13ــ العهد الثالث: المسارعة في الخيرات(5)
مقتطفات من كتاب العهود المحمدية للشعراني
مقدمة الدرس:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فما زال حديثنا عن العهد الثالث في المسارعة في الخيرات، وقد حرَّضنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم على ذلك بقوله: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
سارع في الخيرات وفي القربات، لأنَّ الله تعالى أخفى علينا ساعة نهاية الأجل، وإذا جاءت النهاية فقد يندم الإنسان ولا ينفعه الندم.
فأسرع في فعل الخيرات، وكن قدوة صالحة لغيرك، وإذا ابتليت بفعل المعصية فاستتر، حتى لا تكون قدوة سيئة لغيرك، بعد ذلك:
يقول الإمام سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى في العهد الثالث:
(وسمعت سيدي علياً الخوَّاص رضي الله عنه يقول: لا ينبغي إظهار الأعمال إلا للأكابر من العلماء والصالحين الغوَّاصين على دسائسِ النفوس، وأما أمثالنا فربما يُظْهِرُ الواحدُ منا أعمالَه رياءً وسمعة، وتلبِّس عليه نفسه، وتقول له: أنت بحمد الله من المخلِصين، وإنَّما تُظْهِرُ هذه العبادة ليقتدي بك الناس.
فينبغي لمثل هذا أن يمتحن نفسه بما لو جاء أحد يفعل ذلك الخير، وتنقادُ الناس له مثله أو أكثر منه، فإن انشرح لذلك فهو مخلصٌ، وإن انقبض خاطره فهو مُراء دقَّ المطرقة، ولو أنَّه كان مُخلصاً لَفَرِحَ بذلك أشدَّ الفرح الذي قيَّض الله تعالى له من كفاه المؤونة [أي كفاه مشقَّة تعليم هؤلاء]).
أقول أيها الإخوة الكرام:
ليس الشأن أن تأتي بالطاعة، ولكنَّ الشأن أن تكون مخلصاً فيها، لأنَّ الطاعات بدون إخلاص تُضرب في وجه صاحبها، وذلك لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة}. ولقوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.
فالطاعة بدون إخلاص لا تنفع، وقد علمنا بأنَّ أول من تسعَّر فيهم النار يوم القيامة عالم ومنفق ومجاهد، لأنهم فقدوا الإخلاص في أعمالهم.
ومن هذا المنطلق ضرب لنا سيدي الشعراني رحمه الله مثلاً في اختبار النفس هل عندها الإخلاص أم لا؟ وذلك من خلال إقبال الناس على العبادة أو إدبارهم.
النفس ذكرها مولانا عز وجل في القرآن العظيم بقوله: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيم}. والنفس الأمَّارة هي التي تميل إلى الطبيعة البدنية، وتأمر باللذات والشهوات الحسية، وتجذب القلب إلى الجهة السفلية، فهي مأوى الشرور، ومنبع الأخلاق الذميمة.
هذه النفس التي أُمرنا بمجاهدتها، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد والترمذي عن فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).
وصية الأكابر للأكابر:
أيها الإخوة الأحبة: ما دامت النفس أمَّارة بالسوء، ولا تخرج عن طبيعتها إلا بالموت، ولكنها تختلف من شخص لآخر من حيث قوتها وتأثيرها على القلب، فلا بدَّ من التناصح مهما كانت مرتبة الإنسان، وهذا ما عرفناه من حياة الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
هذا سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوصي سيدنا عمر رضي الله عنه حين استخلفه: (إنَّ أوَّل ما أحذِّرك: نَفْسَكَ التي بين جنبيك).
وما أجمل هذه الوصية بشكل عام، ولكن بشكل خاص لكلِّ مسؤول، مهما كانت دائرة مسؤوليته، ضيقة أم واسعة، لأن المسؤولية والإمارة أولها ملامة وأوسطها ندامة، وآخرها عذاب يوم القيامة، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلا أَتَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَغْلُولاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَكَّهُ بِرُّهُ، أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ، أَوَّلُهَا مَلامَةٌ، وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ، وَآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
إن كانت الوصية والنصيحة مطلوبة من الكلِّ للكلِّ، فهي لأهل المسؤولية والإمارة من باب أولى، لأنَّ الإمارة نعمت المرضعة وبئست الفاطمة، وربما أن يسكر الإنسان عندما يكون أميراً، وينسى طبيعة نفسه الأمارة بالسوء، فإن لم يكن مراقباً لها، وعلى حذر منها فإنها تهلكه، والعياذ بالله تعالى.
فالصدِّيق رضي الله عنه يحذِّر الفاروق نفسَه عندما استخلفه، مع أن الفاروق قال فيه الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ) رواه البخاري ومسلم. وقال فيه: (إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ) رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه.
إذا كان هذا حال الشيخين من الصحابة رضي الله عنهم، فكيف بحال الناس اليوم؟ ووصية الصديق للفاروق رضي الله عنه هي من باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا}. هذا، والله تعالى أعلم.
وصية الفاروق رضي الله عنه للأمة:
أيها الإخوة الأحبة: الخير يبقى في الأمة ما دام السلف يوصي الخلف، والخلف لمن بعده، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، عندما أوصى الصدِّيق الفاروق بتلك الوصية، فهذا الفاروق رضي الله عنه يوصي الأمة كلها بقوله: (حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا) رواه الترمذي.
وما كانت وصية الفاروق للأمة إلا بعد الالتزام بها، حتى لا يقع تحت قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُون}.
يروي الإمام مالك رحمه الله تعالى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: (سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا، فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ جِدَارٌ وَهُوَ فِي جَوْفِ الْحَائِطِ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، بَخٍ بَخٍ، وَاللَّهِ لَتَتَّقِيَنَّ اللَّهَ أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ).
هكذا يجب على العبد المؤمن أن يحاسب نفسه مهما كان وقَّافاً عند حدود الله عز وجل، لقد كان الفاروق وقَّافاً عند حدود الله تعالى ولا يتعداها، حتى في مسائل ربما أن لا تخطر ببال الكثير من الناس.
روى مالك عن عبد الملك بن قريب عن محمد بن سيرين أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية، فأصبنا ظبياً ونحن محرمان، فماذا ترى؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت، فحكما علي بعنز، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلاً يحكم معه، فسمع عمر بن الخطاب قول الرجل فدعاه فسأله: هل تقرأ سورة المائدة؟ فقال: لا، قال: هل تعرف الرجل الذي حكم معي؟ فقال: لا. فقال عمر رضي الله عنه: لو أخبرتني أنَّك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضرباً، ثم قال: سبحانه يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وهذا عبد الرحمن بن عوف.
بل كان الفاروق رضي الله عنه ممكِّناً الأمة من النصح له، والكلُّ يعرف قصة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها، رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِهَا فِي خِلافَتِهِ، وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَاسْتَوْقَفَتْهُ زَمَنًا طَوِيلاً وَوَعَظَتْهُ، وَقَالَتْ: يَا عُمَرُ قَدْ كُنْت تُدْعَى عُمَيْرًا، ثُمَّ قِيلَ لَك عُمَرُ، ثُمَّ قِيلَ لَك أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا عُمَرُ، فَإِنَّهُ مَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ خَافَ الْفَوْتَ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ خَافَ الْعَذَابَ، وَهُوَ وَاقِفٌ يَسْمَعُ كَلامَهَا.
فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَقِفُ لِهَذِهِ الْعَجُوزِ هَذَا الْمَوْقِفَ؟ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَوْ حَبَسَتْنِي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ لا زُلْت إلا لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، أَتَدْرُونَ مَنْ هَذِهِ الْعَجُوزُ؟ هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ، سَمِعَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ، أَيَسْمَعُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَوْلَهَا وَلا يَسْمَعُهُ عُمَرُ؟
من وصايا السلف رضي الله عنهم:
أيها الإخوة الكرام: لقد كان سلف الأمة حريصين كلَّ الحرص على التدقيق على النفس الأمارة، وعلى الوصية لمن بعدهم بذلك:
فهذا سيدنا عمار رضي الله عنه يقول: ( ثلاث من جمعهنَّ جَمَعَ الإيمان: الإنصافُ من نفسه، والإنفاقُ من الإقتار، وبذلُ السَّلام للعالِم).
ويقول سفيان الثوري رحمه الله تعالى: (ما عالجتُ شيئاً أشدَّ عليَّ من نفسي، مرَّةً لي ومرَّةً عليَّ).
وكان أبو العبَّاس الموصليِّ، يقول لنفسه: (يا نفس، لا في الدُّنيا مع أبناء الملوك تتنعَّمين، ولا في طلب الآخرة مع العُبَّاد تجتهدين، كأنِّي بك بين الجنَّة والنَّار تُحْبَسِين، يا نفسُ ألا تَسْتَحيين).
وقال ابن القيِّم رحمه الله تعالى: (لا يسيءُ الظَّنَّ بنفسه إلا من عرفها، ومن أَحْسَنَ الظَّنَّ بنفسه فهو من أجهل النَّاس بنفسه).
و قال الغزاليُّ رحمه اللُّه: (إنَّ النَّفس عدوٌّ منازع، يجب علينا مجاهدتها).
وقال الشاعر:
يا مَـن يُجـاهِدُ غـازياً أعـداءَ *** دين اللّه يرجو أن يُعَانَ ويُنْصَرا
هلَّا غَشِيْتَ النَّفسَ غَزْواً إنَّها *** أَعْدَى عَدُوِّكَ كَي تَفُوزَ وتَظْفَرا
مَهْمَا عَنَيْتَ جِهَادَهَا وعِنَادَهَا *** فَلَقَدْ تَعَاْطَيْتَ الجِهَادَ الأَكْـبَرا
وقيل: (للّه درُّ من يقول: كلَّما عَظُمَ المطلوب في قلبك، صَغُرَت نَفْسُكَ عندك، وتضاءلت القيمةُ الَّتي تَبْذُلها في تحصيله، وكُلَّما شَهِدْتَ حقيقةَ الرُّبوبيَّة وحقيقة العبوديَّة، وعرفت الله وعرفت النَّفس، وتبيَّن لك أنَّ ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحقِّ، ولو جئت بعمل الثَّقلين خَشِيْتَ عَاْقِبَتَهُ، وإنِّما يَقْبَلْهُ بِكَرَمِهِ وَجُودِهِ وَتَفَضُّلِهِ، ويُثِيبُك عليه أيضاً بِكَرَمِهِ وَجُودِهِ وتفضُّله).
وقال يحيى بن معاذ الرَّازي: (أعداءُ الإنسان ثلاثة: دُنياه، وشَيطانه، ونَفسه، فاحترس من الدّنيا بالزّهد فيها، ومن الشّيطان بمخالفته، ومن النّفس بترك الشّهوات).
وصية سيدي ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى:
يقول سيدي ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: (حظُّ النفس في المعصية ظاهرٌ جلي، وحظُّها في الطاعة باطنٌ خفي، ومداواة ما يخفى صعب علاجه).
أيُّ معصية ظاهرة تترك آثارها في المجتمع وفي نفس العاصي، أما العاصي فيشعر باللذة الآتية، أما المجتمع فتترك المعاصي آثارها على الضارة على صعيد المجتمع، وهذا ما نشاهده من آثار الفساد.
وهذه الآثار الضارة تدفع المجتمع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإنكار على العاصي حتى يتوب إلى الله تعالى، وهذا من رحمة الله تعالى بالعبد العاصي، حيث يكون المجتمع رادعاً له، والإنسان الشهم الكريم يهتمُّ بسمعته، ويعتدُّ بكرامته.
أما المشكلة الكبرى ففي المعصية الباطنة التي تعتري بعض أهل الطاعات، حيث يرى نفسه موفَّقاً لفعل الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والانضباطِ بضوابط الشريعة، فلا يأكل الربا، ولا يشرب الخمر، ولا يأكل أموال الناس بالباطل، ويقول الحق ويأتيه، وينهى عن الباطل ويجتنبه، فإذا بنفسه الأمارة بالسوء تدخل عليه بالعجب والغرور، ويرى نفسه أنه فوق الناس، وإذا به يكون مستعلياً على الناس جميعاً، وأنه خيرٌ من الناس كلِّهم، وأنَّ الجميع من أهل المعاصي الظاهرة أشرار فَسَقَة فُجَّار، لا يستحقون إلا النار.
في هذه الحالة يقع هذا الطائع في فخِّ نفسه الأمارة بالسوء، وإذا بالطاعة أورثت عنده عِزّاً واستكباراً، وهذه معصية من أخطر المعاصي التي قد تودي بجميع حسناته فتحبطها، ورحم الله القائل: ربَّ معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خيرٌ من طاعة أورثت عزاً واستكباراً، هذا العبد لا يجد ناصحاً، ومن حُرم الناصح هلك.
ثم يقول الإمام سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى:
(ثم إن قالت له نفسه: إنما تشوَّشتَ لفوات الخير العظيم الذي كان يحصل لك من حيث هو خير، فليقل لها: إني معتمدٌ على فَضْلِ الله، لا على الأعمال، فإن دخلتُ الجنة فإنَّما هو برحمة الله تعالى لا بعملي).
أقول أيها الإخوة الكرام:
من الغرور والغفلة أن يظنَّ العبد بأنَّ عمله سيدخله الجنة، مع أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: (لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ. قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلا أَنَا، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:
أيها الإخوة الكرام: علينا بفعل الطاعات مع الإخلاص، فإن أظهرنا الطاعات أمام الآخرين ليتأسوا بنا فلنكن على حذر من النفس الأمَّارة، حتى لا نقع في الرياء، وإن كان الإنسان لا يستطيع على ذلك فعليه أن يخفي طاعته من أجل سلامتها، نسأل الله تعالى أن يعاملنا بفضله لا بعدله.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
مقتطفات من كتاب العهود المحمدية للشعراني
مقدمة الدرس:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فما زال حديثنا عن العهد الثالث في المسارعة في الخيرات، وقد حرَّضنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم على ذلك بقوله: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
سارع في الخيرات وفي القربات، لأنَّ الله تعالى أخفى علينا ساعة نهاية الأجل، وإذا جاءت النهاية فقد يندم الإنسان ولا ينفعه الندم.
فأسرع في فعل الخيرات، وكن قدوة صالحة لغيرك، وإذا ابتليت بفعل المعصية فاستتر، حتى لا تكون قدوة سيئة لغيرك، بعد ذلك:
يقول الإمام سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى في العهد الثالث:
(وسمعت سيدي علياً الخوَّاص رضي الله عنه يقول: لا ينبغي إظهار الأعمال إلا للأكابر من العلماء والصالحين الغوَّاصين على دسائسِ النفوس، وأما أمثالنا فربما يُظْهِرُ الواحدُ منا أعمالَه رياءً وسمعة، وتلبِّس عليه نفسه، وتقول له: أنت بحمد الله من المخلِصين، وإنَّما تُظْهِرُ هذه العبادة ليقتدي بك الناس.
فينبغي لمثل هذا أن يمتحن نفسه بما لو جاء أحد يفعل ذلك الخير، وتنقادُ الناس له مثله أو أكثر منه، فإن انشرح لذلك فهو مخلصٌ، وإن انقبض خاطره فهو مُراء دقَّ المطرقة، ولو أنَّه كان مُخلصاً لَفَرِحَ بذلك أشدَّ الفرح الذي قيَّض الله تعالى له من كفاه المؤونة [أي كفاه مشقَّة تعليم هؤلاء]).
أقول أيها الإخوة الكرام:
ليس الشأن أن تأتي بالطاعة، ولكنَّ الشأن أن تكون مخلصاً فيها، لأنَّ الطاعات بدون إخلاص تُضرب في وجه صاحبها، وذلك لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة}. ولقوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.
فالطاعة بدون إخلاص لا تنفع، وقد علمنا بأنَّ أول من تسعَّر فيهم النار يوم القيامة عالم ومنفق ومجاهد، لأنهم فقدوا الإخلاص في أعمالهم.
ومن هذا المنطلق ضرب لنا سيدي الشعراني رحمه الله مثلاً في اختبار النفس هل عندها الإخلاص أم لا؟ وذلك من خلال إقبال الناس على العبادة أو إدبارهم.
النفس ذكرها مولانا عز وجل في القرآن العظيم بقوله: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيم}. والنفس الأمَّارة هي التي تميل إلى الطبيعة البدنية، وتأمر باللذات والشهوات الحسية، وتجذب القلب إلى الجهة السفلية، فهي مأوى الشرور، ومنبع الأخلاق الذميمة.
هذه النفس التي أُمرنا بمجاهدتها، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد والترمذي عن فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).
وصية الأكابر للأكابر:
أيها الإخوة الأحبة: ما دامت النفس أمَّارة بالسوء، ولا تخرج عن طبيعتها إلا بالموت، ولكنها تختلف من شخص لآخر من حيث قوتها وتأثيرها على القلب، فلا بدَّ من التناصح مهما كانت مرتبة الإنسان، وهذا ما عرفناه من حياة الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
هذا سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوصي سيدنا عمر رضي الله عنه حين استخلفه: (إنَّ أوَّل ما أحذِّرك: نَفْسَكَ التي بين جنبيك).
وما أجمل هذه الوصية بشكل عام، ولكن بشكل خاص لكلِّ مسؤول، مهما كانت دائرة مسؤوليته، ضيقة أم واسعة، لأن المسؤولية والإمارة أولها ملامة وأوسطها ندامة، وآخرها عذاب يوم القيامة، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلا أَتَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَغْلُولاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَكَّهُ بِرُّهُ، أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ، أَوَّلُهَا مَلامَةٌ، وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ، وَآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
إن كانت الوصية والنصيحة مطلوبة من الكلِّ للكلِّ، فهي لأهل المسؤولية والإمارة من باب أولى، لأنَّ الإمارة نعمت المرضعة وبئست الفاطمة، وربما أن يسكر الإنسان عندما يكون أميراً، وينسى طبيعة نفسه الأمارة بالسوء، فإن لم يكن مراقباً لها، وعلى حذر منها فإنها تهلكه، والعياذ بالله تعالى.
فالصدِّيق رضي الله عنه يحذِّر الفاروق نفسَه عندما استخلفه، مع أن الفاروق قال فيه الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ) رواه البخاري ومسلم. وقال فيه: (إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ) رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه.
إذا كان هذا حال الشيخين من الصحابة رضي الله عنهم، فكيف بحال الناس اليوم؟ ووصية الصديق للفاروق رضي الله عنه هي من باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا}. هذا، والله تعالى أعلم.
وصية الفاروق رضي الله عنه للأمة:
أيها الإخوة الأحبة: الخير يبقى في الأمة ما دام السلف يوصي الخلف، والخلف لمن بعده، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، عندما أوصى الصدِّيق الفاروق بتلك الوصية، فهذا الفاروق رضي الله عنه يوصي الأمة كلها بقوله: (حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا) رواه الترمذي.
وما كانت وصية الفاروق للأمة إلا بعد الالتزام بها، حتى لا يقع تحت قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُون}.
يروي الإمام مالك رحمه الله تعالى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: (سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا، فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ جِدَارٌ وَهُوَ فِي جَوْفِ الْحَائِطِ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، بَخٍ بَخٍ، وَاللَّهِ لَتَتَّقِيَنَّ اللَّهَ أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ).
هكذا يجب على العبد المؤمن أن يحاسب نفسه مهما كان وقَّافاً عند حدود الله عز وجل، لقد كان الفاروق وقَّافاً عند حدود الله تعالى ولا يتعداها، حتى في مسائل ربما أن لا تخطر ببال الكثير من الناس.
روى مالك عن عبد الملك بن قريب عن محمد بن سيرين أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية، فأصبنا ظبياً ونحن محرمان، فماذا ترى؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت، فحكما علي بعنز، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلاً يحكم معه، فسمع عمر بن الخطاب قول الرجل فدعاه فسأله: هل تقرأ سورة المائدة؟ فقال: لا، قال: هل تعرف الرجل الذي حكم معي؟ فقال: لا. فقال عمر رضي الله عنه: لو أخبرتني أنَّك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضرباً، ثم قال: سبحانه يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وهذا عبد الرحمن بن عوف.
بل كان الفاروق رضي الله عنه ممكِّناً الأمة من النصح له، والكلُّ يعرف قصة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها، رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِهَا فِي خِلافَتِهِ، وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَاسْتَوْقَفَتْهُ زَمَنًا طَوِيلاً وَوَعَظَتْهُ، وَقَالَتْ: يَا عُمَرُ قَدْ كُنْت تُدْعَى عُمَيْرًا، ثُمَّ قِيلَ لَك عُمَرُ، ثُمَّ قِيلَ لَك أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا عُمَرُ، فَإِنَّهُ مَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ خَافَ الْفَوْتَ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ خَافَ الْعَذَابَ، وَهُوَ وَاقِفٌ يَسْمَعُ كَلامَهَا.
فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَقِفُ لِهَذِهِ الْعَجُوزِ هَذَا الْمَوْقِفَ؟ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَوْ حَبَسَتْنِي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ لا زُلْت إلا لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، أَتَدْرُونَ مَنْ هَذِهِ الْعَجُوزُ؟ هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ، سَمِعَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ، أَيَسْمَعُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَوْلَهَا وَلا يَسْمَعُهُ عُمَرُ؟
من وصايا السلف رضي الله عنهم:
أيها الإخوة الكرام: لقد كان سلف الأمة حريصين كلَّ الحرص على التدقيق على النفس الأمارة، وعلى الوصية لمن بعدهم بذلك:
فهذا سيدنا عمار رضي الله عنه يقول: ( ثلاث من جمعهنَّ جَمَعَ الإيمان: الإنصافُ من نفسه، والإنفاقُ من الإقتار، وبذلُ السَّلام للعالِم).
ويقول سفيان الثوري رحمه الله تعالى: (ما عالجتُ شيئاً أشدَّ عليَّ من نفسي، مرَّةً لي ومرَّةً عليَّ).
وكان أبو العبَّاس الموصليِّ، يقول لنفسه: (يا نفس، لا في الدُّنيا مع أبناء الملوك تتنعَّمين، ولا في طلب الآخرة مع العُبَّاد تجتهدين، كأنِّي بك بين الجنَّة والنَّار تُحْبَسِين، يا نفسُ ألا تَسْتَحيين).
وقال ابن القيِّم رحمه الله تعالى: (لا يسيءُ الظَّنَّ بنفسه إلا من عرفها، ومن أَحْسَنَ الظَّنَّ بنفسه فهو من أجهل النَّاس بنفسه).
و قال الغزاليُّ رحمه اللُّه: (إنَّ النَّفس عدوٌّ منازع، يجب علينا مجاهدتها).
وقال الشاعر:
يا مَـن يُجـاهِدُ غـازياً أعـداءَ *** دين اللّه يرجو أن يُعَانَ ويُنْصَرا
هلَّا غَشِيْتَ النَّفسَ غَزْواً إنَّها *** أَعْدَى عَدُوِّكَ كَي تَفُوزَ وتَظْفَرا
مَهْمَا عَنَيْتَ جِهَادَهَا وعِنَادَهَا *** فَلَقَدْ تَعَاْطَيْتَ الجِهَادَ الأَكْـبَرا
وقيل: (للّه درُّ من يقول: كلَّما عَظُمَ المطلوب في قلبك، صَغُرَت نَفْسُكَ عندك، وتضاءلت القيمةُ الَّتي تَبْذُلها في تحصيله، وكُلَّما شَهِدْتَ حقيقةَ الرُّبوبيَّة وحقيقة العبوديَّة، وعرفت الله وعرفت النَّفس، وتبيَّن لك أنَّ ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحقِّ، ولو جئت بعمل الثَّقلين خَشِيْتَ عَاْقِبَتَهُ، وإنِّما يَقْبَلْهُ بِكَرَمِهِ وَجُودِهِ وَتَفَضُّلِهِ، ويُثِيبُك عليه أيضاً بِكَرَمِهِ وَجُودِهِ وتفضُّله).
وقال يحيى بن معاذ الرَّازي: (أعداءُ الإنسان ثلاثة: دُنياه، وشَيطانه، ونَفسه، فاحترس من الدّنيا بالزّهد فيها، ومن الشّيطان بمخالفته، ومن النّفس بترك الشّهوات).
وصية سيدي ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى:
يقول سيدي ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: (حظُّ النفس في المعصية ظاهرٌ جلي، وحظُّها في الطاعة باطنٌ خفي، ومداواة ما يخفى صعب علاجه).
أيُّ معصية ظاهرة تترك آثارها في المجتمع وفي نفس العاصي، أما العاصي فيشعر باللذة الآتية، أما المجتمع فتترك المعاصي آثارها على الضارة على صعيد المجتمع، وهذا ما نشاهده من آثار الفساد.
وهذه الآثار الضارة تدفع المجتمع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإنكار على العاصي حتى يتوب إلى الله تعالى، وهذا من رحمة الله تعالى بالعبد العاصي، حيث يكون المجتمع رادعاً له، والإنسان الشهم الكريم يهتمُّ بسمعته، ويعتدُّ بكرامته.
أما المشكلة الكبرى ففي المعصية الباطنة التي تعتري بعض أهل الطاعات، حيث يرى نفسه موفَّقاً لفعل الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والانضباطِ بضوابط الشريعة، فلا يأكل الربا، ولا يشرب الخمر، ولا يأكل أموال الناس بالباطل، ويقول الحق ويأتيه، وينهى عن الباطل ويجتنبه، فإذا بنفسه الأمارة بالسوء تدخل عليه بالعجب والغرور، ويرى نفسه أنه فوق الناس، وإذا به يكون مستعلياً على الناس جميعاً، وأنه خيرٌ من الناس كلِّهم، وأنَّ الجميع من أهل المعاصي الظاهرة أشرار فَسَقَة فُجَّار، لا يستحقون إلا النار.
في هذه الحالة يقع هذا الطائع في فخِّ نفسه الأمارة بالسوء، وإذا بالطاعة أورثت عنده عِزّاً واستكباراً، وهذه معصية من أخطر المعاصي التي قد تودي بجميع حسناته فتحبطها، ورحم الله القائل: ربَّ معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خيرٌ من طاعة أورثت عزاً واستكباراً، هذا العبد لا يجد ناصحاً، ومن حُرم الناصح هلك.
ثم يقول الإمام سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى:
(ثم إن قالت له نفسه: إنما تشوَّشتَ لفوات الخير العظيم الذي كان يحصل لك من حيث هو خير، فليقل لها: إني معتمدٌ على فَضْلِ الله، لا على الأعمال، فإن دخلتُ الجنة فإنَّما هو برحمة الله تعالى لا بعملي).
أقول أيها الإخوة الكرام:
من الغرور والغفلة أن يظنَّ العبد بأنَّ عمله سيدخله الجنة، مع أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: (لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ. قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلا أَنَا، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:
أيها الإخوة الكرام: علينا بفعل الطاعات مع الإخلاص، فإن أظهرنا الطاعات أمام الآخرين ليتأسوا بنا فلنكن على حذر من النفس الأمَّارة، حتى لا نقع في الرياء، وإن كان الإنسان لا يستطيع على ذلك فعليه أن يخفي طاعته من أجل سلامتها، نسأل الله تعالى أن يعاملنا بفضله لا بعدله.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
10/11/2024, 21:08 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الرابعة: قوانين الميراث تفضل الرجال على النساء ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:05 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثالثة: شهادة المرأة لا تساوي سوى نصف رجل ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:02 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثانية: المرأة لا تستطيع الطلاق ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:59 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الأولى: الإسلام يوجه الرجال لضرب زوجاتهم ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:54 من طرف Admin
» كتاب: المرأة في المنظور الإسلامي ـ إعداد لجنة من الباحثين
10/11/2024, 20:05 من طرف Admin
» كتاب: (درة العشاق) محمد صلى الله عليه وسلم ـ الشّاعر غازي الجَمـل
9/11/2024, 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
9/11/2024, 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin