سليمان بن عبد الملك أن قال ، يعني في خلافته : الحمد للّه الذي ما شاء صنع ، وما شاء رفع ، وما شاء وضع ، وما شاء أعطى ، وما شاء منع . إن الدنيا دار غرور ، ومنزل باطل وزينة ، تضحك باكيا ، وتبكي ضاحكا ، وتخيف آمنا ، وتؤمن خائفا وتفقر مثريها ، وتثري فقيرها ، ميّالة لاعبة بأهلها .
يا عباد اللّه ، اتخذوا كتاب اللّه إماما ، وارضوا به حكما ، واجعلوه لكم قائدا . فإنه ناسخ لما كان قبله ، ولا ينسخه كتاب بعده . فاعلموا عباد اللّه أن القرآن يجلو كيد الشيطان كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس وإدبار الليل إذا عسعس .
خبر خولة بنت حكيم مع عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه
روينا عن قتادة قال : خرج عمر بن الخطاب من المسجد والجارود العبدي معه ، فبينما هما خارجان إذا بامرأة على ظهر الطريق ، فسلّم عليها عمر فردّت عليه السلام ، ثم قالت : رويدك يا عمر حتى أكلمك كلمات قليلة ، قال لها : قولي ، قالت : يا عمر ، عهدي بك وأنت تسمّى عميرا في سوق عكاظ تصارع الصبيان ، فلم تذهب الأيام حتى سمّيت عمر ، ثم لا تذهب الأيام حتى سمّيت أمير المؤمنين . فاتق اللّه في الرعية ، واعلم أنه من خاف الموت خشي الفوت .
فبكى عمر رضي اللّه عنه . فقال الجارود : هيه ، قد اجترأت على أمير المؤمنين وأبكيتيه . فقال عمر : دعها ، أما تعرف هذه يا جارود ؟ هذه خولة بنت حكيم التي سمع اللّه قولها من فوق سمائه ، فعمر واللّه أحرى أن يسمع كلامها . أراد بذلك قوله تعالى : قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ .
“ 158 “
ومن خطب الحجاج
ما روينا من حديث ابن أبي الدنيا قال : حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا خلف بن تميم ، نبأ أبو رجاء الهروي ، عن أبي بكر الهذلي قال : رأيت الحجاج يخطب على المنبر ، فسمعته يقول :
أيها الناس ، إنكم غدا موقوفون بين يدي اللّه عز وجل ، ومسؤولون . فليتقّ اللّه امرؤ ، ولينظر ما يعدّ لذلك الموقف ، فإنه موقف يخسر فيه المبطلون ، وتذهل فيه العقول ، ويرجع الأمر فيه إلى اللّه لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ * .
بادروا آجالكم بأعمالكم قبل أن تخترموا دون آمالكم . قال : ثم بكى وانتحب وهو على المنبر ، فرأيت دموعه تنحدر على لحيته .
حديث أبي ذرّ مع عبد اللّه بن عامر
حدثنا محمد بن محمد ، نبأ أبو القاسم الحريري ، أنا أبو طالب العشاري ، أنا أبو بكر البرقاني ، نبأ إبراهيم بن محمد المزكي ، انا محمد بن محمد بن إسحاق الثقفي ، نبأ هارون بن عبد اللّه ، نبأ سيار ، نبأ جعفر ، نبأ أبو عمران الجوني ، عن نافع الطاحي قال :
مررت بأبي ذرّ فقال لي : ممن أنت ؟ قلت : من أهل العراق . قال : أتعرف عبد اللّه بن عامر ؟ قلت : نعم . قال : فإنه كان يتقرأ معي ويلزمني ، ثم طلب الإمارة ، فإذا قدمت البصرة فتراءى له ، فإنه سيقول لك حاجة فقل : اخلني . فقل له : أنا رسول أبي ذرّ إليك ، وهو يقرئك السلام . فلما قلتها خشع لها قلبه . ويقول لك : إنّا نأكل من التمر ، ونروى من الماء ، ونعيش كما تعيش . قال : فحلّ إزاره ، ثم أدخل رأسه في جيبه ، ثم بكى حتى ملأ جيبه بالبكاء .
روينا من حديث أحمد بن حنبل قال : حدثنا عبد اللّه ، نبأ سعيد بن أبي أيوب عبد اللّه بن الوليد قال : سمعت عبد الرحمن بن حجيرة يحدّث عن أبيه ، عن ابن مسعود أنه كان يقول :
أما بعد ، إنكم في ممرّ الليل والنهار في آجال منقوصة ، وأعمال محفوظة ، والموت يأتي بغتة .
فمن زرع خيرا يوشك أن يحصد رغبة ، ومن زرع شرا يوشك أن يحصد ندامة ، ولكل زارع ما زرع ، لا يسبق بطيء بحظه ، ولا يدرك حريص ما لا يقدر له .
“ 159 “
حديث ملك متقدم
حدثنا يونس ، عن محمد بن ناصر ، انا محفوظ بن أحمد ، انا محمد بن الحسين ، نبأ المعافى ، انا عبد اللّه بن محمد بن جعفر ، نبأ أبو بكر بن أبي الدنيا ، عن القاسم ، عن هاشم ، نبأ الحكيم بن هاشم ، عن صفوان بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد اللّه الخزاعي ، أن ذا القرنين أتى على أمة من الأمم ليس في أيديهم شيء مما يستمتع به الناس من دنياهم ، قد احتفروا قبورا ، فإذا أصبحوا تعاهدوا تلك القبور ، فكنسوها ، وصلوا عندها ، ورعوا البقل كما ترعى البهائم .
وقد قيّض اللّه لهم من ذلك معاشا من نبات الأرض . فأرسل ذو القرنين إلى ملكهم ، فقال الرسول : أجب الملك ذا القرنين ، فقال : ما لي إليه حاجة ، فأقبل إليه ذو القرنين فقال : إني أرسلت إليك لتأتيني فأبيت ، فها أنا ذا قد أتيتك . فقال : لو كانت لي إليك حاجة لأتيتك . فقال له ذو القرنين : ما لي أراكم على الحالة التي رأيت لم أر أحدا من الأمم عليها ؟ قالوا : وما ذاك ؟ قال : ليس لكم دنيا ولا شيء ، أفلا اتخذتم الذهب والفضة فاستمتعتم بها ؟ قالوا : إنما كرهناها ، لأن أحدا لم يعط منها شيئا إلا تاقت نفسه إلى أفضل منه .
فقال : ما بالكم قد احتفرتم قبورا فإذا أصبحتم تعهّدتموها وكنستموها وصليتم عندها ؟ قالوا : أردنا إذا نظرنا إليها وأملنا الدنيا منعتنا قبورنا من الأمل . قال : وأراكم لا طعام لكم إلا البقل من الأرض ، أفلا اتخذتم البهائم من الأنعام فاحتلبتموها وذبحتموها واستمتعتم بها ؟ فقالوا : إنّا رأينا أن في نبات الأرض بلاغا .
ثم بسط ملك تلك الأرض يده خلف ذي القرنين ، فتناول جمجمة ، فقال : يا ذا القرنين ، أتدري من هذا ؟ قال : لا ، من هو ؟ قال : هذا ملك من ملوك الأرض ، أعطاه اللّه سلطانا على أهل الأرض ، فغشم وظلم وعتا . فلما رأى ذلك منه جسمه بالموت فصار كالحجر الملقى ، قد أحصى اللّه عمله عليه ، حتى يجزيه في آخرته . ثم تناول جمجمة أخرى بالية فقال : يا ذا القرنين ، أتدري من هذا ؟
قال : ومن هذا ؟ قال : ملك ملّكه اللّه بعده ، قد كان يرى ما يصنع الذي قبله بالناس من الظلم والتجبّر ، فتواضع وخشع للّه عز وجل ، وعمل بالعدل في مملكته ، فصار كما ترى قد أحصى اللّه عليه عمله حتى يجزيه في آخرته .
ثم أهوى إلى جمجمة ذي القرنين فقال :
وهذه الجمجمة كان قد كانت كهاتين ، فانظر يا ذا القرنين ما أنت صانع . فقال له ذو القرنين : هل لك في صحبتي فأتخذك وزيرا وشريكا فيما أتاني من هذا المال ؟ فقال : ما
“ 160 “
أصلح أنا وأنت في مكان ، قال : ولم ؟ قال : من أجل أن الناس كلهم لك عدو ولي صديق ، قال : ولم ذلك ؟ قال : يعادونك لما في يديك من المال والملك ، ولا أجد أحدا يعاديني لرفضي في ذلك . فانصرف عنه ذو القرنين . هو ذو القرنين الأكبر ، وقيل : هو المذكور في القرآن .
قال بعض المؤرخين : هو أول القياصرة ، وهو ابن سام بن نوح . يقال : إنه لقي إبراهيم عليه السلام ، فطاف البلاد ، وسدّ على يأجوج ومأجوج . واختلف في تسميته ذو القرنين ، لأنه لقب له ، واسمه عبد اللّه بن الضحاك ، روي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه عنهما . وقال بعضهم : كان بعد نمرود بن كنعان ، وهو الذي بنى الإسكندرية . وقد ذكرنا في هذا الكتاب من أخباره بعض ما وصل إلينا . قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : كان عبدا صالحا ولم يكن نبيا بعثه اللّه في قومه ، فضربوه على قرنه فقتلوه ، ثم بعثه اللّه أخرى فضربوه على قرنه فقتلوه ، ثم بعثه اللّه أخرى فضربوه على قرنه فمات .
قال غيره : كان له شبه القرنين نابتين في رأسه ، وقيل : لبلوغه قطري الأرض ، ومات بأرض بابل .
وأما ذو القرنين الأصغر فهو الإسكندر ابن فيلسوف اليونانيّ ، قتل دارا ، وسلبه ملكه ، وتزوج ابنته ، وكانت من أجمل الناس . فلما اجتمع له ملك الروم وملك فارس سمّي ذو القرنين لهما . وقيل : إنه رأى في منامه كأنه أخذ بقرني الشمس ، فسمّي بذلك . ثم رجع إلى العراق بعد طلبه عين الخلد ، ومات بشهرزور ، وقيل : بميافارقين . وحمل إلى أمه في تابوت من ذهب إلى الإسكندرية ، وكان عمره ستة وثلاثين سنة ، ومدة ملكه أربع عشرة سنة . وكان قبل المسيح بثلاثمائة وثلاث سنين ، وقيل : تسع عشرة سنة . وقد روي أنه هو الذي سدّ على يأجوج ومأجوج .
روي من حديث أسلم أنه قال : خرجنا مع عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ليلا ، حتى إذا كنا بموضع إذا نار ، فقال : يا أسلم ، إني لأرى هنا ركبا قصّر بهم الليل والبرد ، فانطلق بنا ، فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم ، فإذا بامرأة معها صبيان صغار ، وإذا بقدر منصوبة على نار وصبيانها يتضاعفون ، فقال عمر : السلام عليكم يا أصحاب الضوء ، وكره أن يقول : يا أصحاب النار ، فقالت : وعليكم السلام ، فقال : أدنو ؟ فقالت : ادن بخير أو دع ، قال : فدنا فقال : ما بالكم ؟ قالت : قصّر بنا الليل والبرد ، قال : وما بال هذه الصبية يتضاعفون ؟ قالت : من الجوع ، قال : فأي شيء في هذا القدر ؟ قالت : ماء ، أسكتهم حتى يناموا ، واللّه بيننا وبين عمر . قال : أي رحمك اللّه ، وما يدري عمر بكم ؟ قلت : يتولى أمرنا
“ 161 “
ثم يتغافل عنّا . قال : فأقبل عليّ فقال : انطلق بنا ، فخرجنا حتى أتينا دار الدقيق ، فأخرجنا عدلا من دقيق وكبة من شحم ، فقال : احمله عليّ ، فقلت : أنا أحمله عنك ، فقال : أنت تحمل وزري ؟ لا أمّ لك ، فحمّلته عليه ، فانطلق وانطلقت معه إليها أهرول ، فألقى ذلك عندها ، وأخرج من الدقيق شيئا وجعل يقول لها : درّي عليّ وأنا أحرّك لك . وجعل ينفخ تحت القدر ، ثم أفرغها في صفحة ، وقال : أطعميه للصبية ، ولم يزل حتى شبعوا ، وترك عندها فضل ذلك .
فجعلت تقول : جزاك اللّه خيرا ، كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين . فيقول :
قولي خيرا ، إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك . ثم تنحّى ناحية وربض كالأسد .
فقلت : لك شأن غير هذا ؟ فلم يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرخون ، ثم ناموا وهدوا .
فقال : يا أسلم ، إن الجوع أسهرهم وأبكاهم ، فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيت .
سؤال معاوية لضرار أن يصف عليّا رضي اللّه عنهم
روينا من حديث ابن باكويه قال : نبأ عبد اللّه بن فهد بن إبراهيم الساجي قال : نبأ محمد بن زكريا بن دينار ، نبأ العباس بن بكار ، نبأ عبد الواحد بن أبي عمرو الأسدي ، عن الكلبي ، عن أبي صالح قال : قال معاوية بن أبي سفيان لضرار بن ضمرة :
صف لي عليّا ، قال : أو تعفيني ؟ قال : لا أعفيك . قال : أما إذ لا بد ، إنه واللّه كان بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ، ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل وظلمته . كان واللّه غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يقلب كفه ، ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما خشب .
كان واللّه كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ، ويأتينا إذا دعوناه ، ويتجنى . واللّه مع تقريبه لنا ، وقربه هنا ، لا نكلمه هيبة ، ولا نبتديه لعظمته عندنا . إن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ، ويحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف في عدله . فأشهد باللّه لرأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سجوفه ، وغارت نجومه ، وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين .
فكأني أسمعه يقول :
يا دنيا يا دنيا ، إليّ تعرّضت ، أم إليّ تشوفت ؟ هيهات هيهات ، غرّي غيري ، قد
“ 162 “
أبنتك ثلاثا ، لا رجعة لي فيك ، فعمرك قصير ، وعيشك حقير ، وخطرك كثير . آه من قلّة الزاد ، وبعد السفر ، ووحشة الطريق .
قال : فذرفت دموع معاوية ، فما ملكها وهو ينشّفها بكمّه . وقد اختنق القوم بالبكاء .
ثم قال معاوية : رحم اللّه أبا الحسن ، كان واللّه كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال :
حزن من ذبح ولدها في حجرها ، فلا ترقأ عبرتها ، ولا يسكن حزنها .
روي أن عليّا رضي اللّه عنه رأى رجلا من قريش يمشي ويخطر بيده تكبّرا ، فقال :
يا مؤثر الدنيا على دينه * والتائه الحيران في قصده
أصبحت ترجو الخلد فيها وقد * أبرز ناب الموت عن حدّه
هيهات إن الموت ذو أسهم * من يرمه يوما بها يرده
لا يشرح الواعظ صدر امرئ * لم يعزم اللّه على رشده
وروينا من حديث ابن حنبل قال : نبأ وهب بن إسماعيل قال : نبأ محمد بن قيس ، عن علي بن أبي ربيعة ، عن علي بن أبي طالب ، قال : جاءه ابن التياح فقال : يا أمير المؤمنين ، امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء ، قال : اللّه أكبر ، فقام متوكئا على ابن التياح حتى قام على بيت المال فقال :
هذا جناء وخياره فيه * وكل جان يده إلى فيه
قال : ثم نادى في الناس فأعطى جميع ما في بيت المال للمسلمين وهو يقول : يا صفراء ، يا بيضاء ، غرّي غيري . ها وها ، حتى ما بقي فيه دينار ولا درهم . ثم أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين .
حدثنا يونس بن يحيى بمكة ، عن محمد بن ناصر ، عن جعفر بن أحمد ، عن أبي علي التميمي ، عن أبي بكر بن جعفر ، عن عبد اللّه بن أحمد ، عن أبيه أحمد بن حنبل ، بالإسناد .
ومن كلام عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه
ما حدثنا يوسف بن علي ، ويونس بن يحيى ، قال يونس : انا عبد الوهاب ، انا عبد اللّه بن أحمد السكري ، قال : انا أحمد بن محمد بن الصلت ، قال : حدثنا حمزة بن قاسم الهاشمي قال : نبأ حنبل بن إسحاق قال : نبأ داود بن سبيب ، نبأ حمّاد بن سلمة ، عن عمرو ، أن عمر بن عبد العزيز قال لعنبسة بن سعيد : يا عنبسة ، أكثر ذكر الموت ، فإنك لا تكون في ضيق من أمر معيشتك فتذكر الموت إلا وسّع ذلك عليك .
“ 163 “
كلام أبي بكرة لمعاوية رضي اللّه عنه
حدثنا يونس ، انا عبد الوهاب ، انا المبارك بن عبد الجبار ، انا أحمد بن علي الثوري ، انا عمر بن ثابت ، انا علي بن قيس ، أنا أبو بكر القرشي ، انا العباس بن هشام بن محمد ، عن أبيه ، عن شيخ من الأزد ، أن أبا بكرة دخل على معاوية فقال : اتق اللّه يا معاوية ، واعلم أنك في كل يوم يخرج عنك ، وفي كل ليلة تأتي عليك لا تزداد من الدنيا إلا بعدا ، ومن الآخرة إلا قربا ، وإن على أثرك طالبا لا تفوته ، وقد نصب لك علما لا تجوزه ، فما أسرع ما تبلغ ، وما أوشك أن يلحقك الطالب . وإنّا وما نحن فيه وأنت زائل ، والذي نحن إليه صائرون باق ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
ما كلّم به أبو مسلم الخولاني معاوية
وبالإسناد إلى أبي بكر القرشي قال : نبّأ شجاع بن الأشرس ، عن إسماعيل بن عيّاش ، عن أبي بكر بن عبد اللّه ، عن عطية بن قيس ، أن أبا مسلم أتى معاوية ، فقام بين السّماطين ، فقال : السلام عليك أيها الأجير ، فقال من عنده : السلام عليك أيها الأمير ، فقال أبو مسلم : السلام عليك أيها الأجير ، فقال معاوية : دعوا أبا مسلم ، فإنه أعلم بما يريد . فقال : اعلم أنه ليس من أحد استرعى رعية إلا ربّ الرعية سائله عنها ، فإن كان داوى مرضاها ، وجبر كسراها ، وهنا جرباها ، وردّ أولاها على أخراها ، ووضعها في أنف من الكلأ وصفو من الماء ، وفاه أجره . وإن كان لم يداو مرضاها ، ولم يهن جرباها ، ولم يجبر كسراها ، ولم يردّ أولاها على أخراها ، ولم يضعها في أنف من الكلأ وصفو من الماء ، لم يؤته أجرها . فانظر أين أنت يا معاوية من ذلك . فقال معاوية :
يرحمك اللّه يا أبا مسلم .
ودخل عليه مرة فقال له : ما اسمك ؟ قال : اسمي معاوية . قال : لا بل أحدوثة ، فإن جئت بشيء فلك شيء ، وإن لم تأت بشيء فلا شيء لك . يا معاوية ، إنك لو عدلت بين جميع قبائل العرب ، ثم ملت إلى أقلّها قبيلة ، مال جورك بعد ذلك . يا معاوية ، إنّا لا نبالي بكدر الأنهار إذا صفي لنا رأس العين .
حدثنا بهذا محمد بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن علي ، عن إسماعيل بن أحمد ، عن عمر بن عبد اللّه ، عن أبي الحسين بن بشران ، عن عثمان بن أحمد ، عن جنبل ، عن جعفر بن ميمون ، عن أبيه ، عن عبد اللّه بن يوسف ، عن خالد بن يزيد ، عن أبي عيلة ، أن أبا مسلم الخولاني دخل على معاوية فذكره .
“ 164 “
آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
روينا من حديث ابن قتيبة قال : ثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب قال : نبأ قريش بن أنس ، عن كليب بن وائل ، أن رجلا من الصالحين قال : بلاد الهند شجر له ورد أحمر فيه بياض مكتوب : محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
وأنشدني عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة لبعض الشعراء في النبي صلى اللّه عليه وسلم :
لو لم تكن فيه آيات مبيّنة * كانت بديهته تنبيك بالخبر
بلاغة أبانت عن حقيقة
روينا من حديث محمد بن يونس قال : حدثنا الأصمعي قال : مررت بأعرابية وبين يديها شاب في السياق .
ثم رجعت وبين يديها قدح من سويق تشربه ، فقلت لها : ما فعل الشاب ؟ قالت :
واريناه ، قلت : ما هذا ؟ فقالت :
على كل حال يأكل القوم زادهم * على البؤس والنعمى وفي الحدثان
ومن روايتنا : قال محمد بن عبد الرحمن الحنفي : أنشدنا أبي لغيره :
اصبر لكل مصيبة وتجلّد * واعلم بأن المرء غير مخلّد
وإذا ذكرت مصيبة تشجى بها * فاذكر مصابك بالنبي محمد
من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه
روينا من حديث يعقوب بن يوسف المطوعي ، نبأ أبو الربيع الزهراني ، عن محمد ، عن حمّاد بن زيد قال : قيل للأحنف بن قيس : بم سدت قومك ؟ وأراد عيبه ، فقال الأحنف : بتركي من أمرك ما لا يعنيني ، كما عناك من أمري ما لا يعنيك .
تأديب حكيم وتعليم عاقل عليم
وروينا منه بحديث محمد بن يونس ، انا الأصمعي ، عن أبي عمرو بن العلاء وعن أبيه قالا : قال الأحنف بن قيس : ما دخلت بين اثنين قط حتى يكونا هما يدخلاني في أمرهما ، ولا أقمت من مجلس قط ، ولا حجبت عن باب قط ، ولا رددت عن حاجة قط .
قيل له : ولم ؟ قال : لأني لا أطلب المحال .
“ 165 “
استمالة حكيم عفو سلطان حليم
وروينا من حديث عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة قال : حدثنا الرياشي قال : أخذ بعض الأمراء رجلا فقال له : إن عاقبت جازيت ، وإن عفوت أحسنت ، والعفو أقرب .
وصية محكمة وموعظة منظمة
وروينا من حديث إبراهيم الشيعي قال :
وأنشدني الرياشي لأبي العتاهية :
ألا إن خير الدهر خيرا تنيله * وشرّ كلام القائلين فضوله
ألم تر أن المرء في دار بلغة * إلى غيرها والموت فيها سبيله
وأي بلاغ يكتفي بكثيره * إذا كان لا يكفيك منه قليله
مضاجع سكان القبور مضاجع * يفارق فيهنّ الخليل خليله
تزوّد من الدنيا بزاد من التّقى * فكلّ بها ضيف وشيك رحيله
وخذ للمنايا لا أبا لك عدّة * فإن المنايا من أتت لا تقيله
وما حادثات الدهر إلا لعزّة * تبثّ قواها أو لملك تزيله
ومن ذلك بالإسناد لأبي العتاهية :
عيب ابن آدم ما علمت كثير * ومجيئه وذهابه تغرير
غرّتك نفسك للحياة محبّة * والموت حقّ والبقاء يسير
لا تغبط الدنيا فإن جميع ما * فيها يسير لو علمت حقير
يا ساكن الدنيا ألم تر زهرة * الدنيا على الأيام كيف تصير ؟
بل ما بدا لك أن تنال من الغنى * إن أنت لم تقنع فأنت فقير
يا جامع المال الكثير لغيره * إن الصغير من الذنوب كبير
هل في يديك من الحوادث قوة * أم هل عليك من المنون خفير
ما ذا تقول إذا رحلت إلى البلا * وإذا خلا بك منكر ونكير
خلق كريم مع ذي ذمة ذميم
روينا من حديث أبي حصين ، قال : نزل يهودي بأعرابي فمات عنده ، فقام الأعرابي فصلى عليه ، وقال : اللهم ضيف ، وقد علمت حق الضيف ، فأمهلنا إلى أن يقضي زمامه ، ثم شأنك به .
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin