مع الحبيب المصطفى: «وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا»
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
174ـ وقفة مع خطبة حجة الوداع (13)
«وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: في اليَومِ التَّاسِعِ من ذِي الحِجَّةِ في عَرَفَاتٍ، وفي آخِرِ سَنَةٍ من حَيَاةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وقَبلَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِثَلاثَةِ أَشهُرٍ، خَطَبَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الجُمُوعِ الغَفِيرَةِ من حُجَّاجِ بَيتِ اللهِ الحَرَامِ، حَيثُ وَدَّعَ النَّاسَ فِيهَا، وبَيَّنَ لَهُم خُلاصَةَ هذا التَّشرِيعِ الحَنِيفِ العَظِيمِ، وأَعطَاهُم قَوَاعِدَ الدِّينِ وآدَابَ المِلَّةِ.
أيُّها الإخوة الكرام: كَانَ من جُملَةِ مَا قَالَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ، مَا رواه الإمام أحمد في مُسنَدِهِ، عَنْ أَبِي حُرَّةَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ عَمِّهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: كُنْتُ آخِذاً بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، أَذُودُ عَنْهُ النَّاسَ فَقَالَ: ـ من جُملَةِ مَا قَالَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ: «وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا». وَبَسَطَ يَدَيْهِ فَقَالَ: «أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟».
ثُمَّ قَالَ: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَسْعَدُ مِنْ سَامِعٍ».
قَالَ حُمَيْدٌ: قَالَ الْحَسَنُ حِينَ بَلَّغَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ: قَدْ واللهِ بَلَّغُوا أَقْوَاماً كَانُوا أَسْعَدَ بِهِ.
الإنسَانُ حَامِلُ الأَمَانَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الإنسَانَ هوَ حَامِلُ الأَمَانَةِ التي عُرِضَتْ على السَّمَاوَاتِ والأَرضِ فَأَبَينَ حَمْلَهَا، قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً * لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾.
لقد حَمَلَ الإنسَانُ الأَمَانَةَ طَائِعَاً مُختَارَاً، فَأَقَامَ اللهُ تعالى عَلَيهِ الحُجَّةَ، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الأَمَانَةَ مَسؤُولِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، وحِمْلُهَا ثَقِيلٌ، وعلى الإنسَانِ أن يَتَحَمَّلَ عِبْءَ هذهِ الأَمَانَةِ، وأن يُؤَدِّيَ الأَمَانَةَ التي بَينَهُ وبَينَ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، والتي بَينَهُ وبَينَ العِبَادِ.
أمَّا أَدَاؤُهَا فِيمَا بَينَهُ وبَينَ اللهِ تعالى، بأن يَقُومَ بِطَاعَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وعِبَادَتِهِ، مَعَ الإخلاصِ للهِ تعالى، وأن يُلزِمَ نَفسَهُ بِشَرْعِ اللهِ تَبَارَكَ وتعالى، وأن يَقتَدِيَ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَولاً وفِعْلاً وحَالاً، من غَيرِ تَبدِيلٍ ولا تَحوِيلٍ.
الأَمْرُ بِأَدَاءِ الأَمَانَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: كَذلِكَ يَجِبُ عَلَى المُؤمِنِ أن يُؤدِّي الأمَانَةَ التِي فِيمَا بَينَهُ وبَينَ النَّاسِ، لذلِكَ أَمَرَ اللهُ تعالى بِأَدَاءِ الأَمَانَةِ لأصحَابِهَا، فَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾.
ومَدَحَ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ الذينَ يَرعَونَ الأَمَانَةَ بِقَولِهِ تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾. ثمَّ قَالَ في وَصْفِهِم: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
وكذلكَ أَكَّدَ ذلكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَحَادِيثَ عِدَّةٍ، مِنهَا:
ما رواه الحاكم وأبو داود والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ».
وما رواه الإمام أحمد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها ـ ومن كَلامِ جَعفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ في مُخَاطَبَةِ النَّجَاشِيِّ ـ: فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ.
وما رواه الإمام البخاري عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ.
قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ.
التَّحذِيرُ من خِيَانَةِ الأَمَانَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد حَذَّرَ اللهُ تعالى، وحَذَّرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من خِيَانَةِ الأَمَانَةِ.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
وروى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ».
وروى الإمام أحمد أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ، وَلَا يَجْتَمِعُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ جَمِيعاً، وَلَا تَجْتَمِعُ الْخِيَانَةُ وَالْأَمَانَةُ جَمِيعاً».
وروى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنهُما، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ».
من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَخبَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أنَّ من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ رَفْعَ الأَمَانَةِ.
روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَبْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ وَالتَّفَاحُشُ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَسُوءُ الْمُجَاوَرَةِ، وَحَتَّى يُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنَ الْأَمِينُ».
وروى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟
فَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ.
فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ.
حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: «أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَن السَّاعَةِ؟».
قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «فَإِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».
قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟
قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».
وروى الحاكم وابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ».
قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟
قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: لِيُحَافِظْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا على الأَمَانَةِ التي في عُنُقِهِ، وليَعلَمْ بأَنَّ الجَمِيعَ سَوفَ يُسأَلُ بَينَ يَدَيِ اللهِ عزَّ وجلَّ عن الأَمَانَةِ، هل أَدَّاهَا كَمَا هوَ وَاجِبٌ عَلَيهِ؟
هل الرَّاعِي يُؤَدِّي الأَمَانَةَ التي في عُنُقِهِ تُجَاهَ رَعِيَّتِهِ؟ ومن الأَمَانَةِ أن لا يُحَابِي قَرِيبَاً ولا صَدِيقَاً ولا قَوِيَّاً ولا غَنِيَّاً ولا شَرِيفَاً، بل قُدْوَتُهُ في ذلكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلُ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» رواه الشيخان عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها.
وهل الزَّوجُ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ التي في عُنُقِهِ تُجَاهَ زَوجَتِهِ وأَولادِهِ؟ وذلكَ من خِلالِ قَولِ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾. ومن خِلالِ قَولِهِ تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾. ومن خِلالِ قَولِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾.
وهل الزَّوجَةُ تُؤَدِّي الأَمَانَةَ التي في عُنُقِهَا تُجَاهَ زَوجِهَا وأَولادِهَا؟ وذلكَ من خِلالِ قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا» رواه الإمام البخاري عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. ومن خِلالِ قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ؟ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ» رواه الحاكم وأبو داود عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.
وفي رِوَايَةٍ للطَبَراني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَفَادَ عَبْدٌ بَعْدَ الإِسْلامِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ زَوْجٍ مُؤْمِنَةٍ: إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ».
أيُّها الإخوة الكرام: كُلُّ فَرْدٍ من أَفرَادِ المُجتَمَعِ مُؤتَمَنٌ على أُمُورٍ، من ضِمْنِهَا: أَموَالُ النَّاسِ، وأَعرَاضُهُم، ودِمَاؤُهُم، فَهَل كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَرعَى الأَمَانَةَ تُجَاهَ الآخَرِينَ؟
أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ عَلَينَا أن نَرعَى الأَمَانَاتِ الحِسِّيَّةَ والمَعنَوِيَّةَ، وأن نُؤَدِّيَ الأَمَانَاتِ إلى أَهلِهَا، فالإمامُ أَمِينٌ على رَعِيَّتِهِ، والأَبُ أَمِينٌ على أَهلِ بَيتِهِ، والمَرأَةُ أَمِينَةُ على بَيتِ زَوجِهَا، والمُوَظَّفُ أَمِينٌ على وَظِيفَتِهِ، ومن مَاتَ غَاشَّاً للأَمَانَةِ مُتَّصِفَاً بالخِيَانَةِ، فقد تُوُعِّدَ بالعَذَابِ الأَلِيمِ، روى الإمام مسلم عن مَعْقِلٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».
أيُّها الإخوة الكرام: اِسمَعُوا وَصِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ والتَزِمُوهَا حَتَّى تُسعَدُوا: «وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا».
اللَّهُمَّ وَفِّقنَا لذلكَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
174ـ وقفة مع خطبة حجة الوداع (13)
«وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: في اليَومِ التَّاسِعِ من ذِي الحِجَّةِ في عَرَفَاتٍ، وفي آخِرِ سَنَةٍ من حَيَاةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وقَبلَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِثَلاثَةِ أَشهُرٍ، خَطَبَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الجُمُوعِ الغَفِيرَةِ من حُجَّاجِ بَيتِ اللهِ الحَرَامِ، حَيثُ وَدَّعَ النَّاسَ فِيهَا، وبَيَّنَ لَهُم خُلاصَةَ هذا التَّشرِيعِ الحَنِيفِ العَظِيمِ، وأَعطَاهُم قَوَاعِدَ الدِّينِ وآدَابَ المِلَّةِ.
أيُّها الإخوة الكرام: كَانَ من جُملَةِ مَا قَالَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ، مَا رواه الإمام أحمد في مُسنَدِهِ، عَنْ أَبِي حُرَّةَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ عَمِّهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: كُنْتُ آخِذاً بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، أَذُودُ عَنْهُ النَّاسَ فَقَالَ: ـ من جُملَةِ مَا قَالَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ: «وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا». وَبَسَطَ يَدَيْهِ فَقَالَ: «أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟».
ثُمَّ قَالَ: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَسْعَدُ مِنْ سَامِعٍ».
قَالَ حُمَيْدٌ: قَالَ الْحَسَنُ حِينَ بَلَّغَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ: قَدْ واللهِ بَلَّغُوا أَقْوَاماً كَانُوا أَسْعَدَ بِهِ.
الإنسَانُ حَامِلُ الأَمَانَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الإنسَانَ هوَ حَامِلُ الأَمَانَةِ التي عُرِضَتْ على السَّمَاوَاتِ والأَرضِ فَأَبَينَ حَمْلَهَا، قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً * لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾.
لقد حَمَلَ الإنسَانُ الأَمَانَةَ طَائِعَاً مُختَارَاً، فَأَقَامَ اللهُ تعالى عَلَيهِ الحُجَّةَ، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الأَمَانَةَ مَسؤُولِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، وحِمْلُهَا ثَقِيلٌ، وعلى الإنسَانِ أن يَتَحَمَّلَ عِبْءَ هذهِ الأَمَانَةِ، وأن يُؤَدِّيَ الأَمَانَةَ التي بَينَهُ وبَينَ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، والتي بَينَهُ وبَينَ العِبَادِ.
أمَّا أَدَاؤُهَا فِيمَا بَينَهُ وبَينَ اللهِ تعالى، بأن يَقُومَ بِطَاعَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وعِبَادَتِهِ، مَعَ الإخلاصِ للهِ تعالى، وأن يُلزِمَ نَفسَهُ بِشَرْعِ اللهِ تَبَارَكَ وتعالى، وأن يَقتَدِيَ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَولاً وفِعْلاً وحَالاً، من غَيرِ تَبدِيلٍ ولا تَحوِيلٍ.
الأَمْرُ بِأَدَاءِ الأَمَانَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: كَذلِكَ يَجِبُ عَلَى المُؤمِنِ أن يُؤدِّي الأمَانَةَ التِي فِيمَا بَينَهُ وبَينَ النَّاسِ، لذلِكَ أَمَرَ اللهُ تعالى بِأَدَاءِ الأَمَانَةِ لأصحَابِهَا، فَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾.
ومَدَحَ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ الذينَ يَرعَونَ الأَمَانَةَ بِقَولِهِ تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾. ثمَّ قَالَ في وَصْفِهِم: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
وكذلكَ أَكَّدَ ذلكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَحَادِيثَ عِدَّةٍ، مِنهَا:
ما رواه الحاكم وأبو داود والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ».
وما رواه الإمام أحمد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها ـ ومن كَلامِ جَعفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ في مُخَاطَبَةِ النَّجَاشِيِّ ـ: فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ.
وما رواه الإمام البخاري عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ.
قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ.
التَّحذِيرُ من خِيَانَةِ الأَمَانَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد حَذَّرَ اللهُ تعالى، وحَذَّرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من خِيَانَةِ الأَمَانَةِ.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
وروى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ».
وروى الإمام أحمد أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ، وَلَا يَجْتَمِعُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ جَمِيعاً، وَلَا تَجْتَمِعُ الْخِيَانَةُ وَالْأَمَانَةُ جَمِيعاً».
وروى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنهُما، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ».
من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَخبَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أنَّ من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ رَفْعَ الأَمَانَةِ.
روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَبْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ وَالتَّفَاحُشُ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَسُوءُ الْمُجَاوَرَةِ، وَحَتَّى يُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنَ الْأَمِينُ».
وروى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟
فَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ.
فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ.
حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: «أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَن السَّاعَةِ؟».
قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «فَإِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».
قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟
قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».
وروى الحاكم وابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ».
قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟
قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: لِيُحَافِظْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا على الأَمَانَةِ التي في عُنُقِهِ، وليَعلَمْ بأَنَّ الجَمِيعَ سَوفَ يُسأَلُ بَينَ يَدَيِ اللهِ عزَّ وجلَّ عن الأَمَانَةِ، هل أَدَّاهَا كَمَا هوَ وَاجِبٌ عَلَيهِ؟
هل الرَّاعِي يُؤَدِّي الأَمَانَةَ التي في عُنُقِهِ تُجَاهَ رَعِيَّتِهِ؟ ومن الأَمَانَةِ أن لا يُحَابِي قَرِيبَاً ولا صَدِيقَاً ولا قَوِيَّاً ولا غَنِيَّاً ولا شَرِيفَاً، بل قُدْوَتُهُ في ذلكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلُ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» رواه الشيخان عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها.
وهل الزَّوجُ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ التي في عُنُقِهِ تُجَاهَ زَوجَتِهِ وأَولادِهِ؟ وذلكَ من خِلالِ قَولِ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾. ومن خِلالِ قَولِهِ تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾. ومن خِلالِ قَولِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾.
وهل الزَّوجَةُ تُؤَدِّي الأَمَانَةَ التي في عُنُقِهَا تُجَاهَ زَوجِهَا وأَولادِهَا؟ وذلكَ من خِلالِ قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا» رواه الإمام البخاري عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. ومن خِلالِ قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ؟ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ» رواه الحاكم وأبو داود عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.
وفي رِوَايَةٍ للطَبَراني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَفَادَ عَبْدٌ بَعْدَ الإِسْلامِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ زَوْجٍ مُؤْمِنَةٍ: إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ».
أيُّها الإخوة الكرام: كُلُّ فَرْدٍ من أَفرَادِ المُجتَمَعِ مُؤتَمَنٌ على أُمُورٍ، من ضِمْنِهَا: أَموَالُ النَّاسِ، وأَعرَاضُهُم، ودِمَاؤُهُم، فَهَل كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَرعَى الأَمَانَةَ تُجَاهَ الآخَرِينَ؟
أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ عَلَينَا أن نَرعَى الأَمَانَاتِ الحِسِّيَّةَ والمَعنَوِيَّةَ، وأن نُؤَدِّيَ الأَمَانَاتِ إلى أَهلِهَا، فالإمامُ أَمِينٌ على رَعِيَّتِهِ، والأَبُ أَمِينٌ على أَهلِ بَيتِهِ، والمَرأَةُ أَمِينَةُ على بَيتِ زَوجِهَا، والمُوَظَّفُ أَمِينٌ على وَظِيفَتِهِ، ومن مَاتَ غَاشَّاً للأَمَانَةِ مُتَّصِفَاً بالخِيَانَةِ، فقد تُوُعِّدَ بالعَذَابِ الأَلِيمِ، روى الإمام مسلم عن مَعْقِلٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».
أيُّها الإخوة الكرام: اِسمَعُوا وَصِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ والتَزِمُوهَا حَتَّى تُسعَدُوا: «وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا».
اللَّهُمَّ وَفِّقنَا لذلكَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
10/11/2024, 21:08 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الرابعة: قوانين الميراث تفضل الرجال على النساء ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:05 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثالثة: شهادة المرأة لا تساوي سوى نصف رجل ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:02 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثانية: المرأة لا تستطيع الطلاق ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:59 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الأولى: الإسلام يوجه الرجال لضرب زوجاتهم ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:54 من طرف Admin
» كتاب: المرأة في المنظور الإسلامي ـ إعداد لجنة من الباحثين
10/11/2024, 20:05 من طرف Admin
» كتاب: (درة العشاق) محمد صلى الله عليه وسلم ـ الشّاعر غازي الجَمـل
9/11/2024, 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
9/11/2024, 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin