مع الحبيب المصطفى ﷺ : تربيته الأمة على كلمة التوحيد
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
297ـ تربيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأمة على كلمة التوحيد
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ لِمُتَابَعَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في جَمِيعِ شُؤُونِنَا، وَخَاصَّةً في مَسْأَلَةِ تَرْسِيخِ الإِيمَانِ في قُلُوبِنَا وَقُلُوبِ مَنْ سَنُسْأَلُ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَالخِطَابُ هَذَا للجَمِيعِ مِنْ خِلَالِ قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» رواه الشيخان عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ تَنْمِيَةِ الأَخْلَاقِ الحَمِيدَةِ في نُفُوسِنَا، لِأَنَّ الإِيمَانَ وَالأَخْلَاقَ مُتَلَازِمَانِ.
لَقَدْ مَكَثَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ ثَلَاثَةَ عَـشَرَ عَامَاً يَدْعُو إلى الإِيمَانِ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَيُرَبِّي أَصْحَابَهُ الكِرَامَ عَلَى ذَلِكَ، يُرَبِّيهِمْ عَلَى صِدْقِ التَّوَجُّهِ إلى اللهِ تعالى وَحْدَهُ، وَإلى عُبُودِيَّتِهِ وَحْدَهُ.
وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ مَا يَدْعُو النَّاسَ إلى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، كَلِمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، هَذِهِ الكَلِمَةُ التي تَجْعَلُ العَبْدَ المُؤْمِنَ مِنَ النَّاجِينَ وَالفَالِحِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ.
روى الإمام مسلم عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ،.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ».
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟
فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ المَقَالَةَ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ».
فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾.
وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ﴾.
«أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ»:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ كَلِمَةٌ نَافِعَةٌ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَنَفْعُهَا عَظِيمٌ، عَرَفَ هَذَا مَنْ عَرَفَ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، كَلِمَةُ عِزٍّ لِقَائِلِهَا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الصَّادِقُ الأَمِينُ.
جَاءَ في كِتَابِ الرَّحِيقِ المَخْتُومِ: لَمَّا اشْتَكَى أَبُو طَالِبٍ، وَبَلَغَ قُرَيْشَاً ثِقَلَهُ، قَالَتْ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ: إِنَّ حَمْزَةَ وَعُمَرَ قَدْ أَسْلَمَا، وَقَدْ فَشَا أَمْرُ مُحَمَّدٍ في قَبَائِلِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، فَانْطَلِقُوا بِنَا إلى أَبِي طَالِبٍ، فَلْيَأْخُذْ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ، وَلْيُعْطِهِ مِنَّا، وَاللهِ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَبْتَزُّونَا (يَسْلُبُونَ) أَمْرَنَا.
وَفِي لَفْظٍ: فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَمُوتَ هَذَا الشَّيْخُ فَيَكُونَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فَتُعَيِّرَنَا بِهِ العَرَبُ، يَقُولُونَ: تَرَكُوهُ حَتَّى إِذَا مَاتَ عَمُّهُ تَنَاوَلُوهُ.
مَشَوْا إلى أَبِي طَالِبٍ فَكَلَّمُوهُ، وَهُمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِ؛ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، في رِجَالٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ ـ وَهُمْ خَمْسَةٌ وَعِـشْرُونَ تَقْرِيبَاً ـ فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى، وَتَخَوَّفْنَا عَلَيْكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ الذي بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَادْعُهُ فَخُذْ لَهُ مِنَّا، وَخُذْ لَنَا مِنْهُ؛ لِيَكُفَّ عَنَّا وَنَكُفَّ عَنْهُ، وَلْيَدَعْنَا وَدِينَنَا وَنَدَعَهُ وَدِينَهُ.
فَبَعَثَ أَبُو طَالِبٍ، فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، هَؤُلَاءِ أَشْرَافُ قَوْمِكَ، قَدِ اجْتَمَعُوا لَكَ لِيُعْطُوكَ، وَلْيَأْخُذُوا مِنْكَ؛ ثُمَّ أَخْبَرَهُ بالذي قَالُوا لَهُ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ تَعَرُّضِ كُلِّ فَرِيقٍ للآخَرِ.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ كَلِمَةً تَكَلَّمْتُمْ بِهَا، مَلَكْتُمْ بِهَا العَرَبَ، وَدَانَتْ لَكُمْ بِهَا العَجَمُ».
وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ قَالَ مُخَاطِبَاً لِأَبيِ طَالِبٍ: «إِنِّي أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَقُولُونَهَا تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا العَجَمُ الجِزْيِةَ».
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ قَالَ: «أَيْ عَمِّ، أَفَلَا أَدْعُوهُمْ إلى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ؟».
قَالَ: وَإِلَامَ تَدْعُوهُمْ؟
قَالَ : «أَدْعُوهُمْ إلى أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبَ، وَيَمْلِكُونُ بِهَا العَجَمَ».
وَلَفْظُ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُعْطُونَهَا تَمْلِكُونَ بِهَا العَرَبَ، وَتَدِينُ لَكُمْ بِهَا العَجَمُ».
فَلَمَّا قَالَ هَذِهِ المَقَالَةَ تَوَقَّفُوا وَتَحَيَّرُوا وَلَمْ يَعْرِفُوا كَيْفَ يَرْفُضُونَ هَذِهِ الكَلِمَةَ الوَاحِدَةَ النَّافِعَةَ إلى هَذِهِ الغَايَةِ وَالحَدِّ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: مَا هِيَ؟ وَأَبِيكَ لَنُعْطِيكَهَا وَعَشْرَ أَمْثَالِهَا.
قَالَ : «تَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ».
فَصَفَّقُوا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ قَالُوا: أَتُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ أَنْ تَجْعَلَ الآلِهَةَ إِلَهَاً وَاحِدَاً؟ إِنَّ أَمْرَكَ لَعَجَبٌ.
ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللهِ مَا هَذَا الرَّجُلُ بِمُعْطِيكُمْ شَيْئَاً مِمَّا تُرِيدُونَ، فَانْطَلِقُوا وَامْضُوا عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا.
وفي هَؤُلَاءِ نَزَلَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهَاً وَاحِدَاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ المَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَـشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾.
أَعْظَمُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الأَنْبِيَاءُ وَالمُرْسَلُونَ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ إلى غَرْسِ هَذِهِ الكَلِمَةِ العَظِيمَةِ في نُفُوسِنَا وَفي نُفُوسِ النَّاسِ، هَذِهِ الكَلِمَةُ مِنْ أَجْلِهَا أَرْسَلَ اللهُ تعالى الأَنْبِيَاءَ وَالمُرْسَلِينَ، وَمِنْ أَجْلِهَا أَنْزَلَ الكُتُبَ السَّمَاوِيَّةَ، وَمِنْ أَجْلِهَا أَعَدَّ الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَمِنْ أَجْلِهَا خَلَقَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ، لِذَا كَانَتْ أَعْظَمَ كَلِمَةٍ قَالَهَا الأَنْبِيَاءُ وَالمُرْسَلُونَ.
روى الترمذي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
مَنْ قَالَ هَذِهِ الكَلِمَةَ مُخْلِصَاً بِهَا قَلْبُهُ أَفْلَحَ وَنَجَا وَنَجَحَ، وَإِلَّا أَكَلَتِ الحَسْرَةُ قَلْبَهُ؛ بِسِرِّهَا يَقُولُ صَاحِبُهَا يَوْمَ القِيَامَةِ: ﴿هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾.
كَلِمَةٌ شَأْنُهَا عَظِيمٌ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ، قَالَ: «يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ».
قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ.
قَالَ: «يَا مُعَاذُ».
قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ ـ ثَلَاثَاً ـ.
قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ، صِدْقَاً مِنْ قَلْبِهِ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ».
قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟
قَالَ: «إِذَاً يَتَّكِلُوا» وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمَاً. (خَشْيَةَ الوُقُوعِ في الإِثْمِ لِكِتْمَانِ العِلْمِ).
كَلِمَةٌ شَأْنُهَا عَظِيمٌ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ».
إِنَّهَا كَلِمَةُ الأَمْنِ وَالأَمَانِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، قَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
كَلِمَةٌ يَنَالُ صَاحِبُهَا الأَمْنَ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَالهِدَايَةَ إلى صِرَاطِ اللهِ المُسْتَقِيمِ، إِنَّهَا كَلِمَةُ التَّثْبِيتِ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ﴾.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِعِظَمِ شَأْنِ هَذِهِ الكَلِمَةِ بَقِيَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامَاً يَغْرِسُهَا في قُلُوبِ النَّاسِ، حَتَّى رَسَخَتْ في قُلُوبِهِمْ، فَنَالُوا بِهَا عِزَّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
روى الحاكم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئَاً أَذْكُرُكَ بِهِ وَأَدْعُوكَ بِهِ.
قَالَ: يَا مُوسَى، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
قَالَ: يَا رَبِّ، كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُ هَذَا.
قَالَ: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ يَا رَبُّ، إِنَّمَا أُرِيدُ شَيْئَاً تُخُصُّنِي بِهِ.
قَالَ: يَا مُوسَى، لَوْ كَانَ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ، وَعَامِرُهُنَّ غَيْرِي، وَالْأَرَضِينَ السَّبْعُ فِي كِفَّةٍ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فِي كِفَّةٍ مَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ».
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَصْدُقِ القَوْلِ في قَوْلِنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ لِنَغْرِسْ بِصِدْقٍ وَحَقٍّ كَلِمَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ في نُفُوسِ مَن نُرَبِّيهِمْ لَعَلَّ اللهَ تعالى أَنْ يُعِيدَ لَنَا عِزَّنَا الذي ذَهَبَ.
اللَّهُمَّ أَحْيِنَا عَلَيْهَا وَأَمِتْنَا عَلَيْهَا. آمين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
297ـ تربيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأمة على كلمة التوحيد
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ لِمُتَابَعَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في جَمِيعِ شُؤُونِنَا، وَخَاصَّةً في مَسْأَلَةِ تَرْسِيخِ الإِيمَانِ في قُلُوبِنَا وَقُلُوبِ مَنْ سَنُسْأَلُ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَالخِطَابُ هَذَا للجَمِيعِ مِنْ خِلَالِ قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» رواه الشيخان عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ تَنْمِيَةِ الأَخْلَاقِ الحَمِيدَةِ في نُفُوسِنَا، لِأَنَّ الإِيمَانَ وَالأَخْلَاقَ مُتَلَازِمَانِ.
لَقَدْ مَكَثَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ ثَلَاثَةَ عَـشَرَ عَامَاً يَدْعُو إلى الإِيمَانِ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَيُرَبِّي أَصْحَابَهُ الكِرَامَ عَلَى ذَلِكَ، يُرَبِّيهِمْ عَلَى صِدْقِ التَّوَجُّهِ إلى اللهِ تعالى وَحْدَهُ، وَإلى عُبُودِيَّتِهِ وَحْدَهُ.
وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ مَا يَدْعُو النَّاسَ إلى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، كَلِمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، هَذِهِ الكَلِمَةُ التي تَجْعَلُ العَبْدَ المُؤْمِنَ مِنَ النَّاجِينَ وَالفَالِحِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ.
روى الإمام مسلم عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ،.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ».
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟
فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ المَقَالَةَ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ».
فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾.
وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ﴾.
«أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ»:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ كَلِمَةٌ نَافِعَةٌ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَنَفْعُهَا عَظِيمٌ، عَرَفَ هَذَا مَنْ عَرَفَ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، كَلِمَةُ عِزٍّ لِقَائِلِهَا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الصَّادِقُ الأَمِينُ.
جَاءَ في كِتَابِ الرَّحِيقِ المَخْتُومِ: لَمَّا اشْتَكَى أَبُو طَالِبٍ، وَبَلَغَ قُرَيْشَاً ثِقَلَهُ، قَالَتْ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ: إِنَّ حَمْزَةَ وَعُمَرَ قَدْ أَسْلَمَا، وَقَدْ فَشَا أَمْرُ مُحَمَّدٍ في قَبَائِلِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، فَانْطَلِقُوا بِنَا إلى أَبِي طَالِبٍ، فَلْيَأْخُذْ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ، وَلْيُعْطِهِ مِنَّا، وَاللهِ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَبْتَزُّونَا (يَسْلُبُونَ) أَمْرَنَا.
وَفِي لَفْظٍ: فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَمُوتَ هَذَا الشَّيْخُ فَيَكُونَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فَتُعَيِّرَنَا بِهِ العَرَبُ، يَقُولُونَ: تَرَكُوهُ حَتَّى إِذَا مَاتَ عَمُّهُ تَنَاوَلُوهُ.
مَشَوْا إلى أَبِي طَالِبٍ فَكَلَّمُوهُ، وَهُمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِ؛ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، في رِجَالٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ ـ وَهُمْ خَمْسَةٌ وَعِـشْرُونَ تَقْرِيبَاً ـ فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى، وَتَخَوَّفْنَا عَلَيْكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ الذي بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَادْعُهُ فَخُذْ لَهُ مِنَّا، وَخُذْ لَنَا مِنْهُ؛ لِيَكُفَّ عَنَّا وَنَكُفَّ عَنْهُ، وَلْيَدَعْنَا وَدِينَنَا وَنَدَعَهُ وَدِينَهُ.
فَبَعَثَ أَبُو طَالِبٍ، فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، هَؤُلَاءِ أَشْرَافُ قَوْمِكَ، قَدِ اجْتَمَعُوا لَكَ لِيُعْطُوكَ، وَلْيَأْخُذُوا مِنْكَ؛ ثُمَّ أَخْبَرَهُ بالذي قَالُوا لَهُ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ تَعَرُّضِ كُلِّ فَرِيقٍ للآخَرِ.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ كَلِمَةً تَكَلَّمْتُمْ بِهَا، مَلَكْتُمْ بِهَا العَرَبَ، وَدَانَتْ لَكُمْ بِهَا العَجَمُ».
وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ قَالَ مُخَاطِبَاً لِأَبيِ طَالِبٍ: «إِنِّي أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَقُولُونَهَا تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا العَجَمُ الجِزْيِةَ».
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ قَالَ: «أَيْ عَمِّ، أَفَلَا أَدْعُوهُمْ إلى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ؟».
قَالَ: وَإِلَامَ تَدْعُوهُمْ؟
قَالَ : «أَدْعُوهُمْ إلى أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبَ، وَيَمْلِكُونُ بِهَا العَجَمَ».
وَلَفْظُ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: «كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُعْطُونَهَا تَمْلِكُونَ بِهَا العَرَبَ، وَتَدِينُ لَكُمْ بِهَا العَجَمُ».
فَلَمَّا قَالَ هَذِهِ المَقَالَةَ تَوَقَّفُوا وَتَحَيَّرُوا وَلَمْ يَعْرِفُوا كَيْفَ يَرْفُضُونَ هَذِهِ الكَلِمَةَ الوَاحِدَةَ النَّافِعَةَ إلى هَذِهِ الغَايَةِ وَالحَدِّ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: مَا هِيَ؟ وَأَبِيكَ لَنُعْطِيكَهَا وَعَشْرَ أَمْثَالِهَا.
قَالَ : «تَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ».
فَصَفَّقُوا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ قَالُوا: أَتُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ أَنْ تَجْعَلَ الآلِهَةَ إِلَهَاً وَاحِدَاً؟ إِنَّ أَمْرَكَ لَعَجَبٌ.
ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللهِ مَا هَذَا الرَّجُلُ بِمُعْطِيكُمْ شَيْئَاً مِمَّا تُرِيدُونَ، فَانْطَلِقُوا وَامْضُوا عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا.
وفي هَؤُلَاءِ نَزَلَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهَاً وَاحِدَاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ المَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَـشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾.
أَعْظَمُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الأَنْبِيَاءُ وَالمُرْسَلُونَ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ إلى غَرْسِ هَذِهِ الكَلِمَةِ العَظِيمَةِ في نُفُوسِنَا وَفي نُفُوسِ النَّاسِ، هَذِهِ الكَلِمَةُ مِنْ أَجْلِهَا أَرْسَلَ اللهُ تعالى الأَنْبِيَاءَ وَالمُرْسَلِينَ، وَمِنْ أَجْلِهَا أَنْزَلَ الكُتُبَ السَّمَاوِيَّةَ، وَمِنْ أَجْلِهَا أَعَدَّ الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَمِنْ أَجْلِهَا خَلَقَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ، لِذَا كَانَتْ أَعْظَمَ كَلِمَةٍ قَالَهَا الأَنْبِيَاءُ وَالمُرْسَلُونَ.
روى الترمذي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
مَنْ قَالَ هَذِهِ الكَلِمَةَ مُخْلِصَاً بِهَا قَلْبُهُ أَفْلَحَ وَنَجَا وَنَجَحَ، وَإِلَّا أَكَلَتِ الحَسْرَةُ قَلْبَهُ؛ بِسِرِّهَا يَقُولُ صَاحِبُهَا يَوْمَ القِيَامَةِ: ﴿هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾.
كَلِمَةٌ شَأْنُهَا عَظِيمٌ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ، قَالَ: «يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ».
قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ.
قَالَ: «يَا مُعَاذُ».
قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ ـ ثَلَاثَاً ـ.
قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ، صِدْقَاً مِنْ قَلْبِهِ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ».
قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟
قَالَ: «إِذَاً يَتَّكِلُوا» وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمَاً. (خَشْيَةَ الوُقُوعِ في الإِثْمِ لِكِتْمَانِ العِلْمِ).
كَلِمَةٌ شَأْنُهَا عَظِيمٌ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ».
إِنَّهَا كَلِمَةُ الأَمْنِ وَالأَمَانِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، قَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
كَلِمَةٌ يَنَالُ صَاحِبُهَا الأَمْنَ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَالهِدَايَةَ إلى صِرَاطِ اللهِ المُسْتَقِيمِ، إِنَّهَا كَلِمَةُ التَّثْبِيتِ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ﴾.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِعِظَمِ شَأْنِ هَذِهِ الكَلِمَةِ بَقِيَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامَاً يَغْرِسُهَا في قُلُوبِ النَّاسِ، حَتَّى رَسَخَتْ في قُلُوبِهِمْ، فَنَالُوا بِهَا عِزَّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
روى الحاكم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئَاً أَذْكُرُكَ بِهِ وَأَدْعُوكَ بِهِ.
قَالَ: يَا مُوسَى، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
قَالَ: يَا رَبِّ، كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُ هَذَا.
قَالَ: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ يَا رَبُّ، إِنَّمَا أُرِيدُ شَيْئَاً تُخُصُّنِي بِهِ.
قَالَ: يَا مُوسَى، لَوْ كَانَ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ، وَعَامِرُهُنَّ غَيْرِي، وَالْأَرَضِينَ السَّبْعُ فِي كِفَّةٍ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فِي كِفَّةٍ مَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ».
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَصْدُقِ القَوْلِ في قَوْلِنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ لِنَغْرِسْ بِصِدْقٍ وَحَقٍّ كَلِمَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ في نُفُوسِ مَن نُرَبِّيهِمْ لَعَلَّ اللهَ تعالى أَنْ يُعِيدَ لَنَا عِزَّنَا الذي ذَهَبَ.
اللَّهُمَّ أَحْيِنَا عَلَيْهَا وَأَمِتْنَا عَلَيْهَا. آمين.
10/11/2024, 21:08 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الرابعة: قوانين الميراث تفضل الرجال على النساء ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:05 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثالثة: شهادة المرأة لا تساوي سوى نصف رجل ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:02 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثانية: المرأة لا تستطيع الطلاق ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:59 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الأولى: الإسلام يوجه الرجال لضرب زوجاتهم ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:54 من طرف Admin
» كتاب: المرأة في المنظور الإسلامي ـ إعداد لجنة من الباحثين
10/11/2024, 20:05 من طرف Admin
» كتاب: (درة العشاق) محمد صلى الله عليه وسلم ـ الشّاعر غازي الجَمـل
9/11/2024, 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
9/11/2024, 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin