الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء 13
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 193 “
السماع في ذلك ، يقول لنفسه : أنت من عالم الخليقة ونزلت إلى عالم الشهوة والطبع ، لكني أهفو إلى العلا بما فيّ من أصالته فيما بقي عليّ من أطمار ما كان كساني ذلك المجد عند الإشهار . قال : تفوح أرواح العلا في أخلاقهم عند التنزّلات لقرب مشاهدة المنزل الذي يجمعهم . والراكبان خاطران علويان مرّا به على حاله ، فسألهما الخبر عن المقام العالي الأنزه : هل روّضت قاعة الطبيعة ؟ وهل نزلت غيوث الحياة لساحتها ؟ فأنبتت ما يؤدي إلى البينونة من الكون والغيرة من ظهور الغير هنالك ، فأثبت له الحق الخاطر ، أن يكرمه على ما أخبر ، إلى أن نزل عليه روحه الخاص به الذي كني عنه بالنفس ، فعقل عنهما ما جاء به وأودعهما حديثه بلسان الحال من جري الدموع على مفارقة الأوطان والربوع .
قوله : أم هل أبيت ، أي سترى عن ظلام الغيب ، ودار عند كل كاظمة من كظم غيظه خلقا جميلا ، وسمّار ذاك الحي سماري ، بالترداد بيني وبينهم بما يكون فيه علو مقامي وارتفاع شأني .
ومن باب الفخر
سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلا ينشد :
إني امرؤ حميريّ حين تنسبني * لا من ربيعة آبائي ولا مضر
فقال : « ذلك الأمر لك أبعد من اللّه ورسوله » .
ومرّ العباس بن عبد المطلب بنفر من قريش يقولون : إنما مثل محمد في أهله مثل نخلة نبتت في كناسة ، فبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فوجد منه ، فخرج حتى قام فيهم خطيبا ، ثم قال : « أيها الناس من أنا ؟ » ، قالوا : أنت رسول اللّه ، قال : « فأنا محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم ، إن اللّه تعالى خلق خلقه فجعلني من خير الفريقين ، ثم جعلهم شعوبا فجعلني من خيرهم شعبا ، ثم جعلهم بيوتا فجعلني من خيرهم بيتا ، فأنا خيركم بيتا ، وخيركم والدا ، وإني لمباه لكم . قم يا عباس » ، فقام عن يمينه ، ثم قال : « قم يا سعد » ، فقام عن يساره ، فقال : « فربّ لامرئ منكم عمّا مثل هذا وخالا مثل هذا » .
ولبعضهم يفتخر :
إذا مضر الحمراء كانت أرومتي * وقام بنصري حازم وابن حازم
عطست بأنف شامخ وتناولت * يداي الثريا قاعدا غير قائم
قلت : ولقد فخرت بأحسن من هذا فقلت :
“ 194 “
لنا همّة أن الثريا لدونها * نعم ولنا فوق السماكين منزل
تقدمت سبقا في المكارم والعلا * وفي كل ما ينكي العدا أنا أول
ولم ألف صمصاما بقدر عزيمتي * ولو جمعوا الأسياف عزمي أفضل
كذلك جودي لا يفي الغيث والثرى * إذا كان أموالا به حين أبذل
إذا التحم الجمعان في حومة الوغى * وكانت نزالا ما عليه معوّل
نضيت حساما للردى في فرنده * شعاع له بين الفريقين فيصل
له عزمة لا تبتغي غير كبشهم * فليس له عن قمة الهام معدل
حملت به لا أرهب الموت والردى * ولا أبتغي حمدا له النفس تعمد
ولكن ليعلو الدين عزّا وشرعة * إلى موضع عنه الطواغيت تسفل
أنا العربي الحاتمي أخو الندى * لنا في العلا المجد القديم المؤثل
فكلّا فعزمي ليس يسمو إلى العلا * ألا كيف يسمو والعلا منه أسفل
ولنا أيضا من قصيدة أفتخر فيها :
أنا ابن الرابعين إذا انتسبنا * وعندي صار خمس المسلمينا
بشرى سيف بن ذي يزن لعبد المطلب برسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وخلافة بني العباس حين وفد عليه في وفد قريش
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه قال : ثنا سليمان إملاء ، ثنا أحمد بن يحيى بن خالد الراقي ، نبأ عمرو بن بكر بن بكّار القصيّ ، عن أحمد بن قاسم الطائي ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : لما ظهر سيف بن ذي يزن على اليمن فظفر بالحبشة ونفاهم عنها ، وذلك بعد مولد النبي صلى اللّه عليه وسلم بسنتين ، أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها تهنّئه وتمدحه ، وتذكر ما كان من بلائه في طلب ثأر قومه ، فأتاه وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم ، وأمية بن عبد شمس ، وعبد اللّه بن جدعان ، وخويلد بن أسد بن عبد العزّى ، ووهب بن عبد مناف بن زهرة ، في أناس من وجوه قريش ، فقدموا عليه بصنعاء ، وهو في رأس قصر له يقال له غمدان ، وهو الذي قال فيه أمية بن أبي الصلت :
لا تطلب الثأر إلا كابن ذي يزن * يتمّم البحر للأعداء أخوالا
أتى هرقل وقد شالت نعامته * لم يجد عنده النصر الذي شالا
ثم انتهى عنه كسرى بعد تاسعة * من السنين يهين النفس والمالا
حتى أتى ببني الأحزان يحملهم * تخالهم فوق متن الأرض أجبالا
“ 195 “
من مثل كسرى شهنشاه الملوك لهم * ميل وهدي يؤم الجيش أرسالا
للّه درهم من فتية صبروا * ما إن رأيت لهم في الناس أمثالا
بيض مرازبة غلب حجا حجة * أسد يربين في الغيضات أشبالا
يرمون عن شدف كأنها غيظ * بزمخر تعجل المرمى إعجالا
لا يضجرون وإن كلّت نوائلهم * ولا ترى منهم في الطعن ميّالا
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد * أضحى شديدهم في الناس إقلالا
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا * في رأس غمدان دار منك محلالا
واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم * واسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
قال : فاستأذنوا عليه ، فأذن لهم ، فإذا الملك متضمّخ بالعنبر ينطف ، وبيض المسك من مفرقه ، وعن يمينه وعن شماله الملوك وأبناء الملوك والمقاول ، فلما دخلوا عليه دنا منه عبد المطلب فاستأذن في الكلام ، قال له سيف بن ذي يزن : إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنّا لك .
فقال عبد المطلب : أيها الملك ، إن اللّه قد أحلّك محلا رفيعا شامخا منيعا ، وأنبتك منبتا طابت أروبته ، وعذبت جرثومته ، وثبت أصله ، وبسق فرعه ، في أطيب موطن ، وأكرم معدن ، فأنت أبيت اللعن رأس العرب ، وربيعها الذي تخصب به ، وأنت أيها الملك رأس العرب الذي له تنقاد ، وعمودها الذي عليه العماد ، ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد ، سلفك لنا خير سلف ، وأنت لنا منهم خير خلف ، فلم يهلك من أنت خلفه ، ولم يخمد ذكر من أنت سلفه ، نحن أيها الملك أهل حرم اللّه ورسوله ونبيّه ، أشخصنا إليك الذي أبهجنا لكشف الكرب الذي فدحنا ، ونحن وفد التهنية لا وفد المرزية .
فقال سيف بن ذي يزن : وأيهم أنت أيها المتكلم ؟ قال : أنا عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف . قال : ابن أختنا . قال : نعم . فأدناه ثم أقبل عليه وعلى القوم .
قال : مرحبا وأهلا ، وناقة ورحلا ، ومناخا سهلا ، وملكا رعلا ، يعطي عطاء جزلا . قد سمع الملك مقالتكم ، وعرف قرابتكم ، وقبل وسيلتكم ، وأنتم أهل الليل والنهار ، لكم الكرامة إذا أقمتم ، والحباء إذا أظعنتم ، انهضوا إلى دار الضيافة والوفود . وأمرهم بالإنزال ، فأقاموا شهرا لا يصلون إليه ، ولا يؤذن لهم في الانصراف .
ثم انتبه لهم انتباهة ، فأرسل إلى عبد المطلب دونهم ، فلما دخل عليه أدناه وقرّب مجلسه واستحباه ، ثم قال له : يا عبد المطلب ، إني مفوّض إليك من سرّ علمي ما لو غيرك يكون لم أبح به ، ولكن وجدتك معدنه ، فأطلعتك طلعه ، فليكن عندك مطويا حتى يأذن اللّه فيه ، فإن اللّه تعالى بالغ أمره ،
“ 196 “
إني أجد في الكتاب المكنون ، والعلم المخزون ، الذي اخترناه لأنفسنا ، واحتقبناه دون غيرنا ، خبرا عظيما ، وخطرا جسيما ، فيه شرف الحياة ، وفضيلة الوفاة ، للناس كافة ، ولرهطك عامة ، ولك خاصة .
فقال عبد المطلب : مثلك أيها الملك من سرّك وبرّ ، فما هو ؟ فذاك أهل الوبر زمرا بعد زمر . قال : إذا ولد بتهامة غلام به علامة ، بين كتفيه شامة ، كانت له الإمامة ، ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة . قال عبد المطلب : أبيت اللعن ، لقد أبت بخير ما آب به وافد قومك ، ولولا هيبة الملك وإعظامه وإجلاله لسألته من سأراه إياي ما ازداد به سرورا .
قال سيف بن ذي يزن : هذا حين يولد فيه أو قد ولد ، اسمه محمد ، بين كتفيه شامة ، يموت أبوه وأمه ، ويكفله جده وعمه ، قد وجدناه مرارا ، واللّه باعثه جهارا ، وجاعل له منا أنصارا ، يعزّ بهم أولياءه ، ويذل بهم أعداءه ، ويضرب بهم الناس عن عرض ، ويستبيح بهم كرائم الأرض ، يعبد الرحمن ، ويزجر الشيطان ، ويخمد النيران ، ويكسر الأوثان ، قوله فصل ، وحكمه عدل ، يأمر بالمعروف ويفعله ، وينهى عن المنكر ويبطله .
قال عبد المطلب : أيها الملك ، عز جارك ، وسعد جدك ، وعلا كعبك ، ونما أمرك ، وطال عمرك ، ودام ملكك ، فهل الملك سارّي بإفصاح ، فقد أوضح بعض الإيضاح . قال سيف بن ذي يزن : والبيت ذي الحجب ، والعلامات ذي النقب ، إنك يا عبد المطلب لجده بلا كذب .
قال : فخرّ عبد المطلب ساجدا . فقال سيف : ارفع رأسك ، فقد ثلج صدرك ، وعلا أمرك ، فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك ؟ قال عبد المطلب : نعم أيها الملك ، إنه كان لي ابن ، وكنت به معجبا ، وعليه رفيقا ، فزوّجته كريمة من كرائم قومي : آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة ، فجاءت بغلام وسمّيته محمدا ، ومات أبوه وكفلته أنا وعمه ، بين كتفيه شامة ، وفيه كلما ذكرت من علامة .
فقال سيف : إن الذي ذكرت لكما ذكرت ، فاحتفظ به ، واحذر عليه اليهود ، فإنهم له أعداء ، ولن يجعل اللّه لهم عليه سبيلا ، واطو ما ذكرت لك دون هذا الرهط الذي معك ، فإني لست آمن أن يدخلهم التحاسد من أن يكون لك الرئاسة فيبغون لك الغوائل ، وينصبون له الحبائل ، وهم فاعلون أو أبناؤهم ، ولولا أني أعلم أن الموت محتاجي قبل مبعثه ، لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار ملكه ، فإني أجد في الكتاب الناطق ، والعلم السابق ، أن بيثرب استحكام أمره ، وموضع قبره ، وأهل نصرته ، ولولا أني أقيه من الآفات ، وأحذر عليه من العاهات ، لأوطأت أسنان العرب كعبه ، ولأعلنت على حداثة من سنّه ذكره ، ولكني صارف إليك من غير تقصير بمن معك .
“ 197 “
ثم أمر لكل رجل منهم بمائة من الإبل ، وعشرة أعبد ، وعشرة إماء ، وعشرة أرطال فضة ، وخمسة أرطال من الذهب ، وكرش مملوء عنبرا ، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك ، وقال له : إذا كان رأس الحول فائتني بخبره ، وما يكون من أمره .
فهلك سيف بن ذي يزن قبل رأس الحول ، وكان عبد المطلب يقول : لا يغبطني يا معشر قريش رجل منكم لجزيل عطاء الملك وإن كثر ، فإنه إلى نفاد ، ولكن يغبطني بما يبقي له شرفه وذكره ، ولعقبي من بعدي . فكان إذا قيل له : وما ذاك ؟ قال : سيعلن ولو بعد حين .
وفي ذلك يقول أمية بن أبي الصّلت :
جلبنا النصح معقبة المطايا * على أكوار جمال ونوق
مغلغلة مرافقها تعالى * إلى صنعاء من فجّ عميق
نؤمّ بها ابن ذي يزن وتفري * بطون خفافها أمّ الطريق
ونلمح من مخايله بروقا * مواصلة الوميض إلى بروق
فلما واقعت صنعاء صارت * بدار الملك والحسب العتيق
وفي الحديث المشهور عن ابن عباس أن الحبر قال لعبد المطلب : أشهد أن في إحدى يديك ملكا ، وفي الأخرى نبوءة ، وذلك قبل تزويج عبد اللّه في بني زهرة ، فكان كما قال : النبوّة والخلافة العباسية .
شرح
شدف المعوجّ من كل شيء : وارد به القسي . والزّجر : النشاب . والإرسال :
الجماعات . والنوانك : جمع نانك ، وهي الناقة الحسناء ذات الشحم ، يقال لها : نانك الناقة ، تنوك ، نوكا إذا سمنت . والمرزية بفتح الميم ، والرزية : المصيبة . الريحل والسبحل : الضخم . احتجناه : أي اخترناه . والزعامة : السيادة والتقدم .
احتقبت البعير :
إذا شددت رجله بالحقب ، وهو الحبل الذي يشدّ به .
ذكر الإمام أبو الفرج بن الجوزي في كتابه « مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن » قال : قال شاه بن شجاع الكرماني : دخلت البادية فرأيت غلاما أمرد كأنه موسوس لا يألف أهل القافلة ، فساعة يشير إلى السماء ، وساعة يصيح ، فقمت لأنظر في شأنه ومن أين معاشه ، ولم يكن معه زاد ، ولا غطاء ، ولا وطاء . فراقبته يوما فدخل وسط أشجار أم
“ 198 “
غيلان ، فتبعته فإذا هو يجني من شجره شيئا يأكله ، فلما بصر بي أنشأ يقول :
باعتزالي عنكم في الخلوات * صار طعمي التمر وسط الفلوات
من استنصر ببسم اللّه الرحمن الرحيم
روينا من حديث الدنهوري قال : حدثنا إبراهيم بن سهلويه ، عن عبد اللّه بن عبد الوهاب ، عن نافع عن ابن عمر قال : بينما عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، في جماعة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يتذكرون فضائل القرآن . فقائل منهم خاتمة سورة البقرة ، وقائل خاتمة بني إسرائيل ، وقائل كهيعص ، وطه .
وأكثروا في القول ، وفي القوم عمرو بن معدي كرب الزبيدي في ناحية إذ قال : يا أمير المؤمنين ، فأين أنتم من عجيبة بسم اللّه الرحمن الرحيم ؟
فو اللّه إنّ في بسم اللّه الرحمن الرحيم لعجيبة من العجب .
فاستوى عمر جالسا وكان متكئا ، وكان يعجبه حديث عمرو فقال له : يا أبا ثور ، حدّثنا بعجيبة بسم اللّه الرحمن الرحيم .
فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه أصابنا في الجاهلية مجاعة شديدة ، فاقتحمت بفرسي البرية أطلب شيئا ، فو اللّه ما أصبت إلا بيض النعام ، وإن فرسي لتلتئم من فناء البرية .
فبينما أنا كذلك ، إذ رفعت لي خيمة وماشية ، فأتيت الخيمة فإذا بجارية كأحسن البشر ، وإذا بفناء الخيمة شيخ متكئ ، فقلت لما داخلني من هول الجارية ومن ألم الجوع : استأسر ، ثكلتك أمك .
فقال : يا هذا ، إن أردت القرى فانزل ، وإن أردت معونة أعنّاك .
فقلت : استأثر ثكلتك أمك . فقال لي مثل قوله الأول ، ونهض نهوض شيخ لا يقدر على القيام ، فدنا مني وهو يقول : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، ثم جذبني إليه فإذا أنا تحته وهو فوقي ، فقال : أقتلك أم أخلّي عنك ؟ فقلت : بل خلّ عني .
فنهض عني وهو يقول :
عرضنا عليك النزل منا تكرّما * فلا ترعوي جهلا كفعل الأشائم
وجئت بعدوان وظلم ودون ما * تمنيته في البيض حرّ الغلاصم
فقلت في نفسي : يا عمرو ، أنت فارس العرب للموت أهون من الهرب من هذا الشيخ الضعيف ، فدعتني نفسي إلى معاودته ثانية ، وأنشأت أقول :
رويدك لا تعجل بليت بصارم * سليل المعالي هزبريّ قماقم
لئن ذلّ عمرو ثم ذلّ عجيبة * ولم يك يوما للبراز بحاجم
طمعت لما منّتك نفسك تسلمن * سقتك المنايا كأسها بالصرائم
فما لك بدل دون نفسك تسلمن * هنالك أو تصبر لحزّ الغلاصم
“ 199 “
فما دون ما تقواه للنفس مطمع * سوى أن أجزّ الرأس منك بصارم
ثم قلت له : استأسر ثكلتك أمك ، فدنا مني وهو يقول : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، ثم جذبني جذبة مثلت تحته ، فاستوى على صدري وقال : أقتلك أم أخلّي عنك ؟ فقلت : بل خلّ عني . فنهض وهو يقول :
ببسم اللّه والرحمن فزنا * قديما والرحيم به قهرنا
وهل تغني جلادة ذي حفاظ * إذا يوما لمعركة نزلنا
وهل شيء يقوم لذكر ربي * وقدما بالمسيح هناك عذنا
سأقصم كل ذي جنّ وإنس * إذا يوما لمعضلة حللنا
فعاودتني نفسي ، فقلت : استأسر ثكلتك أمك . فدنا مني وهو يقول : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، فملئت منه رعبا يا أمير المؤمنين ، وكنا لا نعرف مع اللات والعزّى شيئا .
ثم دنا مني وجذبني جذبة فصرت تحته ، فقلت : خلّ عني . فقال : هيهات ! بعد ثلاث مرات ما أنا بفاعل ، ثم قال : يا جارية ، ائتني بشفرة ، فأتت بها ، فجزّ ناصيتي ، ثم نهض وهو يقول :
مننّا على عمرو فعاد لحينه * وثنّى فثنينا فساء وما فعل
وفي اسم ذي الآلاء عزّ ورفعة * ومحترز لو كان سامعه عقل
وكنا يا أمير المؤمنين إذا جزّت نواصينا استحينا أن نرجع إلى أهلنا حتى تنبت ، فرضيت أن أخدمه حولا . فلما حال الحول قال : يا عمرو ، إني أريد أن تنطلق معي إلى البرّية وما بي من وجل ، وإني لواثق ببسم اللّه الرحمن الرحيم ، فانطلقت معه حتى أتى واديا فهتف بأهله ببسم اللّه الرحمن الرحيم فلم يبق طائر في وكره إلا طار ، ثم هتف الثانية فلم يبق سبع في مربضه إلا نهض ، ثم هتف الثالثة فإذا هو بأسود كالنخلة السحوق ، وإذا هو لابس شعرا فرعبت ، فقال الشيخ : لا ترع يا عمرو إذا نحن اصطرعنا ،
فتلا عليه صاحبي :
بسم اللّه الرحمن الرحيم ، قال : فاصطرعا . فقلت : عليه باللّات والعزّى ، فلطمني لطمة كاد يقلع رأسي ، فقلت له : لست بعائد ، فاصطرعا ، فقلت : عليه ببسم اللّه الرحمن الرحيم ، قال : فعلاه الشيخ فبعجه كما تبعج الفرس ، وشق بطنه واستخرج منه كهيئة القنديل الأسود .
فقال لي : يا عمرو هذا غشه وكفره ، فقلت له : فداك أبي وأمي ما لك ولهذا القوم ؟
فقال : يا عمرو ، إن الجارية التي رأيتها في الخباء هي الفارعة بنت المسور ، وكان رجلا من الجنّ ، وكان مؤاخيا لي ، وكان على دين المسيح عليه السلام ، وهؤلاء قومها يغزوني كل سنة منهم رجل فينصرني اللّه عليه ببسم اللّه الرحمن الرحيم . فانطلقنا
“ 200 “
حتى أمعنّا في البرية ، قال : يا عمرو ، قد رأيت ما كان مني وأنا جائع فالتمس لي شيئا آكله ، فالتمست فما وجدت له إلا بيض النعام ، فأتيته وهو نائم ، وقد توسد إحدى يديه ، وتحته سيفه وهو سيف طوله سبعة أشبار ، وعرضه أقلّ من شبرين ، وهو الصمصامة ، فاستخرجت سيفه من تحته فضربته ضربة قطعت منه الساقين ،
فقال : يا غدّار ما أغدرك . فلم أزل أضربه حتى قطعته إربا إربا .
فغضب عمرو رضي اللّه عنه وقال : وأنا أقول كما قال العبد : ظفر بك رجل من المسلمين ، فأنعم عليك ثلاث مرات ووجدته نائما فقتلته .
واللّه لو كنت مؤاخذك في الإسلام بما فعلت في الجاهلية لقتلتك به .
ثم أنشأ عمر يقول :
إذا قتلت أخا في السلم تظلمه * أفّ لما جئته في سالف الحقب
الحرّ يأنف مما أنت تفعله * تبّا لما جئته في العجم والعرب
لو كنت آخذ في الإسلام ما فعلت * في الجاهلية أهل الشرك والصلب
إذا لنالتك من عدلي مشطبة * يدعى لذائقها بالويل والحرب
ثم قال : ما كان من حديثه يا عمرو ، قال : فأتيت الخيمة فاستقبلتني الجارية فقالت :
يا عمرو ، ما فعل الشيخ ؟ قلت : قتله الحبشيّ ، قالت : كذبت ، قتلته أنت يا غدّار ،
ثم دخلت الخيمة فجعلت تبكي وتقول :
عين جودي لفارس مغوار * فاندبيه بواكفات غزار
سبع وهو ذو وفاء وعهد * ورئيس الفخار يوم الفخار
لهف نفسي على بقائك يا عم * رو وأسلمته والحماة للأقدار
بعد ما جزّ ما به كنت تسمو * في زبيد ومعشر الكفّار
ولعمري لو رمته أنت حقا * رمت منه كصارم بتّار
فجزاك المليك سوءا وهونا * عشت منه بذلّة وصغا
قال : فدخلت الخيمة أريد قتلها فلم أر أحدا كأنّ الأرض قد ابتلعتها ، فاقتلعت الخيمة ، وسقت الماشية حتى أتيت بها قومي بني زبيد .
دعاء مأثور لذنب مغفور
حدثنا ببغداد سنة ثمان وستمائة صاحبنا الإمام سراج الدين عمر بن مكي بن علي بن محمد بن عبد اللّه الجوزي قال : رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المنام ، فقال : « من أراد أن يغفر اللّه له فليدع بهذا الدعاء وهو : اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفّة والغنى ، فائتنا سؤلنا ،
“ 201 “
وارزقنا أمنيتنا » . أو قال : « فائتني في الدنيا والآخرة حسنة برحمتك يا أرحم الراحمين » .
الشك من الراوي ولا يدري أيهما ؟
قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : " فينبغي أن يجمع بينهما " .
وحدثنا ببغداد في التاريخ أبو عبد اللّه محمد بن سعيد بن يحيى بن علي بن الرئيس لفظا قال : حدثنا أبو نصر يحيى بن هبة اللّه بن محمد البزار بواسط قراءة مني عليه ، قال : سمعت أبا المكرم خميس بن علي الحافظ يقول : سمعت أبا محمد طلحة بن علي الرازي الصوفي يقول : رأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم ببغداد في مسجد عتّاب ، والمسجد غاص بأهله ، وهو عليه الصلاة والسلام في المحضر ، وعليه بردة كحلاء ، وهو متقلد سيفا ، وفي الجماعة أبو محمد التميمي وهو يقول له : يا رسول اللّه ، ادع اللّه لنا ، فبسط كفيه وقال ، وأنا أقول معه : « اللهم إني أسألك حسن الاختيار في جميع الأقدار " .
ومما قلته وأنا منفرد بفلاة يتما :
وليّ اللّه ليس له أنيس * سوى الرحمن فهو له جليس
يذكّره فيذكره فيبكي * وحيد الدهر جوهره نفيس
ولنا في المعارف من باب التشبيب :
طلع البدر في دجى الشعر * وسقى الورد نرجس الخفر
غادة تاهت الحسان بها * وزها نورها على القمر
هي أسنى من المهاة سنا * صورة لا تقاس بالصور
فلك النور دون أخمصها * تاجها خارج عن الأكر
إن سرت في الضمير يجرحها * ذلك الوهيم كيف بالبصر
لعبة ذكرنا يذوّبها * لطغت من مسارح النظر
طلب النعت أن يبيّنها * فتعالت فعاد ذا حصر
وإذا رام أن يكيّفها * لم يزل ناكصا على الأثر
إن أراح المطيّ طالبها * ما أراحوا مطيّة الفكر
روحنت كل من أشبّ بها * نقله عن مراتب البشر
غيرة أن يشاب رائقها * بالذي في الحياض من كدر
تمّ المجلس .
روينا من حديث ابن إسحاق عن الكلبيّ عن أبي صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس ، قال : كانت العرب على دينين : حلة وحمس .
فالحمس قريش وكل من ولدت العرب :
كنانة ، وخزاعة ، وأوس ، وبنو ربيعة بن عامر بن صعصعة ، وأزد شنوءة ، وحوم ، وزبيد ،
“ 202 “
وبنو ذكوان من سليم ، وعمرو اللّات ، وثقيف ، وغطفان ، وعوف ، وعدوان ، وعلاق ، وقضاعة .
وكانت قريش إذا أنكحوا غريبا امرأة منهم اشترطوا عليه أن كل من ولدت فهو أحمس على دينهم . وزوّج الأردم تميم بن غالب بن فهر بن مالك ابنة محمد بن تيم بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، على أن ولدها منه أحمس على سنّة قريش . وفيها يقول لبيد بن ربيعة الكلبيّ :
سقى قومي بني مجد وأسقى * نميرا والقبائل من هلال
وتزوج منصور بن عكرمة بن حفصة بنت سلمى بنت ضبيعة بن علي بن يعصر بن قيس بن غيلان ، فولدت له هوازن ، فمرض مرضا شديدا ، فنذرت سلمى لئن برئ لتحمسنه ، فلما برئ أحمسته . فلم تكن نساؤهم ينسجن ولا يغزلن الشعر ولا يسلين السمن إذا أحرموا .
وكانت الحمس إذا أحرموا لا يأقطون الأقط ، ولا يأكلون السمن ، ولا يسلونه ، ولا يمخضون اللبن ، ولا يأكلون الزبد ، ولا يلبسون الوبر ، ولا يلبسون الشعر ولا الوبر ، ولا ينسجونه ، وإنما يستظلون بالأدم ، ولا يأكلون شيئا من نبات الحرم ، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ، ولا يحفزون فيها بدنة ، ويطوفون بالبيت وعليهم ثيابهم . وكانوا إذا أحرم الرجل منهم في الجاهلية وأول الإسلام ، فإن كان من أهل المدر يعني من أهل البيوت والقرى ، نقب نقبا في ظهر بيته ، فمنه يدخل ، ومنه يخرج ، ولا يدخل من بابه .
وكانت الحمس تقول : لا تعظّموا شيئا من الحل ، ولا تجاوروا الحرم في الحج ، فلا يهاب الناس حرمكم ، فقصّروا عن مناسك الحج والمواقف من عرفة ، وهو من الحلّ ، فلم يكونوا يقفون به ، ولا يفيضون منه ، وجعلوا موقفهم في الحرم ، ومن نمرة ، وكانوا يدفعون في غروب الشمس .
وكانت الحمس إذا أحرمت وأرادت دخول بيتها تسوّرت من ظهور البيوت وأدبارها .
ويحرّمون الدخول من أبوابها حتى بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم فأحرم عام الحديبية ، ودخل بيته ، وكان معه رجل من الأنصار ، فوقف الأنصاري بالباب فقال له : « ألا تدخل ؟ » ، فقال الأنصاري ؛ أنا أحمس يا رسول اللّه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « وأنا أحمس ، ديني ودينك سواء » . فدخل الأنصاري مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما رآه دخل من بابه ، فأنزل اللّه تعالى : وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها .
وكانت الحلة تطوف بالبيت ، أول ما يطوف الرجل والمرأة في أول حجة يحجّها
“ 203 “
عراة ، فكانت المرأة تضع إحدى يديها على قبلها ، والأخرى على دبرها ، ثم تقول : اليوم يبدو بعضه ، أو كله ، وما بدا منه ، فما أحلّه إلا أن يستعيروا من الحمس ثيابا يطوفون بها .
حتى إنهم كانوا يقفون عند باب المسجد فيقولون للحمس : من يعير معوزا ، من يعير مصونا ؟ فإن أعاره أحمسي ثوبه طاف به ، ولا يرون أنهم يطوفون بالثياب التي قارفوا فيها الذنوب .
وحدثنا محمد بن قاسم ، حدثنا أحمد بن محمد ، ثنا ابن علي ، ثنا محمد بن أحمد ، ثنا ابن الجارحي ، ثنا محمد بن يحيى ، ثنا عبد اللّه بن المغيرة ، ثنا عقارة بن مسلم ، ثنا حمّاد بن سلمة ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « لا يكمل إيمان عبد حتى تكون فيه خمس خصال : التوكل على اللّه ، والتفويض إلى اللّه ، والتسليم لأمر اللّه ، والرضا بقضاء اللّه ، والصبر على بلاء اللّه . إنه من أحبّ للّه ، وأبغض للّه ، وأعطى للّه ، ومنع للّه ، فقد استكمل الإيمان " .
وحدثنا عبد الواحد بن إسماعيل ، حدثني أبي ، ثنا عمر بن عبد المجيد ، ثنا أحمد بن محمد ، ثنا أبو نصر بن علي ، ثنا أحمد بن عبد اللّه ، حدثنا نصر بن أحمد ، حدثنا أبو يعلى ، حدثنا أحمد بن كامل ، ثنا أبو قلابة ، نبأ الحسين بن حفص ، نبأ سفيان ، عن أحمد ، عن سهيل ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول :
« إن العبد لا يكتب في المسلمين حتى يسلم الناس من يده ولسانه ، ولا ينال درجة المؤمنين حتى يأمن جاره بوائقه ، ولا يعد من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس ، إنه من خاف البيان أدلج ، ومن أدلج في المسير وصل ، وإنما تعرفون عواقب أعمالكم ، لو قد طويت صحائف آجالكم . أيها الناس ، إن نية المؤمن خير من عمله ، ونية الفاسق شرّ من عمله » .
وسماعنا على قول كثيّر عزّة
لقد حلفت جهدا بما حلفت له * قريش غداة المأزمين وصلّت
وكانت لقطع الحبل بيني وبينها * كناذرة نذرا فأوفت وحلّت
فقلت لها يا عزّ كلّ مصيبة * إذا وطنت يوما لها النفس ذلّت
السماع في ذلك : المأزمين ، المضيق الذي بين عالم الغيب والشهادة ، هنالك تنحر النفوس عن أغراضها ، تنحرها حال الجمعية التي كنى عنها بقريش . التقريش : التضييق .
وصلت : دعت إلى مقامها . وذاني : هي الخالفة . وقطع الحبل بيننا : انفصالها عن ظلمة
“ 204 “
هذا الهيكل لما تقاسي فيه من ذلّ الحجاب . ولولا قوتها على الذلّ فيما يصيبها من المقام الأعز الأحمى لهلكت رأسا واحدا ، ولكن الشيء لا يهلك عن حقيقته فالذلّ لها ذاتي ، فإن الإمكان افتقار وعجز محض ، فالذلّ وصف ولازم ، وهو في غير ذلك المقام بالعرض .
وسماعنا على قول ابن الدمينة :
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد * لقد زادني مسراك وجدا على وجد
لئن هتفت ورقاء في رونق الضحى * على فنن غضّ النبات من الرند
بكيت كما يبكي الوليد ولم يكن * جليدا وأبديت الذي لم يكن يبدي
وقد زعموا أن المحب إذا دنا * يمل وأن النأي يشفى من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا * على أن قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع * إذا كان من تهواه ليس بذي ودّ
السماع في ذلك : النفس طالع من المقام الأعلى كني عنه بالصّبا . والسؤال بالزمان لإحساسه به في عالم التركيب أثرا لا عينا لعلوّها عن ذلك . وكلما توالى السرى زادت المعارف ، فيمكن الشوق ، ويضاعف الوجد والبلوى . ثم قال : لئن هتفت النفس الأبية العلوية في زمان قوة النور الأجلي صارخة على فنن الاعتدال الأكمل ، الذي نشأ الكامل عليه في أول أمره ، وجعله زندا للدهن الذي به مادة بقاء الأنوار ، وما فيه من المنافع ، يكتب يقول : للنفس الحرية كما يبكي الوليد من الولادة ، لأنها منها . فجاء بما يشير به من الألفاظ إليها ، وكيف يكون جليدا فرع دعاه أصله إليه فأبدى ما لديه .
وقد زعموا وهو حق أن المحبّ إذا دنا من عالم الملك يمل وأن النأي البعيد عنه يريح من الألم صحيح ، فهذا أنبأ عن أمر محقق ، فالتجلي هناك لا يتكرر ، والنعيم له مثله فلا ملل ، وقد تداوى المجنون بهما ، وقرب دار كل محب حيث كان حبيبه خير له من بعدها ، وكنى عن النفس بالورقاء ، كما كنّت الحكماء عنه بهذا الاسم ، وفيها يقول بعضهم القصيدة التي شهرت بين العلماء :
هبطت إليك من المحل الأرفع * ورقاء ذات تعزّز وتمنّع
محجوبة عن كل مقلة ناظر * وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما * كرهت فراقك وهي ذات تفجّع
أنفت وما سكنت فلما واصلت * ألفت مجاورة الخراب البلقع
وأظنها نسيت عهودا في الحمى * ومنازلا لفراقها لم تقنع
حتى إذا نزلت بهاء هبوطها * عن ميم مركزها بذات الأجرع
“ 205 “
علقت بها تاء الثقيل فأصبحت * بين المنازل والطلول الخضّع
تبكي إذا ذكرت ديارا بالحمى * بمدامع تهمي ولم تتقطّع
وتظل ساجمة على الدّمن التي * درست بتكرار الرياح الأربع
حتى إذا قرب المسير من الحمى * ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
إذ عاقها الشرك الكثيف وصدها * نقص عن الأوج الفسيح المربع
هجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت * ما ليس يدرك بالعيون الهجّع
وغدت مفارقة لكل مخالف * عنها حليف الترب غير مشيّع
فلأي شيء أهبطت من شاهق * سام إلى قعر الحضيض الأوضع
فهبوطها إن كان ضربة لازب * فتكون سامعة لما لم يسمع
فتصير عارفة بكل حقيقة * في العالمين فخرقها لم يرقع
إن كان أرسلها الإله لحكمة * خفيت عن الفطن اللبيب الأروع
فهي التي قطع الزمان طريقها * حتى لقد غربت بعين المطلع
وغدت تغرّد فوق ذروة شاهق * والعلم يرفع كل من لم يرفع
فكأنها برق تألق بالحمى * ثم انطوى فكأنه لم يلمع
وكتبت إلى صاحب لي ببلاد الروم اسمه إسحاق بن محمد من أصحاب السلطان ممن تخدمه الدولة وتظهر به السنّة :
إسحاق فاسمع لوعظ من أخي ثقة * ولا يغرّنك تقريب السلاطين
إن الملوك قد استغنوا بملكهم * عنّا وعمّا بأيديهم من الدين
فاستغن باللّه عن ملك الملوك وعن * سؤال من هو مسكين ابن مسكين
فاللّه يكفيك يا عيني ويا ولدي * شرّ الملوك وأشرار الشياطين
بالبيت بالحجر بالأركان أسأله * باللوح بالقلم الأعلى وبالنون
إن قلت صدقني أو بتّ سامرني * ولا يزال يناديني ويسليني
ولنا من الرموز العلوية ومن الإشارات الغزلية :
أيا روضة الوادي أجب ربة الحمى * وذات الثنايا الغرّ يا روضة الوادي
وظلّ عليها من ظلالك ساعة * قليلا إلى أن يستقر بها النادي
وتنصب بالأجواز منك خيامها * فما شئت من ظلّ غداء لميّاد
وما شئت من ظل ظليل ومن جنى * شهي لدى الجاني يميس بميّاد
ومن ناشد فيها زرود ورملها * ومن منشد حاد ومن مرشد هاد
“ 206 “
ولنا من هذا الباب :
وأحربا من كبدي وأحربا * وأطربا من خلدي وأحربا
في كبدي نار جوى محرقة * في خلدي بدر دجى قد غربا
يا مسك يا بدر ويا غصن نقي * ما أورق ما أنور ما أطيبا
يا مبسما أحببت منه الحببا * ويا رضابا ذقت منه الضربا
يا قمرا في شفق من خفر * نجده لاح لنا منتقبا
لو أنه يسفر عن برقعه * كان عذابا فلهذا احتجبا
شمس ضحى في فلك طالعه * غصن نقي في روضة قد نصبا
ظللت لها من حذر مرتقبا * والغصن أسقيه سماء صيّبا
إن طلعت كانت لعيني عجبا * أو غربت كانت لحيتي سببا
مذ عقد الحسن على مفرقها * تاجا من التبر عشقت الذهبا
لو أن إبليس رأى من آدم * نور محياها عليه ما أبا
لو أن إدريس رأى ما رقم ال * حسن بخدّيها إذا ما كتبا
لو أن بلقيس رأت رفرفها * ما خطر العرش ولا الصرح ببا
يا سرحة الوادي ويا بان النقا * أهدي لنا من نشركم مع الصّبا
ممسكا يفوح ريّاه لنا * من زهر أهضابك أو زهر الربا
يا بانة الوادي أرينا فننا * في لين أعطاف لها أو قضبنا
ريح صبا تخبر عن عصر صبا * بحاجر أو بمنى أو بقبا
أو بالنقا فالمنحنى عند الحمى * أو لعلع حيث مراتع الظبا
لا عجب لا عجب لا عجبا * من عربيّ يتهادى العربا
يغني إذا ما صدحت قمرية * بذكر من يهواه فيها طربا
ولنا من هذا الباب ، وفيه تنبيه على قوله تعالى : قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ، وكون الحق تعالى ما ذكر في القرآن من الأسماء التي هي أمهات إلا ثلاثة : اللّه ، والرحمن ، والرب . وما عداها في نعوت للّه ، وقد يقع الرحمن نعتا .
أيضا قولنا :
بذي سلم والدير من حاضر الحمى * ظباء تريك الشمس في صور الدّما
فارقب أفلاكا وأخدم بيعة * واحرس روضا بالربيع منمنما
فوقتا أسمّي راعي الظبي بالفلا * ووقتا أسمّي راهبا ومنجّما
“ 207 “
تثلث محبوبي وقد كان واحدا * كما صيّروا الأقنام بالذات أقنما
فلا تنكرن يا صاح قول غزالة * تضيء لغزلان يطفن على الدّما
فللظبي أجيادا وللشمس أوجها * وللدّمية البيضاء صدرا ومعصما
كما قد أعرنا للغصون ملابسا * وللروض أخلاقا وللبرق مبسما
طفت ليلة بالبيت فأدركني التعب ، فقلت : أعتب نفسي على البديهة من غير رويّة :
يا أيها البيت العتيق تعالى * نور لكم بقلوبنا يتلألأ
أشكو إليك مفاوزا قد جئتها * أرسلت فيها أدمعي إرسالا
أمسي وأصبح لا ألذّ براحة * أصل البكور ، وأقطع الآصالا
هذي الركاب إليكم سارت بنا * شوقا وما ترجو بذاك وصالا
إن النياق وإن أضرّ بها الوجا * تسري وترفل في السّرى أرفالا
قطعت إليك سباسبا ورمالا * وجدا وما تشكو لذاك كلالا
ما تشتكي ألم الوجا وأنا الذي * أشكو الكلال لقد أتيت محالا
ولنا في باب الأرواح واللطائف :
ناحت مطوّقة فحنّ حزين * وشجاه ترجيع لها وحنين
جرت الدموع من العيون تفجّعا * لحنينها فكأنهن عيون
طارحتها ثكلى بفقد وحيدها * والثكل من فقد الوحيد يكون
طارحتها والشجو يمشي بيننا * ما إن تبين وإنني لأبين
بي عالج من حبّ رملة عالج * حيث الخيام بها وحيث العين
من كل فاتكة اللحاظ مريضة * أجفانها لظبي اللحاظ جفون
ما زلت أجرع دمعتي من غلبتي * أخفي الهوى عن عاذلي وأصون
حتى إذا صاح الغراب بينهم * فصاح الفراق صبابة المحزون
وصلوا السرى قطعوا البرى فلعيسهم * تحت المحامل رنّة وأنين
عاينت أسباب المنية عندما * أرخوا أزمّتها وشدّ وضين
إن الفراق مع الغرام لقاتل * صعب الفراق مع اللقاء يهون
ما لي عذول في هواها إنها * معشوقة حسناء حيث تكون
ولنا أيضا في هذا الباب :
بين النقا ولعلع * ظباء ذات الأجرع
ترعى بها في خمري * خمائلا وترتع
الجزء 13
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 193 “
السماع في ذلك ، يقول لنفسه : أنت من عالم الخليقة ونزلت إلى عالم الشهوة والطبع ، لكني أهفو إلى العلا بما فيّ من أصالته فيما بقي عليّ من أطمار ما كان كساني ذلك المجد عند الإشهار . قال : تفوح أرواح العلا في أخلاقهم عند التنزّلات لقرب مشاهدة المنزل الذي يجمعهم . والراكبان خاطران علويان مرّا به على حاله ، فسألهما الخبر عن المقام العالي الأنزه : هل روّضت قاعة الطبيعة ؟ وهل نزلت غيوث الحياة لساحتها ؟ فأنبتت ما يؤدي إلى البينونة من الكون والغيرة من ظهور الغير هنالك ، فأثبت له الحق الخاطر ، أن يكرمه على ما أخبر ، إلى أن نزل عليه روحه الخاص به الذي كني عنه بالنفس ، فعقل عنهما ما جاء به وأودعهما حديثه بلسان الحال من جري الدموع على مفارقة الأوطان والربوع .
قوله : أم هل أبيت ، أي سترى عن ظلام الغيب ، ودار عند كل كاظمة من كظم غيظه خلقا جميلا ، وسمّار ذاك الحي سماري ، بالترداد بيني وبينهم بما يكون فيه علو مقامي وارتفاع شأني .
ومن باب الفخر
سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلا ينشد :
إني امرؤ حميريّ حين تنسبني * لا من ربيعة آبائي ولا مضر
فقال : « ذلك الأمر لك أبعد من اللّه ورسوله » .
ومرّ العباس بن عبد المطلب بنفر من قريش يقولون : إنما مثل محمد في أهله مثل نخلة نبتت في كناسة ، فبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فوجد منه ، فخرج حتى قام فيهم خطيبا ، ثم قال : « أيها الناس من أنا ؟ » ، قالوا : أنت رسول اللّه ، قال : « فأنا محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم ، إن اللّه تعالى خلق خلقه فجعلني من خير الفريقين ، ثم جعلهم شعوبا فجعلني من خيرهم شعبا ، ثم جعلهم بيوتا فجعلني من خيرهم بيتا ، فأنا خيركم بيتا ، وخيركم والدا ، وإني لمباه لكم . قم يا عباس » ، فقام عن يمينه ، ثم قال : « قم يا سعد » ، فقام عن يساره ، فقال : « فربّ لامرئ منكم عمّا مثل هذا وخالا مثل هذا » .
ولبعضهم يفتخر :
إذا مضر الحمراء كانت أرومتي * وقام بنصري حازم وابن حازم
عطست بأنف شامخ وتناولت * يداي الثريا قاعدا غير قائم
قلت : ولقد فخرت بأحسن من هذا فقلت :
“ 194 “
لنا همّة أن الثريا لدونها * نعم ولنا فوق السماكين منزل
تقدمت سبقا في المكارم والعلا * وفي كل ما ينكي العدا أنا أول
ولم ألف صمصاما بقدر عزيمتي * ولو جمعوا الأسياف عزمي أفضل
كذلك جودي لا يفي الغيث والثرى * إذا كان أموالا به حين أبذل
إذا التحم الجمعان في حومة الوغى * وكانت نزالا ما عليه معوّل
نضيت حساما للردى في فرنده * شعاع له بين الفريقين فيصل
له عزمة لا تبتغي غير كبشهم * فليس له عن قمة الهام معدل
حملت به لا أرهب الموت والردى * ولا أبتغي حمدا له النفس تعمد
ولكن ليعلو الدين عزّا وشرعة * إلى موضع عنه الطواغيت تسفل
أنا العربي الحاتمي أخو الندى * لنا في العلا المجد القديم المؤثل
فكلّا فعزمي ليس يسمو إلى العلا * ألا كيف يسمو والعلا منه أسفل
ولنا أيضا من قصيدة أفتخر فيها :
أنا ابن الرابعين إذا انتسبنا * وعندي صار خمس المسلمينا
بشرى سيف بن ذي يزن لعبد المطلب برسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وخلافة بني العباس حين وفد عليه في وفد قريش
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه قال : ثنا سليمان إملاء ، ثنا أحمد بن يحيى بن خالد الراقي ، نبأ عمرو بن بكر بن بكّار القصيّ ، عن أحمد بن قاسم الطائي ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : لما ظهر سيف بن ذي يزن على اليمن فظفر بالحبشة ونفاهم عنها ، وذلك بعد مولد النبي صلى اللّه عليه وسلم بسنتين ، أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها تهنّئه وتمدحه ، وتذكر ما كان من بلائه في طلب ثأر قومه ، فأتاه وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم ، وأمية بن عبد شمس ، وعبد اللّه بن جدعان ، وخويلد بن أسد بن عبد العزّى ، ووهب بن عبد مناف بن زهرة ، في أناس من وجوه قريش ، فقدموا عليه بصنعاء ، وهو في رأس قصر له يقال له غمدان ، وهو الذي قال فيه أمية بن أبي الصلت :
لا تطلب الثأر إلا كابن ذي يزن * يتمّم البحر للأعداء أخوالا
أتى هرقل وقد شالت نعامته * لم يجد عنده النصر الذي شالا
ثم انتهى عنه كسرى بعد تاسعة * من السنين يهين النفس والمالا
حتى أتى ببني الأحزان يحملهم * تخالهم فوق متن الأرض أجبالا
“ 195 “
من مثل كسرى شهنشاه الملوك لهم * ميل وهدي يؤم الجيش أرسالا
للّه درهم من فتية صبروا * ما إن رأيت لهم في الناس أمثالا
بيض مرازبة غلب حجا حجة * أسد يربين في الغيضات أشبالا
يرمون عن شدف كأنها غيظ * بزمخر تعجل المرمى إعجالا
لا يضجرون وإن كلّت نوائلهم * ولا ترى منهم في الطعن ميّالا
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد * أضحى شديدهم في الناس إقلالا
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا * في رأس غمدان دار منك محلالا
واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم * واسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
قال : فاستأذنوا عليه ، فأذن لهم ، فإذا الملك متضمّخ بالعنبر ينطف ، وبيض المسك من مفرقه ، وعن يمينه وعن شماله الملوك وأبناء الملوك والمقاول ، فلما دخلوا عليه دنا منه عبد المطلب فاستأذن في الكلام ، قال له سيف بن ذي يزن : إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنّا لك .
فقال عبد المطلب : أيها الملك ، إن اللّه قد أحلّك محلا رفيعا شامخا منيعا ، وأنبتك منبتا طابت أروبته ، وعذبت جرثومته ، وثبت أصله ، وبسق فرعه ، في أطيب موطن ، وأكرم معدن ، فأنت أبيت اللعن رأس العرب ، وربيعها الذي تخصب به ، وأنت أيها الملك رأس العرب الذي له تنقاد ، وعمودها الذي عليه العماد ، ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد ، سلفك لنا خير سلف ، وأنت لنا منهم خير خلف ، فلم يهلك من أنت خلفه ، ولم يخمد ذكر من أنت سلفه ، نحن أيها الملك أهل حرم اللّه ورسوله ونبيّه ، أشخصنا إليك الذي أبهجنا لكشف الكرب الذي فدحنا ، ونحن وفد التهنية لا وفد المرزية .
فقال سيف بن ذي يزن : وأيهم أنت أيها المتكلم ؟ قال : أنا عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف . قال : ابن أختنا . قال : نعم . فأدناه ثم أقبل عليه وعلى القوم .
قال : مرحبا وأهلا ، وناقة ورحلا ، ومناخا سهلا ، وملكا رعلا ، يعطي عطاء جزلا . قد سمع الملك مقالتكم ، وعرف قرابتكم ، وقبل وسيلتكم ، وأنتم أهل الليل والنهار ، لكم الكرامة إذا أقمتم ، والحباء إذا أظعنتم ، انهضوا إلى دار الضيافة والوفود . وأمرهم بالإنزال ، فأقاموا شهرا لا يصلون إليه ، ولا يؤذن لهم في الانصراف .
ثم انتبه لهم انتباهة ، فأرسل إلى عبد المطلب دونهم ، فلما دخل عليه أدناه وقرّب مجلسه واستحباه ، ثم قال له : يا عبد المطلب ، إني مفوّض إليك من سرّ علمي ما لو غيرك يكون لم أبح به ، ولكن وجدتك معدنه ، فأطلعتك طلعه ، فليكن عندك مطويا حتى يأذن اللّه فيه ، فإن اللّه تعالى بالغ أمره ،
“ 196 “
إني أجد في الكتاب المكنون ، والعلم المخزون ، الذي اخترناه لأنفسنا ، واحتقبناه دون غيرنا ، خبرا عظيما ، وخطرا جسيما ، فيه شرف الحياة ، وفضيلة الوفاة ، للناس كافة ، ولرهطك عامة ، ولك خاصة .
فقال عبد المطلب : مثلك أيها الملك من سرّك وبرّ ، فما هو ؟ فذاك أهل الوبر زمرا بعد زمر . قال : إذا ولد بتهامة غلام به علامة ، بين كتفيه شامة ، كانت له الإمامة ، ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة . قال عبد المطلب : أبيت اللعن ، لقد أبت بخير ما آب به وافد قومك ، ولولا هيبة الملك وإعظامه وإجلاله لسألته من سأراه إياي ما ازداد به سرورا .
قال سيف بن ذي يزن : هذا حين يولد فيه أو قد ولد ، اسمه محمد ، بين كتفيه شامة ، يموت أبوه وأمه ، ويكفله جده وعمه ، قد وجدناه مرارا ، واللّه باعثه جهارا ، وجاعل له منا أنصارا ، يعزّ بهم أولياءه ، ويذل بهم أعداءه ، ويضرب بهم الناس عن عرض ، ويستبيح بهم كرائم الأرض ، يعبد الرحمن ، ويزجر الشيطان ، ويخمد النيران ، ويكسر الأوثان ، قوله فصل ، وحكمه عدل ، يأمر بالمعروف ويفعله ، وينهى عن المنكر ويبطله .
قال عبد المطلب : أيها الملك ، عز جارك ، وسعد جدك ، وعلا كعبك ، ونما أمرك ، وطال عمرك ، ودام ملكك ، فهل الملك سارّي بإفصاح ، فقد أوضح بعض الإيضاح . قال سيف بن ذي يزن : والبيت ذي الحجب ، والعلامات ذي النقب ، إنك يا عبد المطلب لجده بلا كذب .
قال : فخرّ عبد المطلب ساجدا . فقال سيف : ارفع رأسك ، فقد ثلج صدرك ، وعلا أمرك ، فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك ؟ قال عبد المطلب : نعم أيها الملك ، إنه كان لي ابن ، وكنت به معجبا ، وعليه رفيقا ، فزوّجته كريمة من كرائم قومي : آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة ، فجاءت بغلام وسمّيته محمدا ، ومات أبوه وكفلته أنا وعمه ، بين كتفيه شامة ، وفيه كلما ذكرت من علامة .
فقال سيف : إن الذي ذكرت لكما ذكرت ، فاحتفظ به ، واحذر عليه اليهود ، فإنهم له أعداء ، ولن يجعل اللّه لهم عليه سبيلا ، واطو ما ذكرت لك دون هذا الرهط الذي معك ، فإني لست آمن أن يدخلهم التحاسد من أن يكون لك الرئاسة فيبغون لك الغوائل ، وينصبون له الحبائل ، وهم فاعلون أو أبناؤهم ، ولولا أني أعلم أن الموت محتاجي قبل مبعثه ، لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار ملكه ، فإني أجد في الكتاب الناطق ، والعلم السابق ، أن بيثرب استحكام أمره ، وموضع قبره ، وأهل نصرته ، ولولا أني أقيه من الآفات ، وأحذر عليه من العاهات ، لأوطأت أسنان العرب كعبه ، ولأعلنت على حداثة من سنّه ذكره ، ولكني صارف إليك من غير تقصير بمن معك .
“ 197 “
ثم أمر لكل رجل منهم بمائة من الإبل ، وعشرة أعبد ، وعشرة إماء ، وعشرة أرطال فضة ، وخمسة أرطال من الذهب ، وكرش مملوء عنبرا ، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك ، وقال له : إذا كان رأس الحول فائتني بخبره ، وما يكون من أمره .
فهلك سيف بن ذي يزن قبل رأس الحول ، وكان عبد المطلب يقول : لا يغبطني يا معشر قريش رجل منكم لجزيل عطاء الملك وإن كثر ، فإنه إلى نفاد ، ولكن يغبطني بما يبقي له شرفه وذكره ، ولعقبي من بعدي . فكان إذا قيل له : وما ذاك ؟ قال : سيعلن ولو بعد حين .
وفي ذلك يقول أمية بن أبي الصّلت :
جلبنا النصح معقبة المطايا * على أكوار جمال ونوق
مغلغلة مرافقها تعالى * إلى صنعاء من فجّ عميق
نؤمّ بها ابن ذي يزن وتفري * بطون خفافها أمّ الطريق
ونلمح من مخايله بروقا * مواصلة الوميض إلى بروق
فلما واقعت صنعاء صارت * بدار الملك والحسب العتيق
وفي الحديث المشهور عن ابن عباس أن الحبر قال لعبد المطلب : أشهد أن في إحدى يديك ملكا ، وفي الأخرى نبوءة ، وذلك قبل تزويج عبد اللّه في بني زهرة ، فكان كما قال : النبوّة والخلافة العباسية .
شرح
شدف المعوجّ من كل شيء : وارد به القسي . والزّجر : النشاب . والإرسال :
الجماعات . والنوانك : جمع نانك ، وهي الناقة الحسناء ذات الشحم ، يقال لها : نانك الناقة ، تنوك ، نوكا إذا سمنت . والمرزية بفتح الميم ، والرزية : المصيبة . الريحل والسبحل : الضخم . احتجناه : أي اخترناه . والزعامة : السيادة والتقدم .
احتقبت البعير :
إذا شددت رجله بالحقب ، وهو الحبل الذي يشدّ به .
ذكر الإمام أبو الفرج بن الجوزي في كتابه « مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن » قال : قال شاه بن شجاع الكرماني : دخلت البادية فرأيت غلاما أمرد كأنه موسوس لا يألف أهل القافلة ، فساعة يشير إلى السماء ، وساعة يصيح ، فقمت لأنظر في شأنه ومن أين معاشه ، ولم يكن معه زاد ، ولا غطاء ، ولا وطاء . فراقبته يوما فدخل وسط أشجار أم
“ 198 “
غيلان ، فتبعته فإذا هو يجني من شجره شيئا يأكله ، فلما بصر بي أنشأ يقول :
باعتزالي عنكم في الخلوات * صار طعمي التمر وسط الفلوات
من استنصر ببسم اللّه الرحمن الرحيم
روينا من حديث الدنهوري قال : حدثنا إبراهيم بن سهلويه ، عن عبد اللّه بن عبد الوهاب ، عن نافع عن ابن عمر قال : بينما عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، في جماعة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يتذكرون فضائل القرآن . فقائل منهم خاتمة سورة البقرة ، وقائل خاتمة بني إسرائيل ، وقائل كهيعص ، وطه .
وأكثروا في القول ، وفي القوم عمرو بن معدي كرب الزبيدي في ناحية إذ قال : يا أمير المؤمنين ، فأين أنتم من عجيبة بسم اللّه الرحمن الرحيم ؟
فو اللّه إنّ في بسم اللّه الرحمن الرحيم لعجيبة من العجب .
فاستوى عمر جالسا وكان متكئا ، وكان يعجبه حديث عمرو فقال له : يا أبا ثور ، حدّثنا بعجيبة بسم اللّه الرحمن الرحيم .
فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه أصابنا في الجاهلية مجاعة شديدة ، فاقتحمت بفرسي البرية أطلب شيئا ، فو اللّه ما أصبت إلا بيض النعام ، وإن فرسي لتلتئم من فناء البرية .
فبينما أنا كذلك ، إذ رفعت لي خيمة وماشية ، فأتيت الخيمة فإذا بجارية كأحسن البشر ، وإذا بفناء الخيمة شيخ متكئ ، فقلت لما داخلني من هول الجارية ومن ألم الجوع : استأسر ، ثكلتك أمك .
فقال : يا هذا ، إن أردت القرى فانزل ، وإن أردت معونة أعنّاك .
فقلت : استأثر ثكلتك أمك . فقال لي مثل قوله الأول ، ونهض نهوض شيخ لا يقدر على القيام ، فدنا مني وهو يقول : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، ثم جذبني إليه فإذا أنا تحته وهو فوقي ، فقال : أقتلك أم أخلّي عنك ؟ فقلت : بل خلّ عني .
فنهض عني وهو يقول :
عرضنا عليك النزل منا تكرّما * فلا ترعوي جهلا كفعل الأشائم
وجئت بعدوان وظلم ودون ما * تمنيته في البيض حرّ الغلاصم
فقلت في نفسي : يا عمرو ، أنت فارس العرب للموت أهون من الهرب من هذا الشيخ الضعيف ، فدعتني نفسي إلى معاودته ثانية ، وأنشأت أقول :
رويدك لا تعجل بليت بصارم * سليل المعالي هزبريّ قماقم
لئن ذلّ عمرو ثم ذلّ عجيبة * ولم يك يوما للبراز بحاجم
طمعت لما منّتك نفسك تسلمن * سقتك المنايا كأسها بالصرائم
فما لك بدل دون نفسك تسلمن * هنالك أو تصبر لحزّ الغلاصم
“ 199 “
فما دون ما تقواه للنفس مطمع * سوى أن أجزّ الرأس منك بصارم
ثم قلت له : استأسر ثكلتك أمك ، فدنا مني وهو يقول : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، ثم جذبني جذبة مثلت تحته ، فاستوى على صدري وقال : أقتلك أم أخلّي عنك ؟ فقلت : بل خلّ عني . فنهض وهو يقول :
ببسم اللّه والرحمن فزنا * قديما والرحيم به قهرنا
وهل تغني جلادة ذي حفاظ * إذا يوما لمعركة نزلنا
وهل شيء يقوم لذكر ربي * وقدما بالمسيح هناك عذنا
سأقصم كل ذي جنّ وإنس * إذا يوما لمعضلة حللنا
فعاودتني نفسي ، فقلت : استأسر ثكلتك أمك . فدنا مني وهو يقول : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، فملئت منه رعبا يا أمير المؤمنين ، وكنا لا نعرف مع اللات والعزّى شيئا .
ثم دنا مني وجذبني جذبة فصرت تحته ، فقلت : خلّ عني . فقال : هيهات ! بعد ثلاث مرات ما أنا بفاعل ، ثم قال : يا جارية ، ائتني بشفرة ، فأتت بها ، فجزّ ناصيتي ، ثم نهض وهو يقول :
مننّا على عمرو فعاد لحينه * وثنّى فثنينا فساء وما فعل
وفي اسم ذي الآلاء عزّ ورفعة * ومحترز لو كان سامعه عقل
وكنا يا أمير المؤمنين إذا جزّت نواصينا استحينا أن نرجع إلى أهلنا حتى تنبت ، فرضيت أن أخدمه حولا . فلما حال الحول قال : يا عمرو ، إني أريد أن تنطلق معي إلى البرّية وما بي من وجل ، وإني لواثق ببسم اللّه الرحمن الرحيم ، فانطلقت معه حتى أتى واديا فهتف بأهله ببسم اللّه الرحمن الرحيم فلم يبق طائر في وكره إلا طار ، ثم هتف الثانية فلم يبق سبع في مربضه إلا نهض ، ثم هتف الثالثة فإذا هو بأسود كالنخلة السحوق ، وإذا هو لابس شعرا فرعبت ، فقال الشيخ : لا ترع يا عمرو إذا نحن اصطرعنا ،
فتلا عليه صاحبي :
بسم اللّه الرحمن الرحيم ، قال : فاصطرعا . فقلت : عليه باللّات والعزّى ، فلطمني لطمة كاد يقلع رأسي ، فقلت له : لست بعائد ، فاصطرعا ، فقلت : عليه ببسم اللّه الرحمن الرحيم ، قال : فعلاه الشيخ فبعجه كما تبعج الفرس ، وشق بطنه واستخرج منه كهيئة القنديل الأسود .
فقال لي : يا عمرو هذا غشه وكفره ، فقلت له : فداك أبي وأمي ما لك ولهذا القوم ؟
فقال : يا عمرو ، إن الجارية التي رأيتها في الخباء هي الفارعة بنت المسور ، وكان رجلا من الجنّ ، وكان مؤاخيا لي ، وكان على دين المسيح عليه السلام ، وهؤلاء قومها يغزوني كل سنة منهم رجل فينصرني اللّه عليه ببسم اللّه الرحمن الرحيم . فانطلقنا
“ 200 “
حتى أمعنّا في البرية ، قال : يا عمرو ، قد رأيت ما كان مني وأنا جائع فالتمس لي شيئا آكله ، فالتمست فما وجدت له إلا بيض النعام ، فأتيته وهو نائم ، وقد توسد إحدى يديه ، وتحته سيفه وهو سيف طوله سبعة أشبار ، وعرضه أقلّ من شبرين ، وهو الصمصامة ، فاستخرجت سيفه من تحته فضربته ضربة قطعت منه الساقين ،
فقال : يا غدّار ما أغدرك . فلم أزل أضربه حتى قطعته إربا إربا .
فغضب عمرو رضي اللّه عنه وقال : وأنا أقول كما قال العبد : ظفر بك رجل من المسلمين ، فأنعم عليك ثلاث مرات ووجدته نائما فقتلته .
واللّه لو كنت مؤاخذك في الإسلام بما فعلت في الجاهلية لقتلتك به .
ثم أنشأ عمر يقول :
إذا قتلت أخا في السلم تظلمه * أفّ لما جئته في سالف الحقب
الحرّ يأنف مما أنت تفعله * تبّا لما جئته في العجم والعرب
لو كنت آخذ في الإسلام ما فعلت * في الجاهلية أهل الشرك والصلب
إذا لنالتك من عدلي مشطبة * يدعى لذائقها بالويل والحرب
ثم قال : ما كان من حديثه يا عمرو ، قال : فأتيت الخيمة فاستقبلتني الجارية فقالت :
يا عمرو ، ما فعل الشيخ ؟ قلت : قتله الحبشيّ ، قالت : كذبت ، قتلته أنت يا غدّار ،
ثم دخلت الخيمة فجعلت تبكي وتقول :
عين جودي لفارس مغوار * فاندبيه بواكفات غزار
سبع وهو ذو وفاء وعهد * ورئيس الفخار يوم الفخار
لهف نفسي على بقائك يا عم * رو وأسلمته والحماة للأقدار
بعد ما جزّ ما به كنت تسمو * في زبيد ومعشر الكفّار
ولعمري لو رمته أنت حقا * رمت منه كصارم بتّار
فجزاك المليك سوءا وهونا * عشت منه بذلّة وصغا
قال : فدخلت الخيمة أريد قتلها فلم أر أحدا كأنّ الأرض قد ابتلعتها ، فاقتلعت الخيمة ، وسقت الماشية حتى أتيت بها قومي بني زبيد .
دعاء مأثور لذنب مغفور
حدثنا ببغداد سنة ثمان وستمائة صاحبنا الإمام سراج الدين عمر بن مكي بن علي بن محمد بن عبد اللّه الجوزي قال : رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المنام ، فقال : « من أراد أن يغفر اللّه له فليدع بهذا الدعاء وهو : اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفّة والغنى ، فائتنا سؤلنا ،
“ 201 “
وارزقنا أمنيتنا » . أو قال : « فائتني في الدنيا والآخرة حسنة برحمتك يا أرحم الراحمين » .
الشك من الراوي ولا يدري أيهما ؟
قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : " فينبغي أن يجمع بينهما " .
وحدثنا ببغداد في التاريخ أبو عبد اللّه محمد بن سعيد بن يحيى بن علي بن الرئيس لفظا قال : حدثنا أبو نصر يحيى بن هبة اللّه بن محمد البزار بواسط قراءة مني عليه ، قال : سمعت أبا المكرم خميس بن علي الحافظ يقول : سمعت أبا محمد طلحة بن علي الرازي الصوفي يقول : رأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم ببغداد في مسجد عتّاب ، والمسجد غاص بأهله ، وهو عليه الصلاة والسلام في المحضر ، وعليه بردة كحلاء ، وهو متقلد سيفا ، وفي الجماعة أبو محمد التميمي وهو يقول له : يا رسول اللّه ، ادع اللّه لنا ، فبسط كفيه وقال ، وأنا أقول معه : « اللهم إني أسألك حسن الاختيار في جميع الأقدار " .
ومما قلته وأنا منفرد بفلاة يتما :
وليّ اللّه ليس له أنيس * سوى الرحمن فهو له جليس
يذكّره فيذكره فيبكي * وحيد الدهر جوهره نفيس
ولنا في المعارف من باب التشبيب :
طلع البدر في دجى الشعر * وسقى الورد نرجس الخفر
غادة تاهت الحسان بها * وزها نورها على القمر
هي أسنى من المهاة سنا * صورة لا تقاس بالصور
فلك النور دون أخمصها * تاجها خارج عن الأكر
إن سرت في الضمير يجرحها * ذلك الوهيم كيف بالبصر
لعبة ذكرنا يذوّبها * لطغت من مسارح النظر
طلب النعت أن يبيّنها * فتعالت فعاد ذا حصر
وإذا رام أن يكيّفها * لم يزل ناكصا على الأثر
إن أراح المطيّ طالبها * ما أراحوا مطيّة الفكر
روحنت كل من أشبّ بها * نقله عن مراتب البشر
غيرة أن يشاب رائقها * بالذي في الحياض من كدر
تمّ المجلس .
روينا من حديث ابن إسحاق عن الكلبيّ عن أبي صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس ، قال : كانت العرب على دينين : حلة وحمس .
فالحمس قريش وكل من ولدت العرب :
كنانة ، وخزاعة ، وأوس ، وبنو ربيعة بن عامر بن صعصعة ، وأزد شنوءة ، وحوم ، وزبيد ،
“ 202 “
وبنو ذكوان من سليم ، وعمرو اللّات ، وثقيف ، وغطفان ، وعوف ، وعدوان ، وعلاق ، وقضاعة .
وكانت قريش إذا أنكحوا غريبا امرأة منهم اشترطوا عليه أن كل من ولدت فهو أحمس على دينهم . وزوّج الأردم تميم بن غالب بن فهر بن مالك ابنة محمد بن تيم بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، على أن ولدها منه أحمس على سنّة قريش . وفيها يقول لبيد بن ربيعة الكلبيّ :
سقى قومي بني مجد وأسقى * نميرا والقبائل من هلال
وتزوج منصور بن عكرمة بن حفصة بنت سلمى بنت ضبيعة بن علي بن يعصر بن قيس بن غيلان ، فولدت له هوازن ، فمرض مرضا شديدا ، فنذرت سلمى لئن برئ لتحمسنه ، فلما برئ أحمسته . فلم تكن نساؤهم ينسجن ولا يغزلن الشعر ولا يسلين السمن إذا أحرموا .
وكانت الحمس إذا أحرموا لا يأقطون الأقط ، ولا يأكلون السمن ، ولا يسلونه ، ولا يمخضون اللبن ، ولا يأكلون الزبد ، ولا يلبسون الوبر ، ولا يلبسون الشعر ولا الوبر ، ولا ينسجونه ، وإنما يستظلون بالأدم ، ولا يأكلون شيئا من نبات الحرم ، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ، ولا يحفزون فيها بدنة ، ويطوفون بالبيت وعليهم ثيابهم . وكانوا إذا أحرم الرجل منهم في الجاهلية وأول الإسلام ، فإن كان من أهل المدر يعني من أهل البيوت والقرى ، نقب نقبا في ظهر بيته ، فمنه يدخل ، ومنه يخرج ، ولا يدخل من بابه .
وكانت الحمس تقول : لا تعظّموا شيئا من الحل ، ولا تجاوروا الحرم في الحج ، فلا يهاب الناس حرمكم ، فقصّروا عن مناسك الحج والمواقف من عرفة ، وهو من الحلّ ، فلم يكونوا يقفون به ، ولا يفيضون منه ، وجعلوا موقفهم في الحرم ، ومن نمرة ، وكانوا يدفعون في غروب الشمس .
وكانت الحمس إذا أحرمت وأرادت دخول بيتها تسوّرت من ظهور البيوت وأدبارها .
ويحرّمون الدخول من أبوابها حتى بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم فأحرم عام الحديبية ، ودخل بيته ، وكان معه رجل من الأنصار ، فوقف الأنصاري بالباب فقال له : « ألا تدخل ؟ » ، فقال الأنصاري ؛ أنا أحمس يا رسول اللّه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « وأنا أحمس ، ديني ودينك سواء » . فدخل الأنصاري مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما رآه دخل من بابه ، فأنزل اللّه تعالى : وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها .
وكانت الحلة تطوف بالبيت ، أول ما يطوف الرجل والمرأة في أول حجة يحجّها
“ 203 “
عراة ، فكانت المرأة تضع إحدى يديها على قبلها ، والأخرى على دبرها ، ثم تقول : اليوم يبدو بعضه ، أو كله ، وما بدا منه ، فما أحلّه إلا أن يستعيروا من الحمس ثيابا يطوفون بها .
حتى إنهم كانوا يقفون عند باب المسجد فيقولون للحمس : من يعير معوزا ، من يعير مصونا ؟ فإن أعاره أحمسي ثوبه طاف به ، ولا يرون أنهم يطوفون بالثياب التي قارفوا فيها الذنوب .
وحدثنا محمد بن قاسم ، حدثنا أحمد بن محمد ، ثنا ابن علي ، ثنا محمد بن أحمد ، ثنا ابن الجارحي ، ثنا محمد بن يحيى ، ثنا عبد اللّه بن المغيرة ، ثنا عقارة بن مسلم ، ثنا حمّاد بن سلمة ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « لا يكمل إيمان عبد حتى تكون فيه خمس خصال : التوكل على اللّه ، والتفويض إلى اللّه ، والتسليم لأمر اللّه ، والرضا بقضاء اللّه ، والصبر على بلاء اللّه . إنه من أحبّ للّه ، وأبغض للّه ، وأعطى للّه ، ومنع للّه ، فقد استكمل الإيمان " .
وحدثنا عبد الواحد بن إسماعيل ، حدثني أبي ، ثنا عمر بن عبد المجيد ، ثنا أحمد بن محمد ، ثنا أبو نصر بن علي ، ثنا أحمد بن عبد اللّه ، حدثنا نصر بن أحمد ، حدثنا أبو يعلى ، حدثنا أحمد بن كامل ، ثنا أبو قلابة ، نبأ الحسين بن حفص ، نبأ سفيان ، عن أحمد ، عن سهيل ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول :
« إن العبد لا يكتب في المسلمين حتى يسلم الناس من يده ولسانه ، ولا ينال درجة المؤمنين حتى يأمن جاره بوائقه ، ولا يعد من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس ، إنه من خاف البيان أدلج ، ومن أدلج في المسير وصل ، وإنما تعرفون عواقب أعمالكم ، لو قد طويت صحائف آجالكم . أيها الناس ، إن نية المؤمن خير من عمله ، ونية الفاسق شرّ من عمله » .
وسماعنا على قول كثيّر عزّة
لقد حلفت جهدا بما حلفت له * قريش غداة المأزمين وصلّت
وكانت لقطع الحبل بيني وبينها * كناذرة نذرا فأوفت وحلّت
فقلت لها يا عزّ كلّ مصيبة * إذا وطنت يوما لها النفس ذلّت
السماع في ذلك : المأزمين ، المضيق الذي بين عالم الغيب والشهادة ، هنالك تنحر النفوس عن أغراضها ، تنحرها حال الجمعية التي كنى عنها بقريش . التقريش : التضييق .
وصلت : دعت إلى مقامها . وذاني : هي الخالفة . وقطع الحبل بيننا : انفصالها عن ظلمة
“ 204 “
هذا الهيكل لما تقاسي فيه من ذلّ الحجاب . ولولا قوتها على الذلّ فيما يصيبها من المقام الأعز الأحمى لهلكت رأسا واحدا ، ولكن الشيء لا يهلك عن حقيقته فالذلّ لها ذاتي ، فإن الإمكان افتقار وعجز محض ، فالذلّ وصف ولازم ، وهو في غير ذلك المقام بالعرض .
وسماعنا على قول ابن الدمينة :
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد * لقد زادني مسراك وجدا على وجد
لئن هتفت ورقاء في رونق الضحى * على فنن غضّ النبات من الرند
بكيت كما يبكي الوليد ولم يكن * جليدا وأبديت الذي لم يكن يبدي
وقد زعموا أن المحب إذا دنا * يمل وأن النأي يشفى من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا * على أن قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع * إذا كان من تهواه ليس بذي ودّ
السماع في ذلك : النفس طالع من المقام الأعلى كني عنه بالصّبا . والسؤال بالزمان لإحساسه به في عالم التركيب أثرا لا عينا لعلوّها عن ذلك . وكلما توالى السرى زادت المعارف ، فيمكن الشوق ، ويضاعف الوجد والبلوى . ثم قال : لئن هتفت النفس الأبية العلوية في زمان قوة النور الأجلي صارخة على فنن الاعتدال الأكمل ، الذي نشأ الكامل عليه في أول أمره ، وجعله زندا للدهن الذي به مادة بقاء الأنوار ، وما فيه من المنافع ، يكتب يقول : للنفس الحرية كما يبكي الوليد من الولادة ، لأنها منها . فجاء بما يشير به من الألفاظ إليها ، وكيف يكون جليدا فرع دعاه أصله إليه فأبدى ما لديه .
وقد زعموا وهو حق أن المحبّ إذا دنا من عالم الملك يمل وأن النأي البعيد عنه يريح من الألم صحيح ، فهذا أنبأ عن أمر محقق ، فالتجلي هناك لا يتكرر ، والنعيم له مثله فلا ملل ، وقد تداوى المجنون بهما ، وقرب دار كل محب حيث كان حبيبه خير له من بعدها ، وكنى عن النفس بالورقاء ، كما كنّت الحكماء عنه بهذا الاسم ، وفيها يقول بعضهم القصيدة التي شهرت بين العلماء :
هبطت إليك من المحل الأرفع * ورقاء ذات تعزّز وتمنّع
محجوبة عن كل مقلة ناظر * وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما * كرهت فراقك وهي ذات تفجّع
أنفت وما سكنت فلما واصلت * ألفت مجاورة الخراب البلقع
وأظنها نسيت عهودا في الحمى * ومنازلا لفراقها لم تقنع
حتى إذا نزلت بهاء هبوطها * عن ميم مركزها بذات الأجرع
“ 205 “
علقت بها تاء الثقيل فأصبحت * بين المنازل والطلول الخضّع
تبكي إذا ذكرت ديارا بالحمى * بمدامع تهمي ولم تتقطّع
وتظل ساجمة على الدّمن التي * درست بتكرار الرياح الأربع
حتى إذا قرب المسير من الحمى * ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
إذ عاقها الشرك الكثيف وصدها * نقص عن الأوج الفسيح المربع
هجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت * ما ليس يدرك بالعيون الهجّع
وغدت مفارقة لكل مخالف * عنها حليف الترب غير مشيّع
فلأي شيء أهبطت من شاهق * سام إلى قعر الحضيض الأوضع
فهبوطها إن كان ضربة لازب * فتكون سامعة لما لم يسمع
فتصير عارفة بكل حقيقة * في العالمين فخرقها لم يرقع
إن كان أرسلها الإله لحكمة * خفيت عن الفطن اللبيب الأروع
فهي التي قطع الزمان طريقها * حتى لقد غربت بعين المطلع
وغدت تغرّد فوق ذروة شاهق * والعلم يرفع كل من لم يرفع
فكأنها برق تألق بالحمى * ثم انطوى فكأنه لم يلمع
وكتبت إلى صاحب لي ببلاد الروم اسمه إسحاق بن محمد من أصحاب السلطان ممن تخدمه الدولة وتظهر به السنّة :
إسحاق فاسمع لوعظ من أخي ثقة * ولا يغرّنك تقريب السلاطين
إن الملوك قد استغنوا بملكهم * عنّا وعمّا بأيديهم من الدين
فاستغن باللّه عن ملك الملوك وعن * سؤال من هو مسكين ابن مسكين
فاللّه يكفيك يا عيني ويا ولدي * شرّ الملوك وأشرار الشياطين
بالبيت بالحجر بالأركان أسأله * باللوح بالقلم الأعلى وبالنون
إن قلت صدقني أو بتّ سامرني * ولا يزال يناديني ويسليني
ولنا من الرموز العلوية ومن الإشارات الغزلية :
أيا روضة الوادي أجب ربة الحمى * وذات الثنايا الغرّ يا روضة الوادي
وظلّ عليها من ظلالك ساعة * قليلا إلى أن يستقر بها النادي
وتنصب بالأجواز منك خيامها * فما شئت من ظلّ غداء لميّاد
وما شئت من ظل ظليل ومن جنى * شهي لدى الجاني يميس بميّاد
ومن ناشد فيها زرود ورملها * ومن منشد حاد ومن مرشد هاد
“ 206 “
ولنا من هذا الباب :
وأحربا من كبدي وأحربا * وأطربا من خلدي وأحربا
في كبدي نار جوى محرقة * في خلدي بدر دجى قد غربا
يا مسك يا بدر ويا غصن نقي * ما أورق ما أنور ما أطيبا
يا مبسما أحببت منه الحببا * ويا رضابا ذقت منه الضربا
يا قمرا في شفق من خفر * نجده لاح لنا منتقبا
لو أنه يسفر عن برقعه * كان عذابا فلهذا احتجبا
شمس ضحى في فلك طالعه * غصن نقي في روضة قد نصبا
ظللت لها من حذر مرتقبا * والغصن أسقيه سماء صيّبا
إن طلعت كانت لعيني عجبا * أو غربت كانت لحيتي سببا
مذ عقد الحسن على مفرقها * تاجا من التبر عشقت الذهبا
لو أن إبليس رأى من آدم * نور محياها عليه ما أبا
لو أن إدريس رأى ما رقم ال * حسن بخدّيها إذا ما كتبا
لو أن بلقيس رأت رفرفها * ما خطر العرش ولا الصرح ببا
يا سرحة الوادي ويا بان النقا * أهدي لنا من نشركم مع الصّبا
ممسكا يفوح ريّاه لنا * من زهر أهضابك أو زهر الربا
يا بانة الوادي أرينا فننا * في لين أعطاف لها أو قضبنا
ريح صبا تخبر عن عصر صبا * بحاجر أو بمنى أو بقبا
أو بالنقا فالمنحنى عند الحمى * أو لعلع حيث مراتع الظبا
لا عجب لا عجب لا عجبا * من عربيّ يتهادى العربا
يغني إذا ما صدحت قمرية * بذكر من يهواه فيها طربا
ولنا من هذا الباب ، وفيه تنبيه على قوله تعالى : قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ، وكون الحق تعالى ما ذكر في القرآن من الأسماء التي هي أمهات إلا ثلاثة : اللّه ، والرحمن ، والرب . وما عداها في نعوت للّه ، وقد يقع الرحمن نعتا .
أيضا قولنا :
بذي سلم والدير من حاضر الحمى * ظباء تريك الشمس في صور الدّما
فارقب أفلاكا وأخدم بيعة * واحرس روضا بالربيع منمنما
فوقتا أسمّي راعي الظبي بالفلا * ووقتا أسمّي راهبا ومنجّما
“ 207 “
تثلث محبوبي وقد كان واحدا * كما صيّروا الأقنام بالذات أقنما
فلا تنكرن يا صاح قول غزالة * تضيء لغزلان يطفن على الدّما
فللظبي أجيادا وللشمس أوجها * وللدّمية البيضاء صدرا ومعصما
كما قد أعرنا للغصون ملابسا * وللروض أخلاقا وللبرق مبسما
طفت ليلة بالبيت فأدركني التعب ، فقلت : أعتب نفسي على البديهة من غير رويّة :
يا أيها البيت العتيق تعالى * نور لكم بقلوبنا يتلألأ
أشكو إليك مفاوزا قد جئتها * أرسلت فيها أدمعي إرسالا
أمسي وأصبح لا ألذّ براحة * أصل البكور ، وأقطع الآصالا
هذي الركاب إليكم سارت بنا * شوقا وما ترجو بذاك وصالا
إن النياق وإن أضرّ بها الوجا * تسري وترفل في السّرى أرفالا
قطعت إليك سباسبا ورمالا * وجدا وما تشكو لذاك كلالا
ما تشتكي ألم الوجا وأنا الذي * أشكو الكلال لقد أتيت محالا
ولنا في باب الأرواح واللطائف :
ناحت مطوّقة فحنّ حزين * وشجاه ترجيع لها وحنين
جرت الدموع من العيون تفجّعا * لحنينها فكأنهن عيون
طارحتها ثكلى بفقد وحيدها * والثكل من فقد الوحيد يكون
طارحتها والشجو يمشي بيننا * ما إن تبين وإنني لأبين
بي عالج من حبّ رملة عالج * حيث الخيام بها وحيث العين
من كل فاتكة اللحاظ مريضة * أجفانها لظبي اللحاظ جفون
ما زلت أجرع دمعتي من غلبتي * أخفي الهوى عن عاذلي وأصون
حتى إذا صاح الغراب بينهم * فصاح الفراق صبابة المحزون
وصلوا السرى قطعوا البرى فلعيسهم * تحت المحامل رنّة وأنين
عاينت أسباب المنية عندما * أرخوا أزمّتها وشدّ وضين
إن الفراق مع الغرام لقاتل * صعب الفراق مع اللقاء يهون
ما لي عذول في هواها إنها * معشوقة حسناء حيث تكون
ولنا أيضا في هذا الباب :
بين النقا ولعلع * ظباء ذات الأجرع
ترعى بها في خمري * خمائلا وترتع
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin