الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء الثامن
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 124 “
رأيته مع الإماء في الحجاز ) ، فبلغ ذلك المختار فدعا به ، فقال : ما هذا الذي بلغنا عنك ؟
قال : أباطيل . فأمر بضرب عنقه ، فقال : لا ، واللّه لا تقدر على ذلك ، قال : ولم ؟ قال : أما دون أن أنظر إليك وقد هدمت مدينة دمشق حجرا حجرا ، وقتلت المقاتلة ، وسبيت الذرية ، ثم تصلبني على شجرة على نهر ، واللّه إني لأعرف الشجرة الساعة ، وأعرف شاطئ ذلك النهر .
فالتفت المختار إلى أصحابه فقال لهم : أما إن الرجل قد عرف الشجرة ، وربما يقول حقا .
فأمر به فحبس حتى إذا كان الليل بعث إليه فقال : يا أخا خزاعة ، أو مزاح عند القتل ؟
قال : أنشدك اللّه أن أقتل ضياعا ، قال : وما تطلب هاهنا ؟ قال : أربعة آلاف درهم أقضي بها ديني ، قال : ادفعوها إليه ، وإياك أن تصبح بالكوفة ، فقبضها وخرج .
مثل
هو أحمق من عجل . وهو عجل بن لخيم . وذلك أنه قيل له : ما سمّيت فرسك ؟ ففقأ عينه ، وقال : سمّيته الأعور .
قال الشاعر :
رمتني بنو عجل بداء أبيهم * وأي امرئ في الحمق أحمق من عجل
أليس أبوهم غار عين جواده * فصارت به الأمثال تضرب في الجهل
ومن سماعنا في نسيب مهيار حيث يقول :
هبّت بأشواقك نجدية * مطبعة أنت لها واجب
ما أنت يا قلبي وأهل الحمى * وإنما هم أمسك الذاهب
فاردد على الريح أحاديثها * ففي صباها ناقل كاذب
ودون نجد وظباء الحمى * أن تقرح السّنام والغارب
السماع في ذلك يقول : يا أيها المحبّ العارف ، هبّت بأشواقك أنفاس متصاعدة تطمع في أمر هي دونه ، ألا تراه ؟ قال : ما أنت يا قلبي ؟
يقول : أنت في مقام التقليب والتلوين ، وأهل الحمى في مقام الثبوت ، وهما ضدّان فلا يجتمعان كما لا يرجع أمس أبدا . وقد نبّه على كذب الأحوال بما ذكر عن الريح بسبب الباعث لهبوبها . ثم قال : ودون
“ 125 “
نجد الذي هو النظر الأعلى ، وظباء الحمى : الأرواح العلوية ، تقرح : أي تدمي الخف والسنام من طول السير ، وحمل الأثقال ، شبّهها بالإبل ، ثم لا وصول ، يقول : إنها موهوبة لا مكسوبة ، فلا تعمل لها .
موعظة عطاء بن أبي رباح لعبد الملك بمكة
حدثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا عبد الرحمن بن علي ، انا عبد الوهاب ، انا جعفر بن أحمد ، انا عبد العزيز الضرّاب ، أخبرني أبي ، ثنا أحمد بن مروان ، ثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي ، ثنا الرياشي ، قال : سمعت الأصمعي يقول : دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك وهو جالس على سريره وحواليه الأشراف من كل بطن ، وذلك بمكة في وقت حجّه في خلافته ، فلما بصر به قام إليه وأجلسه معه على السرير ، وقعد بين يديه ، وقال له : يا أبا محمد ، ما حاجتك ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، اتق اللّه في حرم اللّه ورسوله فتعاهده بالعمارة .
واتق اللّه في أولاد المهاجرين والأنصار ، فإنك بهم جلست هذا المجلس . واتق اللّه في أهل الثغور فإنهم حصن للمسلمين . وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسؤول عنهم . واتق اللّه فيمن على بابك ، ولا تغفل عنهم ، ولا تغلق دونهم بابك . فقال له : أفعل . ثم نهض فقبض عليه عبد الملك فقال : يا أبا محمد ، سألتنا حوائج غيرك فقد قضيناها ، فما حاجتك ؟ فقال : ما لي إلى مخلوق من حاجة ، ثم خرج . فقال عبد الملك : هذا وأبيك الشرف ، هذا وأبيك السؤدد .
ومن وقائع بعض الفقراء إلى اللّه تعالى ما حدثناه عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي ، قال : قال بعض المريدين : رأيت أبا مدين ، وأبا حامد ، وأبا طالب ، وأبا يزيد ، وجماعة من الصوفية ، فقال أبو يزيد لأبي مدين : تكلم لنا في شيء من التوحيد .
فقال : التوحيد هو الحق ، وإليه الملجأ لأهله ، وبه النجاة . هو السر الخفي ، به ظهرت الأسرار ، وهو الشمس المشرقة ، ومنه ينابيع الأنوار . وهو قطب العارفين ، وهو الدليل ، ومبرئ الأسقام ، وشفاء كل عليل . هو الظاهر ، فما سواه حجابه ، فمن كان ذا بصر جاوز أبوابه ، كشف له عن ملكه ، فعاين سلطانه ، وغيّبه به عنه ، فعظّم شأنه . فبين العارف وبين ربه سر وقر في صدره ، وحكم بمدّه بها من غيبه ، فهي غذاؤه وشرابه ، مظهر له حقيقة التوحيد ولبابه ، امتاز بها عن سائر الخلق ، فواصلته وأجلسته في حضرة الحق ، اختصه بالعلوم الأزلية العجيبة . فحقيقته من الحق دانية قريبة ، بلا حركة من معنى إلى معنى ، ولا انتقال ، ولا ماض ، ولا مستقبل ، ولا حال . هو بسر العارف مكشوف ، أمدّه به من خفيّ سرّه ، فسرّه
“ 126 “
من سره معروف . فجملة المحسوسات عدم وهبا . فحقّق ببصيرتك تنظر عجبا ، تجد القائم في كل الخطرات واللحظات مشاهد ، إذ هي أغطية يستر بها إذ هو في الوجود واحد .
فالمعرفة في حق كل مصنوع وضعه ، فكل مفترق هو أصله وجمعه . بذلك شهدت الظواهر على غيبها ، فهو المبدئ لكل شيء والمعيد ، والفعّال في ملكه يفعل ما يريد . فجملة هذه العلوم عرفها العارفون ، وجهلها الأكثرون ، وعلم تأويلها الراسخون ، وما يعقلها إلا العالمون .
وروينا من حديث الهاشمي ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أيها الناس ، بسط الأمل مقدّم على حلول الأجل ، والمعاد مضمار العمل ، فمغتبط بما احتقب ، غانم ، ومبتئس بما فاته من العمل ، نادم . أيها الناس ، إن الطمع فقر ، واليأس غنى ، والقناعة راحة ، والعزلة عبادة ، والعمل كنز ، والدنيا معدن . واللّه ما يسرّني ما مضى من دنياكم هذه بأهداب بردي هذا ، ولما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء . وكل إلى نفاد وشيك ، وزوال قريب ، فبادروا وأنتم في مهل الأنفاس ، وجدّة الأحلاس ، قبل أن يؤخذ بالكظم ، ولا يغني الندم » .
عمرة أبي بكر الصدّيق في خلافته رضي اللّه عنه
حدثنا محمد بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن علي ، عن محمد بن عبد الباقي ، عن أبي محمد الجوهري ، عن ابن حبوة ، عن أبي الحسن بن معروف ، عن الحسين بن الفهم ، عن محمد بن سعد ، عن الواقدي ، عن أشياخه ، قالوا : اعتمر أبو بكر الصدّيق رضي اللّه عنه في خلافته ، في رجب سنة اثنتي عشرة ، فدخل مكة ضحوة ، فأتى منزله وأبوه أبو قحافة جالس على باب داره ، فقيل له : هذا ابنك ، فنهض قائما ، وعجل أبو بكر أن ينيخ راحلته ، فنزل عنها وهي قائمة ، فجعل أبو بكر يقول : يا أبت لا تقم ، ثم التزمه ، فقبّل أبو بكر بين عيني أبيه . فأخذ الشيخ يبكي فرحا بقدومه ، وجاء ممن سمع به ممن هناك من الصحابة ، مثل عتاب بن أسيد ، وسهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، والحارث بن هشام ، فسلموا عليه : سلام عليك يا خليفة رسول اللّه ، فجعل أبو بكر عندما سمع ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبكي ، وأبكى القوم ، وتجدد عليه الحزن لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال أبو قحافة :
يا عتيق ، هؤلاء الملأ فأحسن صحبتهم ، فقال أبو بكر : يا أبت ، لا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، لقد طوقني اللّه أمرا عظيما لا قوة لي به ولا يد إلا باللّه . ثم دخل فاغتسل وخرج وتبعه أصحابه فنحاهم ، ولقيه الناس يعزّونه برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يبكي حتى انتهى إلى البيت ، فاضطبع واستلم ، وطاف سبعا ، وركع ركعتين ، ثم رجع إلى منزله . فلما كانت
“ 127 “
صلاة الظهر ، خرج فطاف بالبيت ، ثم جلس قريبا من دار الندوة ، فقال : هل من أحد يشتكي من ظلامة ، أو يطلب حقا ؟ فما أتاه أحد ، وأثنى الناس على وإليهم خيرا . ثم صلى العصر وجلس ، فردفه الناس ثم خرج راجعا إلى المدينة .
وبالإسناد أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، دخل في بعض حججه على نافع بن الحارث يعوده ، فوجده قريب عهد بعرس وفي بيته ستر من آدم مزيّن بسيور ، فأخذه عمر فشقه ، وقال : لم لا تستروا بيوتكم بهذه المسوح ؟ فهي أوفى وألين وأحمل للغبار .
وأذن له أبو محذورة بصوت شديد ، فقال : يا أبا محذورة ، أما خشيت أن تنشقّ مريطاؤك ؟ قال : إني أحببت أن أسمعك صوتي . ثم مرّ عمر بأبي سفيان بن حرب ، فرأى أحجارا قد بناها أبو سفيان كالدكان في وجه داره يجلس عليها بالغداة ، فقال عمر : لا ، أرجعنّ من وجهي هذا حتى تقلعه وترفعه . فلما رجع عمر وجده على حاله ، فقال : ألم أقل لك اقلعه ؟ قال : انتظرت أن يأتينا بعض أهل مهنتنا ، فقال : عزمت عليك لتقلعه بيدك ، وتنقله على عاتقك ، فلم يراجعه وفعل ذلك .
فقال عمر : الحمد للّه الذي أعزّ الإسلام رجل من عديّ يأمر أبا سفيان سيد بني عبد مناف بمكة فيطيعه .
وبالإسناد قال محمد بن سعد : حدثنا يزيد بن هارون ، ثنا يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيّب ، أن عمر لما أفاض من منى أناخ بالأبطح فكوّم كومة من بطحاء فطرح عليها طرف ثوبه ، ثم استلقى عليها ، ورفع يده إلى السماء وقال : اللهمّ كبرت سني ، وضعفت قوّتي ، وانتشرت رعيّتي ، فاقبضني إليك غير مضيّع ولا مفرّط . فلما قدم المدينة خطب الناس . قال سعيد : فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن رضي اللّه عنه وأرضاه .
ذكر حجج الخلفاء الأربع في زمان خلافتهم
أما أبو بكر الصدّيق رضي اللّه عنه ، فاستعمل على الناس في الحج عمر بن الخطاب سنة إحدى عشرة ، واعتمر في رجب ، وحجّ بالناس سنة اثنتي عشرة ، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان .
وأما عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، فاستعمل أول سنة وليّ على الحج عبد الرحمن بن عوف ، فحجّ بالناس ، ثم لم يزل عمر يحج بالناس في خلافته كلها ، فحجّ بهم عشر سنين ، وحجّ بأزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم في آخر حجة حجّها .
قال ابن عباس : حججت مع عمر إحدى عشرة حجة ، واعتمر في خلافته ثلاث مرات . وقالت عائشة رضي اللّه عنها :
لما كانت آخر حجة حجها عمر بأمهات المؤمنين مررت بالمحصّب ، فسمعت رجلا على
“ 128 “
راحلته يقول : أين كان عمر أمير المؤمنين ؟ وسمعت رجلا آخر يقول : هاهنا قد كان ، فأناخ راحلته ورفع عقيرته ، وقال :
عليك سلام من إمام وباركت * يد اللّه في ذاك الأديم الممزّق
فمن يسع أو يركب جناحيّ نعامة * ليدرك ما قدّم بالأمس يسبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها * بوائق في أكمامها لم تفتق
قالت عائشة : فلم ندر ذاك الراكب من هو ؟
فكنا نتحدث أنه من الجن ، قالت : فقدم عمر من تلك الحجة ، فطعن فمات .
وقد ذكرنا هذا الشعر في هذا الكتاب أكمل من هذا من حديث أحمد بن عبد اللّه .
وأما عثمان بن عفان رضي اللّه عنه
فإنه لما ولّي أمّر عبد الرحمن بن عوف على الحج سنة أربع وعشرين ، وحجّ عثمان سنة خمس وعشرين ، ثم لم يزل يحج إلى سنة أربع وثلاثين ، ثم حصر في داره ، وحجّ بالناس عبد اللّه بن عباس . قال ابن سيرين : وكان عثمان أعلم الناس بالمناسك ، وبعده ابن عمر .
وأما علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه
فحج كثيرا قبل ولايته الخلافة . وأما ولايته ، فإنه ولّي الخلافة أربع سنين وتسعة أشهر وأياما ، وكانت ولايته بعد انقضاء الحج في سنة خمس وثلاثين ، لأن عثمان قتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة من هذه السنة . وكانت وقعة الجمل سنة ست وثلاثين ، وحج بالناس أيضا عبد اللّه بن عباس . واشتغل علي رضي اللّه عنه بتلك الأمور ، فحج بالناس سنة ثمان وثمانين قثم بن عباس . ثم اصطلح الناس في سنة تسع وثلاثين على شيبة بن عثمان ، فأقام لهم الحج .
ثم قتل علي رضي اللّه عنه سنة أربعين .
ولنا في المحلات ، وهي ست آلات ، وإنما سمّيت محلات لأن من كانت معه حلّ حيث شاء :
إن المحلات ستّ فاسمعنّ لها * الزند والدلو والسكين والفأس
والقدر والزق لا تبغي بها عوضا * فحيث ما كنّ كان الناس والبأس
ولنا في أصناف المياه ونعوتها ، وأصناف الشرب :
“ 129 “
ماء فرات نقاخ سلسل شبم * سلاسل وزلال نشره عطر
تسري الحياة به في كل ذي شبح * النبت والحيوان الكلّ والبشر
وما سواه من الأمواه ليس له * هذي النعوت فما في نعته نكر
مثل الأجاج وماج مالح لغة * فريدة وشريب طعمه خصر
كذا الشروب وملح والزعاق له * على القعاع مقام ليس يستتر
أما النمير فنعت لا يخصّ به * صنف فذاك الذي ينمى به الشجر
فهذه خمسة من بعد عاشرة * من اللغات لها في نفسها سور
والنشج والنضج ثم النقع والبغر * ونغبة بعدها لفظ هو النجر
تفسيره : فالنشج والنضج هو الشرب دون الريّ . والنقع : الريّ . والبغر والنجر : أن يكثر الشرب فلا يروى . والنغبة : الجرعة من الماء . وكل ما تضمنه البيت الأول هو العذب الطيب ، والشبم : البارد . والسلسل والسلاسل : السهل الدخول في الحلق . والشريب :
الذي فيه شيء من العذوبة . والشروب : دونه ، وهو الذي يشرب عند الضرورة . والأجاج :
الماء المالح ، وهو أيضا : الماج ، والقعاع ، والزعاق : فيه مرارة .
ولنا في أسماء العطش :
الصدا والأوام ثم غليل * وو غيم ولوحة العطش
وكذاك الجواد مهلكة * فإذا ما ارتويت تنتعش
ولنا في أسماء الخيل في السباق :
قالوا المجلّى أول ثم المصلّى بعده * ثم المسلى والنال طرف رابع
والخامس المرتاح ثم عاطف سادسهم * ثم الخطى بعده وهو الجواد السابع
والثامن المؤمّل ثم اللطيم تاسع * سكبتهم عاشرهم أهلّة طوالع
فثكلهم آخرهم فلا يعدّ فيهم * أن المجلّى أوّل فتسعة توابع
المحفوظ عن العرب : السابق ، ثم المصلى ، والسكيب الذي هو العاشر ، والسابق هو الأول ، وهو المجلى والمبرز أيضا . وسائر ما ذكر من الأسماء ، فإن بعض الحفّاظ من أهل اللغة قال : أراها محدثة ، واللّه أعلم .
وروينا من حديث عمرو بن بحر الجاحظ قال : ثنا سنان بن الحسن التستري ، عن إسماعيل بن فهران العسكري ، عن أبان بن عثمان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، قال : لما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يعرض نفسه على القبائل ، خرج وأنا معه ، وأبو بكر ، وكان أبو بكر عالما بأنساب العرب ، فوقفنا على
“ 130 “
مجلس من مجالس العرب عليهم الوقار والسكينة ، فتقدم أبو بكر ، فسلّم عليهم ، فردّوا عليه السلام ، فقال : ممن القوم ؟ فقالوا : من ربيعة . قال : أمن هاماتها أم من لهازمها ؟
قالوا : بل من هاماتها العظمى . قال : وأيّ هاماتها ؟ قالوا : ذهل . قال : أذهل الأكبر أم ذهل الأصغر ؟ قالوا : بل الأكبر . قال : أفمنكم عوف الذي كان يقال : لا حرّ بوادي عوف ؟
قالوا : لا . قال : أفمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء ومنتمي الأخيّاء ؟ قالوا : لا . قال :
أفمنكم جساس بن مرّة حامي الزمار ومانع الجار ؟ قالوا : لا . قال : أفمنكم المزدلف صاحب الغمام ؟ قالوا : لا . قال : أفأنتم أخوال الملوك من كندة ؟
قالوا : لا . قال : أفأنتم أصهار الملوك من لخم ؟ قالوا : لا . قال : فلستم من ذهل الأكبر ، إذ أنتم من ذهل الأصغر .
فقام إليه أعرابي غلام حين بقل وجهه ، فأخذ بزمام ناقته ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واقف على ناقته يسمع مخاطبته ، فقال لنا : على من سألنا أن نسأله ، والعبء لا تعرفه أو تحمله . يا هذا ، إنك سألتنا أي مسألة شئت فلم نكتمك ، فأخبرنا من أنت ؟ قال أبو بكر : من قريش .
قال : بخ بخ ، أهل الشرف والرئاسة ، فأخبرني من أي قريش أنت ؟
قال : من بني تميم بن مرّة . قال : أمنكم قصيّ بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر ، فكان يقال له مجمعا ؟ قال أبو بكر : لا . قال : أفمنكم هاشم الذي يقول فيه الشاعر :
عمرو الذي هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف
قال أبو بكر : لا . قال : أفمنكم شيبة الحمد ، الذي كان وجهه يضيء في الليلة الظلماء الداجية مطعم الطير ؟ قال : لا . قال : أفمن المفيضين بالبأس أنت ؟ قال : لا . قال :
أفمن أهل الرفادة أنت ؟ قال : لا . قال : أفمن أهل السقاية أنت ؟ قال : لا . قال : أفمن أهل الحجابة أنت ؟ قال : لا . قال : أما واللّه لو شئت لأخبرتك أنك لست من أشراف قريش .
فاجتذب أبو بكر زمام ناقته منه كهيئة المغضب ،
فقال الأعرابي :
صادف درء السيل درء يدفعه * يرفعه طورا وطورا يضعه
فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . قال علي : فقلت : يا أبا بكر ، لقد وقعت من هذا الأعرابي على باقعة . قال : أجل يا أبا الحسن ، ما من طامّة إلا وفوقها طامّة ، وإن البلاء موكل بالمنطق .
سأل عليّ بن أبي طالب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما أفضل الصلاة ؟ قال : « ما حضرت فيها القلوب ، وذرفت فيها العيون ، وخلصت فيها النيّات ، وفاضت فيها العبرات » .
وبكى الحسن البشري يوما في حلقته ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : لأني أرى قوما قد أمروا بالزاد ، ونودي فيهم بالرحيل ، وحبس أولهم على آخرهم وهم قعود يلعبون .
“ 131 “
وأنشدني محمد بن عبد الواحد لبعضهم :
قالوا تقدّم فقلت الخوف أخّرني * وقبح فعلي وزلّاتي ومجترمي
بأيّ وجه إذا ما جئت أرفعه * وقد تمرّنت بالتوبيخ والندم
وكيف أنقل أقداما عصيت بها * إلى محل العلا في القدس والعظم
إلى الذي جاد بالإحسان مبتدئا * ومنّ بالفضل والآلاء والنّعم
وكلّ جارحة لي غير طاهرة * لا ماء وجهي ولا جسمي ولا قدمي
قالوا فدونك من أبواب رحمته * ومنتهى العفو والإحسان والكرم
فقلت وجهي من الزلّات محتشم * ولست أملك وجها غير محتشم
وقال بعض الأولياء :
الفكرة نور ، والغفلة ظلمة ، والجهالة ضلالة ، والسعيد من وعظ بغيره .
شعر
إني لأذكر مولاي وأشكره * في كل وقت وفي داج من الظلم
فكم له نعمة في كل جارحة * ضاقت لكثرتها عن شكرها هممي
فرض على كل عبد شكر خالقه * فيما أفاض من الأنعام والكرم
أوحى اللّه إلى داود عليه السلام : يا داود ، اعرفني واعرف قدر نفسك .
ففكّر ساعة ، ثم قال : إلهي عرفتك بالأحدية ، والقدرة ، والبقاء ، وعرفت نفسي بالعجز ، والضعف ، والفناء .
قال السريّ : اطلب حياة قلبك بمجالسة أهل الذكر ، واستجلب نور القلب بدوام الحزن ، والتمس تعجيل الانتقال ، وإياك والتسويف ، ونافس الأبرار في إقامة الفرض ، ونافس المقربين في إخلاص النوافل ، واترك فضول الحلال ، واطلب حلاوة المناجاة بفراغ القلب ، واستجلب زيادة النّعم بعظيم الشكر ، وأكثر من الحسنات الحديثات للسيئات القديمات ، واستبق الحسنات بترك التبعات ، وسارع في الخيرات ، واحذر ما يوجب العقوبات .
وروينا من حديث ابن ودعان ، قال : أخبرنا أبو نصر أحمد بن الخليل ، عن علي بن أبي القاسم ، عن عبد اللّه بن جعفر ، عن محمد بن الحسن العبدي ، عن أبيه ، قال : حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد وثابت جميعا ، عن أنس بن
“ 132 “
مالك ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط اللّه ، وأن تحمدهم على رزق اللّه ، وأن تذمّهم على ما لم يؤتك اللّه إن رزق اللّه لا يحدّه حرص حريص ، ولا يرده كراهة كاره ، وإن اللّه تبارك وتعالى بحكمته جعل الروح والفرح في الرضا واليقين ، وجعل الهمّ والحزن في الشك والسخط ، إنك لن تدع شيئا تقرّبا إلى اللّه إلا أجزل لك الثواب عليه . فاجعل همّتك وسعيك لآخرة لا ينفذ فيها ثواب المرضي عنه ، ولا ينقطع فيها عقاب المسخوط عليه » .
وروينا من حديث الخطابي ، قال : حدثنا ابن داسة ، حدثنا أبو داود ، ثنا عمرو بن مروان ، قال : أخبرنا شعبة ، عن الأشعث بن سليمان ، عن أبي بردة ، عن ثعلبة بن ضبيعة ، قال : دخلنا على حذيفة قال : إني لا أعرف رجلا لا تضرّه الفتن شيئا . قال : فخرجنا فإذا فسطاط مضروب ، فدخلنا فإذا فيه محمد بن مسلمة ، فسألناه عن ذلك فقال : ما أريد أن أستمل على شيء من أمصارهم حتى تنجلي عما انجلت .
روينا من حديث ابن الخطاب ، قال : حدثنا ابن الأعرابي ، عن أبي سعيد ، عن يحيى بن سعيد القطّان ، عن محمد بن مهران بن مسلم بن المثنى ، قال : أخبرني مسلم ، قال : كنا مع عبد اللّه بن الزبير ، والحجاج محاصره ، فكان ابن عمر يصلي مع ابن الزبير ، فإذا فاتته الصلاة معه ، وسمع مؤذن الحجاج ، انطلق فصلى معه ، فقيل له : تصلي مع ابن الزبير ومع الحجاج ؟ قال : إذا دعونا إلى اللّه أجبناهم ، وإذا دعونا إلى السلطان تركناهم .
وكان ينهى ابن الزبير عن طلب الخلافة والتعرض لها . ا هـ
المجلس .
خبر الضبّ الذي آمن برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
روينا من حديث أبي نعيم ، عن سليمان بن أحمد إملاء وقراءة ، عن محمد بن علي بن الوليد السلمي البصري من كتابه ، عن محمد بن الأعلى الصنعاني ، عن معتمر بن سليمان ، عن كهمس بن الحسن ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر الشعبي ، عن عبد اللّه بن عمر ، عن أبيه رضي اللّه عنه ، قال : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان في محفل من أصحابه ، إذ جاء أعرابي من بني سليم قد أصاب ضبّا ، وجعله في كمه ليذهب به إلى رحله ليأكله ،
فقال : علي من هذه الجماعة ؟
فقالوا : على هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي . فشقّ الناس ، ثم أقبل على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، ما اشتملت النساء على ذي لهجة أكذب منك ، ولا أبغض لك مني ، ولولا أن يسمّوني قومي عجولا ، لعجلت عليك فقتلتك ، فسررت بقتلك الناس جميعا . قال عمر بن الخطاب : يا رسول اللّه ، دعني أقتله .
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يا عمر ،
“ 133 “
أما علمت أن الحليم كاد أن يكون نبيا ؟ » ، ثم أقبل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : واللات والعزّى لا آمنت بك . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يا أعرابي ، ما حملك على الذي قلت ، وما قلت وقلت غير الحق ، ولم تكرم مجلسي ؟ » ، فقال : وتكلمني أيضا ، استخفافا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، واللات والعزّى لا آمنت بك أو يؤمن بك هذا الضبّ ، فأخرج الضب من كمّه وطرحه بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقال : إن آمن بك هذا الضب آمنت بك . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يا ضبّ ، تكلم بإذن اللّه » ، فتكلم الضب بلسان عربي مبين ، يفهمه القوم جميعا :
لبيك وسعديك يا رسول رب العالمين . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يا ضب ، من تعبد ؟ » ، قال :
الذي في السماء عرشه ، وفي الأرض سلطانه ، وفي البحر سبيله ، وفي الجنة رحمته ، وفي النار عذابه . قال : « فمن أنا يا ضب ؟ » ، قال : أنت رسول رب العالمين ، وخاتم النبيين ، قد أفلح من صدّقك ، وقد خاب من كذّبك . فقال الأعرابي : أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأشهد أنك رسول اللّه حقا . واللّه لقد أتيتك وما على وجه الأرض أحد أبغض إليّ منك ، واللّه لأنت الساعة أحبّ إليّ من نفسي ، ومن ولدي ، وقد آمنت بك بشعري ، وبشري ، وداخلي ، وخارجي ، وسرّي ، وعلانيتي . فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : « الحمد للّه الذي هداك إلى هذا الدين الذي يعلو ولا يعلى عليه ، لا يقبله اللّه إلا بصلاة ، ولا يقبل الصلاة إلا بقرآن » . فعلّمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الفاتحة والإخلاص . وقال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما سمعت في البسيط ولا في الرجز أحسن من هذا . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن هذا كلام رب العالمين ، وليس بشعر ، فإذا قرأت : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فكأنما قرأت ثلث القرآن ، وإذا قرأتها مرتين ، فكأنما قرأت ثلثي القرآن ، وإذا قرأتها ثلاث مرات ، فكأنما قرأت القرآن كله » . فقال الأعرابي : نعم الإله إلهنا ، يقبل اليسير ، ويعطي الجزيل . ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أعطوا الأعرابي » ، فأعطوه حتى أبطروه . فقام عبد الرحمن بن عوف ، فقال : يا رسول اللّه ، إني أريد أن أعطيه ناقة أقرّب بها إلى اللّه دون البختي وفوق العرابي ، وهي عشراء تلحق ولا تلحق ، أهديت إليّ يوم تبوك . فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " قد وصفت ما تعطي ، فأصف لك ما يعطيك اللّه جزاء " .
قال : نعم . قال : « لك ناقة من درّة جوفاء ، قوائمها من زبرجد أخضر ، وعنقها من زبرجد أصفر ، عليها هودج وعلى الهودج السندس والإستبرق، تمرّ بك إلى الصراط كالبرق الخاطف ".
فخرج الأعرابي من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلقيه ألف أعرابي على ألف دابة وألف رمح وألف سيف ، فقال لهم : أين تريدون ؟ فقالوا : نقاتل هذا الذي يكذب ويزعم أنه نبي . فقال الأعرابي : إني أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمدا رسول اللّه . فقالوا له : صبوت . فقال :
صبوت ، وحدّثهم الحديث . فقالوا بأجمعهم : نشهد أن لا إله إلا اللّه ، ونشهد أن محمدا
“ 134 “
رسول اللّه . فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فتلقّاهم بلا رداء ، فنزلوا على ركبهم يقبّلون يديه ، وما ولّوا منه إلا وهم يقولون : لا إله إلا اللّه ، محمد رسول اللّه .
فقالوا : مرنا بأمر تحبه يا رسول اللّه . قال : « تكونون تحت راية خالد بن الوليد » .
قال : فليس أحد من العرب آمن منهم ألف رجل إلا هؤلاء من بني سليم .
دلالات التائبين
روينا من حديث ابن مروان ، عن عبد الرحمن بن مرزوق ، عن عبد اللّه بن أبي بكر السهميّ ، قال : قال بعض العبّاد : علامة التوبة الخروج من الجهل ، والندم على الذنب ، والتجافي عن الشهوات ، واعتقاد مقت نفسك المسئولة ، وإخراج المظلمة ، وإصلاح الكسرة والشهوة ، وترك الكذب ، وقطع الغيبة ، والانتهاء عن أخدان السوء ، والاشتغال لما عليك ، والاستعداد بما تنقلب إليه ، والبكاء على ما سلف من عمرك ، وترك ما لا يعنيك ، والخوف من ساعة تأتيك فيها رسل ربك لقبض روحك ، والتفجّع والحزن من ليلة تبيت في قبرك وحدك بين أطباق الثرى إلى يوم المعاد .
ومما قيل في الحنين إلى الأوطان للشريف الرضيّ :
لا يذكر الرمل إلا حنّ مغترب * له بذي الرمل أوطار وأوطان
تهفو إلى البان من قلبي نوازعه * وما بي البان بل من داره البان
أسدّ سمعي إذا غنّى الحمام به * أن لا يهيج سرّ الوجد إعلان
وربّ دار أولّيها مجانبة * ولي إلى الدار أطراب وأشجان
إذا تلفت في أطلالها ابتدرت * للعين والقلب أمواه ونيران
ومن قول الشريف الرضيّ في الاشتياق :
خذي نفسي يا ريح من جانب الحمى * فلاقي بها ليلا نسيم ربا نجد
فإنّ بذاك الحيّ حيّا عهدته * وبالرغم مني أن يطول به عهدي
ولولا تداوي القلب من ألم الهوى * بذكر تلاقينا قضيت من الوجد
ويا صاحبيّ اليوم عوجا لتسألا * ركيبا من الغورين أينقهم تحدي
عن الحيّ بالجرعاء جرعاء مالك * هل ارتبعوا واخضرّ واديهم بعدي
شممت بنجد شيمة حاجريّة * فأمطرتها دمعي وأفرشتها خدّي
ذكرت بهاويّا الحبيب على النوى * وهيهات ذا يا بعد بينهما عندي
وإني لمجلوب لي الشوق كلما * تنفس شاك ، أو تألم ذو وجد
“ 135 “
تعرّض رسل الشوق والركب جاهد * فأيقظني من بين نوّامهم وحدي
فما شرب العشاق إلا بقيّتي * ولا وردوا في الحبّ إلا على وردي
قال بعض العارفين : إن كانت الحاجة إلى الناس فالكسب أولى ، ومن لم ير غير اللّه ، ولم يخطر له الناس ببال ، ففي أي مقام أقيم فهو ذاك وهو حال عزيز .
قال بعض الحكماء : بذل الحيلة في طلب الحلال . وقلة الحوائج إلى الناس أفضل العبادة .
رويناه من حديث ابن مروان عن عباس بن محمد بن الجمحي ، عن محمد بن سلام .
ومن الأمثال في السعي على العيال ما رويناه من حديث المالكي ، عن علي بن الحسن ، عن أبيه ، قال : قال لي البناجي : قال بعض العبّاد : إن مثل الرجل لولده ولعياله مثل الدخنة الطيبة تحترق ويلتذ بطيب رائحتها آخرون .
ومن أحوال الدنيا ما رويناه من حديث الدينوري ، عن أحمد بن الحسن ، عن سعيد الجرمي ، قال : قال ابن السماك لجعفر بن يحيى : إن اللّه عز وجل ملأ الدنيا باللّذات ، وحشاها بالآفات ، فمزج حلالها بالموبقات ، وحرامها بالتبعات .
حكمة علوية
أحسن الدنيا ، أقبحها عند من يبصرها ، يعني بعين عقله ، وذلك أنها تشغل عما هو أحسن منها ، يعني الآخرة ، واكتساب الخلق الفاضلة . رويناه من حديث أحمد بن مروان بن إبراهيم ، عن نصر ، عن محمد بن سلام ، عن بعض الحكماء .
ومن باب حنين الإبل وسيرها ، قول أبي منصور بن الفضل المؤدب :
تزاورن من أذرعات يمينا * نواشز ليس يطعن البرينا
كلفن بنجد كأن الرياض * أخذن لنجد عليها يمينا
وأقسمن يحملن إلا بخيلا * إليه ويبلغن الآخرينا
ولما استمعن زفير المشوق * ونوح الحمام تركن الحنينا
إذا جئتما بآنة الواديين * فأرخوا النسوع وخلّوا الوضينا
وقال أيضا في هذا الباب :
لأي مرمى تزجر الأيانقا * إن جاوزت نجدا فلست عاشقا
“ 136 “
وإنما كان بكائي حاديا * ركب الغرام وزفيري سائقا
ومن هذا الباب لأبي جعفر البياضي :
نوق تراها كالسّفين * إذا رأيت الآل بحرا
كتب النحر بدمائها * في مهرق البيداء سطرا
فكأن أرجلهن تطلب * عند أيديهنّ وترا
يحملن من أهل الهوى * شعثا على الأكوار غبرا
لاح الهجير وجوههم * فأحال منها البيض سمرا
ولابن الخفاجي من هذا الباب :
امتيحها فضل الأزمة شمّر * فمع النسيم تحية من عرعر
يا بانتي أضم ومن دين الهوى * بثّ السؤال لكل من لم يخبر
أعلمتما قلبي أقام مكانه * أم سار في طلب الصباح المسفر
وله أيضا :
دعوها نناضل بالأذرع * فأين العواصم من لعلع
وقودوا أزمتها بالحنين * فلولا الصبابة لم تتبع
وروينا عن الإمام أبي الفرج بن الجوزيّ الحافظ كتابة لنفسه في هذا الباب :
وحرمة شعث على كل نضر * براهنّ من ألم ما براني
إذا ذكرتها حداة الهوى * قطعن البر أقطع وجدي عنان
تطايرن والشوق يدني مني * وكل المنى عند ذاك المكان
فلما علون فويق الكثيب * تراءين ذاك البريق اليماني
وله أيضا من قصيدة في هذا الباب :
لا وشعث فارقوا أوطانهم * يستلينون الطريق الأوعرا
كلما غنّى بهم حاديهم * أخذت عيسهم تغري البرا
أعسفت في سيرها إذ طربت * أمنى ذكّرها والأجفرا
وافقت من حملت في شوفهم * فتناست بالهوى طول السّرى
خبر فيميون وعبادته وما جرى له
روينا من حديث ابن إسحاق ، عن المغيرة بن أبي لبيد مولى الأحنف ، عن وهب بن
“ 137 “
منبّه اليماني أنه حدّثهم ، أن موقع دين النصرانية بنجران ، أن رجلا من بقايا أهل دين عيسى ابن مريم عليه السلام ، يقال له فيميون ، وكان صالحا زاهدا مجتهدا ورعا ، مجاب الدعوة ، سائحا نائحا ينزل القرى ، لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية ، لا يعرف بها .
وكان لا يأكل إلا من كسب يده ، وكان بنّاء يعمل الطين ، وكان يعظّم الأحد إذا كان يوم الأحد ، لا يعمل فيه شيئا ، وخرج إلى فلاة من الأرض فصلّى فيها حتى يمسي .
قال : وكان في قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفيا ، ففطن بشأنه رجل من أهلها يقال له صالح ، فأحبّه صالح حبا لم يحبه شيئا كان قبله ، فكان يتبعه حيث ذهب ، ولا يفطن له فيميون ، حتى خرج مرة يوم الأحد إلى فلاة في الأرض ، كما كان يصنع ، وقد تبعه صالح ، وفيميون لا يدري به ، فجلس صالح منه منظر العين مستخفيا منه لا يحب أن يعلم بمكانه .
وقام فيميون يصلي ، فبينا هو يصلي إذ أقبل نحوه التنين : الحية ذات الرؤوس السبعة ، فلما رآها فيميون دعا عليها فماتت ، ورآها صالح ولم يدر ما أصابها فخافها عليه ، فعيل عوله ، فصرخ : يا فيميون ، التنين قد أقبل نحوك ، فلم يلتفت إليه ، وأقبل على صلاته حتى فرغ منها وأمسى ، فانصرف وعرف أنه قد عرف ، وعرف صالح أنه قد رأى مكانه ، فقال له : يا فيميون ، تعلم واللّه أني ما أحببت شيئا قط حبك ، وقد أردت صحبتك ، والكينونة معك حيث كنت .
قال : ما شئت أمري كما ترى ، فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم ، فلزمه صالح . وقد كاد أهل القرية يفطنون لشأنه ، وكان إذا ناجاه العبد به الضرّ دعا له فشفي ، وإذا دعا لأحد به ضرّ لم يأته .
وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير ، فسأل عن شأن فيميون ، فقيل له : إنه لا يأتي أحدا دعاه ، ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجرة .
فعمد الرجل إلى ابنه ذلك ، فوضعه في حجرته ، وألقى عليه ثوبا ، ثم جاءه فقال : يا فيميون ، إني قد أردت أن أعمل في بيتي عملا ، فانطلق معي حتى تنظر إليه فأشارطك عليه . فانطلق معه حتى دخل حجرته ، ثم قال له : ما تريد أن تعمل في بيتك هذا ؟ قال : كذا وكذا ، ثم كشط الثوب عن الصبي ، وقال : يا فيميون ، عبد من عباد اللّه أصابه ما ترى ، فادع اللّه له ، فدعا له فيميون ، فقام الصبي ليس به بأس ، وعرف فيميون أنه قد عرف . فخرج من القرية ، واتبعه صالح ، فبينما هو يمشي في بعض أرض الشام ، إذ مرّ بشجرة عظيمة ، فناداه منها رجل ، فقال : أفيميون ؟ قال : نعم .
قال : ما زلت أنظر وأقول متى هو جاء ؟ حتى سمعت صوتك ، فعرفت أنك هو ، لا
“ 138 “
تبرح حتى تقوم عليّ ، فإني ميت الآن . فمات وقام عليه حتى واراه .
ثم انصرف وتبعه صالح حتى وطئا بعض أرض العرب ، فعدّوا عليها ، فاختطفتهما سيارة من بعض لعرب ، فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران . وأهل نجران يومئذ على دين العرب ، يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم ، لها عيد كل سنة ، إذا كان ذلك العيد ، علّقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه ، وحلّي النساء ، ثم خرجوا إليها ، فعكفوا عليها يوما . فابتاع فيميون رجل من أشرافهم . وابتاع صالحا آخر .
فكان فيميون إذا قام من الليل في بيته يصلي ، أسرج له البيت نورا حتى يصبح من غير مصباح ، فرأى ذلك سيده ، فأعجبه ما رأى منه ، فسأله عن دينه فأخبره ، وقال له فيميون : إنما أنتم في باطل ، إن هذه النخلة لا تضرّ ولا تنفع ، فلو دعوت عليها إلهي الذي أعبد أهلكها ، وهو اللّه وحده لا شريك له . فقال له سيده : فافعل ، فإنك إن فعلت دخلنا في دينك ، وتركنا ما نحن عليه . قال : فقام فيميون ، فتطهّر وصلى ركعتين ،
ثم دعا اللّه عز وجل عليها ، فأرسل ريحا ، فجعفتها من أصلها فألقتها . فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه ، فحملهم على الشريعة من دين عيسى ابن مريم عليه السلام . قوله : فجعفتها قلعتها ، وقوله : عيل عوله ، يقال : عال الأمر إذا أثقل .
وعليه قول الفرزدق :
ترى الغرّ الجحاجح من قريش * إذا ما الأمر في الحدثان عالا
فمعنى عيل عوله أي غلب غلبة ، وقهرت شدته وجلده .
ومن وقائع بعض أصحاب شيخنا أبي مدين شعيب بن الحسن رضي اللّه عنه ما حدثنا به أبو محمد عبد اللّه ابن الأستاذ صاحبنا ، وهو من سادات القوم ، قال بعض المريدين :
رأيت في واقعتي الشيخ أبا مدين ، والشيوخ قد أحدقوا به يسألونه عن المعرفة ، فقال لهم :
إذا تلاشت المعرفة بالمعروف صحّت المعرفة ، ثم قالوا له : صف لنا سرّك ،
فقال لهم :اسمعوا ولنفسي أسمع :
يا سرّ سرّي وجهر جهري * يا نور نوري وحياة أمري
يا قلب قلبي وبحر فكري * ومن به الفلك في البحر يجري
فأنت تكسو * وأنت تعري
قال عبد اللّه صاحب الواقعة : ثم أصابتني في واقعتي شبه السنّة ، فرأيت أبا مدين والأشياخ كما كانوا ، فقالوا له : زدنا ، فقال لهم : إنكم تحسبون أني أغيبه ، ثم سكت ، فإذا جملة من الديكة مجتمعون فتطاول واحد منهم وهو يبكي بحنين وتطويل ، فقال له أبو مدين : قل ، فنطق بلسان فصيح : إنكم تحسبون أني أغيبه ، المطبوع في البيت هو فيه ،
الجزء الثامن
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 124 “
رأيته مع الإماء في الحجاز ) ، فبلغ ذلك المختار فدعا به ، فقال : ما هذا الذي بلغنا عنك ؟
قال : أباطيل . فأمر بضرب عنقه ، فقال : لا ، واللّه لا تقدر على ذلك ، قال : ولم ؟ قال : أما دون أن أنظر إليك وقد هدمت مدينة دمشق حجرا حجرا ، وقتلت المقاتلة ، وسبيت الذرية ، ثم تصلبني على شجرة على نهر ، واللّه إني لأعرف الشجرة الساعة ، وأعرف شاطئ ذلك النهر .
فالتفت المختار إلى أصحابه فقال لهم : أما إن الرجل قد عرف الشجرة ، وربما يقول حقا .
فأمر به فحبس حتى إذا كان الليل بعث إليه فقال : يا أخا خزاعة ، أو مزاح عند القتل ؟
قال : أنشدك اللّه أن أقتل ضياعا ، قال : وما تطلب هاهنا ؟ قال : أربعة آلاف درهم أقضي بها ديني ، قال : ادفعوها إليه ، وإياك أن تصبح بالكوفة ، فقبضها وخرج .
مثل
هو أحمق من عجل . وهو عجل بن لخيم . وذلك أنه قيل له : ما سمّيت فرسك ؟ ففقأ عينه ، وقال : سمّيته الأعور .
قال الشاعر :
رمتني بنو عجل بداء أبيهم * وأي امرئ في الحمق أحمق من عجل
أليس أبوهم غار عين جواده * فصارت به الأمثال تضرب في الجهل
ومن سماعنا في نسيب مهيار حيث يقول :
هبّت بأشواقك نجدية * مطبعة أنت لها واجب
ما أنت يا قلبي وأهل الحمى * وإنما هم أمسك الذاهب
فاردد على الريح أحاديثها * ففي صباها ناقل كاذب
ودون نجد وظباء الحمى * أن تقرح السّنام والغارب
السماع في ذلك يقول : يا أيها المحبّ العارف ، هبّت بأشواقك أنفاس متصاعدة تطمع في أمر هي دونه ، ألا تراه ؟ قال : ما أنت يا قلبي ؟
يقول : أنت في مقام التقليب والتلوين ، وأهل الحمى في مقام الثبوت ، وهما ضدّان فلا يجتمعان كما لا يرجع أمس أبدا . وقد نبّه على كذب الأحوال بما ذكر عن الريح بسبب الباعث لهبوبها . ثم قال : ودون
“ 125 “
نجد الذي هو النظر الأعلى ، وظباء الحمى : الأرواح العلوية ، تقرح : أي تدمي الخف والسنام من طول السير ، وحمل الأثقال ، شبّهها بالإبل ، ثم لا وصول ، يقول : إنها موهوبة لا مكسوبة ، فلا تعمل لها .
موعظة عطاء بن أبي رباح لعبد الملك بمكة
حدثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا عبد الرحمن بن علي ، انا عبد الوهاب ، انا جعفر بن أحمد ، انا عبد العزيز الضرّاب ، أخبرني أبي ، ثنا أحمد بن مروان ، ثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي ، ثنا الرياشي ، قال : سمعت الأصمعي يقول : دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك وهو جالس على سريره وحواليه الأشراف من كل بطن ، وذلك بمكة في وقت حجّه في خلافته ، فلما بصر به قام إليه وأجلسه معه على السرير ، وقعد بين يديه ، وقال له : يا أبا محمد ، ما حاجتك ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، اتق اللّه في حرم اللّه ورسوله فتعاهده بالعمارة .
واتق اللّه في أولاد المهاجرين والأنصار ، فإنك بهم جلست هذا المجلس . واتق اللّه في أهل الثغور فإنهم حصن للمسلمين . وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسؤول عنهم . واتق اللّه فيمن على بابك ، ولا تغفل عنهم ، ولا تغلق دونهم بابك . فقال له : أفعل . ثم نهض فقبض عليه عبد الملك فقال : يا أبا محمد ، سألتنا حوائج غيرك فقد قضيناها ، فما حاجتك ؟ فقال : ما لي إلى مخلوق من حاجة ، ثم خرج . فقال عبد الملك : هذا وأبيك الشرف ، هذا وأبيك السؤدد .
ومن وقائع بعض الفقراء إلى اللّه تعالى ما حدثناه عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي ، قال : قال بعض المريدين : رأيت أبا مدين ، وأبا حامد ، وأبا طالب ، وأبا يزيد ، وجماعة من الصوفية ، فقال أبو يزيد لأبي مدين : تكلم لنا في شيء من التوحيد .
فقال : التوحيد هو الحق ، وإليه الملجأ لأهله ، وبه النجاة . هو السر الخفي ، به ظهرت الأسرار ، وهو الشمس المشرقة ، ومنه ينابيع الأنوار . وهو قطب العارفين ، وهو الدليل ، ومبرئ الأسقام ، وشفاء كل عليل . هو الظاهر ، فما سواه حجابه ، فمن كان ذا بصر جاوز أبوابه ، كشف له عن ملكه ، فعاين سلطانه ، وغيّبه به عنه ، فعظّم شأنه . فبين العارف وبين ربه سر وقر في صدره ، وحكم بمدّه بها من غيبه ، فهي غذاؤه وشرابه ، مظهر له حقيقة التوحيد ولبابه ، امتاز بها عن سائر الخلق ، فواصلته وأجلسته في حضرة الحق ، اختصه بالعلوم الأزلية العجيبة . فحقيقته من الحق دانية قريبة ، بلا حركة من معنى إلى معنى ، ولا انتقال ، ولا ماض ، ولا مستقبل ، ولا حال . هو بسر العارف مكشوف ، أمدّه به من خفيّ سرّه ، فسرّه
“ 126 “
من سره معروف . فجملة المحسوسات عدم وهبا . فحقّق ببصيرتك تنظر عجبا ، تجد القائم في كل الخطرات واللحظات مشاهد ، إذ هي أغطية يستر بها إذ هو في الوجود واحد .
فالمعرفة في حق كل مصنوع وضعه ، فكل مفترق هو أصله وجمعه . بذلك شهدت الظواهر على غيبها ، فهو المبدئ لكل شيء والمعيد ، والفعّال في ملكه يفعل ما يريد . فجملة هذه العلوم عرفها العارفون ، وجهلها الأكثرون ، وعلم تأويلها الراسخون ، وما يعقلها إلا العالمون .
وروينا من حديث الهاشمي ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أيها الناس ، بسط الأمل مقدّم على حلول الأجل ، والمعاد مضمار العمل ، فمغتبط بما احتقب ، غانم ، ومبتئس بما فاته من العمل ، نادم . أيها الناس ، إن الطمع فقر ، واليأس غنى ، والقناعة راحة ، والعزلة عبادة ، والعمل كنز ، والدنيا معدن . واللّه ما يسرّني ما مضى من دنياكم هذه بأهداب بردي هذا ، ولما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء . وكل إلى نفاد وشيك ، وزوال قريب ، فبادروا وأنتم في مهل الأنفاس ، وجدّة الأحلاس ، قبل أن يؤخذ بالكظم ، ولا يغني الندم » .
عمرة أبي بكر الصدّيق في خلافته رضي اللّه عنه
حدثنا محمد بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن علي ، عن محمد بن عبد الباقي ، عن أبي محمد الجوهري ، عن ابن حبوة ، عن أبي الحسن بن معروف ، عن الحسين بن الفهم ، عن محمد بن سعد ، عن الواقدي ، عن أشياخه ، قالوا : اعتمر أبو بكر الصدّيق رضي اللّه عنه في خلافته ، في رجب سنة اثنتي عشرة ، فدخل مكة ضحوة ، فأتى منزله وأبوه أبو قحافة جالس على باب داره ، فقيل له : هذا ابنك ، فنهض قائما ، وعجل أبو بكر أن ينيخ راحلته ، فنزل عنها وهي قائمة ، فجعل أبو بكر يقول : يا أبت لا تقم ، ثم التزمه ، فقبّل أبو بكر بين عيني أبيه . فأخذ الشيخ يبكي فرحا بقدومه ، وجاء ممن سمع به ممن هناك من الصحابة ، مثل عتاب بن أسيد ، وسهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، والحارث بن هشام ، فسلموا عليه : سلام عليك يا خليفة رسول اللّه ، فجعل أبو بكر عندما سمع ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبكي ، وأبكى القوم ، وتجدد عليه الحزن لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال أبو قحافة :
يا عتيق ، هؤلاء الملأ فأحسن صحبتهم ، فقال أبو بكر : يا أبت ، لا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، لقد طوقني اللّه أمرا عظيما لا قوة لي به ولا يد إلا باللّه . ثم دخل فاغتسل وخرج وتبعه أصحابه فنحاهم ، ولقيه الناس يعزّونه برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يبكي حتى انتهى إلى البيت ، فاضطبع واستلم ، وطاف سبعا ، وركع ركعتين ، ثم رجع إلى منزله . فلما كانت
“ 127 “
صلاة الظهر ، خرج فطاف بالبيت ، ثم جلس قريبا من دار الندوة ، فقال : هل من أحد يشتكي من ظلامة ، أو يطلب حقا ؟ فما أتاه أحد ، وأثنى الناس على وإليهم خيرا . ثم صلى العصر وجلس ، فردفه الناس ثم خرج راجعا إلى المدينة .
وبالإسناد أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، دخل في بعض حججه على نافع بن الحارث يعوده ، فوجده قريب عهد بعرس وفي بيته ستر من آدم مزيّن بسيور ، فأخذه عمر فشقه ، وقال : لم لا تستروا بيوتكم بهذه المسوح ؟ فهي أوفى وألين وأحمل للغبار .
وأذن له أبو محذورة بصوت شديد ، فقال : يا أبا محذورة ، أما خشيت أن تنشقّ مريطاؤك ؟ قال : إني أحببت أن أسمعك صوتي . ثم مرّ عمر بأبي سفيان بن حرب ، فرأى أحجارا قد بناها أبو سفيان كالدكان في وجه داره يجلس عليها بالغداة ، فقال عمر : لا ، أرجعنّ من وجهي هذا حتى تقلعه وترفعه . فلما رجع عمر وجده على حاله ، فقال : ألم أقل لك اقلعه ؟ قال : انتظرت أن يأتينا بعض أهل مهنتنا ، فقال : عزمت عليك لتقلعه بيدك ، وتنقله على عاتقك ، فلم يراجعه وفعل ذلك .
فقال عمر : الحمد للّه الذي أعزّ الإسلام رجل من عديّ يأمر أبا سفيان سيد بني عبد مناف بمكة فيطيعه .
وبالإسناد قال محمد بن سعد : حدثنا يزيد بن هارون ، ثنا يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيّب ، أن عمر لما أفاض من منى أناخ بالأبطح فكوّم كومة من بطحاء فطرح عليها طرف ثوبه ، ثم استلقى عليها ، ورفع يده إلى السماء وقال : اللهمّ كبرت سني ، وضعفت قوّتي ، وانتشرت رعيّتي ، فاقبضني إليك غير مضيّع ولا مفرّط . فلما قدم المدينة خطب الناس . قال سعيد : فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن رضي اللّه عنه وأرضاه .
ذكر حجج الخلفاء الأربع في زمان خلافتهم
أما أبو بكر الصدّيق رضي اللّه عنه ، فاستعمل على الناس في الحج عمر بن الخطاب سنة إحدى عشرة ، واعتمر في رجب ، وحجّ بالناس سنة اثنتي عشرة ، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان .
وأما عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، فاستعمل أول سنة وليّ على الحج عبد الرحمن بن عوف ، فحجّ بالناس ، ثم لم يزل عمر يحج بالناس في خلافته كلها ، فحجّ بهم عشر سنين ، وحجّ بأزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم في آخر حجة حجّها .
قال ابن عباس : حججت مع عمر إحدى عشرة حجة ، واعتمر في خلافته ثلاث مرات . وقالت عائشة رضي اللّه عنها :
لما كانت آخر حجة حجها عمر بأمهات المؤمنين مررت بالمحصّب ، فسمعت رجلا على
“ 128 “
راحلته يقول : أين كان عمر أمير المؤمنين ؟ وسمعت رجلا آخر يقول : هاهنا قد كان ، فأناخ راحلته ورفع عقيرته ، وقال :
عليك سلام من إمام وباركت * يد اللّه في ذاك الأديم الممزّق
فمن يسع أو يركب جناحيّ نعامة * ليدرك ما قدّم بالأمس يسبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها * بوائق في أكمامها لم تفتق
قالت عائشة : فلم ندر ذاك الراكب من هو ؟
فكنا نتحدث أنه من الجن ، قالت : فقدم عمر من تلك الحجة ، فطعن فمات .
وقد ذكرنا هذا الشعر في هذا الكتاب أكمل من هذا من حديث أحمد بن عبد اللّه .
وأما عثمان بن عفان رضي اللّه عنه
فإنه لما ولّي أمّر عبد الرحمن بن عوف على الحج سنة أربع وعشرين ، وحجّ عثمان سنة خمس وعشرين ، ثم لم يزل يحج إلى سنة أربع وثلاثين ، ثم حصر في داره ، وحجّ بالناس عبد اللّه بن عباس . قال ابن سيرين : وكان عثمان أعلم الناس بالمناسك ، وبعده ابن عمر .
وأما علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه
فحج كثيرا قبل ولايته الخلافة . وأما ولايته ، فإنه ولّي الخلافة أربع سنين وتسعة أشهر وأياما ، وكانت ولايته بعد انقضاء الحج في سنة خمس وثلاثين ، لأن عثمان قتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة من هذه السنة . وكانت وقعة الجمل سنة ست وثلاثين ، وحج بالناس أيضا عبد اللّه بن عباس . واشتغل علي رضي اللّه عنه بتلك الأمور ، فحج بالناس سنة ثمان وثمانين قثم بن عباس . ثم اصطلح الناس في سنة تسع وثلاثين على شيبة بن عثمان ، فأقام لهم الحج .
ثم قتل علي رضي اللّه عنه سنة أربعين .
ولنا في المحلات ، وهي ست آلات ، وإنما سمّيت محلات لأن من كانت معه حلّ حيث شاء :
إن المحلات ستّ فاسمعنّ لها * الزند والدلو والسكين والفأس
والقدر والزق لا تبغي بها عوضا * فحيث ما كنّ كان الناس والبأس
ولنا في أصناف المياه ونعوتها ، وأصناف الشرب :
“ 129 “
ماء فرات نقاخ سلسل شبم * سلاسل وزلال نشره عطر
تسري الحياة به في كل ذي شبح * النبت والحيوان الكلّ والبشر
وما سواه من الأمواه ليس له * هذي النعوت فما في نعته نكر
مثل الأجاج وماج مالح لغة * فريدة وشريب طعمه خصر
كذا الشروب وملح والزعاق له * على القعاع مقام ليس يستتر
أما النمير فنعت لا يخصّ به * صنف فذاك الذي ينمى به الشجر
فهذه خمسة من بعد عاشرة * من اللغات لها في نفسها سور
والنشج والنضج ثم النقع والبغر * ونغبة بعدها لفظ هو النجر
تفسيره : فالنشج والنضج هو الشرب دون الريّ . والنقع : الريّ . والبغر والنجر : أن يكثر الشرب فلا يروى . والنغبة : الجرعة من الماء . وكل ما تضمنه البيت الأول هو العذب الطيب ، والشبم : البارد . والسلسل والسلاسل : السهل الدخول في الحلق . والشريب :
الذي فيه شيء من العذوبة . والشروب : دونه ، وهو الذي يشرب عند الضرورة . والأجاج :
الماء المالح ، وهو أيضا : الماج ، والقعاع ، والزعاق : فيه مرارة .
ولنا في أسماء العطش :
الصدا والأوام ثم غليل * وو غيم ولوحة العطش
وكذاك الجواد مهلكة * فإذا ما ارتويت تنتعش
ولنا في أسماء الخيل في السباق :
قالوا المجلّى أول ثم المصلّى بعده * ثم المسلى والنال طرف رابع
والخامس المرتاح ثم عاطف سادسهم * ثم الخطى بعده وهو الجواد السابع
والثامن المؤمّل ثم اللطيم تاسع * سكبتهم عاشرهم أهلّة طوالع
فثكلهم آخرهم فلا يعدّ فيهم * أن المجلّى أوّل فتسعة توابع
المحفوظ عن العرب : السابق ، ثم المصلى ، والسكيب الذي هو العاشر ، والسابق هو الأول ، وهو المجلى والمبرز أيضا . وسائر ما ذكر من الأسماء ، فإن بعض الحفّاظ من أهل اللغة قال : أراها محدثة ، واللّه أعلم .
وروينا من حديث عمرو بن بحر الجاحظ قال : ثنا سنان بن الحسن التستري ، عن إسماعيل بن فهران العسكري ، عن أبان بن عثمان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، قال : لما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يعرض نفسه على القبائل ، خرج وأنا معه ، وأبو بكر ، وكان أبو بكر عالما بأنساب العرب ، فوقفنا على
“ 130 “
مجلس من مجالس العرب عليهم الوقار والسكينة ، فتقدم أبو بكر ، فسلّم عليهم ، فردّوا عليه السلام ، فقال : ممن القوم ؟ فقالوا : من ربيعة . قال : أمن هاماتها أم من لهازمها ؟
قالوا : بل من هاماتها العظمى . قال : وأيّ هاماتها ؟ قالوا : ذهل . قال : أذهل الأكبر أم ذهل الأصغر ؟ قالوا : بل الأكبر . قال : أفمنكم عوف الذي كان يقال : لا حرّ بوادي عوف ؟
قالوا : لا . قال : أفمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء ومنتمي الأخيّاء ؟ قالوا : لا . قال :
أفمنكم جساس بن مرّة حامي الزمار ومانع الجار ؟ قالوا : لا . قال : أفمنكم المزدلف صاحب الغمام ؟ قالوا : لا . قال : أفأنتم أخوال الملوك من كندة ؟
قالوا : لا . قال : أفأنتم أصهار الملوك من لخم ؟ قالوا : لا . قال : فلستم من ذهل الأكبر ، إذ أنتم من ذهل الأصغر .
فقام إليه أعرابي غلام حين بقل وجهه ، فأخذ بزمام ناقته ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واقف على ناقته يسمع مخاطبته ، فقال لنا : على من سألنا أن نسأله ، والعبء لا تعرفه أو تحمله . يا هذا ، إنك سألتنا أي مسألة شئت فلم نكتمك ، فأخبرنا من أنت ؟ قال أبو بكر : من قريش .
قال : بخ بخ ، أهل الشرف والرئاسة ، فأخبرني من أي قريش أنت ؟
قال : من بني تميم بن مرّة . قال : أمنكم قصيّ بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر ، فكان يقال له مجمعا ؟ قال أبو بكر : لا . قال : أفمنكم هاشم الذي يقول فيه الشاعر :
عمرو الذي هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف
قال أبو بكر : لا . قال : أفمنكم شيبة الحمد ، الذي كان وجهه يضيء في الليلة الظلماء الداجية مطعم الطير ؟ قال : لا . قال : أفمن المفيضين بالبأس أنت ؟ قال : لا . قال :
أفمن أهل الرفادة أنت ؟ قال : لا . قال : أفمن أهل السقاية أنت ؟ قال : لا . قال : أفمن أهل الحجابة أنت ؟ قال : لا . قال : أما واللّه لو شئت لأخبرتك أنك لست من أشراف قريش .
فاجتذب أبو بكر زمام ناقته منه كهيئة المغضب ،
فقال الأعرابي :
صادف درء السيل درء يدفعه * يرفعه طورا وطورا يضعه
فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . قال علي : فقلت : يا أبا بكر ، لقد وقعت من هذا الأعرابي على باقعة . قال : أجل يا أبا الحسن ، ما من طامّة إلا وفوقها طامّة ، وإن البلاء موكل بالمنطق .
سأل عليّ بن أبي طالب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما أفضل الصلاة ؟ قال : « ما حضرت فيها القلوب ، وذرفت فيها العيون ، وخلصت فيها النيّات ، وفاضت فيها العبرات » .
وبكى الحسن البشري يوما في حلقته ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : لأني أرى قوما قد أمروا بالزاد ، ونودي فيهم بالرحيل ، وحبس أولهم على آخرهم وهم قعود يلعبون .
“ 131 “
وأنشدني محمد بن عبد الواحد لبعضهم :
قالوا تقدّم فقلت الخوف أخّرني * وقبح فعلي وزلّاتي ومجترمي
بأيّ وجه إذا ما جئت أرفعه * وقد تمرّنت بالتوبيخ والندم
وكيف أنقل أقداما عصيت بها * إلى محل العلا في القدس والعظم
إلى الذي جاد بالإحسان مبتدئا * ومنّ بالفضل والآلاء والنّعم
وكلّ جارحة لي غير طاهرة * لا ماء وجهي ولا جسمي ولا قدمي
قالوا فدونك من أبواب رحمته * ومنتهى العفو والإحسان والكرم
فقلت وجهي من الزلّات محتشم * ولست أملك وجها غير محتشم
وقال بعض الأولياء :
الفكرة نور ، والغفلة ظلمة ، والجهالة ضلالة ، والسعيد من وعظ بغيره .
شعر
إني لأذكر مولاي وأشكره * في كل وقت وفي داج من الظلم
فكم له نعمة في كل جارحة * ضاقت لكثرتها عن شكرها هممي
فرض على كل عبد شكر خالقه * فيما أفاض من الأنعام والكرم
أوحى اللّه إلى داود عليه السلام : يا داود ، اعرفني واعرف قدر نفسك .
ففكّر ساعة ، ثم قال : إلهي عرفتك بالأحدية ، والقدرة ، والبقاء ، وعرفت نفسي بالعجز ، والضعف ، والفناء .
قال السريّ : اطلب حياة قلبك بمجالسة أهل الذكر ، واستجلب نور القلب بدوام الحزن ، والتمس تعجيل الانتقال ، وإياك والتسويف ، ونافس الأبرار في إقامة الفرض ، ونافس المقربين في إخلاص النوافل ، واترك فضول الحلال ، واطلب حلاوة المناجاة بفراغ القلب ، واستجلب زيادة النّعم بعظيم الشكر ، وأكثر من الحسنات الحديثات للسيئات القديمات ، واستبق الحسنات بترك التبعات ، وسارع في الخيرات ، واحذر ما يوجب العقوبات .
وروينا من حديث ابن ودعان ، قال : أخبرنا أبو نصر أحمد بن الخليل ، عن علي بن أبي القاسم ، عن عبد اللّه بن جعفر ، عن محمد بن الحسن العبدي ، عن أبيه ، قال : حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد وثابت جميعا ، عن أنس بن
“ 132 “
مالك ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط اللّه ، وأن تحمدهم على رزق اللّه ، وأن تذمّهم على ما لم يؤتك اللّه إن رزق اللّه لا يحدّه حرص حريص ، ولا يرده كراهة كاره ، وإن اللّه تبارك وتعالى بحكمته جعل الروح والفرح في الرضا واليقين ، وجعل الهمّ والحزن في الشك والسخط ، إنك لن تدع شيئا تقرّبا إلى اللّه إلا أجزل لك الثواب عليه . فاجعل همّتك وسعيك لآخرة لا ينفذ فيها ثواب المرضي عنه ، ولا ينقطع فيها عقاب المسخوط عليه » .
وروينا من حديث الخطابي ، قال : حدثنا ابن داسة ، حدثنا أبو داود ، ثنا عمرو بن مروان ، قال : أخبرنا شعبة ، عن الأشعث بن سليمان ، عن أبي بردة ، عن ثعلبة بن ضبيعة ، قال : دخلنا على حذيفة قال : إني لا أعرف رجلا لا تضرّه الفتن شيئا . قال : فخرجنا فإذا فسطاط مضروب ، فدخلنا فإذا فيه محمد بن مسلمة ، فسألناه عن ذلك فقال : ما أريد أن أستمل على شيء من أمصارهم حتى تنجلي عما انجلت .
روينا من حديث ابن الخطاب ، قال : حدثنا ابن الأعرابي ، عن أبي سعيد ، عن يحيى بن سعيد القطّان ، عن محمد بن مهران بن مسلم بن المثنى ، قال : أخبرني مسلم ، قال : كنا مع عبد اللّه بن الزبير ، والحجاج محاصره ، فكان ابن عمر يصلي مع ابن الزبير ، فإذا فاتته الصلاة معه ، وسمع مؤذن الحجاج ، انطلق فصلى معه ، فقيل له : تصلي مع ابن الزبير ومع الحجاج ؟ قال : إذا دعونا إلى اللّه أجبناهم ، وإذا دعونا إلى السلطان تركناهم .
وكان ينهى ابن الزبير عن طلب الخلافة والتعرض لها . ا هـ
المجلس .
خبر الضبّ الذي آمن برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
روينا من حديث أبي نعيم ، عن سليمان بن أحمد إملاء وقراءة ، عن محمد بن علي بن الوليد السلمي البصري من كتابه ، عن محمد بن الأعلى الصنعاني ، عن معتمر بن سليمان ، عن كهمس بن الحسن ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر الشعبي ، عن عبد اللّه بن عمر ، عن أبيه رضي اللّه عنه ، قال : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان في محفل من أصحابه ، إذ جاء أعرابي من بني سليم قد أصاب ضبّا ، وجعله في كمه ليذهب به إلى رحله ليأكله ،
فقال : علي من هذه الجماعة ؟
فقالوا : على هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي . فشقّ الناس ، ثم أقبل على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، ما اشتملت النساء على ذي لهجة أكذب منك ، ولا أبغض لك مني ، ولولا أن يسمّوني قومي عجولا ، لعجلت عليك فقتلتك ، فسررت بقتلك الناس جميعا . قال عمر بن الخطاب : يا رسول اللّه ، دعني أقتله .
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يا عمر ،
“ 133 “
أما علمت أن الحليم كاد أن يكون نبيا ؟ » ، ثم أقبل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : واللات والعزّى لا آمنت بك . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يا أعرابي ، ما حملك على الذي قلت ، وما قلت وقلت غير الحق ، ولم تكرم مجلسي ؟ » ، فقال : وتكلمني أيضا ، استخفافا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، واللات والعزّى لا آمنت بك أو يؤمن بك هذا الضبّ ، فأخرج الضب من كمّه وطرحه بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقال : إن آمن بك هذا الضب آمنت بك . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يا ضبّ ، تكلم بإذن اللّه » ، فتكلم الضب بلسان عربي مبين ، يفهمه القوم جميعا :
لبيك وسعديك يا رسول رب العالمين . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يا ضب ، من تعبد ؟ » ، قال :
الذي في السماء عرشه ، وفي الأرض سلطانه ، وفي البحر سبيله ، وفي الجنة رحمته ، وفي النار عذابه . قال : « فمن أنا يا ضب ؟ » ، قال : أنت رسول رب العالمين ، وخاتم النبيين ، قد أفلح من صدّقك ، وقد خاب من كذّبك . فقال الأعرابي : أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأشهد أنك رسول اللّه حقا . واللّه لقد أتيتك وما على وجه الأرض أحد أبغض إليّ منك ، واللّه لأنت الساعة أحبّ إليّ من نفسي ، ومن ولدي ، وقد آمنت بك بشعري ، وبشري ، وداخلي ، وخارجي ، وسرّي ، وعلانيتي . فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : « الحمد للّه الذي هداك إلى هذا الدين الذي يعلو ولا يعلى عليه ، لا يقبله اللّه إلا بصلاة ، ولا يقبل الصلاة إلا بقرآن » . فعلّمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الفاتحة والإخلاص . وقال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما سمعت في البسيط ولا في الرجز أحسن من هذا . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن هذا كلام رب العالمين ، وليس بشعر ، فإذا قرأت : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فكأنما قرأت ثلث القرآن ، وإذا قرأتها مرتين ، فكأنما قرأت ثلثي القرآن ، وإذا قرأتها ثلاث مرات ، فكأنما قرأت القرآن كله » . فقال الأعرابي : نعم الإله إلهنا ، يقبل اليسير ، ويعطي الجزيل . ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أعطوا الأعرابي » ، فأعطوه حتى أبطروه . فقام عبد الرحمن بن عوف ، فقال : يا رسول اللّه ، إني أريد أن أعطيه ناقة أقرّب بها إلى اللّه دون البختي وفوق العرابي ، وهي عشراء تلحق ولا تلحق ، أهديت إليّ يوم تبوك . فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " قد وصفت ما تعطي ، فأصف لك ما يعطيك اللّه جزاء " .
قال : نعم . قال : « لك ناقة من درّة جوفاء ، قوائمها من زبرجد أخضر ، وعنقها من زبرجد أصفر ، عليها هودج وعلى الهودج السندس والإستبرق، تمرّ بك إلى الصراط كالبرق الخاطف ".
فخرج الأعرابي من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلقيه ألف أعرابي على ألف دابة وألف رمح وألف سيف ، فقال لهم : أين تريدون ؟ فقالوا : نقاتل هذا الذي يكذب ويزعم أنه نبي . فقال الأعرابي : إني أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمدا رسول اللّه . فقالوا له : صبوت . فقال :
صبوت ، وحدّثهم الحديث . فقالوا بأجمعهم : نشهد أن لا إله إلا اللّه ، ونشهد أن محمدا
“ 134 “
رسول اللّه . فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فتلقّاهم بلا رداء ، فنزلوا على ركبهم يقبّلون يديه ، وما ولّوا منه إلا وهم يقولون : لا إله إلا اللّه ، محمد رسول اللّه .
فقالوا : مرنا بأمر تحبه يا رسول اللّه . قال : « تكونون تحت راية خالد بن الوليد » .
قال : فليس أحد من العرب آمن منهم ألف رجل إلا هؤلاء من بني سليم .
دلالات التائبين
روينا من حديث ابن مروان ، عن عبد الرحمن بن مرزوق ، عن عبد اللّه بن أبي بكر السهميّ ، قال : قال بعض العبّاد : علامة التوبة الخروج من الجهل ، والندم على الذنب ، والتجافي عن الشهوات ، واعتقاد مقت نفسك المسئولة ، وإخراج المظلمة ، وإصلاح الكسرة والشهوة ، وترك الكذب ، وقطع الغيبة ، والانتهاء عن أخدان السوء ، والاشتغال لما عليك ، والاستعداد بما تنقلب إليه ، والبكاء على ما سلف من عمرك ، وترك ما لا يعنيك ، والخوف من ساعة تأتيك فيها رسل ربك لقبض روحك ، والتفجّع والحزن من ليلة تبيت في قبرك وحدك بين أطباق الثرى إلى يوم المعاد .
ومما قيل في الحنين إلى الأوطان للشريف الرضيّ :
لا يذكر الرمل إلا حنّ مغترب * له بذي الرمل أوطار وأوطان
تهفو إلى البان من قلبي نوازعه * وما بي البان بل من داره البان
أسدّ سمعي إذا غنّى الحمام به * أن لا يهيج سرّ الوجد إعلان
وربّ دار أولّيها مجانبة * ولي إلى الدار أطراب وأشجان
إذا تلفت في أطلالها ابتدرت * للعين والقلب أمواه ونيران
ومن قول الشريف الرضيّ في الاشتياق :
خذي نفسي يا ريح من جانب الحمى * فلاقي بها ليلا نسيم ربا نجد
فإنّ بذاك الحيّ حيّا عهدته * وبالرغم مني أن يطول به عهدي
ولولا تداوي القلب من ألم الهوى * بذكر تلاقينا قضيت من الوجد
ويا صاحبيّ اليوم عوجا لتسألا * ركيبا من الغورين أينقهم تحدي
عن الحيّ بالجرعاء جرعاء مالك * هل ارتبعوا واخضرّ واديهم بعدي
شممت بنجد شيمة حاجريّة * فأمطرتها دمعي وأفرشتها خدّي
ذكرت بهاويّا الحبيب على النوى * وهيهات ذا يا بعد بينهما عندي
وإني لمجلوب لي الشوق كلما * تنفس شاك ، أو تألم ذو وجد
“ 135 “
تعرّض رسل الشوق والركب جاهد * فأيقظني من بين نوّامهم وحدي
فما شرب العشاق إلا بقيّتي * ولا وردوا في الحبّ إلا على وردي
قال بعض العارفين : إن كانت الحاجة إلى الناس فالكسب أولى ، ومن لم ير غير اللّه ، ولم يخطر له الناس ببال ، ففي أي مقام أقيم فهو ذاك وهو حال عزيز .
قال بعض الحكماء : بذل الحيلة في طلب الحلال . وقلة الحوائج إلى الناس أفضل العبادة .
رويناه من حديث ابن مروان عن عباس بن محمد بن الجمحي ، عن محمد بن سلام .
ومن الأمثال في السعي على العيال ما رويناه من حديث المالكي ، عن علي بن الحسن ، عن أبيه ، قال : قال لي البناجي : قال بعض العبّاد : إن مثل الرجل لولده ولعياله مثل الدخنة الطيبة تحترق ويلتذ بطيب رائحتها آخرون .
ومن أحوال الدنيا ما رويناه من حديث الدينوري ، عن أحمد بن الحسن ، عن سعيد الجرمي ، قال : قال ابن السماك لجعفر بن يحيى : إن اللّه عز وجل ملأ الدنيا باللّذات ، وحشاها بالآفات ، فمزج حلالها بالموبقات ، وحرامها بالتبعات .
حكمة علوية
أحسن الدنيا ، أقبحها عند من يبصرها ، يعني بعين عقله ، وذلك أنها تشغل عما هو أحسن منها ، يعني الآخرة ، واكتساب الخلق الفاضلة . رويناه من حديث أحمد بن مروان بن إبراهيم ، عن نصر ، عن محمد بن سلام ، عن بعض الحكماء .
ومن باب حنين الإبل وسيرها ، قول أبي منصور بن الفضل المؤدب :
تزاورن من أذرعات يمينا * نواشز ليس يطعن البرينا
كلفن بنجد كأن الرياض * أخذن لنجد عليها يمينا
وأقسمن يحملن إلا بخيلا * إليه ويبلغن الآخرينا
ولما استمعن زفير المشوق * ونوح الحمام تركن الحنينا
إذا جئتما بآنة الواديين * فأرخوا النسوع وخلّوا الوضينا
وقال أيضا في هذا الباب :
لأي مرمى تزجر الأيانقا * إن جاوزت نجدا فلست عاشقا
“ 136 “
وإنما كان بكائي حاديا * ركب الغرام وزفيري سائقا
ومن هذا الباب لأبي جعفر البياضي :
نوق تراها كالسّفين * إذا رأيت الآل بحرا
كتب النحر بدمائها * في مهرق البيداء سطرا
فكأن أرجلهن تطلب * عند أيديهنّ وترا
يحملن من أهل الهوى * شعثا على الأكوار غبرا
لاح الهجير وجوههم * فأحال منها البيض سمرا
ولابن الخفاجي من هذا الباب :
امتيحها فضل الأزمة شمّر * فمع النسيم تحية من عرعر
يا بانتي أضم ومن دين الهوى * بثّ السؤال لكل من لم يخبر
أعلمتما قلبي أقام مكانه * أم سار في طلب الصباح المسفر
وله أيضا :
دعوها نناضل بالأذرع * فأين العواصم من لعلع
وقودوا أزمتها بالحنين * فلولا الصبابة لم تتبع
وروينا عن الإمام أبي الفرج بن الجوزيّ الحافظ كتابة لنفسه في هذا الباب :
وحرمة شعث على كل نضر * براهنّ من ألم ما براني
إذا ذكرتها حداة الهوى * قطعن البر أقطع وجدي عنان
تطايرن والشوق يدني مني * وكل المنى عند ذاك المكان
فلما علون فويق الكثيب * تراءين ذاك البريق اليماني
وله أيضا من قصيدة في هذا الباب :
لا وشعث فارقوا أوطانهم * يستلينون الطريق الأوعرا
كلما غنّى بهم حاديهم * أخذت عيسهم تغري البرا
أعسفت في سيرها إذ طربت * أمنى ذكّرها والأجفرا
وافقت من حملت في شوفهم * فتناست بالهوى طول السّرى
خبر فيميون وعبادته وما جرى له
روينا من حديث ابن إسحاق ، عن المغيرة بن أبي لبيد مولى الأحنف ، عن وهب بن
“ 137 “
منبّه اليماني أنه حدّثهم ، أن موقع دين النصرانية بنجران ، أن رجلا من بقايا أهل دين عيسى ابن مريم عليه السلام ، يقال له فيميون ، وكان صالحا زاهدا مجتهدا ورعا ، مجاب الدعوة ، سائحا نائحا ينزل القرى ، لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية ، لا يعرف بها .
وكان لا يأكل إلا من كسب يده ، وكان بنّاء يعمل الطين ، وكان يعظّم الأحد إذا كان يوم الأحد ، لا يعمل فيه شيئا ، وخرج إلى فلاة من الأرض فصلّى فيها حتى يمسي .
قال : وكان في قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفيا ، ففطن بشأنه رجل من أهلها يقال له صالح ، فأحبّه صالح حبا لم يحبه شيئا كان قبله ، فكان يتبعه حيث ذهب ، ولا يفطن له فيميون ، حتى خرج مرة يوم الأحد إلى فلاة في الأرض ، كما كان يصنع ، وقد تبعه صالح ، وفيميون لا يدري به ، فجلس صالح منه منظر العين مستخفيا منه لا يحب أن يعلم بمكانه .
وقام فيميون يصلي ، فبينا هو يصلي إذ أقبل نحوه التنين : الحية ذات الرؤوس السبعة ، فلما رآها فيميون دعا عليها فماتت ، ورآها صالح ولم يدر ما أصابها فخافها عليه ، فعيل عوله ، فصرخ : يا فيميون ، التنين قد أقبل نحوك ، فلم يلتفت إليه ، وأقبل على صلاته حتى فرغ منها وأمسى ، فانصرف وعرف أنه قد عرف ، وعرف صالح أنه قد رأى مكانه ، فقال له : يا فيميون ، تعلم واللّه أني ما أحببت شيئا قط حبك ، وقد أردت صحبتك ، والكينونة معك حيث كنت .
قال : ما شئت أمري كما ترى ، فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم ، فلزمه صالح . وقد كاد أهل القرية يفطنون لشأنه ، وكان إذا ناجاه العبد به الضرّ دعا له فشفي ، وإذا دعا لأحد به ضرّ لم يأته .
وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير ، فسأل عن شأن فيميون ، فقيل له : إنه لا يأتي أحدا دعاه ، ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجرة .
فعمد الرجل إلى ابنه ذلك ، فوضعه في حجرته ، وألقى عليه ثوبا ، ثم جاءه فقال : يا فيميون ، إني قد أردت أن أعمل في بيتي عملا ، فانطلق معي حتى تنظر إليه فأشارطك عليه . فانطلق معه حتى دخل حجرته ، ثم قال له : ما تريد أن تعمل في بيتك هذا ؟ قال : كذا وكذا ، ثم كشط الثوب عن الصبي ، وقال : يا فيميون ، عبد من عباد اللّه أصابه ما ترى ، فادع اللّه له ، فدعا له فيميون ، فقام الصبي ليس به بأس ، وعرف فيميون أنه قد عرف . فخرج من القرية ، واتبعه صالح ، فبينما هو يمشي في بعض أرض الشام ، إذ مرّ بشجرة عظيمة ، فناداه منها رجل ، فقال : أفيميون ؟ قال : نعم .
قال : ما زلت أنظر وأقول متى هو جاء ؟ حتى سمعت صوتك ، فعرفت أنك هو ، لا
“ 138 “
تبرح حتى تقوم عليّ ، فإني ميت الآن . فمات وقام عليه حتى واراه .
ثم انصرف وتبعه صالح حتى وطئا بعض أرض العرب ، فعدّوا عليها ، فاختطفتهما سيارة من بعض لعرب ، فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران . وأهل نجران يومئذ على دين العرب ، يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم ، لها عيد كل سنة ، إذا كان ذلك العيد ، علّقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه ، وحلّي النساء ، ثم خرجوا إليها ، فعكفوا عليها يوما . فابتاع فيميون رجل من أشرافهم . وابتاع صالحا آخر .
فكان فيميون إذا قام من الليل في بيته يصلي ، أسرج له البيت نورا حتى يصبح من غير مصباح ، فرأى ذلك سيده ، فأعجبه ما رأى منه ، فسأله عن دينه فأخبره ، وقال له فيميون : إنما أنتم في باطل ، إن هذه النخلة لا تضرّ ولا تنفع ، فلو دعوت عليها إلهي الذي أعبد أهلكها ، وهو اللّه وحده لا شريك له . فقال له سيده : فافعل ، فإنك إن فعلت دخلنا في دينك ، وتركنا ما نحن عليه . قال : فقام فيميون ، فتطهّر وصلى ركعتين ،
ثم دعا اللّه عز وجل عليها ، فأرسل ريحا ، فجعفتها من أصلها فألقتها . فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه ، فحملهم على الشريعة من دين عيسى ابن مريم عليه السلام . قوله : فجعفتها قلعتها ، وقوله : عيل عوله ، يقال : عال الأمر إذا أثقل .
وعليه قول الفرزدق :
ترى الغرّ الجحاجح من قريش * إذا ما الأمر في الحدثان عالا
فمعنى عيل عوله أي غلب غلبة ، وقهرت شدته وجلده .
ومن وقائع بعض أصحاب شيخنا أبي مدين شعيب بن الحسن رضي اللّه عنه ما حدثنا به أبو محمد عبد اللّه ابن الأستاذ صاحبنا ، وهو من سادات القوم ، قال بعض المريدين :
رأيت في واقعتي الشيخ أبا مدين ، والشيوخ قد أحدقوا به يسألونه عن المعرفة ، فقال لهم :
إذا تلاشت المعرفة بالمعروف صحّت المعرفة ، ثم قالوا له : صف لنا سرّك ،
فقال لهم :اسمعوا ولنفسي أسمع :
يا سرّ سرّي وجهر جهري * يا نور نوري وحياة أمري
يا قلب قلبي وبحر فكري * ومن به الفلك في البحر يجري
فأنت تكسو * وأنت تعري
قال عبد اللّه صاحب الواقعة : ثم أصابتني في واقعتي شبه السنّة ، فرأيت أبا مدين والأشياخ كما كانوا ، فقالوا له : زدنا ، فقال لهم : إنكم تحسبون أني أغيبه ، ثم سكت ، فإذا جملة من الديكة مجتمعون فتطاول واحد منهم وهو يبكي بحنين وتطويل ، فقال له أبو مدين : قل ، فنطق بلسان فصيح : إنكم تحسبون أني أغيبه ، المطبوع في البيت هو فيه ،
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin