الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء الخامس
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 64 “
ما ضرّهم حين سروا * لو وقفوا وسلّموا
يشوقني واديهم * وضالهم والسلم
وأنشدنا أيضا في هذا الباب :
يا صاحبي إن كنت لي أو معي * فعد إلى أرض الحمى ترتع
وسل عن الوادي وأربابه * وانشد فؤادي في ربى المجمع
حيّ كثيب الرمل رمل الحمى * وقف وسلّم لي على لعلع
واسمع حديثا قد روته الصّبا * سنده عن بانة الأجرع
وابك بما في العين من فضلة * ونب فدتك النفس عن مدمعي
وانزل على الشيح بواديهم * واشمم نبات البلد البلقع
عند منى كنت وكان النوى * فصمّ إلا عنهم مسمعي
لهفي على طيب ليال خلت * عودي تعودي مدنفا قد نعي
إذا تذكرت زمانا مضى * فويح أجفاني من أدمعي
وأنشدنا لأبي القاسم المطرزي :
صحا كل عذريّ الغرام عن الهوى * وأنت على حكم الصبابة نازل
نزلنا على التوديع من دارة الحمى * فضنت علينا بالسلام المنازل
وقال المبرّد : أحسن ما سمعت في حفظ اللسان والسرّ ، ما بلغني عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه :
ولا تفش سرك إلا إليك * فإن لكل نصيح نصيحا
فإني رأيت وشاة الرجا * ل لا يتركون أديما صحيحا
ولبعضهم في هذا الباب من قصيدة :
فلا تود عن الدهر سرّك أحمقا * فإنك إن أودعته منه أحمق
وحسبك في سر الأحاديث واعظا * من القول ما قال الأديب الموفق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه * فصدر الذي يستودع السرّ أضيق
روينا من حديث الهاشمي ، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
« ألا إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، والآخرة قد تحمّلت مقبلة ، ألا وإنكم لفي يوم عمل ليس فيه حساب ، ويوشك أن تكونوا في يوم حساب ليس فيه عمل ، وإن اللّه يعطي الدنيا من يحب ويبغض ، ولا يعطي الآخرة إلا من يحب ، وإن للدنيا أبناء ، وللآخرة أبناء ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا . إن شرّ ما أتخوف عليكم اتّباع الهوى ، وطول
“ 65 “
الأمل ، فاتّباع الهوى يصرف بقلوبكم عن الحق ، وطول الأمل يصرف همتكم إلى الدنيا ، وما بعدهما لأحد من دنيا ولا آخرة » .
ومن حديث أنس بن مالك قال
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « ما من بيت إلا وملك الموت يقف على بابه كل يوم خمس مرات ، فإذا وجد الإنسان قد نفد أجله ألقى عليه غمرات الموت ، فغشيته كرباته ، وغمرته غمراته ، فمن أهل بيته الناشرة شعرها ، والضاربة وجهها ، والباكية بشجوها ، والصارخة بويلها ، فيقول ملك الموت عليه السلام : ويلكم ممن الفزع ؟ وفيم الجزع ؟ ما أذهبت لواحد منكم رزقا ولا قرّبت له أجلا ، ولا أتيته حتى أمرت ، ولا قبضت روحه حتى استأمرت ، وإن لي فيكم عودة ثم عودة حتى لا أبقي منكم أحدا » .
قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : « فوالذي نفس محمد بيده ، لو يرون مكانه ، ويسمعون كلامه ، لذهلوا عن ميّتهم ، ولبكوا على أنفسهم ، حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرفت روحه فوق النعش وهو ينادي : يا أهلي ويا ولدي ، لا تلعبنّ بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال من حلّه ومن غير حلّه ، ثم خلّفته لغيري ، فالمهنّاة له ، والتبعة عليّ ، فاحذروا مثل ما حل بي » .
ومن باب الكرم الإلهي ما روي عن موسى عليه السلام
حدثنا محمد بن قاسم ، نبأ عمر بن عبد المجيد قال : بلغنا أن موسى عليه السلام سجد في بعض تقرّبه وقال : يا رب ، فقال له ربه سبحانه وتعالى : لبيك يا موسى ، فلما سمع موسى عليه السلام تلبية الحق له ، سجد ثانية وقال في سجوده : سبحانك سبحانك أنت أنت ، ومن عبدك حتى تجيبه بالتلبية ؟ فقال له ربه سبحانه وتعالى : يا موسى ، إني آليت على نفسي أن لا يدعوني عبدي بالربوبية إلا أجبته بالتلبية ، فقال موسى : يا رب ، هذا جعلته للطائعين من عبادك دون المذنبين ؟ فقال له سبحانه : يا موسى ، إذا أجبت المحسن لأجل إحسانه ولم أجب المسئ لأجل عصيانه ، فمنعته من فضلي ونعمتي ، فأين عطفي وكرمي ؟
ومن جيد الشعر في الجود والشجاعة
ومن عجب أنّ السيوف لديكم * تحيض دماء والسيوف ذكور
“ 66 “
وأعجب من ذا أنها في أكفّكم * تأجّج نارا والأكفّ بحور
حدّث أبو ذرّ وأحمد بن يحيى ، والسياق لأبي ذرّ ، أن ابن يحيى النديم قال : دعاني أمير المؤمنين المتوكل على اللّه ذات يوم وهو في بعض راحاته ، فقال : يا ابن يحيى ، أنشدني قول عمارة في أهل بغداد ،
فأنشدته :
من يشتري مني ملوك محرّم * أبع حسنا وابني هشام بدرهم
وأعطي رجالا بعد ذاك زيادة * وأمنح دينارا بغير تندّم
فإن طلبوا مني الزيادة زدتهم * أبا دلف والمستطيل بن أكثم
فقال المتوكل : ويلي على ابن النوال على عقبيه يهجو شقيق دولة ولد العباس .
ثم قال لي : يا ابن يحيى ، هل عندك من المديح في أبي دلف القاسم بن عيسى شيء ؟ قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، قول الأعرابي الذي يقول فيه :
أبا دلف إن السماحة لم تزل * مغلّلة تشكو إلى اللّه غلها
فبشّرها ربي بميلاد قاسم * فأرسل جبريلا إليها فحلّها
ومن هذا الباب قول القائل :
حرّ إذا جئته يوما لتسأله * أعطاك ما ملكت كفاه واعتذرا
يخفي صنائعه واللّه يظهرها * إن الجميل إذا أخفيته ظهرا
وقال الآخر :
فتى عاهد الرحمن في بذل ماله * فلست تراه الدهر إلا على العهد
فتى قصرت آماله عن فعاله * وليس على الحر الكريم سوى الجهد
هذا المديح أقرب للديانة من الكرم ، فإن عطاؤه إنما هو من أجل الوفاء بعده من اللّه حتى لا يكون من الذين ينقضون عهد اللّه ، والكريم سجيته الكرم ، فلا يحتاج إلى القسم عليه إلا لعلّة لنفسه ، فما وفّى هذا الشاعر مدح هذا في الكرم ما تصوّر له في خاطره ، فهذا اللفظ دون ما في القصد .
وقال الآخر في هذا الباب :
أرى نفسي تتوق إلى أمور * يقصّر دون مبلغهنّ مالي
فنفسي لا تطاوعني لبخل * ومالي لا يبلّغي فعالي
وقال آخر :
إذا ما أتاه السائلون توقّدت * عليه مصابيح الطلاقة والبشر
“ 67 “
له في ذرى المعروف نعمى كأنها * مواقع ماء المزن في البلد القفر
ينظر إلى البيت الأول قول زهير :
تراه إذا ما جئته متهللا * كمثل الذي يعطي الذي أنت سائله
فإن مدحه بالفرح بما يعطي نقص به إذا جاء مطلقا ، فلو قيّده من أجل ما يجد ما يعطي لكان أشعر .
ومن جيّد الشعر ما قال القائل :
لئن ساءني أن نلتني بمساءة * لقد سرّني أني خطرت ببالك
لأن الأول قد أقرّ بأنه إساءة ثم اعتذر .
ومن حسن الشعر ما قال الآخر في باب الشكوى :
فالليل إن وصلت كالليل إن هجرت * أشكو من الطول ما أشكو من القصر
وأحسن منه ما قلنا :
شغلي بها وصلت الليل أو هجرت * فما أبالي أطال الليل أو قصرا
فإن الأول شغله بطول الليل وقصره من أجلها ، فهو فاقد لها في زمن الاشتغال بغيرها ، والثاني شغله بها ومن سواها تبغ .
وأحسن منه ما قلنا :
ولقد هممت بقتلها من حبها * كيما تكون خصيمتي في المحشر
فإن الأول جعله مطلوبا قد نهب حقها ولا تخاصم ، والثاني جعل الحق له ، وجعل المحبوب المطلوب ، فالخصومة لازمة .
حدثني عبد اللّه بن رحلون الساري قال :
علّم بعض الشعراء من أصحابنا زرزورا الكلام حتى نطق لسانه ، فعلّمه الدعاء لخليفة الوقت ، وسورا من القرآن . ومن جملة ما علّمه بيتان في الفصد ، وأحضر بين يدي الزرزور هيئة الفصد وحركاته ، حتى ارتسمت في خياله ، فصار الزرزور إذا رأى تلك الحالة أنشد البيتين ، ثم أعلم حاجب الإمام بذلك ، ودفع إليه الزرزور . فلما علم الحاجب أن أمير المؤمنين يفتصد استأذن في إدخال الزرزور عليه ، فأذن له ، فأحضر الزرزور في قفصه ، قال : النصر والتمكين لأمير المؤمنين . فلما جاء الفاصد ، ورأى الآلات قد حضرت ، وأخرج أمير المؤمنين يده للحجّام ، وأخذ المبضع ، وهمّ أن يفصده ، نطق الزرزور فقال :
“ 68 “
أيها الفاصد رفقا * بأمير المؤمنين
إنما تفصد عرقا * فيه محيا العالمين
فأعجب الخليفة به ، وأمر لصاحبه بألفي دينار ، وقال : لو زاد زدناه .
وحكي أن ابن اللبانة كان وزيرا للمعتمد بن عبّاد ملك الأندلس ، فلما قبض على المعتمد وتفرّق شمله ، مرّ ابن اللبانة على بعض أولاده بدكان صائغ وهو ينفخ في الفحم ، فبكى وتذكّر ما كان فيه من الملك والنعمة ، فقبّل يديه ،
وأنشده لنفسه :
صرفت في آلة الصيّاغ أنملة * لم تدر إلا الندى والسيف والقلما
للنفخ في الصور هول ما حكاه سوى * هول رأيتك فيه تنفخ الفحما
يد عهدتك للتقبيل تبسطها * فتستقلّ الثريّا أن تكون فما
وددت إذ نظرت عيني إليك به * لو أن عينيّ تشكو بعد ذلك عما
ما حطّك الدهر لما حطّ من شرف * ولا تحيف من أخلاقك الكرما
لح في العلا كوكبا إن لم تلح قمرا * وقم بها ربوة إن لم تقم علما
واصبر فربّما أحمدت عاقبة * من يلوم الصبر يحمد غبّ ما لزما
واللّه لو أنصفتك الشمس لانكسفت * ولو وفي لك دمع العين لانسجما
فعمل في قلبه كلامه ، وثار بقلعة مراكش ، وأقام بها إلى أن قتل .
وذكر الفتح بن خاقان أن الراضي ولد المعتمد بن عبّاد سلطان الأندلس كان معتكفا على درس العلوم والاشتغال بها ، فأراد منه أبوه المعتمد على اللّه محمد بن عبّاد أن يقدّمه على جيش لمحاربة بادس بن حبوس بغرناطة ، فتمارض الراضي على أبيه ، وامتنع لشغفه بالعلم ، فخرج المعتمد بنفسه لمحاربته ، وتخلّف ابنه الراضي ، فاتفق أن هزمه العدو فعاد إلى إشبيلية ، وهجر ابنه الراضي ، فكتب إليه ابنه الراضي يقول :
لا يكثرنك خطب الحادث الجاري * فما عليك بذاك الخطب من عار
ما ذا على ضيغم أمضى عزيمته * إن خانه حدّ أنياب وأظفار
عليك للناس أن تبقى لهم سندا * وما عليك لهم إسعاد أقدار
لو يعلم الناس حقا أن تدوم لهم * لم يتحفوك بشيء غير أعمار
فأجابه أبوه المعتمد على اللّه يهزأ به :
الملك في طيّ الدفاتر * فيجلّ عن قود العساكر
طف بالسرير مسلّما * وارجع لتوديع المنابر
وازحف إلى جيش المعا * رف تهزم الحبر المقامر
“ 69 “
وأطعن بأطراف اليرا * ع نصرت في ثغر المحابر
واضرب بسكين الدوا * ة مكان ماضي الحدّ باتر
أو لست أسطاليس إذ * ذكر الفلاسفة الأكابر
وكذاك إن ذكر الخلي * ل فأنت نحويّ وشاعر
وأبو حنيفة ساقط * في الرأي حين تكون حاضر
من هرمس من سيبوي * ه من ابن فورك إذ تناظر
هذي المكارم قد حوي * ت فكن لمن جاراك شاكر
واقعد فإنك عاصم * كأس وقل هل من مفاخر
لحجبت وجه رضاي عن * ك وكنت قد تلقاه سافر
أو لست تذكر وقت ور * قة حين قلبك ثم طائر
لا يستقرّ مكانه * وأبوه كالضرغام هادر
هلّا اقتديت بفعله * وأطعته إذ ذاك آمر
قد كان أبصر بالعوا * قب والموارد والمصادر
فأجابه ابنه الراضي رحمهما اللّه :
مولاي قد أصبحت كافر * بجميع ما تحوي الدفاتر
وفللت سكّين الدوا * ة وظللت للأقلام كاسر
وعلمت أن الملك وال * علياء في ضرب العساكر
لا ضرب أقوال بأق * وال ضعيفات مكاسر
قد كنت أحسب من سفا * ه أنّها أصل المفاخر
وإذا بها فرع لها * والجهل للإنسان غادر
وهجرت من سمّيتهم * وجحدت أنهم أكابر
إن كان في فضل فمن * ك فهل لذاك النور ساتر
أو كان في نقص فمنّ * ي غير أن الفضل غامر
ضحك الموالي بالعبي * د إذا تواصل غير صائر
لا تنس يا مولاي قو * لة ضارع الأقوال فاجر
ضبط الجزيرة عندما * نزلت بعفوتها العساكر
أيام ظلت بها فري * دا ليس غير اللّه ناصر
إذ كان يغشى ناظري * لمع الأسنة والبواتر
ويصمّ آذاني بها * قرع الحجارة بالحوافر
“ 70 “
وهي الحضيض سهولة * لكن ثبتّ بها مخاطر
هب زلتي لنبوّتي * واغفر فإن اللّه غافر
فلم يزده ذلك إلا تماديا في هجرانه ، فكتب إليه أيضا :
مولاي أشكو إليك داء * أصبح قلبي به جريحا
سخطك قد زادني سقاما * فابعث لي الرضى مسيحا
قال : فرضي عنه وأدناه .
حدثنا يونس بن محمد بن طاهر ، أنبأ الحسن بن علي الجوهري ، عن أبي عمر بن حبويه ، عن أبي الحسن بن معروف ، عن الحسين بن الفهم ، عن محمد بن سعد ، عن عبد اللّه بن نمير ، عن الأعمش ، عن أبي واثل ، عن مسروق ، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : مرض أبو بكر رضي اللّه عنه مرضه الذي مات فيه وقال : انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت في الإمارة ، فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي ، فنظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه ، وإذا ناضح كان يسقي بستانا له ، فبعثنا بهما إلى عمر . قالت : فأخبرني رسولي أن عمر بكى وقال : رحمة اللّه على أبي بكر ، لقد أتعب من بعده تعبا شديدا .
وقال عبد اللّه بن عباس : سمعت أبا بكر الصدّيق يقول هذين البيتين :
إذا أردت شريف الناس كلّهم * فانظر إلى ملك في زي مسكين
ذاك الذي حسنت في الناس سيرته * وذاك يصلح للدنيا وللدين
وروينا عن السري السقطي أنه قال : كنت يوما بجامع المدينة ، فوقف عليّ شابّ ذو حشم وخول ، فسمعني أقول : عجبا لضعيف يعصي قويّا ، فنظرت إلى لونه قد تغيّر وانصرف ، ثم جاءني من الغد فسلّم عليّ وقال : سمعتك بالأمس تقول : عجبا لضعيف يعصي قويّا ، فما معناه ؟
قلت : فما أقوى من اللّه ولا أضعف من العبد وهو يعصيه ، فنهض فخرج ، ثم عاد من الغد وعليه ثوبان أبيضان وليس معه أحد فقال : يا سيدي ، كيف الطريق إلى اللّه ؟
فقلت : إن أردت العبادة فعليك بصيام النهار وقيام الليل ، وإن أردت اللّه فاترك كلّما سواه ، وليس إلا المساجد ، والخراب ، والمقابر .
فقام وهو يقول : واللّه لا سلكت إلا أصعب الطرق . ثم ولّى خارجا ، فلما كان بعد أيام أقبل إليّ جماعة كثيرة من الغلمان فقالوا : ما فعل أحمد بن يزيد الكاتب ؟
قلت : لا أعرفه ، إلا أن رجلا جاءني من صفته كذا وكذا ، فجرى لي معه كذا وكذا ، ولا أعلم حاله .
فقالوا : نقسم عليك باللّه متى عرفت حاله فعرّفنا ، ودلوني على منزله ، فبقيت سنة لا أعرف له خبرا ، فبينا أنا ذات ليلة بعد العشاء في بيتي إذا بطارق يطرق الباب ، فأذنت له في الدخول ، فإذا بالفتى عليه قطعة من كساء ،
“ 71 “
وأخرى على عاتقه ، ومعه زنبيل فيه نوى ، فقبّل بين عيني وقال : يا سري ، أعتقك اللّه من النار كما أعتقتني من رق الدنيا . فأومأت إلى صاحبي أن امض إلى أهله فأخبرهم ، فمضى فإذا زوجته جاءت ومعها ولده وغلمانه ، فدخلت فألقت ولده في حجره وعليه حلي وحلل ، وقالت له : يا سيدي ، أرملتني وأنت حي ، وأيتمت ولدك وأنت حي . فنظر إليّ وقال : يا سيدتي ، ما هذا وفاء ، ثم نزع ما على الصبي وقال : ضعي هذا في الأكباد الجياع ، والأجساد العارية ، فانتزعت ولدها منه ، فقال : ضيّعتم عليّ ليلتي ، بيني وبينكم اللّه . ثم خرج ، فضجّت الدار بالبكاء ، فقالوا : إن عدت تسمع له خبرا فأعلمنا . فلما كان بعد أيام إذا بعجوز قد جاءت فقالت : يا سري ، معي بالشوتيزية غلام يسألك الحضور ، فمضيت فإذا هو مطروح في ثوبه ، تحت رأسه لبنة ، فسلّمت عليه ، ففتح عينيه وقال : يا سري ، ترى تغفر تلك الجنايات ؟ فقلت : نعم . فقال : يغفر لمثلي ؟ قلت : نعم ، قال : أنا غريق ،
قلت :
هو منجّي الغرقى ، قال : عليّ مظالم ، قلت : إن اللّه يعوّض المظلومين . فقال : يا سري ، معي دراهم من لقط النوى ، فإذا أنا متّ فاشتر لي ما أحتاج إليه وكفنّي ، ولا تعلم أهلي لئلا يغيّروا كفني بحرام . قال السري : فجلست عنه ، ففتح عينيه وقال : لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ثم مات . فأخذت الدراهم ، واشتريت ما يحتاج إليه ، وإذا الناس يهرعون ، فقلت : ما الخبر ؟ فقيل : مات وليّ من أولياء اللّه تعالى ، ونريد أن نصلي عليه ، فصلّينا عليه ودفنّاه . فلما كان بعد مدة بعث أهله إليّ يستعلمون خبره ، فأخبرتهم بموته .
فأقبلت امرأته باكية ، وسألتني أن أريها قبره ، فقلت : أخاف أن تغيّروا كفنه ، فقالت : لا واللّه ، فأريتها القبر ، فبكت وأمرت بإحضار شاهدين ، فأحضرتهما ، وأعتقت جواريها ، ووقفت عقارها ، وتصدّقت بمالها ، ولزمت قبره حتى ماتت .
دخل على شيخنا الأديب ابن سعد بمسجده بإشبيلية فتى وسيم الوجه به لثغ يردّ السين ثاء ، وكان اسمه عيسى ، فقال له الأستاذ : ما اسمك يا بنيّ ؟
فقال : عيثا ، فقال الشيخ :
وأغيد كالقضيب معطفه * يحكي لنا في الكلام تخنيثا
سألته والسؤال يخجله * ما اسمك يا بدر قال لي عيثا
ودخل شاب آخر به لثغ يردّ الراء غينا على الأديب الملقب بالأبيض ، فجرى بين الصبي وبين الأبيض حديث إلى أن قال له : ما غذاؤك ؟ فقال الصبي : القاند والسكغ ، فطرب الأبيض وقال في الحين :
وألثغ ما مثله ألثغ * كأنه من فضة مفرغ
“ 72 “
قلت له مولاي ما تغتذي * فقال لي القاند والسكغ
اجتمع جماعة من أصحابنا من قرطبة بقرطبة ، منهم أبو الحسن بن خروف الأديب ، وعمر الجزّار وغيرهم ، فرأوا حلقة فيها صبي وسيم لوجه سندي ، يلعب للناس ، وينطوي حتى يجعل رأسه بين رجليه ، والناس يتعجبون من لطفه ومحاسنه ، فقال واحد منهم :
ومنوّع الحركات يختلس النهى * لبس المحاسن عند خلع لباسه
وقال الآخر :
متأوّدا كالغصن فوق كتيبة * متلاعبا كالظبي عند كناسه
وقال الآخر :
ويضمّ للقدمين منه برأسه * كالسيف ضمّ ذبابه لرساسه
تاريخ فتح عمورية
فتحها المعتصم في شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين ومائتين ، وكان المعتصم شجاعا مقداما ، وكان يقال له المثمن ، فإنه كان له إلى الثمانية أحد عشر وجها :
الأول : أنه ثامن ولد العباس .
الثاني : أنه ثامن خلفاء بني العباس .
الثالث : أنه ولّي سنة ثمانية عشرة ومائتين .
الرابع والخامس : أنه كانت خلافته ثمان سنين وثمانية أشهر .
السادس : أنه توفي وله ثمان وأربعون سنة .
السابع : أنه ولد ثامن شهر من السنة وهو شعبان .
الثامن : أنه خلّف ثمانية ذكور .
التاسع : أنه خلّف ثمان بنات .
العاشر : أنه غزا ثمان غزوات .
الحادي عشر : أنه خلّف ثمانمائة ألف دينار ، ومثلهما دراهم ، فيكون له على هذا اثنا عشر وجها إلى الثمانية .
فأما سبب فتحه لعمورية فهو ما ذكره أهل التواريخ أن رجلا وقف على المعتصم
“ 73 “
فقال : يا أمير المؤمنين ، كنت بعمورية وجارية من أحسن النساء أسيرة ، قد لطمها علج في وجهها . فنادت : وا معتصماه ، فقال العلج : وما يقدر عليه المعتصم ؟
يجيء على أبلق ينصرك ؟ وزاد في ضربها . فقال المعتصم : وفي أية جهة عمورية ؟
فقال له الرجل ، وأشار إلى جهتها : هكذا ، فردّ المعتصم وجهه إليها وقال : لبّيك أيتها الجارية ، لبيك هذا المعتصم باللّه أجابك . ثم تجهّز إليها في اثني عشر ألف فرس أبلق .
وفي هذه التلبية يقول له في قصيدته حبيب مفرد :
لبّيت صوتا رطيبا قد هرقت له * كأس الكرى ورضاب الخرد العرب
فلما حصرها وطال مقامه عليها ، جمع المنجّمين فقالوا له : إنّا نرى أنك ما تفتحها إلا في زمان نضج العنب والتين ، فبعد عليه ذلك ، واغتمّ لذلك .
فخرج ليلة مع بعض حشمه متحشما في العسكر يسمع ما يقول الناس ، فمرّ بخيمة حدّاد يضرب نعال الخيل وبين يديه غلامه أقرع قبيح الصورة ، وهو يضرب على السندان ويقول : في رأس المعتصم ، فقال له معلمه : اتركنا من هذا ، ما لك والمعتصم ؟
فقال : ما عنده تدبير ، له كذا وكذا يوم على هذه المدينة مع قوّته ولا يفتحها ، لو أعطاني الأمر ما بات غدا إلا فيها .
فتعجب المعتصم مما سمع ، وترك بعض رجاله موكلا به ، وانصرف إلى خبائه . فلما أصبح جاءوه به فقال : ما حملك يا هذا على ما بلغني عنك ؟
فقال الرجل : الذي بلغك حق ، ولّني ما وراء خبائك ، وقد فتح اللّه فيها ، فقال : قد ولّيتك ، وخلع عليه ، وقدّمه على الحرب ، فجمع الرماة ، واختار منهم أهل الإصابة ، وجاء إلى بدن من أبدان الصور ، وفي البدن من أوله إلى آخره خط أسود ، عرضه ثلاثة أشبار أو أكثر ، فحمى السهام بالنار ، فقال للرماة :
من أخطأ منكم ذلك الخط الأسود ضربت عنقه ، وإذا بذلك الخط خشب ساج ، فعند ما حصلت فيه السهام المحمية قام النار فيه واحترق ، فنزل البدن كما هو ، وتحمى الرجال ، ودخل البلد بالسيف ، وذلك قبل الزمان الذي ذكره المنجّمون .
وفي ذلك يقول حبيب في قصيدته :
السيف أصدق أنباء من الكتب * في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في * متونهنّ جلاء الشكّ والريب
والعلم في شهب الأرواح لامعة * بين الخميسين لا في السبعة الشهب
وخوّفوا الناس من دهياء داهية * إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
تخرّصا وأحاديثا ملفقة * ليست بنبع إذا عدّت ولا عزب
ثم مشى في القصيدة إلى ذكر يعرض بتاريخ المنجمين في التين والعنب ، فقال :
“ 74 “
تسعون ألفا كآساد الشّرى نضجت * جلودهم قبل نضج التين والعنب
ولم تفتح من الوقت الذي أثبت فذكر ذلك في قصيدته ، وذكر منعتها وقوّتها فقال :
من عهد إسكندر أو قبل ذاك فقد * شابت نواصي الليالي وهي لم تشب
بكر فما انتزعتها كفّ حادثة * ولا ترقّت إليها همّة النوّاب
فلما دخلها ومعه الرجل الذي بلّغه حديث الجارية قال له : سر بي إلى الموضع الذي رأيتها فيه ، فسار به ، وأخرجها من موضعها ، وقال لها : يا جارية هل أجابك المعتصم ؟
وملّكها العلج الذي لطمها ، والسيد الذي كان يملكها ، وجميع ماله .
ومن سير عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه
ما حدثنا محمد بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن علي ، عن محمد بن أبي طاهر ، عن الحسن بن علي الجوهري ، عن أبي عمر بن حمويه ، عن أحمد بن معروف ، عن الحسين بن الفهم ، عن محمد بن سعد ، عن يزيد بن هارون ، عن يحيى بن المتوكل ، عن عبد اللّه بن نافع ، عن أبيه ، عن ابن عمر قال : قدمت رفقة من التجار في أيام خلافة عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، فنزلوا المصلى ، فقال عمر لعبد الرحمن : هل لك أن نحرسهم الليلة من السرّاق ؟ فباتا يحرسانهم ويصليان ما كتب اللّه لهما ، فسمع عمر بكاء صبي فوجه نحوه وقال لأمه : اتق اللّه وأحسني إلى صبيّك ، ثم عاد إلى مكانه ، فسمع بكاءه ، فعاد إليها بمثل تلك المقالة ، ثم عاد إلى مكانه ، فلما كان من آخر الليل سمع بكاءه ، فعاد إليها فعاتبها في لبنها ، ثم سألها عن شأن بكائه ، فقاله له : يا هذا الرجل ، إني أريد أن أفطمه وهو يبكي على الثدي ، فقال لها : وكم له ؟ قالت : كذا وكذا شهرا ، فقال لها : فما حملك على تعجيل فطامه ؟ قالت : إن عمر أمر أن لا يفرض لصبي إلا بعد الفطام ، وأنا محتاجة ، فأحبّ أن أفطمه حتى يفرض له ، فقال لها : ويحك ، أرضعيه ولا تعجليه بالفطام . ثم صلى الفجر بالناس وما يستبين للناس قراءته من غلبة البكاء عليه . فلما سلّم قال : يا بؤسا لعمركم قتل من أولاد المسلمين ، ثم أمر مناديا فنادى : لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام ، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام .
وبالإسناد إلى محمد بن سعد قال : أخبرنا محمد بن عمر قال : حدثني عبد اللّه بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن جده ، قال : كان عمر يديم الصوم ، وكان زمان الرمادة ، فإذا أمسى أتى بالخبز قد ثرد الزيت ، إلى أن نحر يوما من الأيام جزورا ، فأطعمها الناس ، وغرفوا له طيبها ، فأتى به فإذا قدر قطعة من سنام ومن كبد ، فقال : أنّى هذا ؟ قالوا : يا أمير
“ 75 “
المؤمنين من الجزور الذي نحرنا اليوم ، فقال : بخ بخ ، بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها وأطعمت الناس كراويشها ، ارفع هذه الجفنة وهيّئ لنا غير هذا الطعام ، فأتى بخبز وزيت ، فجعل يكسره بيده ويثرد ذلك الخبز ، ثم قال : ويحك يا برقيّ ، ارفع هذه الجفنة حتى تأتي بها أهل بيت ربيع ، فإني لم آتهم منذ ثلاثة أيام ، وأحسبهم مقفرين ، وضعها بين أيديهم .
وروينا من حديث أنس بن مالك قال : بينما عمر يعسّ المدينة إذ رأى بيتا من شعر لم يكن بالأمس ، فدنا منه ، فسمع أنين امرأة ، ورأى رجلا قاعدا ، فدنا منه فقال : من الرجل ؟
قال : رجل من أهل البادية جئت إلى أمير المؤمنين أصيب من فضله . قال : فما هذا الأنين ؟
قال : امرأة تمخض ، قال : هل عندها أحد ؟ قال : لا ، فانطلق إلى منزله فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : هل لك في أجر ساقه اللّه إليك ؟ قالت : وما هو ؟ قال : امرأة تمخض ليس عندها أحد ، قالت : إن شئت ، قال : خذي ما يصلح للمرأة من الخرق والدهن ، وجيئيني ببرمة وشحم وحبوب ، فجاءت به ، فحمل البرمة ، ومشت خلفه حتى انتهى إلى البيت ، فقال : ادخلي إلى المرأة ، وجاء حتى قعد إلى الرجل فقال له :
أوقد لي نارا ، ففعل وأوقد تحت البرمة حتى أنضجها ، وولدت المرأة ، فقالت له امرأته : يا أمير المؤمنين ، بشّر صاحبك بغلام . فلما سمع الرجل يا أمير المؤمنين كأنه هابه ، فجعل يتنحّى عنه ، فقال له : مكانك كما كنت . فحمل عمر البرمة حتى وضعها على الباب ، ثم قال : أشبعيها ، ففعلت ، ثم أخرجت البرمة فوضعتها على الباب ، فقام عمر فأخذها فوضعها بين يدي الرجل ، فقال : كل ، ويحك فإنك قد سهرت من الليل ، ففعل ، ثم قال لامرأته : أخرجي ، وقال للرجل : إذا كان غدا فائتنا نأمر لك بما يصلح ، فأتاه ، فأجازه وأعطاه .
ومن مواعظ علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه
ما رويناه من حديث أبي بكر بن أبي الدنيا قال : حدثنا علي بن الحسن بن أبي مريم ، عن عبد اللّه بن صالح بن مسلم العجلي ، عن معاد الهراء قال : سمع علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه رجلا يسبّ الدنيا ، فقال علي رضي اللّه عنه : إنها لدار صدق لمن صدقها ، ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزوّد منها ، مسجد أحبّاء اللّه عز وجل ، ومهبط وحيه ، ومصلّى ملائكته ، ومتجر أوليائه ، اكتسبوا فيه الرحمة ، وربحوا فيها الجنة . فمن ذا يذمّ الدنيا ؟ وقد أذنت بفراقها ، ونادت بعيبها ، ونعت نفسها وأهلها ، فمثلت ببلائها البلاء ، وشوّقت بسرورها إلى السرور ، فذمّها قوم عند الندامة ، وحمدها آخرون ، ذكّرتهم فذكروا :
“ 76 “
يا أيها المغرور بغرورها ، متى غرّتك مضاجع آبائك في الثرى ؟ أم مضاجع أمهاتك في البلا ؟ كم قلّبت بكفيك ، ومرضت بيديك تطلب له الشفاء وتسأل له الأطباء ؟ لم تظفر بحاجتك ، ولم تسعف بطلبتك ، قد مثلت لك الدنيا مصرعك غدا ، ولا يغني عنك بكاؤك ، ولا ينفعك أحبّاؤك .
ومن مواعظ سعيد بن عامر بن حديم لعمر
ما روينا من حديث ابن أبي الدنيا قال : حدثني يعقوب بن عبيد ، ثنا أبو مسهر ، عن سعيد بن عبد العزيز قال : قال سعيد بن عامر بن حديم لعمر رضي اللّه عنه : إني موصيك بكلمات من جوامع الإسلام ومعالمه ، قال : أجل ، فإن اللّه قد جعل عندك أدبا قال : اخش اللّه في الناس ، ولا تخش الناس في اللّه ، ولا يخالف قولك فعلك ، فإن خير القول ما صدقه الفعل ، ولا تقض في أمر واحد بقضاءين فيختلف عليك أمرك ، واحبب لقريب المسلمين وبعيدهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك ، وخض الغمرات إلى الحق حيث علمته ، ولا تخف في اللّه لومة لائم . قال عمر : ومن يستطيع ذلك يا سعيد ؟ قال : من ركب في عنقه مثل الذي ركب في عنقك .
موعظة
روينا من حديث المالكي قال : حدثنا علي بن الحسن الربعي قال : حدثني محمد بن عبد الرحمن القرشي ، عن أبيه قال : كتب بعض الحكماء إلى ملك من ملوكهم : إن أحقّ الناس بذمّ الدنيا وقلاها من بسط له فيها ، وأعطى حاجته منها ، لأنه يتوقع آفة تعدو على ماله فتجتاحه ، أو على جمعه فتفرقه ، أو تأتي سلطانه من القواعد فتهدمه ، أو تدبّ إلى جسمه فتسقمه ، وتفجعه بمن هو ضنين به من أحبابه وأهل مودّته ، فالدنيا أحقّ بالذمّ ، هي الآخذة ما تعطي ، الراجعة فيما تهب ، بينما تضحك صاحبها إذ أضحكت منه غيرة ، وبينما هي تبكي له إذ أبكت عليه ، وبينما هي تبسط كفيه بالإعطاء إذ بسطتها بالمسألة ، تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم ، وتعفره بالتراب غدا ، سواء عليها ذهاب من ذهب ، وبقاء من بقي ، تجد في الباقي من الذهب خلفا ، وترضى من كل بدلا .
روي عن المزني قال : دخلت على الشافعي رضي اللّه عنه في مرضه الذي مات فيه ، فقلت له : كيف أصبحت ؟ فقال : أصبحت من الدنيا راحلا ، وللإخوان مفارقا ، ولسوء عملي ملاقيا ، وبكأس المنية شاربا ، وعلى اللّه واردا ، فلا أدري أروحي تصير إلى الجنة
“ 77 “
فأهنّئها ، أم إلى النار فأعزّيها ؟ ثم أنشأ يقول :
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي * جعلت رجائي نحو عفوك سلّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته * بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل * تجود وتعفو منّة وتكرّما
حكاية عن ملك زهد في الدنيا
روينا من حديث أحمد بن محمد بن حنبل ، عن يزيد بن هارون ، ثنا المسعودي ، عن سماك بن حرب ، عن عبد الرحمن بن عبد اللّه ، عن أبيه ، عن ابن مسعود قال : بينا رجل ممن كان قبلكم في مملكته ، فتفكّر ، فعلم أن ذلك منقطع عنه ، وأن ما هو فيه قد شغله عن عبادة ربه ، فانساب ذات ليلة من قصره ، فأصبح في مملكة غيره ، فأتى ساحل البحر ، فكان يضرب اللبن بالأجرة ، فيأكل ويتصدّق بالفضل ، فلم يزل كذلك حتى وصل أمره إلى ملكهم ، فأرسل ملكهم إليه أن يأتيه ، فأبى ، فأعاد إليه الرسول ، فأبى وقال : ما لك وما لي ؟ فركب الملك إليه ، فلما رآه الرجل ولّى هاربا ، فلما رأى ذلك الملك ركض في أثره فلم يدركه ، فناداه : يا عبد اللّه ، إنه ليس عليك مني بأس ، فأقام حتى أدركه ، فقال : من أنت يرحمك اللّه ؟ قال : أنا فلان ابن فلان صاحب ملك كذا وكذا ، تفكّرت في أمري ، فعلمت أن ما أنا فيه منقطع عني ، وأنه قد شغلني عن عبادة ربي ، فتركته وجئت هاهنا أعبد ربي عز وجل .
فقال : ما أنت بأحوج مما سمعت مني ؟ قال : ثم نزل عن دابته فسيّبها ، ثم تبعه ، فكانت جميعا يعبدان اللّه عز وجل ، فدعوا اللّه عز وجل أن يميتهما جميعا ، فماتا .
قال عبد اللّه : فلو كنت برميلة مصر لأريتكم قبريهما بالنعت الذي نعت لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
قصة يحيى بن توغان ملك تلمسان وهو من خئولتنا
حدثني أخوالي ووالدي رحمهم اللّه ، قالوا : كان بتلمسان الملك يحيى ، فنزل يوما في موكبه من مدينة أقادر ، يريد المدينة الوسطى ، وبينهما بقيع فيه قبور ، فبينا هو يسير وإذا برجل متعبّد يمشي لحاجته ، فمسك عنانه وسلّم عليه ، فردّ الرجل العابد السلام ، وكلّمه بأشياء ، فكان من بعض ما كلّمه به الملك أن قال له : أيها العابد ، ما تقول في الصلاة في هذه الثياب التي عليّ ؟ فاستغرق العابد ضحكا ، فقال له : ممّ تضحك ؟ قال : من سخف
“ 78 “
عقلك ، وما رأيت لك أيها الملك في هذا المسألة شبيها إلا الكلب . قال : وكيف ؟ قال :
الكلب يتمعّك في الجيفة ، ويتلطخ بدمها ، فإذا أراد أن يبوّل رفع رجله حتى لا يصيبه البول ، وأنت حرام كلك وتسأل عن ثيابك . فاستعبر الملك باكيا ، وزل من حينه عن دابته وتجرّد من ثيابه ، فرمى عليه بعض العامة من أهل الدين ثوبا ، وقال لأهل دولته : انظروا لأنفسكم فلست لكم بصاحب .
واقتفى أثر العابد ، فصعد معه إلى العبادة بموضع عال بقبلة تلمسان ، وأقام معه ثلاثة أيام . ثم أمره العابد بالاحتطاب ، فجعل الملك يحتطب ويبيع بسوق تلمسان ، ويأكل ويتصدّق بالفضل ، وكان الناس إذا أتوا إلى العابد يسألونه الدعاء فيقول : سلوا يحيى في الدعاء ، فإنه خرج عن قدرة .
ويقال : إن ذلك العابد كان أبا عبد اللّه التنوسي . وقفت أنا على قبريهما وقبر الشيخ أبي مدين بالعباد بظاهر تلمسان .
روينا من حديث أحمد بن حنبل ، عن أسباط بن محمد ، ثنا هشام بن سعد ، عن عبد اللّه بن عباس قال : كان للعباس ميزاب على طريق عمر ، فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة ، وكان إذ ذاك خليفة ، وكان ذبح للعباس فرخان ، فلما وافى الميزاب صبّ ماء بدم الفرخين فأصاب عمر فأمر بقلعه ، ثم رجع فطرح ثيابه ولبس ثيابا غير ثيابه ، ثم جاء فصلّى بالناس ، فأتاه العباس فقال : واللّه إنه للموضع الذي وضعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال عمر للعباس : فأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ففعل ذلك العباس .
وروينا من مواعظ علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، أنه ذكّر الناس يوما في خلافته فقال : إنك مخلوقون اقتدارا ، ومربوبون اقتسارا ، ومضمّنون أجداثا ، وكائنون رفاتا ، ومبعوثون أفرادا ، ومدينون حسابا . فرحم اللّه عبدا اقترف فاعترف ، ووجل فعمل ، وحاذر فبادر ، وعمر فاعتبر ، وحذر فازدجر ، وراجع فتاب ، واقتدى فاحتذى ، فتأهّب للمعاد ، واستظهر بالزاد ليوم رحيله ، ووجه سبيله ، وحال حاجته ، وموطن فاقته ، فقدم أمامه لدار مقامه . فمهّدوا لأنفسكم في سلامة الأبدان ، فهل ينتظر أهل غضارة الشباب إلا خوّافي الهرم ؟ وأهل بضاضة الصحة إلا نوازل السقم ؟ وأهل مدة البقاء إلا مفاجآت الفجا ، واقتراب الفوت ، ونزول الموت ، وخفر الأنين ، ورشح الجبين ، وامتداد العرنين ، وألم المضض ، وغصص الحرض ؟ فاتقوا اللّه تقية من شمر تجريدا ، وجدّ تشميرا ، وانكمش في مهل ، وأشفق في وجل ، ونظر في كره الموئل ، وعاقبة المصير ، ومغبة المرجع ، فكفى باللّه
الجزء الخامس
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 64 “
ما ضرّهم حين سروا * لو وقفوا وسلّموا
يشوقني واديهم * وضالهم والسلم
وأنشدنا أيضا في هذا الباب :
يا صاحبي إن كنت لي أو معي * فعد إلى أرض الحمى ترتع
وسل عن الوادي وأربابه * وانشد فؤادي في ربى المجمع
حيّ كثيب الرمل رمل الحمى * وقف وسلّم لي على لعلع
واسمع حديثا قد روته الصّبا * سنده عن بانة الأجرع
وابك بما في العين من فضلة * ونب فدتك النفس عن مدمعي
وانزل على الشيح بواديهم * واشمم نبات البلد البلقع
عند منى كنت وكان النوى * فصمّ إلا عنهم مسمعي
لهفي على طيب ليال خلت * عودي تعودي مدنفا قد نعي
إذا تذكرت زمانا مضى * فويح أجفاني من أدمعي
وأنشدنا لأبي القاسم المطرزي :
صحا كل عذريّ الغرام عن الهوى * وأنت على حكم الصبابة نازل
نزلنا على التوديع من دارة الحمى * فضنت علينا بالسلام المنازل
وقال المبرّد : أحسن ما سمعت في حفظ اللسان والسرّ ، ما بلغني عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه :
ولا تفش سرك إلا إليك * فإن لكل نصيح نصيحا
فإني رأيت وشاة الرجا * ل لا يتركون أديما صحيحا
ولبعضهم في هذا الباب من قصيدة :
فلا تود عن الدهر سرّك أحمقا * فإنك إن أودعته منه أحمق
وحسبك في سر الأحاديث واعظا * من القول ما قال الأديب الموفق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه * فصدر الذي يستودع السرّ أضيق
روينا من حديث الهاشمي ، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
« ألا إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، والآخرة قد تحمّلت مقبلة ، ألا وإنكم لفي يوم عمل ليس فيه حساب ، ويوشك أن تكونوا في يوم حساب ليس فيه عمل ، وإن اللّه يعطي الدنيا من يحب ويبغض ، ولا يعطي الآخرة إلا من يحب ، وإن للدنيا أبناء ، وللآخرة أبناء ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا . إن شرّ ما أتخوف عليكم اتّباع الهوى ، وطول
“ 65 “
الأمل ، فاتّباع الهوى يصرف بقلوبكم عن الحق ، وطول الأمل يصرف همتكم إلى الدنيا ، وما بعدهما لأحد من دنيا ولا آخرة » .
ومن حديث أنس بن مالك قال
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « ما من بيت إلا وملك الموت يقف على بابه كل يوم خمس مرات ، فإذا وجد الإنسان قد نفد أجله ألقى عليه غمرات الموت ، فغشيته كرباته ، وغمرته غمراته ، فمن أهل بيته الناشرة شعرها ، والضاربة وجهها ، والباكية بشجوها ، والصارخة بويلها ، فيقول ملك الموت عليه السلام : ويلكم ممن الفزع ؟ وفيم الجزع ؟ ما أذهبت لواحد منكم رزقا ولا قرّبت له أجلا ، ولا أتيته حتى أمرت ، ولا قبضت روحه حتى استأمرت ، وإن لي فيكم عودة ثم عودة حتى لا أبقي منكم أحدا » .
قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : « فوالذي نفس محمد بيده ، لو يرون مكانه ، ويسمعون كلامه ، لذهلوا عن ميّتهم ، ولبكوا على أنفسهم ، حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرفت روحه فوق النعش وهو ينادي : يا أهلي ويا ولدي ، لا تلعبنّ بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال من حلّه ومن غير حلّه ، ثم خلّفته لغيري ، فالمهنّاة له ، والتبعة عليّ ، فاحذروا مثل ما حل بي » .
ومن باب الكرم الإلهي ما روي عن موسى عليه السلام
حدثنا محمد بن قاسم ، نبأ عمر بن عبد المجيد قال : بلغنا أن موسى عليه السلام سجد في بعض تقرّبه وقال : يا رب ، فقال له ربه سبحانه وتعالى : لبيك يا موسى ، فلما سمع موسى عليه السلام تلبية الحق له ، سجد ثانية وقال في سجوده : سبحانك سبحانك أنت أنت ، ومن عبدك حتى تجيبه بالتلبية ؟ فقال له ربه سبحانه وتعالى : يا موسى ، إني آليت على نفسي أن لا يدعوني عبدي بالربوبية إلا أجبته بالتلبية ، فقال موسى : يا رب ، هذا جعلته للطائعين من عبادك دون المذنبين ؟ فقال له سبحانه : يا موسى ، إذا أجبت المحسن لأجل إحسانه ولم أجب المسئ لأجل عصيانه ، فمنعته من فضلي ونعمتي ، فأين عطفي وكرمي ؟
ومن جيد الشعر في الجود والشجاعة
ومن عجب أنّ السيوف لديكم * تحيض دماء والسيوف ذكور
“ 66 “
وأعجب من ذا أنها في أكفّكم * تأجّج نارا والأكفّ بحور
حدّث أبو ذرّ وأحمد بن يحيى ، والسياق لأبي ذرّ ، أن ابن يحيى النديم قال : دعاني أمير المؤمنين المتوكل على اللّه ذات يوم وهو في بعض راحاته ، فقال : يا ابن يحيى ، أنشدني قول عمارة في أهل بغداد ،
فأنشدته :
من يشتري مني ملوك محرّم * أبع حسنا وابني هشام بدرهم
وأعطي رجالا بعد ذاك زيادة * وأمنح دينارا بغير تندّم
فإن طلبوا مني الزيادة زدتهم * أبا دلف والمستطيل بن أكثم
فقال المتوكل : ويلي على ابن النوال على عقبيه يهجو شقيق دولة ولد العباس .
ثم قال لي : يا ابن يحيى ، هل عندك من المديح في أبي دلف القاسم بن عيسى شيء ؟ قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، قول الأعرابي الذي يقول فيه :
أبا دلف إن السماحة لم تزل * مغلّلة تشكو إلى اللّه غلها
فبشّرها ربي بميلاد قاسم * فأرسل جبريلا إليها فحلّها
ومن هذا الباب قول القائل :
حرّ إذا جئته يوما لتسأله * أعطاك ما ملكت كفاه واعتذرا
يخفي صنائعه واللّه يظهرها * إن الجميل إذا أخفيته ظهرا
وقال الآخر :
فتى عاهد الرحمن في بذل ماله * فلست تراه الدهر إلا على العهد
فتى قصرت آماله عن فعاله * وليس على الحر الكريم سوى الجهد
هذا المديح أقرب للديانة من الكرم ، فإن عطاؤه إنما هو من أجل الوفاء بعده من اللّه حتى لا يكون من الذين ينقضون عهد اللّه ، والكريم سجيته الكرم ، فلا يحتاج إلى القسم عليه إلا لعلّة لنفسه ، فما وفّى هذا الشاعر مدح هذا في الكرم ما تصوّر له في خاطره ، فهذا اللفظ دون ما في القصد .
وقال الآخر في هذا الباب :
أرى نفسي تتوق إلى أمور * يقصّر دون مبلغهنّ مالي
فنفسي لا تطاوعني لبخل * ومالي لا يبلّغي فعالي
وقال آخر :
إذا ما أتاه السائلون توقّدت * عليه مصابيح الطلاقة والبشر
“ 67 “
له في ذرى المعروف نعمى كأنها * مواقع ماء المزن في البلد القفر
ينظر إلى البيت الأول قول زهير :
تراه إذا ما جئته متهللا * كمثل الذي يعطي الذي أنت سائله
فإن مدحه بالفرح بما يعطي نقص به إذا جاء مطلقا ، فلو قيّده من أجل ما يجد ما يعطي لكان أشعر .
ومن جيّد الشعر ما قال القائل :
لئن ساءني أن نلتني بمساءة * لقد سرّني أني خطرت ببالك
لأن الأول قد أقرّ بأنه إساءة ثم اعتذر .
ومن حسن الشعر ما قال الآخر في باب الشكوى :
فالليل إن وصلت كالليل إن هجرت * أشكو من الطول ما أشكو من القصر
وأحسن منه ما قلنا :
شغلي بها وصلت الليل أو هجرت * فما أبالي أطال الليل أو قصرا
فإن الأول شغله بطول الليل وقصره من أجلها ، فهو فاقد لها في زمن الاشتغال بغيرها ، والثاني شغله بها ومن سواها تبغ .
وأحسن منه ما قلنا :
ولقد هممت بقتلها من حبها * كيما تكون خصيمتي في المحشر
فإن الأول جعله مطلوبا قد نهب حقها ولا تخاصم ، والثاني جعل الحق له ، وجعل المحبوب المطلوب ، فالخصومة لازمة .
حدثني عبد اللّه بن رحلون الساري قال :
علّم بعض الشعراء من أصحابنا زرزورا الكلام حتى نطق لسانه ، فعلّمه الدعاء لخليفة الوقت ، وسورا من القرآن . ومن جملة ما علّمه بيتان في الفصد ، وأحضر بين يدي الزرزور هيئة الفصد وحركاته ، حتى ارتسمت في خياله ، فصار الزرزور إذا رأى تلك الحالة أنشد البيتين ، ثم أعلم حاجب الإمام بذلك ، ودفع إليه الزرزور . فلما علم الحاجب أن أمير المؤمنين يفتصد استأذن في إدخال الزرزور عليه ، فأذن له ، فأحضر الزرزور في قفصه ، قال : النصر والتمكين لأمير المؤمنين . فلما جاء الفاصد ، ورأى الآلات قد حضرت ، وأخرج أمير المؤمنين يده للحجّام ، وأخذ المبضع ، وهمّ أن يفصده ، نطق الزرزور فقال :
“ 68 “
أيها الفاصد رفقا * بأمير المؤمنين
إنما تفصد عرقا * فيه محيا العالمين
فأعجب الخليفة به ، وأمر لصاحبه بألفي دينار ، وقال : لو زاد زدناه .
وحكي أن ابن اللبانة كان وزيرا للمعتمد بن عبّاد ملك الأندلس ، فلما قبض على المعتمد وتفرّق شمله ، مرّ ابن اللبانة على بعض أولاده بدكان صائغ وهو ينفخ في الفحم ، فبكى وتذكّر ما كان فيه من الملك والنعمة ، فقبّل يديه ،
وأنشده لنفسه :
صرفت في آلة الصيّاغ أنملة * لم تدر إلا الندى والسيف والقلما
للنفخ في الصور هول ما حكاه سوى * هول رأيتك فيه تنفخ الفحما
يد عهدتك للتقبيل تبسطها * فتستقلّ الثريّا أن تكون فما
وددت إذ نظرت عيني إليك به * لو أن عينيّ تشكو بعد ذلك عما
ما حطّك الدهر لما حطّ من شرف * ولا تحيف من أخلاقك الكرما
لح في العلا كوكبا إن لم تلح قمرا * وقم بها ربوة إن لم تقم علما
واصبر فربّما أحمدت عاقبة * من يلوم الصبر يحمد غبّ ما لزما
واللّه لو أنصفتك الشمس لانكسفت * ولو وفي لك دمع العين لانسجما
فعمل في قلبه كلامه ، وثار بقلعة مراكش ، وأقام بها إلى أن قتل .
وذكر الفتح بن خاقان أن الراضي ولد المعتمد بن عبّاد سلطان الأندلس كان معتكفا على درس العلوم والاشتغال بها ، فأراد منه أبوه المعتمد على اللّه محمد بن عبّاد أن يقدّمه على جيش لمحاربة بادس بن حبوس بغرناطة ، فتمارض الراضي على أبيه ، وامتنع لشغفه بالعلم ، فخرج المعتمد بنفسه لمحاربته ، وتخلّف ابنه الراضي ، فاتفق أن هزمه العدو فعاد إلى إشبيلية ، وهجر ابنه الراضي ، فكتب إليه ابنه الراضي يقول :
لا يكثرنك خطب الحادث الجاري * فما عليك بذاك الخطب من عار
ما ذا على ضيغم أمضى عزيمته * إن خانه حدّ أنياب وأظفار
عليك للناس أن تبقى لهم سندا * وما عليك لهم إسعاد أقدار
لو يعلم الناس حقا أن تدوم لهم * لم يتحفوك بشيء غير أعمار
فأجابه أبوه المعتمد على اللّه يهزأ به :
الملك في طيّ الدفاتر * فيجلّ عن قود العساكر
طف بالسرير مسلّما * وارجع لتوديع المنابر
وازحف إلى جيش المعا * رف تهزم الحبر المقامر
“ 69 “
وأطعن بأطراف اليرا * ع نصرت في ثغر المحابر
واضرب بسكين الدوا * ة مكان ماضي الحدّ باتر
أو لست أسطاليس إذ * ذكر الفلاسفة الأكابر
وكذاك إن ذكر الخلي * ل فأنت نحويّ وشاعر
وأبو حنيفة ساقط * في الرأي حين تكون حاضر
من هرمس من سيبوي * ه من ابن فورك إذ تناظر
هذي المكارم قد حوي * ت فكن لمن جاراك شاكر
واقعد فإنك عاصم * كأس وقل هل من مفاخر
لحجبت وجه رضاي عن * ك وكنت قد تلقاه سافر
أو لست تذكر وقت ور * قة حين قلبك ثم طائر
لا يستقرّ مكانه * وأبوه كالضرغام هادر
هلّا اقتديت بفعله * وأطعته إذ ذاك آمر
قد كان أبصر بالعوا * قب والموارد والمصادر
فأجابه ابنه الراضي رحمهما اللّه :
مولاي قد أصبحت كافر * بجميع ما تحوي الدفاتر
وفللت سكّين الدوا * ة وظللت للأقلام كاسر
وعلمت أن الملك وال * علياء في ضرب العساكر
لا ضرب أقوال بأق * وال ضعيفات مكاسر
قد كنت أحسب من سفا * ه أنّها أصل المفاخر
وإذا بها فرع لها * والجهل للإنسان غادر
وهجرت من سمّيتهم * وجحدت أنهم أكابر
إن كان في فضل فمن * ك فهل لذاك النور ساتر
أو كان في نقص فمنّ * ي غير أن الفضل غامر
ضحك الموالي بالعبي * د إذا تواصل غير صائر
لا تنس يا مولاي قو * لة ضارع الأقوال فاجر
ضبط الجزيرة عندما * نزلت بعفوتها العساكر
أيام ظلت بها فري * دا ليس غير اللّه ناصر
إذ كان يغشى ناظري * لمع الأسنة والبواتر
ويصمّ آذاني بها * قرع الحجارة بالحوافر
“ 70 “
وهي الحضيض سهولة * لكن ثبتّ بها مخاطر
هب زلتي لنبوّتي * واغفر فإن اللّه غافر
فلم يزده ذلك إلا تماديا في هجرانه ، فكتب إليه أيضا :
مولاي أشكو إليك داء * أصبح قلبي به جريحا
سخطك قد زادني سقاما * فابعث لي الرضى مسيحا
قال : فرضي عنه وأدناه .
حدثنا يونس بن محمد بن طاهر ، أنبأ الحسن بن علي الجوهري ، عن أبي عمر بن حبويه ، عن أبي الحسن بن معروف ، عن الحسين بن الفهم ، عن محمد بن سعد ، عن عبد اللّه بن نمير ، عن الأعمش ، عن أبي واثل ، عن مسروق ، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : مرض أبو بكر رضي اللّه عنه مرضه الذي مات فيه وقال : انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت في الإمارة ، فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي ، فنظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه ، وإذا ناضح كان يسقي بستانا له ، فبعثنا بهما إلى عمر . قالت : فأخبرني رسولي أن عمر بكى وقال : رحمة اللّه على أبي بكر ، لقد أتعب من بعده تعبا شديدا .
وقال عبد اللّه بن عباس : سمعت أبا بكر الصدّيق يقول هذين البيتين :
إذا أردت شريف الناس كلّهم * فانظر إلى ملك في زي مسكين
ذاك الذي حسنت في الناس سيرته * وذاك يصلح للدنيا وللدين
وروينا عن السري السقطي أنه قال : كنت يوما بجامع المدينة ، فوقف عليّ شابّ ذو حشم وخول ، فسمعني أقول : عجبا لضعيف يعصي قويّا ، فنظرت إلى لونه قد تغيّر وانصرف ، ثم جاءني من الغد فسلّم عليّ وقال : سمعتك بالأمس تقول : عجبا لضعيف يعصي قويّا ، فما معناه ؟
قلت : فما أقوى من اللّه ولا أضعف من العبد وهو يعصيه ، فنهض فخرج ، ثم عاد من الغد وعليه ثوبان أبيضان وليس معه أحد فقال : يا سيدي ، كيف الطريق إلى اللّه ؟
فقلت : إن أردت العبادة فعليك بصيام النهار وقيام الليل ، وإن أردت اللّه فاترك كلّما سواه ، وليس إلا المساجد ، والخراب ، والمقابر .
فقام وهو يقول : واللّه لا سلكت إلا أصعب الطرق . ثم ولّى خارجا ، فلما كان بعد أيام أقبل إليّ جماعة كثيرة من الغلمان فقالوا : ما فعل أحمد بن يزيد الكاتب ؟
قلت : لا أعرفه ، إلا أن رجلا جاءني من صفته كذا وكذا ، فجرى لي معه كذا وكذا ، ولا أعلم حاله .
فقالوا : نقسم عليك باللّه متى عرفت حاله فعرّفنا ، ودلوني على منزله ، فبقيت سنة لا أعرف له خبرا ، فبينا أنا ذات ليلة بعد العشاء في بيتي إذا بطارق يطرق الباب ، فأذنت له في الدخول ، فإذا بالفتى عليه قطعة من كساء ،
“ 71 “
وأخرى على عاتقه ، ومعه زنبيل فيه نوى ، فقبّل بين عيني وقال : يا سري ، أعتقك اللّه من النار كما أعتقتني من رق الدنيا . فأومأت إلى صاحبي أن امض إلى أهله فأخبرهم ، فمضى فإذا زوجته جاءت ومعها ولده وغلمانه ، فدخلت فألقت ولده في حجره وعليه حلي وحلل ، وقالت له : يا سيدي ، أرملتني وأنت حي ، وأيتمت ولدك وأنت حي . فنظر إليّ وقال : يا سيدتي ، ما هذا وفاء ، ثم نزع ما على الصبي وقال : ضعي هذا في الأكباد الجياع ، والأجساد العارية ، فانتزعت ولدها منه ، فقال : ضيّعتم عليّ ليلتي ، بيني وبينكم اللّه . ثم خرج ، فضجّت الدار بالبكاء ، فقالوا : إن عدت تسمع له خبرا فأعلمنا . فلما كان بعد أيام إذا بعجوز قد جاءت فقالت : يا سري ، معي بالشوتيزية غلام يسألك الحضور ، فمضيت فإذا هو مطروح في ثوبه ، تحت رأسه لبنة ، فسلّمت عليه ، ففتح عينيه وقال : يا سري ، ترى تغفر تلك الجنايات ؟ فقلت : نعم . فقال : يغفر لمثلي ؟ قلت : نعم ، قال : أنا غريق ،
قلت :
هو منجّي الغرقى ، قال : عليّ مظالم ، قلت : إن اللّه يعوّض المظلومين . فقال : يا سري ، معي دراهم من لقط النوى ، فإذا أنا متّ فاشتر لي ما أحتاج إليه وكفنّي ، ولا تعلم أهلي لئلا يغيّروا كفني بحرام . قال السري : فجلست عنه ، ففتح عينيه وقال : لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ثم مات . فأخذت الدراهم ، واشتريت ما يحتاج إليه ، وإذا الناس يهرعون ، فقلت : ما الخبر ؟ فقيل : مات وليّ من أولياء اللّه تعالى ، ونريد أن نصلي عليه ، فصلّينا عليه ودفنّاه . فلما كان بعد مدة بعث أهله إليّ يستعلمون خبره ، فأخبرتهم بموته .
فأقبلت امرأته باكية ، وسألتني أن أريها قبره ، فقلت : أخاف أن تغيّروا كفنه ، فقالت : لا واللّه ، فأريتها القبر ، فبكت وأمرت بإحضار شاهدين ، فأحضرتهما ، وأعتقت جواريها ، ووقفت عقارها ، وتصدّقت بمالها ، ولزمت قبره حتى ماتت .
دخل على شيخنا الأديب ابن سعد بمسجده بإشبيلية فتى وسيم الوجه به لثغ يردّ السين ثاء ، وكان اسمه عيسى ، فقال له الأستاذ : ما اسمك يا بنيّ ؟
فقال : عيثا ، فقال الشيخ :
وأغيد كالقضيب معطفه * يحكي لنا في الكلام تخنيثا
سألته والسؤال يخجله * ما اسمك يا بدر قال لي عيثا
ودخل شاب آخر به لثغ يردّ الراء غينا على الأديب الملقب بالأبيض ، فجرى بين الصبي وبين الأبيض حديث إلى أن قال له : ما غذاؤك ؟ فقال الصبي : القاند والسكغ ، فطرب الأبيض وقال في الحين :
وألثغ ما مثله ألثغ * كأنه من فضة مفرغ
“ 72 “
قلت له مولاي ما تغتذي * فقال لي القاند والسكغ
اجتمع جماعة من أصحابنا من قرطبة بقرطبة ، منهم أبو الحسن بن خروف الأديب ، وعمر الجزّار وغيرهم ، فرأوا حلقة فيها صبي وسيم لوجه سندي ، يلعب للناس ، وينطوي حتى يجعل رأسه بين رجليه ، والناس يتعجبون من لطفه ومحاسنه ، فقال واحد منهم :
ومنوّع الحركات يختلس النهى * لبس المحاسن عند خلع لباسه
وقال الآخر :
متأوّدا كالغصن فوق كتيبة * متلاعبا كالظبي عند كناسه
وقال الآخر :
ويضمّ للقدمين منه برأسه * كالسيف ضمّ ذبابه لرساسه
تاريخ فتح عمورية
فتحها المعتصم في شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين ومائتين ، وكان المعتصم شجاعا مقداما ، وكان يقال له المثمن ، فإنه كان له إلى الثمانية أحد عشر وجها :
الأول : أنه ثامن ولد العباس .
الثاني : أنه ثامن خلفاء بني العباس .
الثالث : أنه ولّي سنة ثمانية عشرة ومائتين .
الرابع والخامس : أنه كانت خلافته ثمان سنين وثمانية أشهر .
السادس : أنه توفي وله ثمان وأربعون سنة .
السابع : أنه ولد ثامن شهر من السنة وهو شعبان .
الثامن : أنه خلّف ثمانية ذكور .
التاسع : أنه خلّف ثمان بنات .
العاشر : أنه غزا ثمان غزوات .
الحادي عشر : أنه خلّف ثمانمائة ألف دينار ، ومثلهما دراهم ، فيكون له على هذا اثنا عشر وجها إلى الثمانية .
فأما سبب فتحه لعمورية فهو ما ذكره أهل التواريخ أن رجلا وقف على المعتصم
“ 73 “
فقال : يا أمير المؤمنين ، كنت بعمورية وجارية من أحسن النساء أسيرة ، قد لطمها علج في وجهها . فنادت : وا معتصماه ، فقال العلج : وما يقدر عليه المعتصم ؟
يجيء على أبلق ينصرك ؟ وزاد في ضربها . فقال المعتصم : وفي أية جهة عمورية ؟
فقال له الرجل ، وأشار إلى جهتها : هكذا ، فردّ المعتصم وجهه إليها وقال : لبّيك أيتها الجارية ، لبيك هذا المعتصم باللّه أجابك . ثم تجهّز إليها في اثني عشر ألف فرس أبلق .
وفي هذه التلبية يقول له في قصيدته حبيب مفرد :
لبّيت صوتا رطيبا قد هرقت له * كأس الكرى ورضاب الخرد العرب
فلما حصرها وطال مقامه عليها ، جمع المنجّمين فقالوا له : إنّا نرى أنك ما تفتحها إلا في زمان نضج العنب والتين ، فبعد عليه ذلك ، واغتمّ لذلك .
فخرج ليلة مع بعض حشمه متحشما في العسكر يسمع ما يقول الناس ، فمرّ بخيمة حدّاد يضرب نعال الخيل وبين يديه غلامه أقرع قبيح الصورة ، وهو يضرب على السندان ويقول : في رأس المعتصم ، فقال له معلمه : اتركنا من هذا ، ما لك والمعتصم ؟
فقال : ما عنده تدبير ، له كذا وكذا يوم على هذه المدينة مع قوّته ولا يفتحها ، لو أعطاني الأمر ما بات غدا إلا فيها .
فتعجب المعتصم مما سمع ، وترك بعض رجاله موكلا به ، وانصرف إلى خبائه . فلما أصبح جاءوه به فقال : ما حملك يا هذا على ما بلغني عنك ؟
فقال الرجل : الذي بلغك حق ، ولّني ما وراء خبائك ، وقد فتح اللّه فيها ، فقال : قد ولّيتك ، وخلع عليه ، وقدّمه على الحرب ، فجمع الرماة ، واختار منهم أهل الإصابة ، وجاء إلى بدن من أبدان الصور ، وفي البدن من أوله إلى آخره خط أسود ، عرضه ثلاثة أشبار أو أكثر ، فحمى السهام بالنار ، فقال للرماة :
من أخطأ منكم ذلك الخط الأسود ضربت عنقه ، وإذا بذلك الخط خشب ساج ، فعند ما حصلت فيه السهام المحمية قام النار فيه واحترق ، فنزل البدن كما هو ، وتحمى الرجال ، ودخل البلد بالسيف ، وذلك قبل الزمان الذي ذكره المنجّمون .
وفي ذلك يقول حبيب في قصيدته :
السيف أصدق أنباء من الكتب * في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في * متونهنّ جلاء الشكّ والريب
والعلم في شهب الأرواح لامعة * بين الخميسين لا في السبعة الشهب
وخوّفوا الناس من دهياء داهية * إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
تخرّصا وأحاديثا ملفقة * ليست بنبع إذا عدّت ولا عزب
ثم مشى في القصيدة إلى ذكر يعرض بتاريخ المنجمين في التين والعنب ، فقال :
“ 74 “
تسعون ألفا كآساد الشّرى نضجت * جلودهم قبل نضج التين والعنب
ولم تفتح من الوقت الذي أثبت فذكر ذلك في قصيدته ، وذكر منعتها وقوّتها فقال :
من عهد إسكندر أو قبل ذاك فقد * شابت نواصي الليالي وهي لم تشب
بكر فما انتزعتها كفّ حادثة * ولا ترقّت إليها همّة النوّاب
فلما دخلها ومعه الرجل الذي بلّغه حديث الجارية قال له : سر بي إلى الموضع الذي رأيتها فيه ، فسار به ، وأخرجها من موضعها ، وقال لها : يا جارية هل أجابك المعتصم ؟
وملّكها العلج الذي لطمها ، والسيد الذي كان يملكها ، وجميع ماله .
ومن سير عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه
ما حدثنا محمد بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن علي ، عن محمد بن أبي طاهر ، عن الحسن بن علي الجوهري ، عن أبي عمر بن حمويه ، عن أحمد بن معروف ، عن الحسين بن الفهم ، عن محمد بن سعد ، عن يزيد بن هارون ، عن يحيى بن المتوكل ، عن عبد اللّه بن نافع ، عن أبيه ، عن ابن عمر قال : قدمت رفقة من التجار في أيام خلافة عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، فنزلوا المصلى ، فقال عمر لعبد الرحمن : هل لك أن نحرسهم الليلة من السرّاق ؟ فباتا يحرسانهم ويصليان ما كتب اللّه لهما ، فسمع عمر بكاء صبي فوجه نحوه وقال لأمه : اتق اللّه وأحسني إلى صبيّك ، ثم عاد إلى مكانه ، فسمع بكاءه ، فعاد إليها بمثل تلك المقالة ، ثم عاد إلى مكانه ، فلما كان من آخر الليل سمع بكاءه ، فعاد إليها فعاتبها في لبنها ، ثم سألها عن شأن بكائه ، فقاله له : يا هذا الرجل ، إني أريد أن أفطمه وهو يبكي على الثدي ، فقال لها : وكم له ؟ قالت : كذا وكذا شهرا ، فقال لها : فما حملك على تعجيل فطامه ؟ قالت : إن عمر أمر أن لا يفرض لصبي إلا بعد الفطام ، وأنا محتاجة ، فأحبّ أن أفطمه حتى يفرض له ، فقال لها : ويحك ، أرضعيه ولا تعجليه بالفطام . ثم صلى الفجر بالناس وما يستبين للناس قراءته من غلبة البكاء عليه . فلما سلّم قال : يا بؤسا لعمركم قتل من أولاد المسلمين ، ثم أمر مناديا فنادى : لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام ، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام .
وبالإسناد إلى محمد بن سعد قال : أخبرنا محمد بن عمر قال : حدثني عبد اللّه بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن جده ، قال : كان عمر يديم الصوم ، وكان زمان الرمادة ، فإذا أمسى أتى بالخبز قد ثرد الزيت ، إلى أن نحر يوما من الأيام جزورا ، فأطعمها الناس ، وغرفوا له طيبها ، فأتى به فإذا قدر قطعة من سنام ومن كبد ، فقال : أنّى هذا ؟ قالوا : يا أمير
“ 75 “
المؤمنين من الجزور الذي نحرنا اليوم ، فقال : بخ بخ ، بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها وأطعمت الناس كراويشها ، ارفع هذه الجفنة وهيّئ لنا غير هذا الطعام ، فأتى بخبز وزيت ، فجعل يكسره بيده ويثرد ذلك الخبز ، ثم قال : ويحك يا برقيّ ، ارفع هذه الجفنة حتى تأتي بها أهل بيت ربيع ، فإني لم آتهم منذ ثلاثة أيام ، وأحسبهم مقفرين ، وضعها بين أيديهم .
وروينا من حديث أنس بن مالك قال : بينما عمر يعسّ المدينة إذ رأى بيتا من شعر لم يكن بالأمس ، فدنا منه ، فسمع أنين امرأة ، ورأى رجلا قاعدا ، فدنا منه فقال : من الرجل ؟
قال : رجل من أهل البادية جئت إلى أمير المؤمنين أصيب من فضله . قال : فما هذا الأنين ؟
قال : امرأة تمخض ، قال : هل عندها أحد ؟ قال : لا ، فانطلق إلى منزله فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : هل لك في أجر ساقه اللّه إليك ؟ قالت : وما هو ؟ قال : امرأة تمخض ليس عندها أحد ، قالت : إن شئت ، قال : خذي ما يصلح للمرأة من الخرق والدهن ، وجيئيني ببرمة وشحم وحبوب ، فجاءت به ، فحمل البرمة ، ومشت خلفه حتى انتهى إلى البيت ، فقال : ادخلي إلى المرأة ، وجاء حتى قعد إلى الرجل فقال له :
أوقد لي نارا ، ففعل وأوقد تحت البرمة حتى أنضجها ، وولدت المرأة ، فقالت له امرأته : يا أمير المؤمنين ، بشّر صاحبك بغلام . فلما سمع الرجل يا أمير المؤمنين كأنه هابه ، فجعل يتنحّى عنه ، فقال له : مكانك كما كنت . فحمل عمر البرمة حتى وضعها على الباب ، ثم قال : أشبعيها ، ففعلت ، ثم أخرجت البرمة فوضعتها على الباب ، فقام عمر فأخذها فوضعها بين يدي الرجل ، فقال : كل ، ويحك فإنك قد سهرت من الليل ، ففعل ، ثم قال لامرأته : أخرجي ، وقال للرجل : إذا كان غدا فائتنا نأمر لك بما يصلح ، فأتاه ، فأجازه وأعطاه .
ومن مواعظ علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه
ما رويناه من حديث أبي بكر بن أبي الدنيا قال : حدثنا علي بن الحسن بن أبي مريم ، عن عبد اللّه بن صالح بن مسلم العجلي ، عن معاد الهراء قال : سمع علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه رجلا يسبّ الدنيا ، فقال علي رضي اللّه عنه : إنها لدار صدق لمن صدقها ، ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزوّد منها ، مسجد أحبّاء اللّه عز وجل ، ومهبط وحيه ، ومصلّى ملائكته ، ومتجر أوليائه ، اكتسبوا فيه الرحمة ، وربحوا فيها الجنة . فمن ذا يذمّ الدنيا ؟ وقد أذنت بفراقها ، ونادت بعيبها ، ونعت نفسها وأهلها ، فمثلت ببلائها البلاء ، وشوّقت بسرورها إلى السرور ، فذمّها قوم عند الندامة ، وحمدها آخرون ، ذكّرتهم فذكروا :
“ 76 “
يا أيها المغرور بغرورها ، متى غرّتك مضاجع آبائك في الثرى ؟ أم مضاجع أمهاتك في البلا ؟ كم قلّبت بكفيك ، ومرضت بيديك تطلب له الشفاء وتسأل له الأطباء ؟ لم تظفر بحاجتك ، ولم تسعف بطلبتك ، قد مثلت لك الدنيا مصرعك غدا ، ولا يغني عنك بكاؤك ، ولا ينفعك أحبّاؤك .
ومن مواعظ سعيد بن عامر بن حديم لعمر
ما روينا من حديث ابن أبي الدنيا قال : حدثني يعقوب بن عبيد ، ثنا أبو مسهر ، عن سعيد بن عبد العزيز قال : قال سعيد بن عامر بن حديم لعمر رضي اللّه عنه : إني موصيك بكلمات من جوامع الإسلام ومعالمه ، قال : أجل ، فإن اللّه قد جعل عندك أدبا قال : اخش اللّه في الناس ، ولا تخش الناس في اللّه ، ولا يخالف قولك فعلك ، فإن خير القول ما صدقه الفعل ، ولا تقض في أمر واحد بقضاءين فيختلف عليك أمرك ، واحبب لقريب المسلمين وبعيدهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك ، وخض الغمرات إلى الحق حيث علمته ، ولا تخف في اللّه لومة لائم . قال عمر : ومن يستطيع ذلك يا سعيد ؟ قال : من ركب في عنقه مثل الذي ركب في عنقك .
موعظة
روينا من حديث المالكي قال : حدثنا علي بن الحسن الربعي قال : حدثني محمد بن عبد الرحمن القرشي ، عن أبيه قال : كتب بعض الحكماء إلى ملك من ملوكهم : إن أحقّ الناس بذمّ الدنيا وقلاها من بسط له فيها ، وأعطى حاجته منها ، لأنه يتوقع آفة تعدو على ماله فتجتاحه ، أو على جمعه فتفرقه ، أو تأتي سلطانه من القواعد فتهدمه ، أو تدبّ إلى جسمه فتسقمه ، وتفجعه بمن هو ضنين به من أحبابه وأهل مودّته ، فالدنيا أحقّ بالذمّ ، هي الآخذة ما تعطي ، الراجعة فيما تهب ، بينما تضحك صاحبها إذ أضحكت منه غيرة ، وبينما هي تبكي له إذ أبكت عليه ، وبينما هي تبسط كفيه بالإعطاء إذ بسطتها بالمسألة ، تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم ، وتعفره بالتراب غدا ، سواء عليها ذهاب من ذهب ، وبقاء من بقي ، تجد في الباقي من الذهب خلفا ، وترضى من كل بدلا .
روي عن المزني قال : دخلت على الشافعي رضي اللّه عنه في مرضه الذي مات فيه ، فقلت له : كيف أصبحت ؟ فقال : أصبحت من الدنيا راحلا ، وللإخوان مفارقا ، ولسوء عملي ملاقيا ، وبكأس المنية شاربا ، وعلى اللّه واردا ، فلا أدري أروحي تصير إلى الجنة
“ 77 “
فأهنّئها ، أم إلى النار فأعزّيها ؟ ثم أنشأ يقول :
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي * جعلت رجائي نحو عفوك سلّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته * بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل * تجود وتعفو منّة وتكرّما
حكاية عن ملك زهد في الدنيا
روينا من حديث أحمد بن محمد بن حنبل ، عن يزيد بن هارون ، ثنا المسعودي ، عن سماك بن حرب ، عن عبد الرحمن بن عبد اللّه ، عن أبيه ، عن ابن مسعود قال : بينا رجل ممن كان قبلكم في مملكته ، فتفكّر ، فعلم أن ذلك منقطع عنه ، وأن ما هو فيه قد شغله عن عبادة ربه ، فانساب ذات ليلة من قصره ، فأصبح في مملكة غيره ، فأتى ساحل البحر ، فكان يضرب اللبن بالأجرة ، فيأكل ويتصدّق بالفضل ، فلم يزل كذلك حتى وصل أمره إلى ملكهم ، فأرسل ملكهم إليه أن يأتيه ، فأبى ، فأعاد إليه الرسول ، فأبى وقال : ما لك وما لي ؟ فركب الملك إليه ، فلما رآه الرجل ولّى هاربا ، فلما رأى ذلك الملك ركض في أثره فلم يدركه ، فناداه : يا عبد اللّه ، إنه ليس عليك مني بأس ، فأقام حتى أدركه ، فقال : من أنت يرحمك اللّه ؟ قال : أنا فلان ابن فلان صاحب ملك كذا وكذا ، تفكّرت في أمري ، فعلمت أن ما أنا فيه منقطع عني ، وأنه قد شغلني عن عبادة ربي ، فتركته وجئت هاهنا أعبد ربي عز وجل .
فقال : ما أنت بأحوج مما سمعت مني ؟ قال : ثم نزل عن دابته فسيّبها ، ثم تبعه ، فكانت جميعا يعبدان اللّه عز وجل ، فدعوا اللّه عز وجل أن يميتهما جميعا ، فماتا .
قال عبد اللّه : فلو كنت برميلة مصر لأريتكم قبريهما بالنعت الذي نعت لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
قصة يحيى بن توغان ملك تلمسان وهو من خئولتنا
حدثني أخوالي ووالدي رحمهم اللّه ، قالوا : كان بتلمسان الملك يحيى ، فنزل يوما في موكبه من مدينة أقادر ، يريد المدينة الوسطى ، وبينهما بقيع فيه قبور ، فبينا هو يسير وإذا برجل متعبّد يمشي لحاجته ، فمسك عنانه وسلّم عليه ، فردّ الرجل العابد السلام ، وكلّمه بأشياء ، فكان من بعض ما كلّمه به الملك أن قال له : أيها العابد ، ما تقول في الصلاة في هذه الثياب التي عليّ ؟ فاستغرق العابد ضحكا ، فقال له : ممّ تضحك ؟ قال : من سخف
“ 78 “
عقلك ، وما رأيت لك أيها الملك في هذا المسألة شبيها إلا الكلب . قال : وكيف ؟ قال :
الكلب يتمعّك في الجيفة ، ويتلطخ بدمها ، فإذا أراد أن يبوّل رفع رجله حتى لا يصيبه البول ، وأنت حرام كلك وتسأل عن ثيابك . فاستعبر الملك باكيا ، وزل من حينه عن دابته وتجرّد من ثيابه ، فرمى عليه بعض العامة من أهل الدين ثوبا ، وقال لأهل دولته : انظروا لأنفسكم فلست لكم بصاحب .
واقتفى أثر العابد ، فصعد معه إلى العبادة بموضع عال بقبلة تلمسان ، وأقام معه ثلاثة أيام . ثم أمره العابد بالاحتطاب ، فجعل الملك يحتطب ويبيع بسوق تلمسان ، ويأكل ويتصدّق بالفضل ، وكان الناس إذا أتوا إلى العابد يسألونه الدعاء فيقول : سلوا يحيى في الدعاء ، فإنه خرج عن قدرة .
ويقال : إن ذلك العابد كان أبا عبد اللّه التنوسي . وقفت أنا على قبريهما وقبر الشيخ أبي مدين بالعباد بظاهر تلمسان .
روينا من حديث أحمد بن حنبل ، عن أسباط بن محمد ، ثنا هشام بن سعد ، عن عبد اللّه بن عباس قال : كان للعباس ميزاب على طريق عمر ، فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة ، وكان إذ ذاك خليفة ، وكان ذبح للعباس فرخان ، فلما وافى الميزاب صبّ ماء بدم الفرخين فأصاب عمر فأمر بقلعه ، ثم رجع فطرح ثيابه ولبس ثيابا غير ثيابه ، ثم جاء فصلّى بالناس ، فأتاه العباس فقال : واللّه إنه للموضع الذي وضعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال عمر للعباس : فأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ففعل ذلك العباس .
وروينا من مواعظ علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، أنه ذكّر الناس يوما في خلافته فقال : إنك مخلوقون اقتدارا ، ومربوبون اقتسارا ، ومضمّنون أجداثا ، وكائنون رفاتا ، ومبعوثون أفرادا ، ومدينون حسابا . فرحم اللّه عبدا اقترف فاعترف ، ووجل فعمل ، وحاذر فبادر ، وعمر فاعتبر ، وحذر فازدجر ، وراجع فتاب ، واقتدى فاحتذى ، فتأهّب للمعاد ، واستظهر بالزاد ليوم رحيله ، ووجه سبيله ، وحال حاجته ، وموطن فاقته ، فقدم أمامه لدار مقامه . فمهّدوا لأنفسكم في سلامة الأبدان ، فهل ينتظر أهل غضارة الشباب إلا خوّافي الهرم ؟ وأهل بضاضة الصحة إلا نوازل السقم ؟ وأهل مدة البقاء إلا مفاجآت الفجا ، واقتراب الفوت ، ونزول الموت ، وخفر الأنين ، ورشح الجبين ، وامتداد العرنين ، وألم المضض ، وغصص الحرض ؟ فاتقوا اللّه تقية من شمر تجريدا ، وجدّ تشميرا ، وانكمش في مهل ، وأشفق في وجل ، ونظر في كره الموئل ، وعاقبة المصير ، ومغبة المرجع ، فكفى باللّه
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin