الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء السادس
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 79 “
منتقما ونصيرا ، وكفى بالجنة ثوابا ونوالا ، وكفى بالنار عقابا ونكالا ، وكفى بكتاب اللّه جحيما وخصيما .
ومما وعظ به كعب الأحبار عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه
ما رويناه من حديث أحمد بن حنبل ، ثنا بهر بن أسد ، ثنا جعفر بن سليمان ، ثنا علي بن زيد ، عن مطرف ، عن كعب ، قال : قال عمر بن الخطاب وأنا عنده : يا كعب خوّفنا ، قلت : يا أمير المؤمنين أليس فيكم كتاب اللّه وحكمة رسول اللّه ؟ قال : بلى ، ولكن خوّفنا ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، اعمل عمل وجل ، لو وافيت القيامة بعمل سبعين نبيا لازدريت عملك مما ترى . فأطرق عمر مليا ، ثم أفاق فقال : زدنا يا كعب ، قلت : يا أمير المؤمنين ، لو فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق ورجل بالمغرب ، لغلى دماغه حتى يسيل من حرّها . فأطرق عمر مليا ، ثم أفاق فقال : زدنا يا كعب ، قلت : إن جهنم لتزفر يوم القيامة زفرة لا يبقى ملك مقرّب ، ولا نبي مصطفى إلا خرّ جاثيا على ركبتيه ، ويقول : رب نفسي نفسي ، لا أسألك اليوم إلا نفسي . فأطرق عمر مليا ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، أو ليس تجدون هذا في كتاب اللّه عز وجل ؟ قال : كيف ؟ قلت : يقول اللّه تعالى : يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها .
وروينا من حديث ابن أبي الدنيا ، حدثني القاسم بن هاشم ، قال : نبأ أبو اليمان قال :
نبأ صفوان بن عمرو ، عن أبي اليمان ، عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قال لكعب :
ما تخاف علينا يا أبا إسحاق ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، إن في السماء ديّانا ، وإن في الأرض ديّانا ، فويل لديّان الأرض من ديّان السماء إلا من دان نفسه للّه عز وجل ، إنك تأمر ولا تؤمر ، وإنك بين الناس وبين ربك ، وليس بينك وبين اللّه أحد . فقال له عمر : أنشدك باللّه كيف تجدني ، أخليفة أم ملكا ؟
قال : بل خليفة ، قال : فاستحلفه عمر ، فحلف له كعب ، وقال : خليفة واللّه من خير الخلفاء ، وزمانك خير زمان .
موعظة أعرابي للرشيد بمكة
ذكر أبو الفرج في كتاب « مثير الغرام الساكن » له ، أن الرشيد حجّ في بعض السنين ، فبينما هو يطوف بالبيت عرض له أعرابي فأنشده :
عش ما بدا لك كم تراك تعيش * أتظنّ سهم الحادثات يطيش
عش كيف شئت لتأتيك وقفة * يوما وليس على جناحك ريش
“ 80 “
قال : فوقف الرشيد فاستعاده الشعر ، ثم بكى حتى بلّ وجهه ، وأمر له بخمسين ألف درهم .
روينا من حديث الهاشميّ قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « تكون أمتي في الدنيا على ثلاثة أطباق :
أما الطبق الأول : فلا يرغبون في جمع المال وادّخاره ، ولا يسعون في اقتنائه واحتكاره ، إنما رضاهم من الدنيا ما سدّ جوعة وستر عورة ، وغناهم فيها ما بلّغ الآخرة ، فأولئك الذين لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * .
وأما الطبق الثاني : يحبّون جمع المال من أطيب سبيله وصرفه في أحسن وجوهه ، يصلون به أرحامهم ، ويبرّون به إخوانهم ، ويواسون به فقراءهم ، ولعضّ أحدهم على الرصف أسهل عليه من أن يكسب درهما من غير حله ، وأن يضعه في غير وجهه ، وأن يمنعه من حقه ، وأن يكون له خازنا إلى حين موته ، فأولئك الذين إن نوقشوا عذّبوا ، وإن عفي عنهم سلموا .
وأما الطبق الثالث : فيحبون جمع المال مما حل وحرم ، ومنعه مما افترض أو وجب ، إن أنفقوه أنفقوه إسرافا وبدارا ، وإن أمسكوه أمسكوه بخلا واحتكارا ، أولئك الذين ملكت الدنيا أزمّة قلوبهم حتى أوردتهم النار بذنوبهم .
كان عليّ بن عبد اللّه بن العباس عند عبد الملك بن مروان ، فأخذ عبد الملك يذكر أيام بني أمية ، فبينما هو كذلك إذ نادى المنادي بالأذان ، فقال : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه .
فقال علي رضي اللّه عنه :
هذي المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
فقال عبد الملك بن مروان : الحق في هذا بيّن من أن يكابر .
ومن هذا الباب
ما ذكره علي بن محمد النديم قال : دخلت على المتوكل وعنده الرضا ، فقال : يا علي ، من أشعر الناس في زماننا ؟ قلت : البحتري ، قال : وبعده ؟ قلت : مروان بن أبي حفصة عبدك ، والتفت إليّ الرضا فقال : يا ابن عمّ ، من أشعر الناس ؟ قال : علي بن محمد العلوي ، قال : وما تحفظ من شعره ؟ قال : قوله :
“ 81 “
لقد فاخرتنا من قريش عصابة * بمطّ خدود وامتداد أصابع
فلما تنازعنا القضاء قضى لنا * عليهم بما تهوى نداء الصوامع
قال المتوكل : ما معنى نداء الصوامع ؟ قال : الشهادة . قال : وأبيك إنه أشعر الناس .
ومن قوله :
بلغنا السماء بأنسابنا * ولولا السماء لحزنا السماء
وحسبك من سؤدد أننا * بحسن البلاء كشفنا البلاء
يطيب الثناء لآبائنا * وذكر عليّ يطيب الثناء
إذا ذكر الناس كنا ملوكا * وكانوا عبيدا وكانوا إماء
هجاني رجال ولم أهجهم * أبي اللّه لي أن أقول الهجاء
ومن باب قوله تعالى : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ما رويناه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، عن ربه تعالى ، قال : « يقول اللّه جلّ ذكره يوم القيامة : اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي ، أين المتقون ؟ » .
روينا من حديث ابن عباس قال : الناس يتفاضلون في الدنيا في الشرف ، والبيوت ، والأمارات ، والغنى ، والجمال ، والهيبة ، والنطق . ويتفاضلون في الآخرة بالتقوى ، واليقين ، وأتقاهم أحسنهم يقينا ، وأزكاهم عملا ، وأرفعهم درجة .
لبعضهم شعر :
يزين الفتى في الناس صحة عقله * وإن كان محظورا عليه مكاسبه
وشين الفتى في الناس قلّة عقله * وإن كرمت آباؤه ومناسبه
قيل لعامر بن قيس : ما تقول في الإنسان ؟ قال : وما أقول فيمن إن جاع صغى ، وإن شبع طغى ؟ قال الحكيم : أخوان من أب واحد وأم واحدة ، الواحد عاقل فساد بين الناس بعقله فكان له الشرف والسؤدد ، والآخر لا عقل له فلم يرفع نسبه به رأسا له ، فيقول له أخوه :
أبوك أبي والجدّ لا شكّ واحد * ولكننا عودان آس وخروع
وأحسن ما قيل مما يليق بهذا الباب :
إن الفتى من يقول ها أنا ذا * ليس الفتى من يقول كان أبي
وقول الآخر :
وما ينفع الأصل من هاشم * إذا كانت النفس من باهله
“ 82 “
روينا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه أتاه أعرابي فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه ، من أكرم الناس حسبا ؟ قال : « أحسنهم خلقا وأفضلهم تقوى » . فانصرف الأعرابي فقال : « ردّوه » ، فقال : « يا أعرابي ، لعل أردت أكرم الناس نسبا ؟ » ، قال : نعم يا رسول اللّه ، قال : « يوسف صديق اللّه ابن يعقوب ، إسرائيل اللّه ابن إسحاق ، ذبيح اللّه ابن إبراهيم خليل اللّه ، فأين مثل هؤلاء الآباء في جميع الدنيا ؟ ما كان مثلهم ولا يكون » .
وفي ذلك يقول الشاعر :
ولم أر كالأسباط أبناء واحد * ولا كأبيهم والدا حين ينسب
فمن الشرف والسؤدد الحلم ، وبه ساد الأحنف بن قيس .
ومنها الوفاء ، وبه ساد السموأل .
ومنها الرأي ، وبه ساد الحصين بن المنذر .
ومنها التحبّب إلى الناس عامة وخاصة ، وبه ساد مالك بن مسمع .
ومنها الجود والكرم ، وبه ساد حاتم ومعن بن زائدة .
ومنها حب المساكين ، وبه ساد جعفر بن أبي طالب .
ومنها العطف على الأرامل ، وبه ساد سويد بن متحوف .
ومن مكارم الأخلاق
ما حدثه الفتح بن خاقان ، عن المتوكل قال : خرج المتوكل إلى دمشق وأنا عديله ، فلما صرنا بقنسرين قطعت بنو سليم على التجار ، فانتهى ذلك إليه ، فوجّه قائدا من وجوه قوّاده إليهم ، فحاصرهم ، فلما قربنا من القوم إذا نحن بجارية ذات جمال وهيبة وهي تقول :
أمير المؤمنين سما إلينا * سموّ الليث مال به الغريف
فإن نسلم فعفو اللّه نرجو * وإن نقتل فقاتلنا شريف
فقال لها المتوكل : أحسنت ، ما جزاؤها يا فتح ؟ قلت : العفو والصلة يا أمير المؤمنين ، فأمر لها بعشرة آلاف درهم .
وقال لها : مرّي إلى قومك وقولي لهم : لا تردّوا المال على التجار ، فإني أعوّضهم .
“ 83 “
حكمة بالغة
قال عبد الملك بن مروان لسالم بن يزيد الفهمي : أي الزمان أدركت أفضل ؟ وأي ملوكه أكمل ؟ قال : أما الملوك فلم أر إلا ذامّا وحامدا ، وأما الزمان فرفع أقوام ووضع آخرين ، وكلهم يذم زمانه ، لأنه يبلي جديدهم ويهرم صغيرهم ، وكل ما فيه منقطع إلا الأمل ، قال : فأخبرني عن فهم ، قال : هم كما قال الشاعر :
درج الليل والنهار على فه * م بن عمر فأصبحوا كالرميم
وخلت دارهم فأضحت نعاما * بعد عزّ وثروة ونعيم
وكذاك الزمان يذهب بالنا * س وتبقى ديارهم كالرّسوم
قال : فمن يقول منكم :
رأيت الناس مذ خلقوا وكانوا * يحبون الغنيّ من الرجال
وإن كان الغني أقل خيرا * بخيلا بالقليل من النوال
فلم أدر علام وفيم هذا * وما ذا يرتجون من المحال
أللدنيا فليس هناك دنيا * ولا يرجى لحادثة الليالي
قال : أنا وقد كتمتها .
وروينا من حديث ابن ودعان ، عن أبي سعيد الآملي ، عن السيرافي ، عن أبي سعيد ، عن هبة اللّه بن عاصم ، عن محمد بن عبيد اللّه الخزاعي ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي هارون ، عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لرجل يعظه : « ارغب فيما عند اللّه يحبك اللّه ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس . الزاهد في الدنيا يربح قلبه وبدنه في الدنيا والآخرة ، وإن الراغب يتعب قلبه وبدنه في الدنيا والآخرة . ليجيئن أقوام يوم القيامة لهم حسنات كأمثال الجبال ، فيؤمر بهم إلى النار » ، فقيل : يا رسول اللّه ، أو يصلّون كانوا ؟ قال : « كانوا يصلّون ويصومون ويأخذون وهنا من الليل ، لكنهم كانوا إذا لاح لهم شيء من الدنيا وثبوا عليه » .
وروينا من حديثه أيضا ، عن محمد بن علي ، عن إبراهيم بن محمد ، عن عبيد اللّه بن جرير ، عن معاذ بن أسد ، عن ابن المبارك ، عن إسماعيل بن عياش ، عن يحيى الطويل ، عن نافع بن عمرة قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « أيها الناس ، إن هذه الدار دار التواء لا دار استواء ، ومنزلة ترح لا منزلة فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء ، ألا وإن اللّه خلق الدنيا دار بلوى ، والآخرة دار عقبى ، فجعل بلوى الدنيا
“ 84 “
لثواب الآخرة سببا ، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا ، فيأخذ ليعطي ، ويبتلي ليجزي ، وإنها لسريعة الذهاب ، وشبكة الانقلاب . فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها ، واهجروا لذيذ عاجلها لكريه آجلها ، ولا تسعوا في غمرات دار قد قضى اللّه خرابها ، ولا تواصلوها وقد أراد اللّه منكم اجتنابها ، فتكونوا لسخطه متعرضين ، ولعقوبته مستحقين » .
ولما أتى علي رضي اللّه عنه العراق دخل المدائن ، فنظر إلى إيوان كسرى معتبرا ، فجعل يبكي ، فقام إليه بعض الحاضرين فقال : يا أمير المؤمنين ، أتحب أن أسمعك قول الأسود بن يعفر ؟ فقال : إن شئت ، وعليّ يتلو قوله تعالى : فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ، قال : وأي آية ؟ ما أعظمها ، ثم قال : يا هذا ، ما قال الأسود ؟
فقال :
ما ذا يؤمل بعد آل محرّق * تركوا منازلهم وبعد إياد
أرض الخورنق والسدير وبارق * والقصر ذو الشرفات من سنداد
نزلوا بأنفرة تسيل عليهم * ماء الفرات يجيء من أطواد
أرض تخيّرها لطيب نسيمها * كعب بن مامة وابن أم دواد
جرت الرياح على محل ديارهم * فكأنما كانوا على ميعاد
فإذا النعيم وكل ما يلهى به * يوما يصير إلى بلى ونفاد
فقال علي رضي اللّه عنه : يا هذا ، أبلغ من ذلك قول اللّه تعالى : كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ .
سمعت محمد بن أبي محمد الكتاني ينشد يوما أبياتا فأثّر بي سماعها ، وهي :
لو جرى دمعك يا هذا دما * ما تقدمت إلينا قدما
إنما يصفو هوانا لامرئ * حفظ العهد وراعى الذمما
كيف يخفى لك أمر بعد ما * نشر العذر عليه علما
عندنا منك أمور كلها * حيرة فيما لدينا وعما
وأرى داءك داء معضلا * أبدا تزداد فيه سقما
كم حميناك فلم تبق لنا * وتعدّيت ووافيت الحمى
نح علينا أسفا أو لا تنح * واقرع السنّ علينا ندما
لو أردناك لنا ما فتنا * أو وصلنا حبلنا ما انصرما
ما رأينا منصفا عامله * منصف في صفقة فاختصما
أنت لو سالمتنا نلت المنى * قلّ من سالم إلا سلما
كان ثوبة صاحب ليلى الأخيلية قد قال :
“ 85 “
ولو أن ليلى الأخيلية سلّمت * عليّ ودوني جندل وصفائح
لسلّمت تسليم البشاشة أوزقي * إليها صدى من جانب القبر صائح
ولو أن ليلى في السماء لأصعدت * بطرفي إلى ليلى العيون اللوامح
فيقال : إنه لما مات ثوبة مرّ زوج ليلى بليلى على قبره ، فقال لها : سلّمي على ثوبة ، فإنه زعم في شعره أنه يسلّم عليك تسليم البشاشة ، فقالت : ما تريد إلى من بليت عظامه ؟
قال : واللّه لتفعلي ، فقالت وهي على البعير : سلام عليك يا ثوبة فتى الفتيان . وكان قطاة مستظلة في نقب القبر ، فلما سمعت الصوت طارت فصاحت ، فنفر البعير ورمى بليلى ، فماتت ودفنت بجنب قبره .
ويحكى أن ليلى الأخيلية دخلت على الحجاج فأنشدته قولها فيه :
إذا نزل الحجّاج أرضا سقيمة * تتبّع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها * غلام إذا هزّ القناة ثناها
أحجّاج لا تعطي العصاة مناهم * ولا اللّه لا يعطي العصاة مناها
فوصلها الحجاج بألف دينار ، وسألها الحجاج : هل كان بينك وبين ثوبة ريبة قطّ ؟
قالت : لا والذي أسأله صلاحك ، إلا أنه قال مرة لي قولا ، ظننت أنه خنع لبعض شيء ، فقلت له
شعرا :
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها * فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه * وأنت لأخرى فارغ وحليل
قالت : فما كلّمني بعد ذلك بشيء حتى فرّق بيني وبينه الموت . قال الحجاج : فما كان من بعد ذلك ؟ قالت : لم يلبث أن قال لصاحب له : إذا أتيت الحاضر من بني عباد فقل بأعلى صوتك :
عفا اللّه عنها هل أبيتنّ ليلة * من الدهر لا يسري إلينا خيالها
فلما سمعت الصوت خرجت فقالت :
وعنه عفا ربّي فأصلح حاله * يعزّ علينا حالة لا ينالها
ومن الكلام الأشد في وصف الأسد
ما حدثناه بعض الأدباء قال : دخل أبو زبيد الطائي على عثمان بن عفان رضي اللّه عنه في خلافته ، وكان نصرانيا ، فقال له : بلغني أنك تجيد وصف الأسد ، فقال له : لقد رأيت
“ 86 “
منه منظرا ، وشهدت منه مخبرا ، لا يزال ذكره يتجدد على قلبي . قال : هات ما مرّ على رأسك منه ، فقال : خرجت يا أمير المؤمنين في صبية من أفناء قبائل العرب ذوي شارة حسنة ترتمي بنا المهاري بأكسائها القيروانية ، ومعنا البغال عليها العبيد يقودون عناق الخيل ، نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام ، فاخروط بنا المسير في جمارة القيظ ، حتى إذا عصبت الأفواه ، وذبلت الشفاه ، وسالت المياه ، وأذكت الجو المعر ، وذاب الصخر الجندب ، وضاف العصفور الضبّ في وجاره ، قال قائلنا : أيها الركب ، غوروا بنا في وضوح هذا الوادي ، وإذا واد كثير الدّغل ، دائم الغلل ، شجراؤه معثة ، وأطياره مرثة .
فحططنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلات متهدلات ، قاصبنا من فضلات المزاود ، وأتبعناها بالماء البارد ، فإنا لنصف حرّ يومنا ، ومماطلته ومطاولته ، إذ صرّ أقصى الخيل أذنيه ، وفحص الأرض بيديه ، ثم ما لبث أن جال فحمحم ، وبال فهمهم ، ثم فعل الذي يليه واحد فواحد ، فتضعضعت الخيل ، وتكعكعت الإبل ، وتقهقرت البغال ، فمن نافر بشكاله ، وناهض بعقاله ، فعلمنا أن قد أتينا ، وأنه السبع لا شك ، ففزع كل امرئ إليه بسيفه ، واستلّ من جربانه ، ثم وقفنا له زردقا ، فأقبل يتطلع في مشيته كأنه مجنون ، أو في هجار ، لصدره مخيط ، ولبلاعيمه غطيط ، ولطرفه وميض ، ولأرساغه نقيض ، كأنما يخبط هشيما ، أو يطأ صريما ، وإذا هامة كالمجنّ ، وخدّ كالمسنّ ، وعينان شجراوان كأنهما تقدّان ، وقصرة ربلة ، ولهزمة رهلة ، وكيد مغتبط ، وزور مفرط ، وساعد مجدول ، وعضد مفتول ، وكفّ شبيه المراثن إلى مخالب كالمحاجن .
ثم ضرب بذنبه الأرض فأرهج ، وكشر فأفرج عن أنياب كالمعاول ، مصقولة غير مغلولة ، وفم أشدق كالغار الأخرق ، ثم تمطى فأسرع بيديه ، وحفز وركيه برجليه ، حتى صار ظله مثليه . ثم أقعا فاقشعر ، ثم مثل فاكفهرّ ، ثم تجهّم فازبأرّ .
فلا والذي بيته في السماء ما اتّقيناه بأول من أخ لنا من بني فزارة ، كان ضخم الجزارة ، فوهصه ، ثم أقعصه ، فقضقض متنه ، وبقر بطنه ، فجعل يألغ في دمه ، فدمرت أصحابي ، فبعد رأي ما استقدموا ، فكرّ مقشعرا لزئيرة كان بها سهما حوليا ، فاختلج من دوني رجلا ذا حوابا ، فنفضه نفضة ، فتزايلت أوصاله ، وانقطعت أوداجه ، ثم نهض فقرقر ، ثم زفر فبربر ، ثم زأر فجرجر ، ثم لحظ فو اللّه لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه من عن شماله ويمينه ، فأرعشت الأيدي ، واصطكت الأرجل ، وأطت الأضلاع ، وارتجت الأسماع ، وجمحت العيون ، وانخزلت المتون ، ولحقت البطون بالظهور ، وساءت الظنون ،
وأنشأ يقول :
عبوس شموس مصلخدّ خنابس * جريء على الأرواح للقرن قاهر
منيع ويحمي كل واد يرومه * شديد أصول الماضغين مكابر
“ 87 “
برايته شتن وعيناه في الدجى * لجمر الغضى في وجهه الشر ظاهر
يدل بأنياب حداد كأنها * إذا قلص الأشداق عنها خناجر
فقال له عثمان رضي اللّه عنه : اكفف لا أم لك ، فلقد أرعبت قلوب المسلمين ، ولقد وصفته حتى كأنني أنظر إليه يريد يواثبني .
مثل سائر
هو أجبن من هجرس ، وهو القرد ، وذلك أنه لا ينام الليل إلا وفي يده حجر مخافة أن يأكله الذئب .
قال قتيبة بن مسلم : لا تطلبوا الحوائج من كذوب ، فإنه يقرّبها وإن كانت بعيدة ، ويبعدها وإن كانت قريبة ، ولا إلى رجل قد جعل المسألة مأكله ، فإنه يقدّم حاجته قبلها ، ويجعل حاجتك وقاية لها ، ولا إلى أحمق فإنه يريد نفعك فيضرّك .
قال بعضهم : لو لم يترك العاقل الكذب إلا مروءة بذلك ، فكيف وفيه المأثم والعار ؟
مكتوب في الحكمة
عند التراخي عن شكر المنعم يحلّ عظيم النقم .
وقيل لذي الرمة : لم خصصت بلال بن أبي بردة بمدحك ؟ قال : لأنه وطّأ مضجعي ، وأكرم مجلسي ، وأحسن صلتي ، فحق لكثير معروفه عندي أن يستولي على شكري .
وروينا من حديث عائشة أم المؤمنين قالت : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كثيرا ما يقول : « يا عائشة ، ما فعل نبيّك ؟ » ،
فأنشده :
نجزيك أو نثني عليك وإن من * أثنى عليك لما فعلت كمن جزا
فيقول صلى اللّه عليه وسلم : " صدق القائل يا عائشة ، إن اللّه إذا أجرى على يد رجل خيرا فلم يشكر فليس للّه بشاكر " .
قال الهيثم بن حسن بن عمارة : كان سراقة البارقي من أظرف الناس ، وكان من أهل الكوفة ، فأسره رجل من أصحاب المختار ، وكان يومي إلى أنه نبيّ ، وعرف ذلك منه ، فأتى بسراقة إليه ، فقال له المختار : أسرك هذا ؟ فقال سراقة : كذب واللّه ، ما أسرني إلا رجل عليه ثياب بيض على فرس أبلق ، فقال المختار : أما إن الرجل قد عاين الملك ، خلّوا سبيله . فلما أفلت أنشأ يقول :
“ 88 “
ألا بلّغ أبا إسحاق أني * رأيت البلق دهما مضمنات
أري عينيّ ما لم تورياه * كلانا عالم بالترهات
كفرت بوحيكم وجعلت نذرا * عليّ قتالكم حتى الممات
قيل : وما عبّر عن شيء فهو أفضل منه . انتهى .
كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى قيصر ملك الروم وما كان منه في ذلك
روينا من حديث الحافظ أبي نعيم ، قال : حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن أبو عمر ، نبأ الحسن بن الجهم ، نبأ الحسين بن الفرج ، نبأ محمد بن عمر الواقدي ، حدثني مالك بن أبي الرجال ، عن عمر بن عبد اللّه ، عن محمد بن كعب القرظيّ ، قال : بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دحيّة الكلبيّ إلى قيصر ، وكتب إليه معه ، فلقيه دحية بحمص ، وقيصر ماش من قسطنطينية ، فلما لقيه قال له من قومه كلب : إذا لقيته فاسجد له ، ثم لا ترفع رأسك حتى يأذن لك . قال دحية : لا أفعل هذا أبدا ، ولا أسجد لغير اللّه . قال : فإذا لا يأخذ كتابك ، ولا يردّ جوابك . قال : وإن لم يأخذ . قال رجل من القوم : أدلك على أمر يأخذ فيه كتابك ، ولا يكلفك السجود فيه . قال دحية : وما هو ؟ قال له : على كل عقبة منبر يجلس عليه ، فضع صحيفتك وجاه المنبر ، فإنه لا أحد يحرّكها حتى يأخذها هو ، ثم يدعو صاحبها . قال : أما هذا فسأفعله ، فعمد إلى منبر من تلك المنابر التي يستريح عليها ، فألقى الصحيفة ، وجاه المنبر ، ثم تنحّى فجلس قريبا ، فجاء قيصر فجلس على المنبر ، ثم نظر إلى الصحيفة ، فدعا بها ، فإذا عنوانها : كتاب عربي . فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية ، فإذا فيه : « من محمد رسول اللّه إلى قيصر صاحب الروم » . فغضب أخ لقيصر يسمى نياق ، فضرب الترجمان في صدره ضربة شديدة أجلسته على استه ، ثم نزعها منه ، فقال : ما شأنك اختلست الصحيفة ؟ قال : تنظر في كتاب رجل بدا فيه بنفسه قبلك ؟ قال قيصر لنياق :
إنك واللّه ما علمت أنك أحمق صغير ، أو مجنون كبير ، أتريد أن تخرق كتاب رجل قبل أن أنظر فيه ؟ فلعمري إن كان رسول اللّه كما يقول ، فنفسه أحق أن يبدأ بها مني ، وإن كان سمّاني صاحب الروم لقد صدق ، وما أنا إلا صاحبهم ، وما أملكهم ، ولكن اللّه سخّرهم لي ، ولو شاء لسلّطهم عليّ كما سلّط فارس على كسرى فقتلوه .
ثم فتح الصحيفة فإذا فيها : بسم اللّه الرحمن الرحيم من محمد رسول اللّه إلى قيصر صاحب الروم ، سلام على من اتّبع الهدى . أما بعد : « يا أهل الكتاب ، تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا اللّه ولا نشرك به شيئا ، ولا يتخذ بعضنا بعض أربابا من دون
“ 89 “
اللّه ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون » في آيات من كتاب اللّه تعالى يدعوه إلى اللّه ، ويزهّده في ملكه ، ويرغّبه فيما رغّبه اللّه عنه من دار الآخرة ، ويحذّره بطش اللّه وبأسه .
فقرأ قيصر الكتاب فقال : يا معشر الروم ، إني لأظنّ أن هذا الذي بشّر به عيسى ابن مريم عليه السلام ، ولو أعلم أنه هو لمشيت إليه حتى أخدمه بنفسي لا يسقط وضوءه إلا على يديّ . قالوا : ما كان اللّه ليجعل ذلك في العرب الأميين ، ويدعنا ونحن أهل الكتاب .
قال : فاصل الهدى بيني وبينكم عندي الإنجيل ، ندعوا به فنفتحه ، فإن كان هو اتّبعناه ، وإلا أعدنا عليه خواتيمه كما كانت ، إنما هي خواتم مكان خواتم .
قال : وعلى الإنجيل يومئذ اثنا عشر خاتما من ذهب ، ختم عليه هرقل ، فكان كل ملك يليه بعده ظاهر عليه بخاتم آخر ، حتى ألفي ملك قيصر وعليه اثنا عشر خاتم بخبر أولهم آخرهم : أنه لا يحلّ لهم أن يفتحوا الإنجيل في دينهم ، وأنه يوم يفتح يغيّر دينهم ، ويهلك ملكهم ، فدعا بالإنجيل ، ففضّ عنه أحد عشر خاتما حتى إذا بقي عليه خاتم واحد قامت الشمامسة والأساقفة والبطارقة ، فشقوا ثيابهم ، وصكّوا وجوههم ، ونتفوا رؤوسهم .
قال : ما لكم ؟ قالوا : اليوم يملك ملك أبيك ، ويتغير دين قومك . قال : فاصل الهدى ، قالوا : لا تعجل حتى نسأل عن هذا ، ونكاتبه ، وتنظر في أمره ، فإنك قادر إن شاء اللّه تعالى على أن تفضّ هذا الخاتم فتنظر فيه ما تريد ، وإنك لا تقدر إن انفتق عليك ما تكره أن تردّه بعد فتقه . قال : فمن نسأل عنه ؟ قالوا : نسأل قوما كثيرا بالشام . فأرسل يبتغي قوما يسألهم ، قال : فجمع له أبو سفيان بن حرب وأصحابه ، فجاء قوم كلهم للّه ولرسوله عليه السلام عدو ، فقال : أخبرني يا أبا سفيان ، من هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فلم يأل أن يصغّر أمره ما استطاع ، قال : أيها الملك ، لا يكبر عليك شأنه ، إنّا لنقول هو ساحر ، ونقول هو شاعر ، ونقول هو كاهن .
قال قيصر : كذلك والذي نفسي بيده كان يقال للأنبياء قبله ، أخبرني موضعه فيكم .
قال : أوسطنا سطة ، قال : كذلك يبعث اللّه كل نبي من أوسط قومه ، قال : أخبرني عن أصحابه ، قال : غلماننا وأحداثنا سنا والسفهاء ، أما رؤساؤنا فلم يتبعه منهم أحد .
قال :أولئك واللّه أتباع الرسل منذ قط ، أما الملأ والرؤوس فتأخذهم الحمية ، قال : فأخبرني عن أصحابه هل يفارقونه بعد ما يدخلون في دينه سخطة له ؟
قال : ما يفارقه منهم أحد ، قال :فلا يزال داخل منكم في دينه ؟ قال : نعم ، قال : ما تزيدونني عليه إلا بصيرة ، والذي نفس بيده ليوشكن أن يغلب على ما تحت قدمي .
يا معشر الروم ، هل إلى أن نجيب هذا الرجل إلى ما دعانا إليه ؟ ونسأله الشام أن لا
“ 90 “
توطأ علينا أبدا ، فإنه لم يكتب قطّ نبي من الأنبياء إلى ملك من الملوك يدعوه إلى اللّه تعالى فيجيبه إلى ما دعاه ، ثم يسأله غيرها فيسأله إلا أعطاه مسألته ما كانت ، فأطيعوني . فلنجبه إلى ما دعانا إليه ، ونسأله الشام أن لا توطأ . قالوا : لا نطاوعك في هذا أبدا ، أتكتب إليه تسأله في ملكك الذي تحت رجليك ، وهو هنالك لا يملك من ذلك شيئا ، فمن أضعف منك ؟ قال أبو سفيان : واللّه ما يمنعني من أن أقول قولا أسقط من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها عليّ فلا يصدّقني في شيء ، قال : حتى ذكرت قوله ليلة أسري به ، قال : قلت : أيها الملك ، ألا أخبرك عنه خبرا تعلم أنه قد كذب ؟ قال : وما هو ؟ قال : يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة ، فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ورجع إلينا في تلك الليلة قبل الصباح .
قال : وبطريق إيلياء عند رأس قيصر ، فقال بطريق إيلياء : قد علمت تلك الليلة .
قال : فنظر قيصر إليه وقال : وما علمك بهذا ؟ قال : إني كنت لا أنام ليلة أبدا حتى أغلق أبواب المسجد ، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني ، فاستعنت عليه عمّالي ومن حضرني كلهم ، فعالجته فلم نستطع أن نحرّكه كأنما تروّل به جبلا ، فدعوت النجاجرة ، فنظروا إليه فقالوا : هذا باب سقط عليه النجاف والبنيان والأسطوانة ، ولا نستطيع أن نحرّكه حتى نصبح فننظر من أين أتى . قال : فرجعت وتركت البابين مفتوحين ، فلما أصبحت غدوت عليهما ، فإذا الحجر الذي من زاوية المسجد مثقوب ، وإذا فيه أثر مربط الدابة .
قال : فقلت لأصحابي : ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي ، وقد صلّى الليلة في مسجدنا .
فقال قيصر لقومه : يا معشر الروم ، أليس تعلمون أن بين عيسى وبين الساعة نبيا بشّركم به عيسى كنتم ترجون أن يجعله اللّه منكم ؟ قالوا : نعم . قال : فإن اللّه قد جعله في غيركم في أقلّ منكم عددا ، وأضيق منكم بابا ، وهي رحمة اللّه يضعها حيث يشاء ، فإما أن تطيعوني فيما آمركم به ، وإلا رأيتم الخيل دوابين ، نواصيها بين أظهركم ، فيقتل الرجال ، ويستباح المال ، وتسبى العيال .
قالوا : نصبر له عشر سنين ؟ قال : نعم وعشرين سنة . قالوا : نصبر عشرين سنة ؟
قال : نعم وثلاثين . قالوا : نصبر ثلاثين ؟ قال : نعم وأربعين . قالوا : نصبر أربعين ؟ قال :
نعم وخمسين ، حتى بلغ رأس المائة يزيد عشرا عشرا ، فلما بلغ رأس المائة قالوا : ألك علم بهم ؟ كيف هم بعد المائة ؟ قال : هم بعد المائة كالدينار المضروب ثلثه هبرزي خالص ، وثلثه مغشوش ، وثلث لا خير فيه . قال : ثم قال قيصر : ارجعوا عني هذا اليوم
“ 91 “
حتى أفكّر في أمري وأدبّره ، ثم اغدوا عليّ بالغداة أجمعكم . قال : فغدوا عليه حين أصبح وأشرف لهم على بيت مرتفع ، فقال : يا معشر الروم ، إن هذا النبي الذي بشّر به عيسى ابن مريم ، فأجيبوه إلى ما دعا إليه . فلما رأى إلغاطهم وإباءهم صمت عنهم حتى سكن عنه الصوت ، ثم قال : يا معشر الروم ، دعاكم ملككم ينظر كيف صلابتكم في دينكم ، فشتمتموه وسببتموه وهو بين أظهركم . قال : فخرّوا له سجّدا .
غريب دعاه حبيب فأجابه
حدثنا محمد بن إسماعيل ، نبأ عبد الرحمن بن علي ، نبأ محمد بن أبي منصور ، نبأ أبو عبد اللّه الحميدي ، انا الأردستاني ، نبأ أبو عبد الرحمن السلمي ، سمعت أبا الحسن بن عبد اللّه الطوسي ، سمعت علّوس الدينوري يقول : سمعت المزني يقول : كنت مجاورا بمكة ، فخطر لي خاطر في الخروج إلى المدينة ، فخرجت ، فبينا أنا بين المسجدين أمشي فإذا أنا بشابّ مطروح إلى جانب جبل عليه خرقتان وهو ينزع ، فقعدت عند رأسه فقلت : يا سيدي ، قل لا إله إلا اللّه ، ففتح عينيه ونظر إليّ ،
وأنشد :
أنا إن متّ فالهوى حشو قلبي * وبداء الهوى يموت الكرام
وشهق شهقة كانت فيها نفسه ، فكفّنته في أطماره ورجعت .
أنشدني أبو علي الغالي في الوطن :
أقول لصاحبي والعيس تحدي * بنا بين المنيعة والضمار
زوّد من شميم عرار نجد * فما بعد العشيّة من عرار
ألا يا حبّذا أرواح نجد * وريّا روضه غبّ القطار
وعيشك إذ يحلّ القوم نجدا * وأنت على زمانك غير زار
شهور تنقضين وما علمنا * إنصاف لهنّ ولا سرار
وأنشد أبو بكر الأنباري في ذلك :
واستشرف الأعلام حتى يدلني * على طيبها مرّ الرياح النواسم
وما أنسم الأرواح إلا لأنها * تمرّ على تلك الربى والمعالم
وأنشد الشريف الرضيّ رحمه اللّه تعالى :
أقول وقد حلّت بذي الأثل ناقتي * قرى لا ينل منك الحنين المرجّع
تحنّين إلا أن بي لا بك الهوى * ولي لا لك اليوم الخليط المودّع
وباتت تشكي تحت رحلي ضمانة * كلانا إذا يا ناق نضو مفجع
“ 92 “
أحسّت بنار في ضلوعي فأصبحت * يحثّ بها نار الغرام ويوضع
ومن وقائع بعض الفقراء
ما حدثنا به عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي رحمه اللّه قال : رأى بعض الفقراء ببجاية في الواقعة أبا حامد وجماعة من الصوفية يقولون للشيخ أبي مدين : أخبرنا عن شيء مما خصك به الحق من العلم ، فقال لهم : بالعلم الباقي أضاء سري ، وحسنت أخلاقي ، فعلم اللّه صفة ذاته ، فكل ما عرف منه سبحانه معروف ، والصفة لا تفارق الموصوف ، فما ثبت في الوجود منه فبإمداده ، وما فهموا عنه فبإرشاده ، فكل علم سواه بالإضافة إليه مذموم ، وإنما يشرف العلم بشرف المعلوم ، فانظر ما علمك وما ذا ؟ فمن هناك تجازى وتنادى ، فخير العلم ما وصلك إلى المعلوم ، وعند مشاهدة الحق تضمحل الرسوم ، ويتجلى إذ ذاك الحي القيوم ، فمن رقى عن المحسوسات نال الغيوب ، ومن قهقر عندها فهو محجوب ، فالعارف أبدا يرقى ، ودقائق الإشارات واللطائف يتلقّى ، ليس له التفات إلى ذيت وذيت ، ولا يقنع من البيت إلا برب البيت ، فهو أبدا في التنزيه والمشاهدة ، يرفع عن الأغيار والمكايدة ، ملاحظ ذلك الجمال الأبدي ، متلذذ بمشاهدة الملك العليّ .
ثم قال الشيخ : مقامي مقام العبودية ، وعلومي العلوم الإلهية ، وصفاتي مستمدة من الصفات الربانية ، بها عمر فكري ، وهي غذاء لسرّي وجهري ، فعلمي باللّه متصل ، وعن كل من سواه منفصل ، اتصاله بحضرة قدسه ، ومسرحه في رياض أنسه ، فبالعلم باللّه وذاته وصفاته نلت الجاه ، ومعلومي هو اللّه ، عظمته ملأت حقيقتي وسرّي ، ونوره أضاء به برّي وبحري ، فمن أحياه فهو الحيّ ، ومن أماته عنه في ظلمة الغيّ إذ المقرب به عظيم ، ولا يسمو إلا من أتى اللّه بقلب سليم ، فالقلب السليم هو الذي سلم مما سواه ، ولا يكون في الوعاء إلا ما جعل فيه مولاه ، فقلب العارف يسرح في الملكوت بلا شكّ ولا ارتياب ، وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب ، فالجبال بقدرته سيّرها ، وبصنعه الجميل أتقنها ، فكلامه العزيز لصدور أوليائه شفا ، وهو سبحانه لشدة ظهوره خفا .
الجزء السادس
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 79 “
منتقما ونصيرا ، وكفى بالجنة ثوابا ونوالا ، وكفى بالنار عقابا ونكالا ، وكفى بكتاب اللّه جحيما وخصيما .
ومما وعظ به كعب الأحبار عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه
ما رويناه من حديث أحمد بن حنبل ، ثنا بهر بن أسد ، ثنا جعفر بن سليمان ، ثنا علي بن زيد ، عن مطرف ، عن كعب ، قال : قال عمر بن الخطاب وأنا عنده : يا كعب خوّفنا ، قلت : يا أمير المؤمنين أليس فيكم كتاب اللّه وحكمة رسول اللّه ؟ قال : بلى ، ولكن خوّفنا ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، اعمل عمل وجل ، لو وافيت القيامة بعمل سبعين نبيا لازدريت عملك مما ترى . فأطرق عمر مليا ، ثم أفاق فقال : زدنا يا كعب ، قلت : يا أمير المؤمنين ، لو فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق ورجل بالمغرب ، لغلى دماغه حتى يسيل من حرّها . فأطرق عمر مليا ، ثم أفاق فقال : زدنا يا كعب ، قلت : إن جهنم لتزفر يوم القيامة زفرة لا يبقى ملك مقرّب ، ولا نبي مصطفى إلا خرّ جاثيا على ركبتيه ، ويقول : رب نفسي نفسي ، لا أسألك اليوم إلا نفسي . فأطرق عمر مليا ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، أو ليس تجدون هذا في كتاب اللّه عز وجل ؟ قال : كيف ؟ قلت : يقول اللّه تعالى : يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها .
وروينا من حديث ابن أبي الدنيا ، حدثني القاسم بن هاشم ، قال : نبأ أبو اليمان قال :
نبأ صفوان بن عمرو ، عن أبي اليمان ، عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قال لكعب :
ما تخاف علينا يا أبا إسحاق ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، إن في السماء ديّانا ، وإن في الأرض ديّانا ، فويل لديّان الأرض من ديّان السماء إلا من دان نفسه للّه عز وجل ، إنك تأمر ولا تؤمر ، وإنك بين الناس وبين ربك ، وليس بينك وبين اللّه أحد . فقال له عمر : أنشدك باللّه كيف تجدني ، أخليفة أم ملكا ؟
قال : بل خليفة ، قال : فاستحلفه عمر ، فحلف له كعب ، وقال : خليفة واللّه من خير الخلفاء ، وزمانك خير زمان .
موعظة أعرابي للرشيد بمكة
ذكر أبو الفرج في كتاب « مثير الغرام الساكن » له ، أن الرشيد حجّ في بعض السنين ، فبينما هو يطوف بالبيت عرض له أعرابي فأنشده :
عش ما بدا لك كم تراك تعيش * أتظنّ سهم الحادثات يطيش
عش كيف شئت لتأتيك وقفة * يوما وليس على جناحك ريش
“ 80 “
قال : فوقف الرشيد فاستعاده الشعر ، ثم بكى حتى بلّ وجهه ، وأمر له بخمسين ألف درهم .
روينا من حديث الهاشميّ قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « تكون أمتي في الدنيا على ثلاثة أطباق :
أما الطبق الأول : فلا يرغبون في جمع المال وادّخاره ، ولا يسعون في اقتنائه واحتكاره ، إنما رضاهم من الدنيا ما سدّ جوعة وستر عورة ، وغناهم فيها ما بلّغ الآخرة ، فأولئك الذين لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * .
وأما الطبق الثاني : يحبّون جمع المال من أطيب سبيله وصرفه في أحسن وجوهه ، يصلون به أرحامهم ، ويبرّون به إخوانهم ، ويواسون به فقراءهم ، ولعضّ أحدهم على الرصف أسهل عليه من أن يكسب درهما من غير حله ، وأن يضعه في غير وجهه ، وأن يمنعه من حقه ، وأن يكون له خازنا إلى حين موته ، فأولئك الذين إن نوقشوا عذّبوا ، وإن عفي عنهم سلموا .
وأما الطبق الثالث : فيحبون جمع المال مما حل وحرم ، ومنعه مما افترض أو وجب ، إن أنفقوه أنفقوه إسرافا وبدارا ، وإن أمسكوه أمسكوه بخلا واحتكارا ، أولئك الذين ملكت الدنيا أزمّة قلوبهم حتى أوردتهم النار بذنوبهم .
كان عليّ بن عبد اللّه بن العباس عند عبد الملك بن مروان ، فأخذ عبد الملك يذكر أيام بني أمية ، فبينما هو كذلك إذ نادى المنادي بالأذان ، فقال : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه .
فقال علي رضي اللّه عنه :
هذي المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
فقال عبد الملك بن مروان : الحق في هذا بيّن من أن يكابر .
ومن هذا الباب
ما ذكره علي بن محمد النديم قال : دخلت على المتوكل وعنده الرضا ، فقال : يا علي ، من أشعر الناس في زماننا ؟ قلت : البحتري ، قال : وبعده ؟ قلت : مروان بن أبي حفصة عبدك ، والتفت إليّ الرضا فقال : يا ابن عمّ ، من أشعر الناس ؟ قال : علي بن محمد العلوي ، قال : وما تحفظ من شعره ؟ قال : قوله :
“ 81 “
لقد فاخرتنا من قريش عصابة * بمطّ خدود وامتداد أصابع
فلما تنازعنا القضاء قضى لنا * عليهم بما تهوى نداء الصوامع
قال المتوكل : ما معنى نداء الصوامع ؟ قال : الشهادة . قال : وأبيك إنه أشعر الناس .
ومن قوله :
بلغنا السماء بأنسابنا * ولولا السماء لحزنا السماء
وحسبك من سؤدد أننا * بحسن البلاء كشفنا البلاء
يطيب الثناء لآبائنا * وذكر عليّ يطيب الثناء
إذا ذكر الناس كنا ملوكا * وكانوا عبيدا وكانوا إماء
هجاني رجال ولم أهجهم * أبي اللّه لي أن أقول الهجاء
ومن باب قوله تعالى : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ما رويناه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، عن ربه تعالى ، قال : « يقول اللّه جلّ ذكره يوم القيامة : اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي ، أين المتقون ؟ » .
روينا من حديث ابن عباس قال : الناس يتفاضلون في الدنيا في الشرف ، والبيوت ، والأمارات ، والغنى ، والجمال ، والهيبة ، والنطق . ويتفاضلون في الآخرة بالتقوى ، واليقين ، وأتقاهم أحسنهم يقينا ، وأزكاهم عملا ، وأرفعهم درجة .
لبعضهم شعر :
يزين الفتى في الناس صحة عقله * وإن كان محظورا عليه مكاسبه
وشين الفتى في الناس قلّة عقله * وإن كرمت آباؤه ومناسبه
قيل لعامر بن قيس : ما تقول في الإنسان ؟ قال : وما أقول فيمن إن جاع صغى ، وإن شبع طغى ؟ قال الحكيم : أخوان من أب واحد وأم واحدة ، الواحد عاقل فساد بين الناس بعقله فكان له الشرف والسؤدد ، والآخر لا عقل له فلم يرفع نسبه به رأسا له ، فيقول له أخوه :
أبوك أبي والجدّ لا شكّ واحد * ولكننا عودان آس وخروع
وأحسن ما قيل مما يليق بهذا الباب :
إن الفتى من يقول ها أنا ذا * ليس الفتى من يقول كان أبي
وقول الآخر :
وما ينفع الأصل من هاشم * إذا كانت النفس من باهله
“ 82 “
روينا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه أتاه أعرابي فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه ، من أكرم الناس حسبا ؟ قال : « أحسنهم خلقا وأفضلهم تقوى » . فانصرف الأعرابي فقال : « ردّوه » ، فقال : « يا أعرابي ، لعل أردت أكرم الناس نسبا ؟ » ، قال : نعم يا رسول اللّه ، قال : « يوسف صديق اللّه ابن يعقوب ، إسرائيل اللّه ابن إسحاق ، ذبيح اللّه ابن إبراهيم خليل اللّه ، فأين مثل هؤلاء الآباء في جميع الدنيا ؟ ما كان مثلهم ولا يكون » .
وفي ذلك يقول الشاعر :
ولم أر كالأسباط أبناء واحد * ولا كأبيهم والدا حين ينسب
فمن الشرف والسؤدد الحلم ، وبه ساد الأحنف بن قيس .
ومنها الوفاء ، وبه ساد السموأل .
ومنها الرأي ، وبه ساد الحصين بن المنذر .
ومنها التحبّب إلى الناس عامة وخاصة ، وبه ساد مالك بن مسمع .
ومنها الجود والكرم ، وبه ساد حاتم ومعن بن زائدة .
ومنها حب المساكين ، وبه ساد جعفر بن أبي طالب .
ومنها العطف على الأرامل ، وبه ساد سويد بن متحوف .
ومن مكارم الأخلاق
ما حدثه الفتح بن خاقان ، عن المتوكل قال : خرج المتوكل إلى دمشق وأنا عديله ، فلما صرنا بقنسرين قطعت بنو سليم على التجار ، فانتهى ذلك إليه ، فوجّه قائدا من وجوه قوّاده إليهم ، فحاصرهم ، فلما قربنا من القوم إذا نحن بجارية ذات جمال وهيبة وهي تقول :
أمير المؤمنين سما إلينا * سموّ الليث مال به الغريف
فإن نسلم فعفو اللّه نرجو * وإن نقتل فقاتلنا شريف
فقال لها المتوكل : أحسنت ، ما جزاؤها يا فتح ؟ قلت : العفو والصلة يا أمير المؤمنين ، فأمر لها بعشرة آلاف درهم .
وقال لها : مرّي إلى قومك وقولي لهم : لا تردّوا المال على التجار ، فإني أعوّضهم .
“ 83 “
حكمة بالغة
قال عبد الملك بن مروان لسالم بن يزيد الفهمي : أي الزمان أدركت أفضل ؟ وأي ملوكه أكمل ؟ قال : أما الملوك فلم أر إلا ذامّا وحامدا ، وأما الزمان فرفع أقوام ووضع آخرين ، وكلهم يذم زمانه ، لأنه يبلي جديدهم ويهرم صغيرهم ، وكل ما فيه منقطع إلا الأمل ، قال : فأخبرني عن فهم ، قال : هم كما قال الشاعر :
درج الليل والنهار على فه * م بن عمر فأصبحوا كالرميم
وخلت دارهم فأضحت نعاما * بعد عزّ وثروة ونعيم
وكذاك الزمان يذهب بالنا * س وتبقى ديارهم كالرّسوم
قال : فمن يقول منكم :
رأيت الناس مذ خلقوا وكانوا * يحبون الغنيّ من الرجال
وإن كان الغني أقل خيرا * بخيلا بالقليل من النوال
فلم أدر علام وفيم هذا * وما ذا يرتجون من المحال
أللدنيا فليس هناك دنيا * ولا يرجى لحادثة الليالي
قال : أنا وقد كتمتها .
وروينا من حديث ابن ودعان ، عن أبي سعيد الآملي ، عن السيرافي ، عن أبي سعيد ، عن هبة اللّه بن عاصم ، عن محمد بن عبيد اللّه الخزاعي ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي هارون ، عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لرجل يعظه : « ارغب فيما عند اللّه يحبك اللّه ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس . الزاهد في الدنيا يربح قلبه وبدنه في الدنيا والآخرة ، وإن الراغب يتعب قلبه وبدنه في الدنيا والآخرة . ليجيئن أقوام يوم القيامة لهم حسنات كأمثال الجبال ، فيؤمر بهم إلى النار » ، فقيل : يا رسول اللّه ، أو يصلّون كانوا ؟ قال : « كانوا يصلّون ويصومون ويأخذون وهنا من الليل ، لكنهم كانوا إذا لاح لهم شيء من الدنيا وثبوا عليه » .
وروينا من حديثه أيضا ، عن محمد بن علي ، عن إبراهيم بن محمد ، عن عبيد اللّه بن جرير ، عن معاذ بن أسد ، عن ابن المبارك ، عن إسماعيل بن عياش ، عن يحيى الطويل ، عن نافع بن عمرة قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « أيها الناس ، إن هذه الدار دار التواء لا دار استواء ، ومنزلة ترح لا منزلة فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء ، ألا وإن اللّه خلق الدنيا دار بلوى ، والآخرة دار عقبى ، فجعل بلوى الدنيا
“ 84 “
لثواب الآخرة سببا ، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا ، فيأخذ ليعطي ، ويبتلي ليجزي ، وإنها لسريعة الذهاب ، وشبكة الانقلاب . فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها ، واهجروا لذيذ عاجلها لكريه آجلها ، ولا تسعوا في غمرات دار قد قضى اللّه خرابها ، ولا تواصلوها وقد أراد اللّه منكم اجتنابها ، فتكونوا لسخطه متعرضين ، ولعقوبته مستحقين » .
ولما أتى علي رضي اللّه عنه العراق دخل المدائن ، فنظر إلى إيوان كسرى معتبرا ، فجعل يبكي ، فقام إليه بعض الحاضرين فقال : يا أمير المؤمنين ، أتحب أن أسمعك قول الأسود بن يعفر ؟ فقال : إن شئت ، وعليّ يتلو قوله تعالى : فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ، قال : وأي آية ؟ ما أعظمها ، ثم قال : يا هذا ، ما قال الأسود ؟
فقال :
ما ذا يؤمل بعد آل محرّق * تركوا منازلهم وبعد إياد
أرض الخورنق والسدير وبارق * والقصر ذو الشرفات من سنداد
نزلوا بأنفرة تسيل عليهم * ماء الفرات يجيء من أطواد
أرض تخيّرها لطيب نسيمها * كعب بن مامة وابن أم دواد
جرت الرياح على محل ديارهم * فكأنما كانوا على ميعاد
فإذا النعيم وكل ما يلهى به * يوما يصير إلى بلى ونفاد
فقال علي رضي اللّه عنه : يا هذا ، أبلغ من ذلك قول اللّه تعالى : كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ .
سمعت محمد بن أبي محمد الكتاني ينشد يوما أبياتا فأثّر بي سماعها ، وهي :
لو جرى دمعك يا هذا دما * ما تقدمت إلينا قدما
إنما يصفو هوانا لامرئ * حفظ العهد وراعى الذمما
كيف يخفى لك أمر بعد ما * نشر العذر عليه علما
عندنا منك أمور كلها * حيرة فيما لدينا وعما
وأرى داءك داء معضلا * أبدا تزداد فيه سقما
كم حميناك فلم تبق لنا * وتعدّيت ووافيت الحمى
نح علينا أسفا أو لا تنح * واقرع السنّ علينا ندما
لو أردناك لنا ما فتنا * أو وصلنا حبلنا ما انصرما
ما رأينا منصفا عامله * منصف في صفقة فاختصما
أنت لو سالمتنا نلت المنى * قلّ من سالم إلا سلما
كان ثوبة صاحب ليلى الأخيلية قد قال :
“ 85 “
ولو أن ليلى الأخيلية سلّمت * عليّ ودوني جندل وصفائح
لسلّمت تسليم البشاشة أوزقي * إليها صدى من جانب القبر صائح
ولو أن ليلى في السماء لأصعدت * بطرفي إلى ليلى العيون اللوامح
فيقال : إنه لما مات ثوبة مرّ زوج ليلى بليلى على قبره ، فقال لها : سلّمي على ثوبة ، فإنه زعم في شعره أنه يسلّم عليك تسليم البشاشة ، فقالت : ما تريد إلى من بليت عظامه ؟
قال : واللّه لتفعلي ، فقالت وهي على البعير : سلام عليك يا ثوبة فتى الفتيان . وكان قطاة مستظلة في نقب القبر ، فلما سمعت الصوت طارت فصاحت ، فنفر البعير ورمى بليلى ، فماتت ودفنت بجنب قبره .
ويحكى أن ليلى الأخيلية دخلت على الحجاج فأنشدته قولها فيه :
إذا نزل الحجّاج أرضا سقيمة * تتبّع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها * غلام إذا هزّ القناة ثناها
أحجّاج لا تعطي العصاة مناهم * ولا اللّه لا يعطي العصاة مناها
فوصلها الحجاج بألف دينار ، وسألها الحجاج : هل كان بينك وبين ثوبة ريبة قطّ ؟
قالت : لا والذي أسأله صلاحك ، إلا أنه قال مرة لي قولا ، ظننت أنه خنع لبعض شيء ، فقلت له
شعرا :
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها * فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه * وأنت لأخرى فارغ وحليل
قالت : فما كلّمني بعد ذلك بشيء حتى فرّق بيني وبينه الموت . قال الحجاج : فما كان من بعد ذلك ؟ قالت : لم يلبث أن قال لصاحب له : إذا أتيت الحاضر من بني عباد فقل بأعلى صوتك :
عفا اللّه عنها هل أبيتنّ ليلة * من الدهر لا يسري إلينا خيالها
فلما سمعت الصوت خرجت فقالت :
وعنه عفا ربّي فأصلح حاله * يعزّ علينا حالة لا ينالها
ومن الكلام الأشد في وصف الأسد
ما حدثناه بعض الأدباء قال : دخل أبو زبيد الطائي على عثمان بن عفان رضي اللّه عنه في خلافته ، وكان نصرانيا ، فقال له : بلغني أنك تجيد وصف الأسد ، فقال له : لقد رأيت
“ 86 “
منه منظرا ، وشهدت منه مخبرا ، لا يزال ذكره يتجدد على قلبي . قال : هات ما مرّ على رأسك منه ، فقال : خرجت يا أمير المؤمنين في صبية من أفناء قبائل العرب ذوي شارة حسنة ترتمي بنا المهاري بأكسائها القيروانية ، ومعنا البغال عليها العبيد يقودون عناق الخيل ، نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام ، فاخروط بنا المسير في جمارة القيظ ، حتى إذا عصبت الأفواه ، وذبلت الشفاه ، وسالت المياه ، وأذكت الجو المعر ، وذاب الصخر الجندب ، وضاف العصفور الضبّ في وجاره ، قال قائلنا : أيها الركب ، غوروا بنا في وضوح هذا الوادي ، وإذا واد كثير الدّغل ، دائم الغلل ، شجراؤه معثة ، وأطياره مرثة .
فحططنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلات متهدلات ، قاصبنا من فضلات المزاود ، وأتبعناها بالماء البارد ، فإنا لنصف حرّ يومنا ، ومماطلته ومطاولته ، إذ صرّ أقصى الخيل أذنيه ، وفحص الأرض بيديه ، ثم ما لبث أن جال فحمحم ، وبال فهمهم ، ثم فعل الذي يليه واحد فواحد ، فتضعضعت الخيل ، وتكعكعت الإبل ، وتقهقرت البغال ، فمن نافر بشكاله ، وناهض بعقاله ، فعلمنا أن قد أتينا ، وأنه السبع لا شك ، ففزع كل امرئ إليه بسيفه ، واستلّ من جربانه ، ثم وقفنا له زردقا ، فأقبل يتطلع في مشيته كأنه مجنون ، أو في هجار ، لصدره مخيط ، ولبلاعيمه غطيط ، ولطرفه وميض ، ولأرساغه نقيض ، كأنما يخبط هشيما ، أو يطأ صريما ، وإذا هامة كالمجنّ ، وخدّ كالمسنّ ، وعينان شجراوان كأنهما تقدّان ، وقصرة ربلة ، ولهزمة رهلة ، وكيد مغتبط ، وزور مفرط ، وساعد مجدول ، وعضد مفتول ، وكفّ شبيه المراثن إلى مخالب كالمحاجن .
ثم ضرب بذنبه الأرض فأرهج ، وكشر فأفرج عن أنياب كالمعاول ، مصقولة غير مغلولة ، وفم أشدق كالغار الأخرق ، ثم تمطى فأسرع بيديه ، وحفز وركيه برجليه ، حتى صار ظله مثليه . ثم أقعا فاقشعر ، ثم مثل فاكفهرّ ، ثم تجهّم فازبأرّ .
فلا والذي بيته في السماء ما اتّقيناه بأول من أخ لنا من بني فزارة ، كان ضخم الجزارة ، فوهصه ، ثم أقعصه ، فقضقض متنه ، وبقر بطنه ، فجعل يألغ في دمه ، فدمرت أصحابي ، فبعد رأي ما استقدموا ، فكرّ مقشعرا لزئيرة كان بها سهما حوليا ، فاختلج من دوني رجلا ذا حوابا ، فنفضه نفضة ، فتزايلت أوصاله ، وانقطعت أوداجه ، ثم نهض فقرقر ، ثم زفر فبربر ، ثم زأر فجرجر ، ثم لحظ فو اللّه لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه من عن شماله ويمينه ، فأرعشت الأيدي ، واصطكت الأرجل ، وأطت الأضلاع ، وارتجت الأسماع ، وجمحت العيون ، وانخزلت المتون ، ولحقت البطون بالظهور ، وساءت الظنون ،
وأنشأ يقول :
عبوس شموس مصلخدّ خنابس * جريء على الأرواح للقرن قاهر
منيع ويحمي كل واد يرومه * شديد أصول الماضغين مكابر
“ 87 “
برايته شتن وعيناه في الدجى * لجمر الغضى في وجهه الشر ظاهر
يدل بأنياب حداد كأنها * إذا قلص الأشداق عنها خناجر
فقال له عثمان رضي اللّه عنه : اكفف لا أم لك ، فلقد أرعبت قلوب المسلمين ، ولقد وصفته حتى كأنني أنظر إليه يريد يواثبني .
مثل سائر
هو أجبن من هجرس ، وهو القرد ، وذلك أنه لا ينام الليل إلا وفي يده حجر مخافة أن يأكله الذئب .
قال قتيبة بن مسلم : لا تطلبوا الحوائج من كذوب ، فإنه يقرّبها وإن كانت بعيدة ، ويبعدها وإن كانت قريبة ، ولا إلى رجل قد جعل المسألة مأكله ، فإنه يقدّم حاجته قبلها ، ويجعل حاجتك وقاية لها ، ولا إلى أحمق فإنه يريد نفعك فيضرّك .
قال بعضهم : لو لم يترك العاقل الكذب إلا مروءة بذلك ، فكيف وفيه المأثم والعار ؟
مكتوب في الحكمة
عند التراخي عن شكر المنعم يحلّ عظيم النقم .
وقيل لذي الرمة : لم خصصت بلال بن أبي بردة بمدحك ؟ قال : لأنه وطّأ مضجعي ، وأكرم مجلسي ، وأحسن صلتي ، فحق لكثير معروفه عندي أن يستولي على شكري .
وروينا من حديث عائشة أم المؤمنين قالت : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كثيرا ما يقول : « يا عائشة ، ما فعل نبيّك ؟ » ،
فأنشده :
نجزيك أو نثني عليك وإن من * أثنى عليك لما فعلت كمن جزا
فيقول صلى اللّه عليه وسلم : " صدق القائل يا عائشة ، إن اللّه إذا أجرى على يد رجل خيرا فلم يشكر فليس للّه بشاكر " .
قال الهيثم بن حسن بن عمارة : كان سراقة البارقي من أظرف الناس ، وكان من أهل الكوفة ، فأسره رجل من أصحاب المختار ، وكان يومي إلى أنه نبيّ ، وعرف ذلك منه ، فأتى بسراقة إليه ، فقال له المختار : أسرك هذا ؟ فقال سراقة : كذب واللّه ، ما أسرني إلا رجل عليه ثياب بيض على فرس أبلق ، فقال المختار : أما إن الرجل قد عاين الملك ، خلّوا سبيله . فلما أفلت أنشأ يقول :
“ 88 “
ألا بلّغ أبا إسحاق أني * رأيت البلق دهما مضمنات
أري عينيّ ما لم تورياه * كلانا عالم بالترهات
كفرت بوحيكم وجعلت نذرا * عليّ قتالكم حتى الممات
قيل : وما عبّر عن شيء فهو أفضل منه . انتهى .
كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى قيصر ملك الروم وما كان منه في ذلك
روينا من حديث الحافظ أبي نعيم ، قال : حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن أبو عمر ، نبأ الحسن بن الجهم ، نبأ الحسين بن الفرج ، نبأ محمد بن عمر الواقدي ، حدثني مالك بن أبي الرجال ، عن عمر بن عبد اللّه ، عن محمد بن كعب القرظيّ ، قال : بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دحيّة الكلبيّ إلى قيصر ، وكتب إليه معه ، فلقيه دحية بحمص ، وقيصر ماش من قسطنطينية ، فلما لقيه قال له من قومه كلب : إذا لقيته فاسجد له ، ثم لا ترفع رأسك حتى يأذن لك . قال دحية : لا أفعل هذا أبدا ، ولا أسجد لغير اللّه . قال : فإذا لا يأخذ كتابك ، ولا يردّ جوابك . قال : وإن لم يأخذ . قال رجل من القوم : أدلك على أمر يأخذ فيه كتابك ، ولا يكلفك السجود فيه . قال دحية : وما هو ؟ قال له : على كل عقبة منبر يجلس عليه ، فضع صحيفتك وجاه المنبر ، فإنه لا أحد يحرّكها حتى يأخذها هو ، ثم يدعو صاحبها . قال : أما هذا فسأفعله ، فعمد إلى منبر من تلك المنابر التي يستريح عليها ، فألقى الصحيفة ، وجاه المنبر ، ثم تنحّى فجلس قريبا ، فجاء قيصر فجلس على المنبر ، ثم نظر إلى الصحيفة ، فدعا بها ، فإذا عنوانها : كتاب عربي . فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية ، فإذا فيه : « من محمد رسول اللّه إلى قيصر صاحب الروم » . فغضب أخ لقيصر يسمى نياق ، فضرب الترجمان في صدره ضربة شديدة أجلسته على استه ، ثم نزعها منه ، فقال : ما شأنك اختلست الصحيفة ؟ قال : تنظر في كتاب رجل بدا فيه بنفسه قبلك ؟ قال قيصر لنياق :
إنك واللّه ما علمت أنك أحمق صغير ، أو مجنون كبير ، أتريد أن تخرق كتاب رجل قبل أن أنظر فيه ؟ فلعمري إن كان رسول اللّه كما يقول ، فنفسه أحق أن يبدأ بها مني ، وإن كان سمّاني صاحب الروم لقد صدق ، وما أنا إلا صاحبهم ، وما أملكهم ، ولكن اللّه سخّرهم لي ، ولو شاء لسلّطهم عليّ كما سلّط فارس على كسرى فقتلوه .
ثم فتح الصحيفة فإذا فيها : بسم اللّه الرحمن الرحيم من محمد رسول اللّه إلى قيصر صاحب الروم ، سلام على من اتّبع الهدى . أما بعد : « يا أهل الكتاب ، تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا اللّه ولا نشرك به شيئا ، ولا يتخذ بعضنا بعض أربابا من دون
“ 89 “
اللّه ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون » في آيات من كتاب اللّه تعالى يدعوه إلى اللّه ، ويزهّده في ملكه ، ويرغّبه فيما رغّبه اللّه عنه من دار الآخرة ، ويحذّره بطش اللّه وبأسه .
فقرأ قيصر الكتاب فقال : يا معشر الروم ، إني لأظنّ أن هذا الذي بشّر به عيسى ابن مريم عليه السلام ، ولو أعلم أنه هو لمشيت إليه حتى أخدمه بنفسي لا يسقط وضوءه إلا على يديّ . قالوا : ما كان اللّه ليجعل ذلك في العرب الأميين ، ويدعنا ونحن أهل الكتاب .
قال : فاصل الهدى بيني وبينكم عندي الإنجيل ، ندعوا به فنفتحه ، فإن كان هو اتّبعناه ، وإلا أعدنا عليه خواتيمه كما كانت ، إنما هي خواتم مكان خواتم .
قال : وعلى الإنجيل يومئذ اثنا عشر خاتما من ذهب ، ختم عليه هرقل ، فكان كل ملك يليه بعده ظاهر عليه بخاتم آخر ، حتى ألفي ملك قيصر وعليه اثنا عشر خاتم بخبر أولهم آخرهم : أنه لا يحلّ لهم أن يفتحوا الإنجيل في دينهم ، وأنه يوم يفتح يغيّر دينهم ، ويهلك ملكهم ، فدعا بالإنجيل ، ففضّ عنه أحد عشر خاتما حتى إذا بقي عليه خاتم واحد قامت الشمامسة والأساقفة والبطارقة ، فشقوا ثيابهم ، وصكّوا وجوههم ، ونتفوا رؤوسهم .
قال : ما لكم ؟ قالوا : اليوم يملك ملك أبيك ، ويتغير دين قومك . قال : فاصل الهدى ، قالوا : لا تعجل حتى نسأل عن هذا ، ونكاتبه ، وتنظر في أمره ، فإنك قادر إن شاء اللّه تعالى على أن تفضّ هذا الخاتم فتنظر فيه ما تريد ، وإنك لا تقدر إن انفتق عليك ما تكره أن تردّه بعد فتقه . قال : فمن نسأل عنه ؟ قالوا : نسأل قوما كثيرا بالشام . فأرسل يبتغي قوما يسألهم ، قال : فجمع له أبو سفيان بن حرب وأصحابه ، فجاء قوم كلهم للّه ولرسوله عليه السلام عدو ، فقال : أخبرني يا أبا سفيان ، من هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فلم يأل أن يصغّر أمره ما استطاع ، قال : أيها الملك ، لا يكبر عليك شأنه ، إنّا لنقول هو ساحر ، ونقول هو شاعر ، ونقول هو كاهن .
قال قيصر : كذلك والذي نفسي بيده كان يقال للأنبياء قبله ، أخبرني موضعه فيكم .
قال : أوسطنا سطة ، قال : كذلك يبعث اللّه كل نبي من أوسط قومه ، قال : أخبرني عن أصحابه ، قال : غلماننا وأحداثنا سنا والسفهاء ، أما رؤساؤنا فلم يتبعه منهم أحد .
قال :أولئك واللّه أتباع الرسل منذ قط ، أما الملأ والرؤوس فتأخذهم الحمية ، قال : فأخبرني عن أصحابه هل يفارقونه بعد ما يدخلون في دينه سخطة له ؟
قال : ما يفارقه منهم أحد ، قال :فلا يزال داخل منكم في دينه ؟ قال : نعم ، قال : ما تزيدونني عليه إلا بصيرة ، والذي نفس بيده ليوشكن أن يغلب على ما تحت قدمي .
يا معشر الروم ، هل إلى أن نجيب هذا الرجل إلى ما دعانا إليه ؟ ونسأله الشام أن لا
“ 90 “
توطأ علينا أبدا ، فإنه لم يكتب قطّ نبي من الأنبياء إلى ملك من الملوك يدعوه إلى اللّه تعالى فيجيبه إلى ما دعاه ، ثم يسأله غيرها فيسأله إلا أعطاه مسألته ما كانت ، فأطيعوني . فلنجبه إلى ما دعانا إليه ، ونسأله الشام أن لا توطأ . قالوا : لا نطاوعك في هذا أبدا ، أتكتب إليه تسأله في ملكك الذي تحت رجليك ، وهو هنالك لا يملك من ذلك شيئا ، فمن أضعف منك ؟ قال أبو سفيان : واللّه ما يمنعني من أن أقول قولا أسقط من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها عليّ فلا يصدّقني في شيء ، قال : حتى ذكرت قوله ليلة أسري به ، قال : قلت : أيها الملك ، ألا أخبرك عنه خبرا تعلم أنه قد كذب ؟ قال : وما هو ؟ قال : يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة ، فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ورجع إلينا في تلك الليلة قبل الصباح .
قال : وبطريق إيلياء عند رأس قيصر ، فقال بطريق إيلياء : قد علمت تلك الليلة .
قال : فنظر قيصر إليه وقال : وما علمك بهذا ؟ قال : إني كنت لا أنام ليلة أبدا حتى أغلق أبواب المسجد ، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني ، فاستعنت عليه عمّالي ومن حضرني كلهم ، فعالجته فلم نستطع أن نحرّكه كأنما تروّل به جبلا ، فدعوت النجاجرة ، فنظروا إليه فقالوا : هذا باب سقط عليه النجاف والبنيان والأسطوانة ، ولا نستطيع أن نحرّكه حتى نصبح فننظر من أين أتى . قال : فرجعت وتركت البابين مفتوحين ، فلما أصبحت غدوت عليهما ، فإذا الحجر الذي من زاوية المسجد مثقوب ، وإذا فيه أثر مربط الدابة .
قال : فقلت لأصحابي : ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي ، وقد صلّى الليلة في مسجدنا .
فقال قيصر لقومه : يا معشر الروم ، أليس تعلمون أن بين عيسى وبين الساعة نبيا بشّركم به عيسى كنتم ترجون أن يجعله اللّه منكم ؟ قالوا : نعم . قال : فإن اللّه قد جعله في غيركم في أقلّ منكم عددا ، وأضيق منكم بابا ، وهي رحمة اللّه يضعها حيث يشاء ، فإما أن تطيعوني فيما آمركم به ، وإلا رأيتم الخيل دوابين ، نواصيها بين أظهركم ، فيقتل الرجال ، ويستباح المال ، وتسبى العيال .
قالوا : نصبر له عشر سنين ؟ قال : نعم وعشرين سنة . قالوا : نصبر عشرين سنة ؟
قال : نعم وثلاثين . قالوا : نصبر ثلاثين ؟ قال : نعم وأربعين . قالوا : نصبر أربعين ؟ قال :
نعم وخمسين ، حتى بلغ رأس المائة يزيد عشرا عشرا ، فلما بلغ رأس المائة قالوا : ألك علم بهم ؟ كيف هم بعد المائة ؟ قال : هم بعد المائة كالدينار المضروب ثلثه هبرزي خالص ، وثلثه مغشوش ، وثلث لا خير فيه . قال : ثم قال قيصر : ارجعوا عني هذا اليوم
“ 91 “
حتى أفكّر في أمري وأدبّره ، ثم اغدوا عليّ بالغداة أجمعكم . قال : فغدوا عليه حين أصبح وأشرف لهم على بيت مرتفع ، فقال : يا معشر الروم ، إن هذا النبي الذي بشّر به عيسى ابن مريم ، فأجيبوه إلى ما دعا إليه . فلما رأى إلغاطهم وإباءهم صمت عنهم حتى سكن عنه الصوت ، ثم قال : يا معشر الروم ، دعاكم ملككم ينظر كيف صلابتكم في دينكم ، فشتمتموه وسببتموه وهو بين أظهركم . قال : فخرّوا له سجّدا .
غريب دعاه حبيب فأجابه
حدثنا محمد بن إسماعيل ، نبأ عبد الرحمن بن علي ، نبأ محمد بن أبي منصور ، نبأ أبو عبد اللّه الحميدي ، انا الأردستاني ، نبأ أبو عبد الرحمن السلمي ، سمعت أبا الحسن بن عبد اللّه الطوسي ، سمعت علّوس الدينوري يقول : سمعت المزني يقول : كنت مجاورا بمكة ، فخطر لي خاطر في الخروج إلى المدينة ، فخرجت ، فبينا أنا بين المسجدين أمشي فإذا أنا بشابّ مطروح إلى جانب جبل عليه خرقتان وهو ينزع ، فقعدت عند رأسه فقلت : يا سيدي ، قل لا إله إلا اللّه ، ففتح عينيه ونظر إليّ ،
وأنشد :
أنا إن متّ فالهوى حشو قلبي * وبداء الهوى يموت الكرام
وشهق شهقة كانت فيها نفسه ، فكفّنته في أطماره ورجعت .
أنشدني أبو علي الغالي في الوطن :
أقول لصاحبي والعيس تحدي * بنا بين المنيعة والضمار
زوّد من شميم عرار نجد * فما بعد العشيّة من عرار
ألا يا حبّذا أرواح نجد * وريّا روضه غبّ القطار
وعيشك إذ يحلّ القوم نجدا * وأنت على زمانك غير زار
شهور تنقضين وما علمنا * إنصاف لهنّ ولا سرار
وأنشد أبو بكر الأنباري في ذلك :
واستشرف الأعلام حتى يدلني * على طيبها مرّ الرياح النواسم
وما أنسم الأرواح إلا لأنها * تمرّ على تلك الربى والمعالم
وأنشد الشريف الرضيّ رحمه اللّه تعالى :
أقول وقد حلّت بذي الأثل ناقتي * قرى لا ينل منك الحنين المرجّع
تحنّين إلا أن بي لا بك الهوى * ولي لا لك اليوم الخليط المودّع
وباتت تشكي تحت رحلي ضمانة * كلانا إذا يا ناق نضو مفجع
“ 92 “
أحسّت بنار في ضلوعي فأصبحت * يحثّ بها نار الغرام ويوضع
ومن وقائع بعض الفقراء
ما حدثنا به عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي رحمه اللّه قال : رأى بعض الفقراء ببجاية في الواقعة أبا حامد وجماعة من الصوفية يقولون للشيخ أبي مدين : أخبرنا عن شيء مما خصك به الحق من العلم ، فقال لهم : بالعلم الباقي أضاء سري ، وحسنت أخلاقي ، فعلم اللّه صفة ذاته ، فكل ما عرف منه سبحانه معروف ، والصفة لا تفارق الموصوف ، فما ثبت في الوجود منه فبإمداده ، وما فهموا عنه فبإرشاده ، فكل علم سواه بالإضافة إليه مذموم ، وإنما يشرف العلم بشرف المعلوم ، فانظر ما علمك وما ذا ؟ فمن هناك تجازى وتنادى ، فخير العلم ما وصلك إلى المعلوم ، وعند مشاهدة الحق تضمحل الرسوم ، ويتجلى إذ ذاك الحي القيوم ، فمن رقى عن المحسوسات نال الغيوب ، ومن قهقر عندها فهو محجوب ، فالعارف أبدا يرقى ، ودقائق الإشارات واللطائف يتلقّى ، ليس له التفات إلى ذيت وذيت ، ولا يقنع من البيت إلا برب البيت ، فهو أبدا في التنزيه والمشاهدة ، يرفع عن الأغيار والمكايدة ، ملاحظ ذلك الجمال الأبدي ، متلذذ بمشاهدة الملك العليّ .
ثم قال الشيخ : مقامي مقام العبودية ، وعلومي العلوم الإلهية ، وصفاتي مستمدة من الصفات الربانية ، بها عمر فكري ، وهي غذاء لسرّي وجهري ، فعلمي باللّه متصل ، وعن كل من سواه منفصل ، اتصاله بحضرة قدسه ، ومسرحه في رياض أنسه ، فبالعلم باللّه وذاته وصفاته نلت الجاه ، ومعلومي هو اللّه ، عظمته ملأت حقيقتي وسرّي ، ونوره أضاء به برّي وبحري ، فمن أحياه فهو الحيّ ، ومن أماته عنه في ظلمة الغيّ إذ المقرب به عظيم ، ولا يسمو إلا من أتى اللّه بقلب سليم ، فالقلب السليم هو الذي سلم مما سواه ، ولا يكون في الوعاء إلا ما جعل فيه مولاه ، فقلب العارف يسرح في الملكوت بلا شكّ ولا ارتياب ، وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب ، فالجبال بقدرته سيّرها ، وبصنعه الجميل أتقنها ، فكلامه العزيز لصدور أوليائه شفا ، وهو سبحانه لشدة ظهوره خفا .
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin