الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء السابع
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
ومن محاسن المخاطبة
ما قال عمارة بن حمزة لأبي العباس وقد أمر له بجوهر نفيس : وصلك اللّه يا أمير المؤمنين وبرّك ، فو اللّه لو أردنا شكرك على أنعامك ليقصرنّ شكرنا على نعمتك ، كما قصر اللّه بنا عن منزلتك .
“ 93 “
ودخل إسحاق بن إبراهيم الموصلي على الرشيد فقال : ما لك ؟ فقال :
سوامي سوام المكثرين تجمّلا * ومالي كما قد تعلمين قليل
وآمرة بالبخل قلت لها اقصري * فذلك شيء ما إليه سبيل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى * ورأي أمير المؤمنين جميل
أرى الناس خلّان الجواد ولا أرى * بخيلا له في العالمين خليل
فقال الرشيد : واللّه هذا الشعر الذي صحت معانيه ، وقويت أركانه ومبانيه ، ولذّ على أفواه القائلين ، وأسماع السامعين . يا غلام ، احمل إليه خمسين ألف درهم . قال إسحاق :
يا أمير المؤمنين ، كيف أقبل صلتك وقد مدحت شعري بأكثر مما مدحتك به ؟ قال الأصمعي : فعلمت أنه أصيد للدراهم مني .
ودخل المأمون ذات يوم الديوان ، فنظر إلى غلام جميل على أذنه قلم فقال : من أنت ؟ قال : أنا الناشئ في دولتك ، المتقلب في نعمتك ، المؤمّل لخدمتك ، الحسن بن رجاء . فقال المأمون : بالإحسان في البديهة تتفاضل العقول ، يرفع عن مرتبة الديوان إلى مرتبة الخاصة ، ويعطى مائة ألف درهم تقوية له .
ووصف يحيى بن خالد الفضل بن سهل وهو غلام على المجوسية للرشيد ، وذكر أدبه وحسن معرفته ، فعمل على ضمّه إلى المأمون ، فقال ليحيى يوما : أدخل يوما عليّ هذا الغلام حتى أنظر إليه فأوصله ، فلما مثل بين يديه ووقف تحيّر ، وأراد الكلام فارتج عليه ، فأدركته كبوة ، فنظر الرشيد إلى يحيى نظرة منكرة ، لما كان تقدم به في حقه ، فانبعث الفضل بن سهل فقال : يا أمير المؤمنين ، إن من أبين الدلالة على فراهة المملوك شدّة إفراط هيبته لسيده ، فقال له الرشيد : أحسنت واللّه ، لئن كان سكوتك لتقول هذه إنه لحسن ، وإن كان شيئا أدركك عند انقطاعك لأحسن وأحسن .
ثم جعل لا يسأله عن شيء إلا رآه فيه مقدما ، فضمّه إلى المأمون .
المزاح
روينا من حديث الدينوري ، عن محمد بن المغيرة المازني ، عن خالد بن عمرو ، عن الربيع بن صبح ، عن الحسن قال : المزاح يذهب بالمروءة .
وأنشد محمد بن المغيرة :
أخوك الذي إن سؤته قال إنني * أسأت وإن عاتبته لان جانبه
“ 94 “
فعش واحدا أو صل أخاك فإنه * مفارق ذنب مرّة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى * ظمئت وأيّ الناس تصفو مشاربه
بالعدل يكثر الخراج وينمو المال
روينا من حديث المالكي ، عن إبراهيم الحرّاني ، عن سليمان بن أبي شيخ ، عن صالح بن سليمان قال : قال عمر بن عبد العزيز : لو تخابثت الأمم وجئنا بالحجاج لغلبناهم ، وما كان يصلح لدنيا ولا لآخرة ، لقد ولّي العراق وهي أوفر ما تكون من العمارة ، فأخسّ بها حتى صيّر خراجها أربعين ألف ألف ، وقد أدى إليّ عاملي هذا منها ثمانين ألف ألف ، وإن بقيت إلى قابل رجوت أن يؤدي إليّ ما أدّوا إلى عمر بن الخطاب مائة ألف ألف .
وصية بمكارم الأخلاق ممن بلغت نفسه التراق
روينا من حديث الدينوري ، عن أبي بكر بن أبي الدنيا ، عن زكريا بن يحيى ، نبأ عمر بن حصين ، عن جدّه حميد بن منهب ، عن جرثم قال : لما حضر أبي أوس بن حارثة الوفاة جمعنا فقال : يا بني ، إني قلت أبياتا فاحفظوها عني :
لنا خير أخلاق ونحن أعزّة * نعفّ ونأبى أن نذمّ وننصبا
نجاور أكفانا وننزل بالرّبى * ولأنك عن خير المشاهد غيّبا
ونجتنب الآفات والإثم كله * ونحمي حمانا رهبة أن نؤنبا
بذلك أوصانا أبينا وجدّنا * وتحرمنا أحسابنا أن ننوّبا
فنحن مناجيب لأكرم منجب * وجدّ أبينا كان من قبل منجبا
وما يبتغي فينا المجاور خيفة * وكلّا ومن زار الصفا والمحصّبا
ومن حديثه أيضا عن أحمد بن محمد ، أنشدني إسماعيل بن زيد :
أحبّ الفتى ينفي الفواحش سمعه * كأن به عن كل فاحشة وقرا
سليم دواعي الصدر لا باسطا يده * ولا ضائقا خيرا ولا قائلا هجرا
إذا ما أتت من صاحب لك زلّة * فكن أنت محتالا لزلته عذرا
غنى النفس ما يكفيك من سدّ فاقة * فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا
ومما لا بدّ منه ما قال النابغة :
حسب الخليلين أن الأرض بينهما * هذا عليها وهذا تحتها بالي
“ 95 “
ومن باب من طرد فلزم حتى قبل
أخبرني شيخ بالتنعيم ونحن محرمين نلبّي فقال : جاور هنا شيخ سبعين سنة ما منها حجة يحجها أو عمرة يعتمرها إلا يقال له عندما يقول لبّيك : لا لبيك ، ولا سعديك ، فأحرم معه يوما شاب ، فقال الشيخ : لبيك اللهمّ لبيك ، فسمع الشاب قائلا يقول له : لا لبيك ، فقال له : يا عم ، قد قيل لك لا لبيك ، فبكى الشيخ ، فقال له : يا ولدي أسمعته ؟ قال الشاب : نعم ، فقال له الشيخ : إن لي أسمعه سبعين سنة ، قال له الشاب : ففيم تتعب ؟
قال : يا بني ، فإلى باب من ألزم ؟ وإلى من أرجع ؟ إنما لي اللزوم والجهد ، وله سبحانه القبول إن شاء ، أو الردّ . يا بني ، لا ينبغي أن يطرده هذا عن باب مولاه ، ولا يحول بينه وبين خدمته .
وبكى الشيخ حتى جرت دموعه على صدره ، ثم رفع صوته بالتلبية ، فسمع الشاب ذلك القائل يقول له : قد قبلنا إجابتك ، وهكذا فعلنا بكل من حسّن الظن بنا ، مع الاجتهاد في خدمتنا ، ولزوم طاعتنا ، وإيثار ذكرنا على ذكر غيرنا ، لا من يتبع هواه ، ويتمنى علينا الأماني . فقال الشاب : أما سمعت ما ردّ عليك ؟ قال : سمعت ، وعلا نحيبه ، واشتدّ بكاؤه .
أخبرني عبد الرحمن ، عن عبد اللّه بن حبيب ، عن عبد الغفار بن محمد ، عن ابن أبي الصادق ، عن ابن باكويه ، عن الحسن بن أحمد ، عن محمد بن داود ، عن أبي عبد اللّه الجلّاء قال : كنت بذي الحليفة وشابّ يريد أن يحرم ، فكان يقول : يا رب ، أريد أن أقول لبّيك اللهم لبّيك ، فأخشى أن تجيبني بلا لبّيك ولا سعديك ، يردّد ذلك مرارا .
ثم قال : لبيك اللهم ، مدّ بها صوته ، وخرجت روحه .في شرف التواضع والعلم ميزان الخشية
حدثنا أبو محمد بن عبد اللّه ، نبأ علي بن الحسن ، نبأ عبد اللّه بن محمد بن أحمد ، نبأ جدّي أحمد بن الحسين ، أنا أبو بكر بن الحسن القاضي ، أنا أبو جعفر أحمد بن علي بن رحيم ، نبأ محمد بن الحسين بن أبي الحسن ، نبأ سعيد بن منصور ، نبأ الحارث بن عبيد اللّه الإيادي ، عن أبي عمر بن الجوبي ، عن أنس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : “ بينا أنا جالس إذ جاء جبريل عليه السلام فوكز بين كتفيّ فقمت “ ، يعني إلى شجرة “ فيها مثل وكري طائر ، فقعد جبريل عليه السلام في أحدهما ، وقعدت في الآخر ، فسمت وارتقت حتى سدّت الخافقين ، وأنا أقلب طرفي ، فلو شئت أن أمسّ السماء مسست “ .
“ 96 “
وفي حديث ابن عطارد : « فلو بسطت يديّ إلى السماء لنلتها . ففتح باب من أبواب السماء ، فرأيت النور الأعظم » .
قال ابن عطارد : « فدلّى بسبب ، وهبط النور ، فوقع جبريل مغشيّا عليه كأنه خلس ، فعرفت فضل خشيته على خشيتي » .
وقال أنس : « فضل علمه باللّه عليّ ، وإذا دوني حجاب ، رفرف الدرّ والياقوت » .
قال ابن عطارد : « فأوحى إليّ نبيّا ملكا ، أو نبيّا عبدا ، فأومأ إليّ جبريل وهو مضطجع أن تواضع ، قلت : لا بل نبيّا عبدا » .
وقال ابن عباس في حديثه : فما أكل بعد تلك الكلمة طعاما متكئا حتى لقي ربه .
وخالفهما في المتن بل لم يذكر من الحديث إلا قصة التخيير ، فلعله هذا الحديث أو غيره .
في قوله تعالى : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
حدثنا أبو بكر السجستاني ، نبأ علي بن إبراهيم ، نبأ سعد الخير ، عن محمد بن محمد المطرّزي ، نبأ أحمد بن عبد اللّه ، نبأ إبراهيم بن عبد اللّه بن إسحاق ، نبأ محمد بن إسحاق الثقفي ، انا قتيبة بن سعيد ، نبأ رشيد بن سعد ، عن سعيد بن عبد الرحمن المغافري ، عن أبيه ، أن كعب الأحبار رأى حبر اليهود يبكي فقال : ما يبكيك ؟ قال : ذكرت بعض الأمر ، فقال له كعب : أنشدك باللّه لئن أخبرتك ما أبكاك لتصدقني ؟ قال : نعم ، قال : أنشدك باللّه هل تجد في كتاب اللّه المنزل أن موسى نظر في التوراة ؟ فقال : يا رب ، إني أجد أمة في التوراة « خير أمة أخرجت للناس يأمر من بالمعروف وينهون عن المنكر » ويؤمنون بالكتاب الأول ، والكتاب الآخر ، ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلون الأعور الدجّال . قال : فقال موسى : رب اجعلهم أمتي ، قال : هم أمة أحمد يا موسى ، قال الحبر : نعم .
قال كعب : فأنشدك باللّه هل تجد في كتاب اللّه المنزل أن موسى نظر في التوراة ، فقال : رب إني أجد أمة هم الحمّادون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمرا ؟ قالوا :
نفعله إن شاء اللّه فاجعلهم أمتي ، قال : هم أمة أحمد يا موسى ، قال الحبر : نعم .
قال كعب : أنشدك باللّه هل في كتاب اللّه المنزل أن موسى نظر في التوراة ، فقال :
رب إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبّر اللّه ، وإذا هبط واديا حمد اللّه ، الصعيد لهم طهور ، والأرض لهم مسجد ، حيثما كانوا يطهّرون من الجنابة ، طهورهم بالصعيد
“ 97 “
كطهورهم بالماء ، حيث لا يجدون الماء ، غرّ محجّلون من أثر الوضوء ، فاجعلهم أمتي .
قال : هم أمة أحمد يا موسى ، قال الحبر : نعم .
قال كعب : أنشدك باللّه هل تجد في كتاب اللّه المنزل أن موسى نظر في التوراة ، فقال : رب إني أجد أمة مرحومة ضعفاء ، يرثون الكتاب ، فاصطفيتهم ، فمنهم ظالم لنفسه ، ومنهم مقتصد ، ومنهم سابق بالخيرات ، فلا أجد واحدا منهم إلا مرحوما ، فاجعلهم أمتي ، قال : هم أمة أحمد يا موسى ، قال الحبر : نعم .
قال كعب : أنشدك باللّه هل تجد في كتاب اللّه المنزل أن موسى عليه السلام نظر في التوراة ، فقال : رب إني أجد في التوراة أمة ، مصاحفهم في صدورهم ، يلبسون ثياب أهل الجنة ، يصطفون في صلاتهم كصفوف الملائكة ، أصواتهم في صلاتهم كدويّ النحل ، لا يدخل النار منهم أحد إلا من برئ من الحسنات مثل ما برئ الحجر من ورق الشجر ، قال موسى : فاجعلهم أمتي . قال : هم أمة أحمد يا موسى ، قال الحبر : نعم .
قال كعب : أنشدك باللّه هل تجد في كتاب اللّه المنزل أن موسى عليه السلام لما نزلت عليه التوراة وقرأها فوجد فيها ذكر هذه الأمة قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة هم السابقون المشفوع لهم فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد .
قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة هم المسبّحون المستجيبون والمستجاب لهم فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد . قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة يأكلون الفيء فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد . قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة يجعلون الصدقة في بطونهم يؤجرون عليها فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد . قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة وإن عملها كتبت له عشر حسنات فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد . قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بسيئة فلم يعملها لم تكتب وإن عملها كتبت سيئة واحدة فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد . قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة يؤتون العلم الأول والعلم الآخر فيقتلون قرون الضلالة المسيح الدجّال فاجعلها أمتي ، قال : تلك أمة أحمد . قال : قال الحبر : فلما عجب موسى عليه السلام من الخير الذي أعطاه اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم وأمته ، قال : يا ليتني من أصحاب محمد .
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « يا رب ، اجعلني من أمة محمد » . قال الحبر : نعم ، فأوحى اللّه تعالى إليه ثلاث آيات يرضيه بهن : يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ . وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلى قوله : دارَ الْفاسِقِينَ . وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ .
“ 98 “
لم يذكر أبو هريرة في حديثه سوى الخصلتين : الرسالة والكلام . وذكره معاوية والسياق من مصاحفهم في صدورهم ، في هذا الحديث إليّ من أصحاب محمد لأبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ذكرناه من رواية محمد بن الحسن ، عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، عن جبارة بن المفلس ، عن الربيع بن النعمان ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه .
بلاغة واعتراف
روينا من حديث أحمد بن داود ، عن المازني ، عن الأصمعي قال : قيل لأعرابي : ما أحسن الثناء عليك ؟ فقال : بلاء اللّه عندي أحسن من وصف المادحين وإن أحسنوا ، وذنوبي إلى اللّه أكثر من عيب الذامين وإن كثروا ، فيا أسفي على ما فرطت في جنب اللّه ، ويا سوأتاه مما قدمت .
حكمة
قال ابن داود : قال محمد بن سلام : قال قرشي لحكيم من العرب : علّمني الحلم ، فقال له : إن الحلم هو الذلّ ، فاصبر عليه .
موعظة
روينا عن أحمد بن عبّاد قال : أنشدني الرياشي :
لا يبعد اللّه إخوانا لنا بعدوا * أفناهم حدثان الدهر والأبد
يمدّهم كل يوم من بقيّتنا * ولا يردّ إلينا منهم أحد
وروينا من حديث أحمد بن الحسين الأنماطي قال : أنشدنا سعيد الحرميّ ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أولى بما قال :
أما القبور فإنهنّ أوانس * بجوار قبرك والديار قبور
عمّت مصيبته فعمّ هلاكه * فالناس فيهم كلهم مأجور
ردّت صنائعه إليه حياته * فكأنه من نشرها منشور
حدثنا أبو بكر السجستاني ، نبأ هبة اللّه بن علي ، نبأ ابن البركات السعيدي ، نبأ محمد بن سلامة ، نبأ أحمد بن محمد بن الحاج ، انا عبد اللّه الفضل بن عبيد الهاشمي ،
“ 99 “
حدثنا أبو محمد بكر بن سهل الدمياطي إملاء ، نبأ محمد بن أبي السريّ ، نبأ عبد العزيز بن عبد الصمد ، نبأ أبان بن أبي عياش ، عن أنس بن مالك قال : خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ناقته الجدعاء فقال في خطبته : « أيها الناس ، كان الحق فيها على غيرنا وجب ، وكان الموت فيها على غيرنا كتب ، وكان الذين نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون ، نبوّئهم أجداثهم ، ونأكل تراثهم ، كأنّا مخلدون بعدهم ، قد نسينا كل واعظة ، وأمنّا كل جائحة ، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ، وأنفق من مال اكتسبه من غير معصية ، وخالط أهل الفقه والحكمة ، وجانب أهل الذل والمعصية ، طوبى لمن ذلّ في نفسه ، وحسنت خليقته ، وأنفق الفضل من ماله ، وأمسك الفضل من قوله ، ووسعته السّنّة ولم يعدها إلى بدعة » .
خبر وحي عيسى عليه السلام
حدثنا عربشاه بن محمد بن أبي المعالي العلوي التنوخي والخبوشاني كتابة ، ثنا محمد بن الحسن بن سهل العباسي الطوسي ، أنبأنا خالي أبو المحاسن علي بن أبي الفضل الغارمدي ، أنبأنا أحمد بن الحسين بن علي قال : حدثنا أبو عبد اللّه الحافظ حدثنا أبو عمر عثمان بن أحمد السماك ببغداد إملاء ، ثنا يحيى بن أبي طالب ، ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي ، ثنا مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال :
كتب عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه إلى سعد بن أبي وقاص وهو بالقادسية أن وجّه نضلة بن معاوية الأنصاري إلى حلوان العراق ، فليغر على ضواحيها ، قال : فوجّه سعد نضلة في ثلاثمائة فارس ، فخرجوا حتى أتوا حلوان العراق وأغاروا على ضواحيها ، فأصابوا غنيمة وسبيا ، فأقبلوا يسوقون الغنيمة والسبي حتى رهقت بهم العصر ، وكادت الشمس أن تغرب ، فألجأ نضلة الغنيمة والسبي إلى سفح الجبل ، ثم قام فأذّن فقال : اللّه أكبر اللّه أكبر ، قال : ومجيب من الجبل يجيبه ، كبّرت كبيرا يا نضلة ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا اللّه ، فقال : كلمة الإخلاص يا نضلة ، ثم قال : أشهد أن محمدا رسول اللّه ، قال : هو الدين ، وهو الذي بشّرنا به عيسى ابن مريم عليه السلام ، وعلى رأس أمته تقوم الساعة ، ثم قال : حيّ على الصلاة ، قال : طوبى لمن مشى إليها وواظب عليها ، ثم قال : حيّ على الفلاح ، قال : أفلح من أجاب محمدا صلى اللّه عليه وسلم وهو البقاء لأمته ، ثم قال : اللّه أكبر اللّه أكبر ، قال : كبّرت كبيرا ، ثم قال : لا إله إلا اللّه ، قال : أخلصت الإخلاص يا نضلة فحرّم اللّه جسدك على النار .
قال : فلما فرغ من أذانه قمنا فقلنا : من أنت يرحمك اللّه ؟ أملك أنت ؟ أم ساكن من
“ 100 “
الجن ؟ أم من عباد اللّه ؟ أسمعتنا صوتك ، فأرنا شخصك ، فإنّا وفد اللّه ، ووفد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ووفد عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، قال : فانفلق الجبل عن هامة كالرّحاء ، أبيض الرأس واللحية ، عليه طمران من صوف ، فقال : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، فقلنا : وعليك السلام ورحمة اللّه وبركاته ، من أنت يرحمك اللّه ؟ قال : أنا رزيب بن برتملة وصي العبد الصالح عيسى ابن مريم عليه السلام ، أسكنني هذا الجبل ، ودعا لي بطول البقاء إلى نزوله من السماء ، فيقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويتبرّأ مما نحلته النصارى .
ثم قال : ما فعل النبي صلى اللّه عليه وسلم ؟ قلنا : قبض ، فبكى بكاء كثيرا طويلا حتى خضب لحيته بالدموع ، ثم قال : من قام فيكم بعده ؟ قلنا : أبو بكر ، قال : ما فعل ؟ قلنا : قبض ، قال :
فمن قام بعده ؟ قلنا : عمر ، قال : إذا فاتني لقاء محمد صلى اللّه عليه وسلم فاقرءوا عمر مني السلام ، وقولوا له : يا عمر سدّد وقراب ، فقد دنا الأمر وأخبروه بهذه الخصال التي أخبركم بها . يا عمر إذا ظهرت هذه الخصال في أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فالهرب الهرب إذا استغنى الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء ، وانتسبوا في غير مناسبهم ، وانتموا إلى غير مواليهم ، ولم يرحم كبيرهم صغيرهم ، ولم يوقر صغيرهم كبيرهم ، وترك الأمر بالمعروف فلم يؤمر به ، وترك النهي عن المنكر فلم ينته عنه ، وتعلّم عالمهم العلم ليجلب به الدنانير والدراهم ، وكان المطر قيظا ، والولد غيظا ، وطوّلوا المنابر ، وفضّضوا المصاحف ، وزخرفوا المساجد ، وأظهروا الرشا ، وشيّدوا البناء ، واتّبعوا الهوى ، وباعوا الدين بالدنيا ، واستخفّ بالدماء ، وتقطّعت الأرحام ، وبيع الحكم ، وأكل الربا ، وصار التسلّط فخرا ، والقتل عزّا ، وخرج الرجل من بيته فقام إليه من هو خير منه ، وركبت النساء السروج .
قال : ثم غاب عنّا ، فكتب بذلك نضلة إلى سعد ، فكتب سعد إلى عمر ، فكتب عمر إلى سعد : ائت أنت ومن معك من المهاجرين والأنصار حتى تنزل هذا الجبل ، فإذا ألقيته فأقرئه مني السلام ، فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « إن بعض أوصياء عيسى ابن مريم نزل بذلك الجبل بناحية العراق » ، فنزل سعد في أربعة آلاف من المهاجرين حتى نزلوا الجبل أربعين يوما ، ينادي بالأذان في كل صلاة ، لم يتابع الراسبي على قوله ، عن مالك بن أنس ، والمعروف في هذا الحديث مالك بن الأزهر ، عن نافع ، وابن الأزهر مجهول .
قال الحكم : لم يسمع بذكره في غير هذا الحديث ، والسؤال عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وعن أبي بكر هو من حديث ابن لهيعة ، عن ابن الأزهر . وقوله : في زخرفة المساجد وتفضيض المصاحف ليس على طريق الذم ، وإنما هو دلالة على قيام الساعة وفساد الزمان ، كدلالة نزول عيسى وخروج المهدي وطلوع الشمس .
“ 101 “
وصية نبوية
حدثنا محمد بن قاسم ، نبأ هبة اللّه بن مسعود ، نبأ محمد بن بركات ، نبأ محمد بن سلامة بن جعفر ، نبأ هبة اللّه بن إبراهيم الخولاني ، نبأ علي بن الحسين بن بندار ، نبأ إسماعيل بن أحمد بن أبي حازم ، نبأ أبي ، نبأ عمرو بن هاشم ، أخبرني سليمان بن أبي كريمة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يا أبا هريرة ، أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما ، وأحسن مصاحبة من صاحبك تكن مؤمنا ، واعمل بفرائض اللّه تكن عابدا ، وارض بقسم اللّه تكن زاهدا » .
همة شريفة
روينا من حديث جعفر بن محمد ، عن معاوية بن عمرو ، عن أبي إسحاق ، قال :
كتب عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه إلى بعض عمّاله ممن عزّاه بموت سهيل بن عبد العزيز بن مروان :
وحسبي حياة اللّه من كل ميت * وحسبي بقاء اللّه من كل هالك
تنبيه وتعليم من عالم شفيق
روينا من حديث أبي قلابة ، عن مسلم بن إبراهيم قال : عزّى صالح المري بعض إخوانه فقال له : إن لم تكن مصيبتك أحدثت في نفسك موعظة فمصيبتك بنفسك أعظم .
وفي هذا المعنى لبعض الشعراء :
إن لم يكن ما به أصيب جليلا * فذهاب العزاء فيه أجلّ
تذكرة عاقل وتنبيه غافل
روينا من حديث ابن أبي الدنيا ، عن عبد اللّه بن محمد قال : قرأت على ركن دار مشيّد :
لو كنت تعقل يا مغرور مارقات * دموع عينيك من خوف ومن حذر
ما بال قوم سهام الموت تخطفهم * يفاخرون برفع الطين والمدر
وأما أنا فمررت بجبّانة فرأيت على قبر مكتوبا :
يا أيها الناس كان لي أمل * قصّر بي عن بلوغه الأجل
“ 102 “
فليتقّ اللّه ربه رجل * أمكنه في حياته العمل
ما أنا وحدي نقلت حيث تروا * كلّ إلى مثله سينتقل
ومن حسن العهد ومكارم الأخلاق
ما روينا من حديث إبراهيم الحربي ، عن عثمان بن محمد الأنماطي ، عن عمرو بن أبي قيس ، قال : خرج عبد اللّه بن جعفر إلى حيطان المدينة ، فبينما هو يسير إذ نظر إلى أسود على بعض الحيطان وهو يأكل ، وكلب رابض بين يديه ، فكلما أخذ لقمة رمى للكلب مثلها ، فلم يزل كذلك حتى فرغ من أكله وعبد اللّه بن جعفر واقف على دابّته ينظر إليه ، فلما فرغ دنا منه فقال له : يا غلام لمن أنت ؟ فقال : لورثة عثمان بن عفان رضي اللّه عنه .
فقال : لقد رأيت منك عجبا . قال : وما الذي رأيت من العجب يا مولاي ؟ قال : رأيتك تأكل ، وكلما تأكل لقمة رميت للكلب مثلها . فقال له : يا مولاي ، هو رفيقي منذ سنين ، ولا بدّ أن أجعله كأسوتي في الطعام . فقال له : فدون هذا يكفيه . فقال له : يا مولاي ، إني لأستحي من اللّه عز وجل أن آكل وعين تنظر إليّ .
ثم مضى عنه حتى أتى ورثة عثمان بن عفان ، فنزل عندهم ، فقال : جئت في حاجة .
فقالوا له : وما حاجتك ؟ فقال : تبيعوني الحائط الفلاني ، فقالوا : قد وهبناك إياه . فقال :
لست آخذه إلا بثمن ، فباعوه . فقال لهم : وتبيعوني الغلام الأسود ؟ فقالوا له : إن الأسود ربّيناه وهو كأحدنا . فلم يزل بهم حتى باعوه ، فانصرف عنهم . فلما أصبح غدا على الغلام وهو في الحائط ، فخرج إليه فقال : أما شعرت أني قد اشتريتك واشتريت الحائط من مواليك ؟ فقال له : بارك اللّه لك فيما اشتريت ، ولقد غمّني مفارقتي لمواليّ ، إنهم ربّوني .
فقال له : فأنت حرّ والحائط لك . فقال : إن كنت صادقا يا مولاي فأشهد أني قد أوقفته على ورثة عثمان بن عفان . قال : فتعجّب عبد اللّه بن جعفر منه ، وقال : ما رأيت كاليوم . فقال له : بارك اللّه فيك ، ودعا له ومضى . انتهى .
ومن باب فضل مواساة أهل البيت وإيثارهم بالنفقة على الحج إلى البيت
ما حدثناه يونس بن يحيى ، عن محمد بن ناصر ، عن الحسن بن أحمد ، عن أبي الحسن علي بن أحمد الهذلي ، حدثني أبو الحسين بن شمعون أن عبد اللّه بن المبارك قال : كان بعض المتقدمين قد حبّب إليه الحج ، قال : فحدّثت أنه ورد الحاج في بعض السنين إلى بغداد ، فعزمت على الخروج معهم إلى الحج ، فأخذت في كمي خمسمائة
“ 103 “
دينار ، وخرجت إلى السوق أشتري آلة الحج ، فبينا أنا في بعض الطريق عارضتني امرأة فقلت : يرحمك اللّه ، إني امرأة شريفة ولي بنات عراة ، واليوم الرابع ما أكلنا شيئا . قال :
فوقع كلامها في قلبي ، فطرحت الخمسمائة دينار في طرف إزارها ، وقلت : عودي إلى بيتك فاستعيني بهذه الدنانير على وقتك . فحمدت اللّه وانصرفت ، ونزع اللّه عز وجل حلاوة الخروج في تلك السنة ، فخرج الناس وحجّوا وعادوا ، فقلت : اخرج للقاء الأصدقاء والسلام عليهم ، فخرجت ، فجعلت كلما لقيت صديق سلّمت عليه وقلت له : قبل اللّه حجّك وشكر سعيك . يقول لي : وأنت قبل اللّه حجّك . فطال عليّ ذلك ، فلما كان الليل نمت فرأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم في المنام يقول لي : « لا تعجب من تهنئة الناس لك بالحج ، أغثت ملهوفا ، وأغنيت ضعيفا ، فسألت اللّه تعالى فخلق في صورتك ملكا فهو يحجّ عنك في كل عام ، فإن شئت تحجّ إن شئت لا تحجّ » .
ولمهيار الديلمي في النسيب :
وبجرعاء الحمى عني فعج * بالحمى واقرأ على قلبي السلاما
وترحّل فتحدّث عجبا * أن قلبا سار عن جسم أقاما
قل لجيران الفضا آه على * طيب عيش بالفضا لو كان داما
حمّلوا ريح الصبا نشركم * قبل أن تحمل شيحا وثماما
وابعثوا أشباحكم لي في الكرى * إن أذنتم لجفوني أن تناما
من حجّ من خلفاء بني العباس
حجّ أبو جعفر المنصور بالناس في سنة 140 ، ثم في سنة 144 ، ثم في سنة 147 ، ثم في سنة 152 ، ثم في سنة 158 ، وتوفي قبل التروية بيومين .
وحجّ المهدي بالناس في خلافته سنة 160 .
وحجّ الرشيد في خلافته سنة 170 ، ثم في سنة 173 ، ثم في سنة 174 .
روينا من حديث ابن ودعان ، عن محمد بن علي بن سليمان ، عن عثمان الدقّاق ، عن إسماعيل بن إسحاق ، عن سليمان بن حرب ، عن حمّاد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطبة ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ، فكان مما ضبطت منها : « أيها الناس ، إن أفضل الناس من تواضع عن رفعه ، وزهد عن غنيه ، وأنصف عن قود ، وحلم عن قدرة . وإن أفضل الناس عبدا أخذ من الدنيا الكفاف ، وصاحب فيها العفاف ، وتزوّد للرحيل ، وتأهب للمسير . ألا وإن أعقل الناس عبد
“ 104 “
عرف ربه فأطاعه ، وعرف عدوّه فعصاه ، وعرف دار إقامته فأصلحها ، وعرف سرعة رحيله فتزوّد لها . ألا وإن خير الزاد ما صحبه التقوى ، وخير العمل ما تقدمته النية ، وأعلى الناس منزلة أخوفهم منه » .
ومن وقائع بعض الفقراء إلى اللّه تعالى
ما حدثنا عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي قال : قال لي بعض أصحاب أبي مدين :
رأيت في الواقعة الشيخ أبا مدين ، وهو في قبة من نور ، وقد أحدق المريدون بتلك القبة ، وهم لا يرونه ، فخاطبهم من باطن القبة فقال لهم : من عنده من يراني به فليراني ، فقال له بعض الحاضرين : إني أراك ، فقال : بم رأيتني ؟ فقال له : أمدّ نورك نوري فرأيتك . فقال عند ذلك الشيخ : لا يرى صديقا إلا صديق ، ولا نبيّا إلا نبي ، ولا رسولا إلا رسول ، ولا ملكا إلا ملك . فالمحسوسات لا معنى لها من نفسها ، إذ هي المستمدة من غيرها ، والوقوف مع الأجسام قصور وعيّ ، ولا يرى من ليس كمثله شيء ، فالمحسوسات إنما تواجه من له مكان وجهه ، واللّه سبحانه وتعالى عزّ أن يرى بهذه الصفة ، فنحن في هذه الدار الفانية ، كمثل قواديس السانية ، وأصل الرؤية قوة الإيمان ، وبقدر ما يصحب كل أحد منه يكون العيان ، إذ الحق سبحانه لا يحويه حجاب تعالى عن ذلك ربّ الأرباب ، والحجب صفة البشر ، وبقوة أسرار القلوب وضعفها يكون النظر ، ففي بدائع صنع اللّه ما يعجز الأوهام عن وصفه ، وتكلّ الأفكار عن الإحاطة بكنه علمه .
فالأرضون وما منها ظلمات ، وإنما أضاءت بنور السماوات ، فما من أرض إلا ولها سماء تحييها بما تنزل عليها من الماء .
ومن سماعنا على قول الرضي بالقلب :
ترى النازلين بأرض العرا * ق قد علموا أن وجدي كذا
دنا طربا والهوى نازح * فيا بعد ذاك ويا قرب ذا
وسماعنا على قول الأشجع بالسرّ :
ألا ليت حيّا بالعراق عهدتهم * ذوي غبطة في عيشهم وأمان
يرون دموعي حين يشتمل الدجى * عليّ وما ألقى من الحدثان
أمن بئر ميمون تحنّ صبابة * إلى أهل بغداد وتلك أماني
بعدت وبيت اللّه عمّن تحبّه * هواك عراقيّ وأنت يماني
إذا ذكرت بغداد لي فكأنما * تحرّك في صدري شياه سنان
“ 105 “
ومن سماعنا على قول موسى بن عبد الملك بالنفس والروح ، لما حجّ ووصل إلى الثعلبية اشتدّ شوقه فقال :
لما وردت الثعلبية * عند مجتمع الرفاق
وشممت من برد الحجا * ونسيم أنفاس العراق
أيقنت لي ولمن هوي * ت بجمع شمل واتفاق
ما بيننا إلا تصرّ * م هذه السبع البواقي
حتى يطول حديثنا * بصنوف ما كنا نلاقي
وسماعنا على قول جرير في التوديع بالنفس لا غير :
أتبعتهم مقلة إنسانها غرق * هل ما ترى تارك للعين إنسانا
يا حبّذا جبل الريّان من جبل * وحبّذا ساكن الريّان من كانا
وحبّذا نفحات من ثمانية * تأتيك من قبل الريّان أحيانا
هل يرجعنّ وليس الدهر مرتجعا * عيش لنا طال ما احلولى وما لأنا
ورأينا في تراجم الكتب المتقدمة أن اللّه تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام :
يا ابن عمران ، حبّبني إلى عبادي ، قال : يا ربّ ، كيف أصل إلى ذلك ؟
فأوحى اللّه تعالى إليه : يا ابن عمران ، ذكّرهم إحساني إليهم ، وعظيم تفضّلي عليهم ، فإنهم لا يعرفون مني إلا الحسن الجميل .
يشهد لصحّة هذا الخبر إخبار اللّه تعالى لنا في القرآن :
وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ . جاء التفسير بآلاء اللّه ونعمه ، فكنّى عنها بالزمان الذي أوجدها فيه . المعنى .
روينا من حديث ابن ماجة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « قال اللّه تعالى لموسى :
اشكرني حقّ الشكر . قال : ومن يقدر على ذلك ؟
قال : يا موسى ، إذا رأيت النعمة مني فقد شكرتني » .
حدثنا محمد بن قاسم من حديث السبع لما ذكر النور الأبهى ، حيث كان الروح القدس الأسنى ، بالمعراج المحمدي الأعلى ، على الرفرف الأنزه الأزهى ، أن عنده بين يديه أو خلفه لا أدري أيّ ذلك .
قال : صوّر على صور ابن آدم ، فإذا فعل العبد هنا قبيحا تغيّر وجه تلك الصورة الشبيهة به هناك ، فيرسل اللّه سترا بينها وبين تلك الصور ، وإذا فعل العبد هنا حسنة أحسن وجه تلك الصورة الشبيهة به هناك ، فيرفع اللّه الستر بينها وبين سائر الصور ، فتنظر تلك الصور إلى ما أعطيت الصورة من الحسن . قال : وعيادة تلك الصور هناك .
“ 106 “
سبحان من أظهر الجميل ، وستر القبيح . وأنشدنا :
جعلت توسّلي دمعي وذلّي * ومثلي من توسّل بالدموع
وبالحزن الشديد ووضع خدّي * على أرض التنصّل والخضوع
عسى المولى يجود بكشف ضرّي * ويقضي بالإنابة والرجوع
قال ابن عطاء : إذا تنفّس العبد افتقارا وذلا ، هتك بذلك النّفس كل حجاب حال بين سرّه وبين مشاهدة ربه . يؤيد هذا القول في باب المعرفة : من عرف نفسه عرف ربّه .
قال القائل :
لبست ثوب الرّحا والناس قد رقدوا * وقمت أشكو إلى مولاي كما أجد
وقلت يا أملي في كلّ نائبة * ومن عليه لكشف الضّرّ أعتمد
أشكو إليك ذنوبا أنت تعلمها * ما لي على حملها صبر ولا جلد
وقد مددت يدي بالذّلّ صاغرة * إليك يا خير من مدّت إليه يد
فلا تردّنها يا ربّ خائبة * فبحر جودك يروي كلّ من يرد
وقال الآخر :
إليك قصدي بفقري لا إلى أحد * فخذ بفضلك من بحر الهوى بيدي
وانظر إليّ فكم أوليتني حسنا * ما مرّ يوما على بالي ولا خلدي
يا من أجاب دعائي بعد معصيتي * ومن عليه وإن أخطأت معتمدي
حكى لنا بعض شيوخنا أن الحسن بن هانئ الشهير بالمعاصي رآه بعض أصحابه في النوم ، وهو على حالة حسنة ، فقال له ، وقد أنكر في نفسه ما رآه من حسن حاله ، مع ما يعرفه من خبث سيرته : ما فعل اللّه بك يا أبا نواس ؟ قال : غفر لي ، وصيّر حالي إلى ما ترى . قلت : فهل تعرف لذلك سببا سوى جوده سبحانه ؟ فقال : يا أخي ، من جود اللّه وعظيم منّته أن وقفني قبل أن يقبضني إلى أبيات عملتها في حالتي بقلب منكسر ، وحسن ظن بمن لجأت إليه في وقت ضرورتي ، فقبل ذلك مني ، وغفر لي . قال : فقلت : أنشدني إياها . قال لي : تراها في تحت وسادتي . فاستيقظت ، وجئت البيت ، واستأذنت ، فرفعت الوسادة التي كانت تحت رأسه ، فإذا بالرقعة تلوح ، فتناولتها ، فإذا فيها :
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة * فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن * فمن الذي يدعو ويرجو المجرم
أدعوك رب كما أمرت تضرعا * فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا * وجميل ظني ثم إني مسلم
الجزء السابع
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
ومن محاسن المخاطبة
ما قال عمارة بن حمزة لأبي العباس وقد أمر له بجوهر نفيس : وصلك اللّه يا أمير المؤمنين وبرّك ، فو اللّه لو أردنا شكرك على أنعامك ليقصرنّ شكرنا على نعمتك ، كما قصر اللّه بنا عن منزلتك .
“ 93 “
ودخل إسحاق بن إبراهيم الموصلي على الرشيد فقال : ما لك ؟ فقال :
سوامي سوام المكثرين تجمّلا * ومالي كما قد تعلمين قليل
وآمرة بالبخل قلت لها اقصري * فذلك شيء ما إليه سبيل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى * ورأي أمير المؤمنين جميل
أرى الناس خلّان الجواد ولا أرى * بخيلا له في العالمين خليل
فقال الرشيد : واللّه هذا الشعر الذي صحت معانيه ، وقويت أركانه ومبانيه ، ولذّ على أفواه القائلين ، وأسماع السامعين . يا غلام ، احمل إليه خمسين ألف درهم . قال إسحاق :
يا أمير المؤمنين ، كيف أقبل صلتك وقد مدحت شعري بأكثر مما مدحتك به ؟ قال الأصمعي : فعلمت أنه أصيد للدراهم مني .
ودخل المأمون ذات يوم الديوان ، فنظر إلى غلام جميل على أذنه قلم فقال : من أنت ؟ قال : أنا الناشئ في دولتك ، المتقلب في نعمتك ، المؤمّل لخدمتك ، الحسن بن رجاء . فقال المأمون : بالإحسان في البديهة تتفاضل العقول ، يرفع عن مرتبة الديوان إلى مرتبة الخاصة ، ويعطى مائة ألف درهم تقوية له .
ووصف يحيى بن خالد الفضل بن سهل وهو غلام على المجوسية للرشيد ، وذكر أدبه وحسن معرفته ، فعمل على ضمّه إلى المأمون ، فقال ليحيى يوما : أدخل يوما عليّ هذا الغلام حتى أنظر إليه فأوصله ، فلما مثل بين يديه ووقف تحيّر ، وأراد الكلام فارتج عليه ، فأدركته كبوة ، فنظر الرشيد إلى يحيى نظرة منكرة ، لما كان تقدم به في حقه ، فانبعث الفضل بن سهل فقال : يا أمير المؤمنين ، إن من أبين الدلالة على فراهة المملوك شدّة إفراط هيبته لسيده ، فقال له الرشيد : أحسنت واللّه ، لئن كان سكوتك لتقول هذه إنه لحسن ، وإن كان شيئا أدركك عند انقطاعك لأحسن وأحسن .
ثم جعل لا يسأله عن شيء إلا رآه فيه مقدما ، فضمّه إلى المأمون .
المزاح
روينا من حديث الدينوري ، عن محمد بن المغيرة المازني ، عن خالد بن عمرو ، عن الربيع بن صبح ، عن الحسن قال : المزاح يذهب بالمروءة .
وأنشد محمد بن المغيرة :
أخوك الذي إن سؤته قال إنني * أسأت وإن عاتبته لان جانبه
“ 94 “
فعش واحدا أو صل أخاك فإنه * مفارق ذنب مرّة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى * ظمئت وأيّ الناس تصفو مشاربه
بالعدل يكثر الخراج وينمو المال
روينا من حديث المالكي ، عن إبراهيم الحرّاني ، عن سليمان بن أبي شيخ ، عن صالح بن سليمان قال : قال عمر بن عبد العزيز : لو تخابثت الأمم وجئنا بالحجاج لغلبناهم ، وما كان يصلح لدنيا ولا لآخرة ، لقد ولّي العراق وهي أوفر ما تكون من العمارة ، فأخسّ بها حتى صيّر خراجها أربعين ألف ألف ، وقد أدى إليّ عاملي هذا منها ثمانين ألف ألف ، وإن بقيت إلى قابل رجوت أن يؤدي إليّ ما أدّوا إلى عمر بن الخطاب مائة ألف ألف .
وصية بمكارم الأخلاق ممن بلغت نفسه التراق
روينا من حديث الدينوري ، عن أبي بكر بن أبي الدنيا ، عن زكريا بن يحيى ، نبأ عمر بن حصين ، عن جدّه حميد بن منهب ، عن جرثم قال : لما حضر أبي أوس بن حارثة الوفاة جمعنا فقال : يا بني ، إني قلت أبياتا فاحفظوها عني :
لنا خير أخلاق ونحن أعزّة * نعفّ ونأبى أن نذمّ وننصبا
نجاور أكفانا وننزل بالرّبى * ولأنك عن خير المشاهد غيّبا
ونجتنب الآفات والإثم كله * ونحمي حمانا رهبة أن نؤنبا
بذلك أوصانا أبينا وجدّنا * وتحرمنا أحسابنا أن ننوّبا
فنحن مناجيب لأكرم منجب * وجدّ أبينا كان من قبل منجبا
وما يبتغي فينا المجاور خيفة * وكلّا ومن زار الصفا والمحصّبا
ومن حديثه أيضا عن أحمد بن محمد ، أنشدني إسماعيل بن زيد :
أحبّ الفتى ينفي الفواحش سمعه * كأن به عن كل فاحشة وقرا
سليم دواعي الصدر لا باسطا يده * ولا ضائقا خيرا ولا قائلا هجرا
إذا ما أتت من صاحب لك زلّة * فكن أنت محتالا لزلته عذرا
غنى النفس ما يكفيك من سدّ فاقة * فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا
ومما لا بدّ منه ما قال النابغة :
حسب الخليلين أن الأرض بينهما * هذا عليها وهذا تحتها بالي
“ 95 “
ومن باب من طرد فلزم حتى قبل
أخبرني شيخ بالتنعيم ونحن محرمين نلبّي فقال : جاور هنا شيخ سبعين سنة ما منها حجة يحجها أو عمرة يعتمرها إلا يقال له عندما يقول لبّيك : لا لبيك ، ولا سعديك ، فأحرم معه يوما شاب ، فقال الشيخ : لبيك اللهمّ لبيك ، فسمع الشاب قائلا يقول له : لا لبيك ، فقال له : يا عم ، قد قيل لك لا لبيك ، فبكى الشيخ ، فقال له : يا ولدي أسمعته ؟ قال الشاب : نعم ، فقال له الشيخ : إن لي أسمعه سبعين سنة ، قال له الشاب : ففيم تتعب ؟
قال : يا بني ، فإلى باب من ألزم ؟ وإلى من أرجع ؟ إنما لي اللزوم والجهد ، وله سبحانه القبول إن شاء ، أو الردّ . يا بني ، لا ينبغي أن يطرده هذا عن باب مولاه ، ولا يحول بينه وبين خدمته .
وبكى الشيخ حتى جرت دموعه على صدره ، ثم رفع صوته بالتلبية ، فسمع الشاب ذلك القائل يقول له : قد قبلنا إجابتك ، وهكذا فعلنا بكل من حسّن الظن بنا ، مع الاجتهاد في خدمتنا ، ولزوم طاعتنا ، وإيثار ذكرنا على ذكر غيرنا ، لا من يتبع هواه ، ويتمنى علينا الأماني . فقال الشاب : أما سمعت ما ردّ عليك ؟ قال : سمعت ، وعلا نحيبه ، واشتدّ بكاؤه .
أخبرني عبد الرحمن ، عن عبد اللّه بن حبيب ، عن عبد الغفار بن محمد ، عن ابن أبي الصادق ، عن ابن باكويه ، عن الحسن بن أحمد ، عن محمد بن داود ، عن أبي عبد اللّه الجلّاء قال : كنت بذي الحليفة وشابّ يريد أن يحرم ، فكان يقول : يا رب ، أريد أن أقول لبّيك اللهم لبّيك ، فأخشى أن تجيبني بلا لبّيك ولا سعديك ، يردّد ذلك مرارا .
ثم قال : لبيك اللهم ، مدّ بها صوته ، وخرجت روحه .في شرف التواضع والعلم ميزان الخشية
حدثنا أبو محمد بن عبد اللّه ، نبأ علي بن الحسن ، نبأ عبد اللّه بن محمد بن أحمد ، نبأ جدّي أحمد بن الحسين ، أنا أبو بكر بن الحسن القاضي ، أنا أبو جعفر أحمد بن علي بن رحيم ، نبأ محمد بن الحسين بن أبي الحسن ، نبأ سعيد بن منصور ، نبأ الحارث بن عبيد اللّه الإيادي ، عن أبي عمر بن الجوبي ، عن أنس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : “ بينا أنا جالس إذ جاء جبريل عليه السلام فوكز بين كتفيّ فقمت “ ، يعني إلى شجرة “ فيها مثل وكري طائر ، فقعد جبريل عليه السلام في أحدهما ، وقعدت في الآخر ، فسمت وارتقت حتى سدّت الخافقين ، وأنا أقلب طرفي ، فلو شئت أن أمسّ السماء مسست “ .
“ 96 “
وفي حديث ابن عطارد : « فلو بسطت يديّ إلى السماء لنلتها . ففتح باب من أبواب السماء ، فرأيت النور الأعظم » .
قال ابن عطارد : « فدلّى بسبب ، وهبط النور ، فوقع جبريل مغشيّا عليه كأنه خلس ، فعرفت فضل خشيته على خشيتي » .
وقال أنس : « فضل علمه باللّه عليّ ، وإذا دوني حجاب ، رفرف الدرّ والياقوت » .
قال ابن عطارد : « فأوحى إليّ نبيّا ملكا ، أو نبيّا عبدا ، فأومأ إليّ جبريل وهو مضطجع أن تواضع ، قلت : لا بل نبيّا عبدا » .
وقال ابن عباس في حديثه : فما أكل بعد تلك الكلمة طعاما متكئا حتى لقي ربه .
وخالفهما في المتن بل لم يذكر من الحديث إلا قصة التخيير ، فلعله هذا الحديث أو غيره .
في قوله تعالى : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
حدثنا أبو بكر السجستاني ، نبأ علي بن إبراهيم ، نبأ سعد الخير ، عن محمد بن محمد المطرّزي ، نبأ أحمد بن عبد اللّه ، نبأ إبراهيم بن عبد اللّه بن إسحاق ، نبأ محمد بن إسحاق الثقفي ، انا قتيبة بن سعيد ، نبأ رشيد بن سعد ، عن سعيد بن عبد الرحمن المغافري ، عن أبيه ، أن كعب الأحبار رأى حبر اليهود يبكي فقال : ما يبكيك ؟ قال : ذكرت بعض الأمر ، فقال له كعب : أنشدك باللّه لئن أخبرتك ما أبكاك لتصدقني ؟ قال : نعم ، قال : أنشدك باللّه هل تجد في كتاب اللّه المنزل أن موسى نظر في التوراة ؟ فقال : يا رب ، إني أجد أمة في التوراة « خير أمة أخرجت للناس يأمر من بالمعروف وينهون عن المنكر » ويؤمنون بالكتاب الأول ، والكتاب الآخر ، ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلون الأعور الدجّال . قال : فقال موسى : رب اجعلهم أمتي ، قال : هم أمة أحمد يا موسى ، قال الحبر : نعم .
قال كعب : فأنشدك باللّه هل تجد في كتاب اللّه المنزل أن موسى نظر في التوراة ، فقال : رب إني أجد أمة هم الحمّادون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمرا ؟ قالوا :
نفعله إن شاء اللّه فاجعلهم أمتي ، قال : هم أمة أحمد يا موسى ، قال الحبر : نعم .
قال كعب : أنشدك باللّه هل في كتاب اللّه المنزل أن موسى نظر في التوراة ، فقال :
رب إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبّر اللّه ، وإذا هبط واديا حمد اللّه ، الصعيد لهم طهور ، والأرض لهم مسجد ، حيثما كانوا يطهّرون من الجنابة ، طهورهم بالصعيد
“ 97 “
كطهورهم بالماء ، حيث لا يجدون الماء ، غرّ محجّلون من أثر الوضوء ، فاجعلهم أمتي .
قال : هم أمة أحمد يا موسى ، قال الحبر : نعم .
قال كعب : أنشدك باللّه هل تجد في كتاب اللّه المنزل أن موسى نظر في التوراة ، فقال : رب إني أجد أمة مرحومة ضعفاء ، يرثون الكتاب ، فاصطفيتهم ، فمنهم ظالم لنفسه ، ومنهم مقتصد ، ومنهم سابق بالخيرات ، فلا أجد واحدا منهم إلا مرحوما ، فاجعلهم أمتي ، قال : هم أمة أحمد يا موسى ، قال الحبر : نعم .
قال كعب : أنشدك باللّه هل تجد في كتاب اللّه المنزل أن موسى عليه السلام نظر في التوراة ، فقال : رب إني أجد في التوراة أمة ، مصاحفهم في صدورهم ، يلبسون ثياب أهل الجنة ، يصطفون في صلاتهم كصفوف الملائكة ، أصواتهم في صلاتهم كدويّ النحل ، لا يدخل النار منهم أحد إلا من برئ من الحسنات مثل ما برئ الحجر من ورق الشجر ، قال موسى : فاجعلهم أمتي . قال : هم أمة أحمد يا موسى ، قال الحبر : نعم .
قال كعب : أنشدك باللّه هل تجد في كتاب اللّه المنزل أن موسى عليه السلام لما نزلت عليه التوراة وقرأها فوجد فيها ذكر هذه الأمة قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة هم السابقون المشفوع لهم فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد .
قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة هم المسبّحون المستجيبون والمستجاب لهم فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد . قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة يأكلون الفيء فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد . قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة يجعلون الصدقة في بطونهم يؤجرون عليها فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد . قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة وإن عملها كتبت له عشر حسنات فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد . قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بسيئة فلم يعملها لم تكتب وإن عملها كتبت سيئة واحدة فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد . قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة يؤتون العلم الأول والعلم الآخر فيقتلون قرون الضلالة المسيح الدجّال فاجعلها أمتي ، قال : تلك أمة أحمد . قال : قال الحبر : فلما عجب موسى عليه السلام من الخير الذي أعطاه اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم وأمته ، قال : يا ليتني من أصحاب محمد .
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « يا رب ، اجعلني من أمة محمد » . قال الحبر : نعم ، فأوحى اللّه تعالى إليه ثلاث آيات يرضيه بهن : يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ . وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلى قوله : دارَ الْفاسِقِينَ . وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ .
“ 98 “
لم يذكر أبو هريرة في حديثه سوى الخصلتين : الرسالة والكلام . وذكره معاوية والسياق من مصاحفهم في صدورهم ، في هذا الحديث إليّ من أصحاب محمد لأبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ذكرناه من رواية محمد بن الحسن ، عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، عن جبارة بن المفلس ، عن الربيع بن النعمان ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه .
بلاغة واعتراف
روينا من حديث أحمد بن داود ، عن المازني ، عن الأصمعي قال : قيل لأعرابي : ما أحسن الثناء عليك ؟ فقال : بلاء اللّه عندي أحسن من وصف المادحين وإن أحسنوا ، وذنوبي إلى اللّه أكثر من عيب الذامين وإن كثروا ، فيا أسفي على ما فرطت في جنب اللّه ، ويا سوأتاه مما قدمت .
حكمة
قال ابن داود : قال محمد بن سلام : قال قرشي لحكيم من العرب : علّمني الحلم ، فقال له : إن الحلم هو الذلّ ، فاصبر عليه .
موعظة
روينا عن أحمد بن عبّاد قال : أنشدني الرياشي :
لا يبعد اللّه إخوانا لنا بعدوا * أفناهم حدثان الدهر والأبد
يمدّهم كل يوم من بقيّتنا * ولا يردّ إلينا منهم أحد
وروينا من حديث أحمد بن الحسين الأنماطي قال : أنشدنا سعيد الحرميّ ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أولى بما قال :
أما القبور فإنهنّ أوانس * بجوار قبرك والديار قبور
عمّت مصيبته فعمّ هلاكه * فالناس فيهم كلهم مأجور
ردّت صنائعه إليه حياته * فكأنه من نشرها منشور
حدثنا أبو بكر السجستاني ، نبأ هبة اللّه بن علي ، نبأ ابن البركات السعيدي ، نبأ محمد بن سلامة ، نبأ أحمد بن محمد بن الحاج ، انا عبد اللّه الفضل بن عبيد الهاشمي ،
“ 99 “
حدثنا أبو محمد بكر بن سهل الدمياطي إملاء ، نبأ محمد بن أبي السريّ ، نبأ عبد العزيز بن عبد الصمد ، نبأ أبان بن أبي عياش ، عن أنس بن مالك قال : خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ناقته الجدعاء فقال في خطبته : « أيها الناس ، كان الحق فيها على غيرنا وجب ، وكان الموت فيها على غيرنا كتب ، وكان الذين نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون ، نبوّئهم أجداثهم ، ونأكل تراثهم ، كأنّا مخلدون بعدهم ، قد نسينا كل واعظة ، وأمنّا كل جائحة ، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ، وأنفق من مال اكتسبه من غير معصية ، وخالط أهل الفقه والحكمة ، وجانب أهل الذل والمعصية ، طوبى لمن ذلّ في نفسه ، وحسنت خليقته ، وأنفق الفضل من ماله ، وأمسك الفضل من قوله ، ووسعته السّنّة ولم يعدها إلى بدعة » .
خبر وحي عيسى عليه السلام
حدثنا عربشاه بن محمد بن أبي المعالي العلوي التنوخي والخبوشاني كتابة ، ثنا محمد بن الحسن بن سهل العباسي الطوسي ، أنبأنا خالي أبو المحاسن علي بن أبي الفضل الغارمدي ، أنبأنا أحمد بن الحسين بن علي قال : حدثنا أبو عبد اللّه الحافظ حدثنا أبو عمر عثمان بن أحمد السماك ببغداد إملاء ، ثنا يحيى بن أبي طالب ، ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي ، ثنا مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال :
كتب عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه إلى سعد بن أبي وقاص وهو بالقادسية أن وجّه نضلة بن معاوية الأنصاري إلى حلوان العراق ، فليغر على ضواحيها ، قال : فوجّه سعد نضلة في ثلاثمائة فارس ، فخرجوا حتى أتوا حلوان العراق وأغاروا على ضواحيها ، فأصابوا غنيمة وسبيا ، فأقبلوا يسوقون الغنيمة والسبي حتى رهقت بهم العصر ، وكادت الشمس أن تغرب ، فألجأ نضلة الغنيمة والسبي إلى سفح الجبل ، ثم قام فأذّن فقال : اللّه أكبر اللّه أكبر ، قال : ومجيب من الجبل يجيبه ، كبّرت كبيرا يا نضلة ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا اللّه ، فقال : كلمة الإخلاص يا نضلة ، ثم قال : أشهد أن محمدا رسول اللّه ، قال : هو الدين ، وهو الذي بشّرنا به عيسى ابن مريم عليه السلام ، وعلى رأس أمته تقوم الساعة ، ثم قال : حيّ على الصلاة ، قال : طوبى لمن مشى إليها وواظب عليها ، ثم قال : حيّ على الفلاح ، قال : أفلح من أجاب محمدا صلى اللّه عليه وسلم وهو البقاء لأمته ، ثم قال : اللّه أكبر اللّه أكبر ، قال : كبّرت كبيرا ، ثم قال : لا إله إلا اللّه ، قال : أخلصت الإخلاص يا نضلة فحرّم اللّه جسدك على النار .
قال : فلما فرغ من أذانه قمنا فقلنا : من أنت يرحمك اللّه ؟ أملك أنت ؟ أم ساكن من
“ 100 “
الجن ؟ أم من عباد اللّه ؟ أسمعتنا صوتك ، فأرنا شخصك ، فإنّا وفد اللّه ، ووفد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ووفد عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، قال : فانفلق الجبل عن هامة كالرّحاء ، أبيض الرأس واللحية ، عليه طمران من صوف ، فقال : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، فقلنا : وعليك السلام ورحمة اللّه وبركاته ، من أنت يرحمك اللّه ؟ قال : أنا رزيب بن برتملة وصي العبد الصالح عيسى ابن مريم عليه السلام ، أسكنني هذا الجبل ، ودعا لي بطول البقاء إلى نزوله من السماء ، فيقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويتبرّأ مما نحلته النصارى .
ثم قال : ما فعل النبي صلى اللّه عليه وسلم ؟ قلنا : قبض ، فبكى بكاء كثيرا طويلا حتى خضب لحيته بالدموع ، ثم قال : من قام فيكم بعده ؟ قلنا : أبو بكر ، قال : ما فعل ؟ قلنا : قبض ، قال :
فمن قام بعده ؟ قلنا : عمر ، قال : إذا فاتني لقاء محمد صلى اللّه عليه وسلم فاقرءوا عمر مني السلام ، وقولوا له : يا عمر سدّد وقراب ، فقد دنا الأمر وأخبروه بهذه الخصال التي أخبركم بها . يا عمر إذا ظهرت هذه الخصال في أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فالهرب الهرب إذا استغنى الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء ، وانتسبوا في غير مناسبهم ، وانتموا إلى غير مواليهم ، ولم يرحم كبيرهم صغيرهم ، ولم يوقر صغيرهم كبيرهم ، وترك الأمر بالمعروف فلم يؤمر به ، وترك النهي عن المنكر فلم ينته عنه ، وتعلّم عالمهم العلم ليجلب به الدنانير والدراهم ، وكان المطر قيظا ، والولد غيظا ، وطوّلوا المنابر ، وفضّضوا المصاحف ، وزخرفوا المساجد ، وأظهروا الرشا ، وشيّدوا البناء ، واتّبعوا الهوى ، وباعوا الدين بالدنيا ، واستخفّ بالدماء ، وتقطّعت الأرحام ، وبيع الحكم ، وأكل الربا ، وصار التسلّط فخرا ، والقتل عزّا ، وخرج الرجل من بيته فقام إليه من هو خير منه ، وركبت النساء السروج .
قال : ثم غاب عنّا ، فكتب بذلك نضلة إلى سعد ، فكتب سعد إلى عمر ، فكتب عمر إلى سعد : ائت أنت ومن معك من المهاجرين والأنصار حتى تنزل هذا الجبل ، فإذا ألقيته فأقرئه مني السلام ، فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « إن بعض أوصياء عيسى ابن مريم نزل بذلك الجبل بناحية العراق » ، فنزل سعد في أربعة آلاف من المهاجرين حتى نزلوا الجبل أربعين يوما ، ينادي بالأذان في كل صلاة ، لم يتابع الراسبي على قوله ، عن مالك بن أنس ، والمعروف في هذا الحديث مالك بن الأزهر ، عن نافع ، وابن الأزهر مجهول .
قال الحكم : لم يسمع بذكره في غير هذا الحديث ، والسؤال عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وعن أبي بكر هو من حديث ابن لهيعة ، عن ابن الأزهر . وقوله : في زخرفة المساجد وتفضيض المصاحف ليس على طريق الذم ، وإنما هو دلالة على قيام الساعة وفساد الزمان ، كدلالة نزول عيسى وخروج المهدي وطلوع الشمس .
“ 101 “
وصية نبوية
حدثنا محمد بن قاسم ، نبأ هبة اللّه بن مسعود ، نبأ محمد بن بركات ، نبأ محمد بن سلامة بن جعفر ، نبأ هبة اللّه بن إبراهيم الخولاني ، نبأ علي بن الحسين بن بندار ، نبأ إسماعيل بن أحمد بن أبي حازم ، نبأ أبي ، نبأ عمرو بن هاشم ، أخبرني سليمان بن أبي كريمة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يا أبا هريرة ، أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما ، وأحسن مصاحبة من صاحبك تكن مؤمنا ، واعمل بفرائض اللّه تكن عابدا ، وارض بقسم اللّه تكن زاهدا » .
همة شريفة
روينا من حديث جعفر بن محمد ، عن معاوية بن عمرو ، عن أبي إسحاق ، قال :
كتب عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه إلى بعض عمّاله ممن عزّاه بموت سهيل بن عبد العزيز بن مروان :
وحسبي حياة اللّه من كل ميت * وحسبي بقاء اللّه من كل هالك
تنبيه وتعليم من عالم شفيق
روينا من حديث أبي قلابة ، عن مسلم بن إبراهيم قال : عزّى صالح المري بعض إخوانه فقال له : إن لم تكن مصيبتك أحدثت في نفسك موعظة فمصيبتك بنفسك أعظم .
وفي هذا المعنى لبعض الشعراء :
إن لم يكن ما به أصيب جليلا * فذهاب العزاء فيه أجلّ
تذكرة عاقل وتنبيه غافل
روينا من حديث ابن أبي الدنيا ، عن عبد اللّه بن محمد قال : قرأت على ركن دار مشيّد :
لو كنت تعقل يا مغرور مارقات * دموع عينيك من خوف ومن حذر
ما بال قوم سهام الموت تخطفهم * يفاخرون برفع الطين والمدر
وأما أنا فمررت بجبّانة فرأيت على قبر مكتوبا :
يا أيها الناس كان لي أمل * قصّر بي عن بلوغه الأجل
“ 102 “
فليتقّ اللّه ربه رجل * أمكنه في حياته العمل
ما أنا وحدي نقلت حيث تروا * كلّ إلى مثله سينتقل
ومن حسن العهد ومكارم الأخلاق
ما روينا من حديث إبراهيم الحربي ، عن عثمان بن محمد الأنماطي ، عن عمرو بن أبي قيس ، قال : خرج عبد اللّه بن جعفر إلى حيطان المدينة ، فبينما هو يسير إذ نظر إلى أسود على بعض الحيطان وهو يأكل ، وكلب رابض بين يديه ، فكلما أخذ لقمة رمى للكلب مثلها ، فلم يزل كذلك حتى فرغ من أكله وعبد اللّه بن جعفر واقف على دابّته ينظر إليه ، فلما فرغ دنا منه فقال له : يا غلام لمن أنت ؟ فقال : لورثة عثمان بن عفان رضي اللّه عنه .
فقال : لقد رأيت منك عجبا . قال : وما الذي رأيت من العجب يا مولاي ؟ قال : رأيتك تأكل ، وكلما تأكل لقمة رميت للكلب مثلها . فقال له : يا مولاي ، هو رفيقي منذ سنين ، ولا بدّ أن أجعله كأسوتي في الطعام . فقال له : فدون هذا يكفيه . فقال له : يا مولاي ، إني لأستحي من اللّه عز وجل أن آكل وعين تنظر إليّ .
ثم مضى عنه حتى أتى ورثة عثمان بن عفان ، فنزل عندهم ، فقال : جئت في حاجة .
فقالوا له : وما حاجتك ؟ فقال : تبيعوني الحائط الفلاني ، فقالوا : قد وهبناك إياه . فقال :
لست آخذه إلا بثمن ، فباعوه . فقال لهم : وتبيعوني الغلام الأسود ؟ فقالوا له : إن الأسود ربّيناه وهو كأحدنا . فلم يزل بهم حتى باعوه ، فانصرف عنهم . فلما أصبح غدا على الغلام وهو في الحائط ، فخرج إليه فقال : أما شعرت أني قد اشتريتك واشتريت الحائط من مواليك ؟ فقال له : بارك اللّه لك فيما اشتريت ، ولقد غمّني مفارقتي لمواليّ ، إنهم ربّوني .
فقال له : فأنت حرّ والحائط لك . فقال : إن كنت صادقا يا مولاي فأشهد أني قد أوقفته على ورثة عثمان بن عفان . قال : فتعجّب عبد اللّه بن جعفر منه ، وقال : ما رأيت كاليوم . فقال له : بارك اللّه فيك ، ودعا له ومضى . انتهى .
ومن باب فضل مواساة أهل البيت وإيثارهم بالنفقة على الحج إلى البيت
ما حدثناه يونس بن يحيى ، عن محمد بن ناصر ، عن الحسن بن أحمد ، عن أبي الحسن علي بن أحمد الهذلي ، حدثني أبو الحسين بن شمعون أن عبد اللّه بن المبارك قال : كان بعض المتقدمين قد حبّب إليه الحج ، قال : فحدّثت أنه ورد الحاج في بعض السنين إلى بغداد ، فعزمت على الخروج معهم إلى الحج ، فأخذت في كمي خمسمائة
“ 103 “
دينار ، وخرجت إلى السوق أشتري آلة الحج ، فبينا أنا في بعض الطريق عارضتني امرأة فقلت : يرحمك اللّه ، إني امرأة شريفة ولي بنات عراة ، واليوم الرابع ما أكلنا شيئا . قال :
فوقع كلامها في قلبي ، فطرحت الخمسمائة دينار في طرف إزارها ، وقلت : عودي إلى بيتك فاستعيني بهذه الدنانير على وقتك . فحمدت اللّه وانصرفت ، ونزع اللّه عز وجل حلاوة الخروج في تلك السنة ، فخرج الناس وحجّوا وعادوا ، فقلت : اخرج للقاء الأصدقاء والسلام عليهم ، فخرجت ، فجعلت كلما لقيت صديق سلّمت عليه وقلت له : قبل اللّه حجّك وشكر سعيك . يقول لي : وأنت قبل اللّه حجّك . فطال عليّ ذلك ، فلما كان الليل نمت فرأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم في المنام يقول لي : « لا تعجب من تهنئة الناس لك بالحج ، أغثت ملهوفا ، وأغنيت ضعيفا ، فسألت اللّه تعالى فخلق في صورتك ملكا فهو يحجّ عنك في كل عام ، فإن شئت تحجّ إن شئت لا تحجّ » .
ولمهيار الديلمي في النسيب :
وبجرعاء الحمى عني فعج * بالحمى واقرأ على قلبي السلاما
وترحّل فتحدّث عجبا * أن قلبا سار عن جسم أقاما
قل لجيران الفضا آه على * طيب عيش بالفضا لو كان داما
حمّلوا ريح الصبا نشركم * قبل أن تحمل شيحا وثماما
وابعثوا أشباحكم لي في الكرى * إن أذنتم لجفوني أن تناما
من حجّ من خلفاء بني العباس
حجّ أبو جعفر المنصور بالناس في سنة 140 ، ثم في سنة 144 ، ثم في سنة 147 ، ثم في سنة 152 ، ثم في سنة 158 ، وتوفي قبل التروية بيومين .
وحجّ المهدي بالناس في خلافته سنة 160 .
وحجّ الرشيد في خلافته سنة 170 ، ثم في سنة 173 ، ثم في سنة 174 .
روينا من حديث ابن ودعان ، عن محمد بن علي بن سليمان ، عن عثمان الدقّاق ، عن إسماعيل بن إسحاق ، عن سليمان بن حرب ، عن حمّاد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطبة ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ، فكان مما ضبطت منها : « أيها الناس ، إن أفضل الناس من تواضع عن رفعه ، وزهد عن غنيه ، وأنصف عن قود ، وحلم عن قدرة . وإن أفضل الناس عبدا أخذ من الدنيا الكفاف ، وصاحب فيها العفاف ، وتزوّد للرحيل ، وتأهب للمسير . ألا وإن أعقل الناس عبد
“ 104 “
عرف ربه فأطاعه ، وعرف عدوّه فعصاه ، وعرف دار إقامته فأصلحها ، وعرف سرعة رحيله فتزوّد لها . ألا وإن خير الزاد ما صحبه التقوى ، وخير العمل ما تقدمته النية ، وأعلى الناس منزلة أخوفهم منه » .
ومن وقائع بعض الفقراء إلى اللّه تعالى
ما حدثنا عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي قال : قال لي بعض أصحاب أبي مدين :
رأيت في الواقعة الشيخ أبا مدين ، وهو في قبة من نور ، وقد أحدق المريدون بتلك القبة ، وهم لا يرونه ، فخاطبهم من باطن القبة فقال لهم : من عنده من يراني به فليراني ، فقال له بعض الحاضرين : إني أراك ، فقال : بم رأيتني ؟ فقال له : أمدّ نورك نوري فرأيتك . فقال عند ذلك الشيخ : لا يرى صديقا إلا صديق ، ولا نبيّا إلا نبي ، ولا رسولا إلا رسول ، ولا ملكا إلا ملك . فالمحسوسات لا معنى لها من نفسها ، إذ هي المستمدة من غيرها ، والوقوف مع الأجسام قصور وعيّ ، ولا يرى من ليس كمثله شيء ، فالمحسوسات إنما تواجه من له مكان وجهه ، واللّه سبحانه وتعالى عزّ أن يرى بهذه الصفة ، فنحن في هذه الدار الفانية ، كمثل قواديس السانية ، وأصل الرؤية قوة الإيمان ، وبقدر ما يصحب كل أحد منه يكون العيان ، إذ الحق سبحانه لا يحويه حجاب تعالى عن ذلك ربّ الأرباب ، والحجب صفة البشر ، وبقوة أسرار القلوب وضعفها يكون النظر ، ففي بدائع صنع اللّه ما يعجز الأوهام عن وصفه ، وتكلّ الأفكار عن الإحاطة بكنه علمه .
فالأرضون وما منها ظلمات ، وإنما أضاءت بنور السماوات ، فما من أرض إلا ولها سماء تحييها بما تنزل عليها من الماء .
ومن سماعنا على قول الرضي بالقلب :
ترى النازلين بأرض العرا * ق قد علموا أن وجدي كذا
دنا طربا والهوى نازح * فيا بعد ذاك ويا قرب ذا
وسماعنا على قول الأشجع بالسرّ :
ألا ليت حيّا بالعراق عهدتهم * ذوي غبطة في عيشهم وأمان
يرون دموعي حين يشتمل الدجى * عليّ وما ألقى من الحدثان
أمن بئر ميمون تحنّ صبابة * إلى أهل بغداد وتلك أماني
بعدت وبيت اللّه عمّن تحبّه * هواك عراقيّ وأنت يماني
إذا ذكرت بغداد لي فكأنما * تحرّك في صدري شياه سنان
“ 105 “
ومن سماعنا على قول موسى بن عبد الملك بالنفس والروح ، لما حجّ ووصل إلى الثعلبية اشتدّ شوقه فقال :
لما وردت الثعلبية * عند مجتمع الرفاق
وشممت من برد الحجا * ونسيم أنفاس العراق
أيقنت لي ولمن هوي * ت بجمع شمل واتفاق
ما بيننا إلا تصرّ * م هذه السبع البواقي
حتى يطول حديثنا * بصنوف ما كنا نلاقي
وسماعنا على قول جرير في التوديع بالنفس لا غير :
أتبعتهم مقلة إنسانها غرق * هل ما ترى تارك للعين إنسانا
يا حبّذا جبل الريّان من جبل * وحبّذا ساكن الريّان من كانا
وحبّذا نفحات من ثمانية * تأتيك من قبل الريّان أحيانا
هل يرجعنّ وليس الدهر مرتجعا * عيش لنا طال ما احلولى وما لأنا
ورأينا في تراجم الكتب المتقدمة أن اللّه تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام :
يا ابن عمران ، حبّبني إلى عبادي ، قال : يا ربّ ، كيف أصل إلى ذلك ؟
فأوحى اللّه تعالى إليه : يا ابن عمران ، ذكّرهم إحساني إليهم ، وعظيم تفضّلي عليهم ، فإنهم لا يعرفون مني إلا الحسن الجميل .
يشهد لصحّة هذا الخبر إخبار اللّه تعالى لنا في القرآن :
وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ . جاء التفسير بآلاء اللّه ونعمه ، فكنّى عنها بالزمان الذي أوجدها فيه . المعنى .
روينا من حديث ابن ماجة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « قال اللّه تعالى لموسى :
اشكرني حقّ الشكر . قال : ومن يقدر على ذلك ؟
قال : يا موسى ، إذا رأيت النعمة مني فقد شكرتني » .
حدثنا محمد بن قاسم من حديث السبع لما ذكر النور الأبهى ، حيث كان الروح القدس الأسنى ، بالمعراج المحمدي الأعلى ، على الرفرف الأنزه الأزهى ، أن عنده بين يديه أو خلفه لا أدري أيّ ذلك .
قال : صوّر على صور ابن آدم ، فإذا فعل العبد هنا قبيحا تغيّر وجه تلك الصورة الشبيهة به هناك ، فيرسل اللّه سترا بينها وبين تلك الصور ، وإذا فعل العبد هنا حسنة أحسن وجه تلك الصورة الشبيهة به هناك ، فيرفع اللّه الستر بينها وبين سائر الصور ، فتنظر تلك الصور إلى ما أعطيت الصورة من الحسن . قال : وعيادة تلك الصور هناك .
“ 106 “
سبحان من أظهر الجميل ، وستر القبيح . وأنشدنا :
جعلت توسّلي دمعي وذلّي * ومثلي من توسّل بالدموع
وبالحزن الشديد ووضع خدّي * على أرض التنصّل والخضوع
عسى المولى يجود بكشف ضرّي * ويقضي بالإنابة والرجوع
قال ابن عطاء : إذا تنفّس العبد افتقارا وذلا ، هتك بذلك النّفس كل حجاب حال بين سرّه وبين مشاهدة ربه . يؤيد هذا القول في باب المعرفة : من عرف نفسه عرف ربّه .
قال القائل :
لبست ثوب الرّحا والناس قد رقدوا * وقمت أشكو إلى مولاي كما أجد
وقلت يا أملي في كلّ نائبة * ومن عليه لكشف الضّرّ أعتمد
أشكو إليك ذنوبا أنت تعلمها * ما لي على حملها صبر ولا جلد
وقد مددت يدي بالذّلّ صاغرة * إليك يا خير من مدّت إليه يد
فلا تردّنها يا ربّ خائبة * فبحر جودك يروي كلّ من يرد
وقال الآخر :
إليك قصدي بفقري لا إلى أحد * فخذ بفضلك من بحر الهوى بيدي
وانظر إليّ فكم أوليتني حسنا * ما مرّ يوما على بالي ولا خلدي
يا من أجاب دعائي بعد معصيتي * ومن عليه وإن أخطأت معتمدي
حكى لنا بعض شيوخنا أن الحسن بن هانئ الشهير بالمعاصي رآه بعض أصحابه في النوم ، وهو على حالة حسنة ، فقال له ، وقد أنكر في نفسه ما رآه من حسن حاله ، مع ما يعرفه من خبث سيرته : ما فعل اللّه بك يا أبا نواس ؟ قال : غفر لي ، وصيّر حالي إلى ما ترى . قلت : فهل تعرف لذلك سببا سوى جوده سبحانه ؟ فقال : يا أخي ، من جود اللّه وعظيم منّته أن وقفني قبل أن يقبضني إلى أبيات عملتها في حالتي بقلب منكسر ، وحسن ظن بمن لجأت إليه في وقت ضرورتي ، فقبل ذلك مني ، وغفر لي . قال : فقلت : أنشدني إياها . قال لي : تراها في تحت وسادتي . فاستيقظت ، وجئت البيت ، واستأذنت ، فرفعت الوسادة التي كانت تحت رأسه ، فإذا بالرقعة تلوح ، فتناولتها ، فإذا فيها :
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة * فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن * فمن الذي يدعو ويرجو المجرم
أدعوك رب كما أمرت تضرعا * فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا * وجميل ظني ثم إني مسلم
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin