مع الحبيب المصطفى: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
188ـ «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَكرَمَنَا اللهُ عزَّ وجلَّ بِدِينٍ قَامَت دَعَائِمُهُ على أَسَاسٍ من الأَخلاقِ السَّامِيَةِ الرَّاقِيَةِ، بل الهَدَفُ الأَوَّلُ والأَسمَى من بِعْثَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَتْمِيمُ الأَخلاقِ، وتَرسِيخُ ذلكَ، والسُّمُوُّ بذلكَ إلى ذِرْوَةِ تَمَامِهِ وكَمَالِهِ، روى البيهقي والقضاعي عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخلَاقِ».
ومِمَّا لا شَكَّ فِيهِ أنَّهُ مَن أَرَادَ أن يُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخلَاقِ هوَ في ذِرْوَةِ وتَمَامِ وكَمَالِ الأَخلاقِ، وهذا مَا شَهِدَ بِهِ مَولانَا عزَّ وجلَّ لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَولِهِ تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد جَاءَ الإِسلامُ من أَجلِ سَعَادَةِ البَشَرِيَّةِ وصَلاحِهَا، ومَا جَاءَ لِقَهْرِهَا وإِكْرَاهِهَا، قال تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً﴾. وقال تعالى: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾. وقَالَ للنَّبِيِّ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾.
صِيَانَةُ مَشَاعِرِ النَّاسِ وأَحَاسِيسِهِم:
أيُّها الإخوة الكرام: من مَكَارِمِ الأَخلاقِ في دِينِنَا الحَنِيفِ مُرَاعَاةُ وصِيَانَةُ مَشَاعِرِ النَّاسِ وأَحَاسِيسِهِم، وخَاصَّةً عِندَ دَعْوَتِهِم إلى اللهِ تعالى، لأنَّ الفَظَاظَةَ والغَلاظَةَ سَبَبٌ لِنُفُورِ النَّاسِ من دِينِ اللهِ تعالى، قال تعالى مُخَاطِبَاً سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾.
ورَحِمَ اللهُ تعالى من قَالَ:
مَـــا كَـانَ في القُرآنِ من نَذَارَة *** إلى النَّبِيِّ صَـاحِبِ البِشَارَة
فَـكُـنْ لَـبِيبَاً وافْـهَـمِ الإِشَارَة *** اِيَّاكَ أَعنِي وَافْهَمِي يَا جَارَة
أيُّها الإخوة الكرام: من هذا المُنطَلَقِ وَضَعَ الإِسلامُ كَثِيرَاً من المَبَادِئِ والأُسُسِ التي تَصُونُ مَشَاعِرَ النَّاسِ وأَحَاسِيسَهُم عِندَ دَعْوَتِهِم إلى اللهِ تعالى، وعِندَ مُخَاطَبَتِهِم، وعِندَ تَذْكِيرِهِم، من جُملَةِ ذلكَ:
الالتِزَامُ بالأَدَبِ عِندَ الخِطَابِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَمَرَنَا دِينُنَا الحَنِيفُ بالتِزَامِ الأَدَبِ عِندَ مُخَاطَبَتِنَا للنَّاس، وعِندَ دَعْوَتِهِم إلى اللهِ تعالى، حَتَّى لا تُجْرَحَ مَشَاعِرُهُم، فَقَالَ تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾.
ولهذا كَانَ من شَمَائِلِ سَيِّدِنا رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَوْلُ الحَسَنُ، روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمْ يَكُن النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَبَّاباً، وَلَا فَحَّاشَاً، وَلَا لَعَّانَاً.
لقد كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُرَاعِي مَشَاعِرَ النَّاسِ وأَحَاسِيسَهُم، لأنَّهُ مَا بُعِثَ إلا لِيُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخلاقِ.
«سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ»:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد بَلَغَتْنَا عن سَيِّدِنا رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في سِيرَتِهِ العَطِرَةِ نَمَاذِجُ رَائِعَةٌ طَيِّبَةٌ عَطِرَةٌ في مُرَاعَاةِ شُعُورِ النَّاسِ وأَحَاسِيسِهِم، منها:
ما رواه الإمام مسلم عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْمُهُ، وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ الْآخَرِ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفاً يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ».
ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُشْرِكُوا باللهِ؛ وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ.
فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟»
فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: «هُمُ الَّذِينَ لَا يَرْقُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».
فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ.
فَقَالَ: «أَنْتَ مِنْهُمْ».
ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ.
فَقَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ».
أيُّها الإخوة الكرام: اُنظُرُوا إلى لُطْفِ سَيِّدِنا رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الرَّدِّ على الرَّجُلِ الثَّانِي الذي لَم يَكُن مِمَّن يَستَحِقُّ تِلكَ المَنزِلَةَ، ولا كَانَ بِصِفَةِ أَهلِهَا، بِخِلافِ عُكَّاشَةَ، فَأَجَابَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ». فَلَم يُصَرِّحْ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّكَ لَستَ مِنهُم، أو بِأَنَّكَ لَستَ أَهْلاً أن تَكُونَ مَعَهُم، أو بِأَنَّهُ لَيسَت فِيكَ أَوصَافُ هؤلاءِ، فَأَينَ نَحنُ من هَدْيِ سَيِّدِنا رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في التِزَامِ الأَدَبِ مَعَ المُخَاطَبِينَ؟ مَا جَرَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فُؤَادَ الرَّجُلِ، ومَا أَوقَعَهُ في الحَرَجِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ على من قَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخلَاقِ».
«وَمَا يُدْرِيكَ، لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»:
أيُّها الإخوة الكرام: من مَكَارِمِ الأَخلاقِ في دِينِنَا الحَنِيفِ عَدَمُ الاستِعْجَالِ في إِصْدَارِ الأَحكَامِ على الآخَرِينَ، لأنَّ استِعْجَالَ الأُمُورِ مَمْقُوتٌ، ويُعَرِّضُ صَاحِبَهُ للزَّلَلِ والخَطَأِ، ويُوقِعُهُ في النَّدَمِ، وقد لا يَنفَعُهُ النَّدَمُ.
إنَّ استِعجَالَ الأُمُورِ مُخَالِفٌ لِمَبدَأِ مَكَارِمِ الأَخلاقِ، ومُخَالِفٌ لِنَهْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ومُخَالِفٌ لِمَنهَجِ القُرآنِ العَظِيمِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾.
كَمَا أَنَّ استِعجَالَ الأُمُورِ في الأَحكَامِ على الآخَرِينَ بَعِيدٌ عن مَنهَجِ هذا الدِّينِ الذي دَعَانَا إلى العَفْوِ والصَّفْحِ عن المُسِيءِ، وإلى قَبُولِ عُذْرِ المُعتَذِرِ، وقد هَدَّدَ شَرْعُنَا الشَّرِيفُ مَن لم يَقبَلْ عُذْرَ المُعتَذِرِ بِعَدَمِ الوُرُودِ على الحَوْضِ الشَّرِيفِ، روى الحاكم عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَن أَتَاهُ أَخُوهُ مُتَنَصِّلَاً فَلْيَقْبَلْ ذَلكَ مِنهُ، مُحِقَّاً كَانَ أو مُبْطِلَاً، فَإِنْ لَم يَفْعَلْ لَم يَرِدْ عَلَيَّ الحَوْضَ».
أيُّها الإخوة الكرام: اِسمَعُوا إلى سِيرَةِ مَن قَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخلَاقِ».
روى الإمام مسلم عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ، فَقَالَ: ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ، فَخُذُوهُ مِنْهَا.
فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا، فَإِذَا نَحْنُ بِالْمَرْأَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ.
فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ.
فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ، أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ.
فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِن الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا؟»
قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقاً فِي قُرَيْشٍ ـ قَالَ سُفْيَانُ: كَانَ حَلِيفاً لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا ـ أَكَانَ مِمَّنْ كَانَ مَعَكَ مِن الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِن النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَداً يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْراً، وَلَا ارْتِدَاداً عَنْ دِينِي، وَلَا رِضاً بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ».
فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ.
فَقَالَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَخطَأَ حَاطبُ بنُ أَبِي بَلتَعَةَ، ولَم يَقْصِدْ مِنهُ خِيَانَةَ اللهِ تعالى وَرَسُولِهِ، ولكن كَيفَ تَعَامَلَ مَعَهُ سَيِّدُنا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
لقد عَامَلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ معَامَلَةً من مُنطَلَقِ حَدِيثِهِ الشَّرِيفِ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخلَاقِ».
فَلَم يَجْرَحْ شُعُورَهُ بِكَلِمَةٍ، ولَم يُعَنِّفْهُ، والأَعظَمُ من ذلكَ كُلِّهِ أنَّ اللهَ تعالى أَنزَلَ في ذلكَ قُرآنَاً، قَالَ تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ مَكَارِمَ الأَخلاقِ، وخَاصَّةً في الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى هيَ من صُلْبِ دِينِنَا، ولَهَا مَكَانَةٌ عَظِيمَةٌ في شَرْعِنَا، وهيَ سَبَبٌ عَظِيمٌ في مَحَبَّةِ سَيِّدِنا رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِ مَكَارِمِ الأَخلاقِ، وسَبَبٌ لِقُرْبِهِ مِنهُ يَومَ القِيَامَةِ، روى الترمذي عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقاً».
أيُّها الإخوة الكرام: ألا يَجْدُرُ بهذهِ الأُمَّةِ وقد عَصَفَت بِهَا مَوجَاتُ الفَسَادِ من كُلِّ جَانِبٍ، وتَدَاعَت إِلَيهَا الأُمَمُ كَمَا تَتَدَاعَى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِهَا، للطَّعْنِ في هذا الدِّينِ، أن تَرجِعَ إلى هَدْيِ نَبِيِّهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وتَسلُكَ سَبِيلَهُ، وتَتَرَسَّمَ خُطَاهُ، وتَتَمَسَّكَ بِسُنَّتِهِ إذا أَرَادَتْ خَيرَيِ الدُّنيَا والآخِرَةِ؟
اللَّهُمَّ وَفِّقنَا لذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
188ـ «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَكرَمَنَا اللهُ عزَّ وجلَّ بِدِينٍ قَامَت دَعَائِمُهُ على أَسَاسٍ من الأَخلاقِ السَّامِيَةِ الرَّاقِيَةِ، بل الهَدَفُ الأَوَّلُ والأَسمَى من بِعْثَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَتْمِيمُ الأَخلاقِ، وتَرسِيخُ ذلكَ، والسُّمُوُّ بذلكَ إلى ذِرْوَةِ تَمَامِهِ وكَمَالِهِ، روى البيهقي والقضاعي عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخلَاقِ».
ومِمَّا لا شَكَّ فِيهِ أنَّهُ مَن أَرَادَ أن يُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخلَاقِ هوَ في ذِرْوَةِ وتَمَامِ وكَمَالِ الأَخلاقِ، وهذا مَا شَهِدَ بِهِ مَولانَا عزَّ وجلَّ لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَولِهِ تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد جَاءَ الإِسلامُ من أَجلِ سَعَادَةِ البَشَرِيَّةِ وصَلاحِهَا، ومَا جَاءَ لِقَهْرِهَا وإِكْرَاهِهَا، قال تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً﴾. وقال تعالى: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾. وقَالَ للنَّبِيِّ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾.
صِيَانَةُ مَشَاعِرِ النَّاسِ وأَحَاسِيسِهِم:
أيُّها الإخوة الكرام: من مَكَارِمِ الأَخلاقِ في دِينِنَا الحَنِيفِ مُرَاعَاةُ وصِيَانَةُ مَشَاعِرِ النَّاسِ وأَحَاسِيسِهِم، وخَاصَّةً عِندَ دَعْوَتِهِم إلى اللهِ تعالى، لأنَّ الفَظَاظَةَ والغَلاظَةَ سَبَبٌ لِنُفُورِ النَّاسِ من دِينِ اللهِ تعالى، قال تعالى مُخَاطِبَاً سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾.
ورَحِمَ اللهُ تعالى من قَالَ:
مَـــا كَـانَ في القُرآنِ من نَذَارَة *** إلى النَّبِيِّ صَـاحِبِ البِشَارَة
فَـكُـنْ لَـبِيبَاً وافْـهَـمِ الإِشَارَة *** اِيَّاكَ أَعنِي وَافْهَمِي يَا جَارَة
أيُّها الإخوة الكرام: من هذا المُنطَلَقِ وَضَعَ الإِسلامُ كَثِيرَاً من المَبَادِئِ والأُسُسِ التي تَصُونُ مَشَاعِرَ النَّاسِ وأَحَاسِيسَهُم عِندَ دَعْوَتِهِم إلى اللهِ تعالى، وعِندَ مُخَاطَبَتِهِم، وعِندَ تَذْكِيرِهِم، من جُملَةِ ذلكَ:
الالتِزَامُ بالأَدَبِ عِندَ الخِطَابِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَمَرَنَا دِينُنَا الحَنِيفُ بالتِزَامِ الأَدَبِ عِندَ مُخَاطَبَتِنَا للنَّاس، وعِندَ دَعْوَتِهِم إلى اللهِ تعالى، حَتَّى لا تُجْرَحَ مَشَاعِرُهُم، فَقَالَ تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾.
ولهذا كَانَ من شَمَائِلِ سَيِّدِنا رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَوْلُ الحَسَنُ، روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمْ يَكُن النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَبَّاباً، وَلَا فَحَّاشَاً، وَلَا لَعَّانَاً.
لقد كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُرَاعِي مَشَاعِرَ النَّاسِ وأَحَاسِيسَهُم، لأنَّهُ مَا بُعِثَ إلا لِيُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخلاقِ.
«سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ»:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد بَلَغَتْنَا عن سَيِّدِنا رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في سِيرَتِهِ العَطِرَةِ نَمَاذِجُ رَائِعَةٌ طَيِّبَةٌ عَطِرَةٌ في مُرَاعَاةِ شُعُورِ النَّاسِ وأَحَاسِيسِهِم، منها:
ما رواه الإمام مسلم عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْمُهُ، وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ الْآخَرِ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفاً يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ».
ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُشْرِكُوا باللهِ؛ وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ.
فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟»
فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: «هُمُ الَّذِينَ لَا يَرْقُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».
فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ.
فَقَالَ: «أَنْتَ مِنْهُمْ».
ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ.
فَقَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ».
أيُّها الإخوة الكرام: اُنظُرُوا إلى لُطْفِ سَيِّدِنا رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الرَّدِّ على الرَّجُلِ الثَّانِي الذي لَم يَكُن مِمَّن يَستَحِقُّ تِلكَ المَنزِلَةَ، ولا كَانَ بِصِفَةِ أَهلِهَا، بِخِلافِ عُكَّاشَةَ، فَأَجَابَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ». فَلَم يُصَرِّحْ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّكَ لَستَ مِنهُم، أو بِأَنَّكَ لَستَ أَهْلاً أن تَكُونَ مَعَهُم، أو بِأَنَّهُ لَيسَت فِيكَ أَوصَافُ هؤلاءِ، فَأَينَ نَحنُ من هَدْيِ سَيِّدِنا رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في التِزَامِ الأَدَبِ مَعَ المُخَاطَبِينَ؟ مَا جَرَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فُؤَادَ الرَّجُلِ، ومَا أَوقَعَهُ في الحَرَجِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ على من قَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخلَاقِ».
«وَمَا يُدْرِيكَ، لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»:
أيُّها الإخوة الكرام: من مَكَارِمِ الأَخلاقِ في دِينِنَا الحَنِيفِ عَدَمُ الاستِعْجَالِ في إِصْدَارِ الأَحكَامِ على الآخَرِينَ، لأنَّ استِعْجَالَ الأُمُورِ مَمْقُوتٌ، ويُعَرِّضُ صَاحِبَهُ للزَّلَلِ والخَطَأِ، ويُوقِعُهُ في النَّدَمِ، وقد لا يَنفَعُهُ النَّدَمُ.
إنَّ استِعجَالَ الأُمُورِ مُخَالِفٌ لِمَبدَأِ مَكَارِمِ الأَخلاقِ، ومُخَالِفٌ لِنَهْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ومُخَالِفٌ لِمَنهَجِ القُرآنِ العَظِيمِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾.
كَمَا أَنَّ استِعجَالَ الأُمُورِ في الأَحكَامِ على الآخَرِينَ بَعِيدٌ عن مَنهَجِ هذا الدِّينِ الذي دَعَانَا إلى العَفْوِ والصَّفْحِ عن المُسِيءِ، وإلى قَبُولِ عُذْرِ المُعتَذِرِ، وقد هَدَّدَ شَرْعُنَا الشَّرِيفُ مَن لم يَقبَلْ عُذْرَ المُعتَذِرِ بِعَدَمِ الوُرُودِ على الحَوْضِ الشَّرِيفِ، روى الحاكم عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَن أَتَاهُ أَخُوهُ مُتَنَصِّلَاً فَلْيَقْبَلْ ذَلكَ مِنهُ، مُحِقَّاً كَانَ أو مُبْطِلَاً، فَإِنْ لَم يَفْعَلْ لَم يَرِدْ عَلَيَّ الحَوْضَ».
أيُّها الإخوة الكرام: اِسمَعُوا إلى سِيرَةِ مَن قَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخلَاقِ».
روى الإمام مسلم عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ، فَقَالَ: ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ، فَخُذُوهُ مِنْهَا.
فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا، فَإِذَا نَحْنُ بِالْمَرْأَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ.
فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ.
فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ، أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ.
فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِن الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا؟»
قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقاً فِي قُرَيْشٍ ـ قَالَ سُفْيَانُ: كَانَ حَلِيفاً لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا ـ أَكَانَ مِمَّنْ كَانَ مَعَكَ مِن الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِن النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَداً يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْراً، وَلَا ارْتِدَاداً عَنْ دِينِي، وَلَا رِضاً بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ».
فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ.
فَقَالَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَخطَأَ حَاطبُ بنُ أَبِي بَلتَعَةَ، ولَم يَقْصِدْ مِنهُ خِيَانَةَ اللهِ تعالى وَرَسُولِهِ، ولكن كَيفَ تَعَامَلَ مَعَهُ سَيِّدُنا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
لقد عَامَلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ معَامَلَةً من مُنطَلَقِ حَدِيثِهِ الشَّرِيفِ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخلَاقِ».
فَلَم يَجْرَحْ شُعُورَهُ بِكَلِمَةٍ، ولَم يُعَنِّفْهُ، والأَعظَمُ من ذلكَ كُلِّهِ أنَّ اللهَ تعالى أَنزَلَ في ذلكَ قُرآنَاً، قَالَ تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ مَكَارِمَ الأَخلاقِ، وخَاصَّةً في الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى هيَ من صُلْبِ دِينِنَا، ولَهَا مَكَانَةٌ عَظِيمَةٌ في شَرْعِنَا، وهيَ سَبَبٌ عَظِيمٌ في مَحَبَّةِ سَيِّدِنا رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِ مَكَارِمِ الأَخلاقِ، وسَبَبٌ لِقُرْبِهِ مِنهُ يَومَ القِيَامَةِ، روى الترمذي عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقاً».
أيُّها الإخوة الكرام: ألا يَجْدُرُ بهذهِ الأُمَّةِ وقد عَصَفَت بِهَا مَوجَاتُ الفَسَادِ من كُلِّ جَانِبٍ، وتَدَاعَت إِلَيهَا الأُمَمُ كَمَا تَتَدَاعَى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِهَا، للطَّعْنِ في هذا الدِّينِ، أن تَرجِعَ إلى هَدْيِ نَبِيِّهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وتَسلُكَ سَبِيلَهُ، وتَتَرَسَّمَ خُطَاهُ، وتَتَمَسَّكَ بِسُنَّتِهِ إذا أَرَادَتْ خَيرَيِ الدُّنيَا والآخِرَةِ؟
اللَّهُمَّ وَفِّقنَا لذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin