فصل فهذا منزل العظمة قد أعطى من حقائقه
فهذا منزل العظمة قد أعطى من حقائقه قدر ما قبله استعداد الوقت صاحبه .
يصغر إذا كان من أرواح التسخير حتى يصير كالوضع لا غير .
وأمّا نحن في هذا المنزل فلا نصغر بل نفنى ونفنى عن نفنى بلا نفنى بل به عنه ، ولا غير ولا أثر ولا مخبر ولا خبر ولا رجوع بعد هذا الفناء بأنا لكن بهو .
فيكون الراجع الهو لا الأنا .
فيتسامى إذ ذاك عن الاتصاف بالصغر والتعرض للحكم .
كما قال « أبو يزيد » : « ضحكت زمانا وبكيت زمانا ، وأنا اليوم لا أضحك ولا أبكي » . وقيل له : كيف أصبحت ؟ فقال : « لا صباح لي ولا مساء . إنما الصباح والمساء لمن تقيد بالصفة وأنا لا صفة لي » .
والحمد للّه رب العالمين ، وصلى اللّه على محمد وعلى آله .
هذا التنزل مكّي والمحلّ قونوي يوناني فما تخلص من آثار الحكم الفكرية إلّا بعد أن جعله اللّه له من بين يديه ومن خلفه رصدا .
ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم . وحسبنا اللّه ونعم الوكيل .
نسخ من نسخة قوبلت من أصل نسخ من خط المؤلف وقرىء عليه فصح جهد الطاقة والحمد للّه وحده .
قوبل من أصل قوبل من أصل نسخ من خط المؤلف وقرىء عليه فصح جهد الطاقة والحمد للّه وحده .
ملاحق كتاب العظمة
ملحق 1 في معرفة منزل العظمة الجامعة للعظمات المحمدية
إنّ العظيم إذا عظّمته نزلا .... وإن تعاظمت جلّت ذاته فعلا
فهو الّذي أبطل الأكوان أجمعها ..... من باب غيرته وهو الّذي فعلا
وليس يدرك ما قلنا سوى رجل ..... قد جاوز الملأ العلويّ والرّسلا
وهام فيمن يظنّ الخلق أجمعه ..... تحصيله وسها عن نفسه وسلا
ذاك الرّسول رسول اللّه أحمدنا .... ربّ الوسيلة في أوصافه كملااعلم
أن لهذا المنزل أربعة عشر حكما :
الأول : يختص بصاحب الزمان .
والثاني والثالث : يختص بالإمامين
والرابع والخامس والسادس والسابع : يختص بالأوتاد .
والثامن والتاسع والعاشر والأحد عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر : بالأبدال .
وبهذه الأحكام يحفظ اللّه عالم الدنيا .
فمن علم هذا المنزل علم كيف يحفظ اللّه الوجود على عالم الدنيا . ونظيره من الطب علم تقويم الصحة . كما أنه بالأبدال تنحفظ الأقاليم ، وبالأوتاد ينحفظ الجنوب والشمال والمغرب والمشرق .
وبالإمامين ينحفظ عالم الغيب الذي في عالم الدنيا وعالم الشهادة ، وهو ما أدركه الحس .
وبالقطب ينحفظ جميع هؤلاء ، فإنه الذي يدور عليه أمر عالم الكون والفساد .
وهؤلاء على قلب أربعة عشر نبيا وهم :
آدم ، وإدريس ، ونوح ، وإبراهيم ، ويوسف ، وهود ، وصالح ، وموسى ، وداود ، وسليمان ، ويحيى ، وهارون ، وعيسى ، ومحمد سلام اللّه عليهم وعلى المرسلين والحمد للّه رب العالمين .
ولكل واحد ممن ذكرنا طريق يخصه ، وعلم ينصه ، وخبر يقصه ، ويرثه من ذكرناه ممن ليست له نبوة التشريع ، وإن كانت له النبوة العامة .
فلنذكر من ذلك ما تيسر فإنه يطول الشرح فيه ، ويتفرع إلى ما لا يكاد أن ينحصر .
ولهم من الأسماء الإلهية :
اللّه ، والرب ، والهادي ، والرحيم ، والرحمن ، والشافي ، والقاهر ، والمميت ، والمحيي ، والجميل ، والقادر ، والخلاق ، والجواد ، والمقسط .
كلّ اسم إلهيّ من هذه ينظر إلى قلب نبيّ ممّن ذكرنا ، وكل نبيّ يفيض على كل وارث .
فالنبي كالبرزخ بين الأسماء والورثة ، ولهم من حروف المعجم حروف أوائل السور ، وهي : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والنون .
هذا لهم من حيث الإمداد الإلهي الذي يأتيهم في قلوبهم ، وإنما الذي يأتيهم من الحروف في صور خيالهم بالإمداد أيضا فالدال ، والذال ، والعين ، والنون ، والصاد ، والراء ، والألف ، والطاء ، والحاء ، والواو ، والضاد ، والغين ، واللام ، والميم ، والتاء ، والكاف ، والباء ، والسين ، والقاف ، والياء ، والهاء ، والحرف المركب من لام الألف الذي هو للحروف بمنزلة الجوهر .
وهذه الحروف من عالم الأنفاس الإلهية ، وما تركب من الكلمات من هذه الحروف خاصة مما وقع عليها الاصطلاح في كل لسان بما تكون بها الفائدة في ذلك اللسان . فإن تلك الكلمات لها على ما قيل لي خواص في العالم ليست لسائر الكلم .
وأمّا الأرواح النورية فعين لهؤلاء الأنبياء منهم أربعة عشر روحا من أمر اللّه ينزلون من الأسماء - التي ذكرناها - الإلهية على قلوب الأنبياء وتلقاها حقائق الأنبياء عليهم السلام على قلوب من ذكرناه من الورثة ، ويحصل للفرد الواحد من الأفراد وراثة الجماعة المذكورة ،
فيأخذون علم الورث من طريق المذكورين من الأرواح الملكية والأنبياء البشريين ،
ويأخذون بالوجه الخاص من الأسماء الإلهية علوما لا يعلمها من ذكرناه سوى محمد صلى اللّه عليه وسلم فإن له هذا العلم كله .
لأنه أخبر أنه قد علم علم الأولين وعلم الآخرين .
اعلم
أن للّه كنوزا في الطبيعة التي تحت عرش العماء ، اكتنز فيها أمورا ، فيها سعادة العباد . كاكتزان الذهب في المعدن .
وصور هذه الكنوز صور الكلمات المركبة من الحروف اللفظية فلا تظهر ، إذا أراد اللّه إظهارها ، إلّا على ظهر أرض أجسام البشر على ألسنتهم .
وإنفاقها والانتفاع بها عين التلفظ بها ، مثل قول الإنسان .
"لا حول ولا قوة إلّا باللّه العليّ العظيم "
فهذه الكلمات من الكنوز المنصوص عليها من اللّه على لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم ،
وأول ما أظهرها اللّه تعالى على لسان آدم عليه السلام فهو أول من أنفق من هذا الكنز في الطواف بالكعبة حين أنزله جبريل فطاف به بالكعبة
فسأله : ما كنتم تقولون في طوافكم بهذا البيت ؟
فقال جبريل عليه السلام :
كنا نقول في طوافنا بهذا البيت " سبحان اللّه، والحمد للّه ، ولا إله إلّا اللّه ، واللّه أكبر".
فأعطى اللّه آدم وبنيه من حيث لا تعلمه الملائكة كلمة « لا حول ولا قوة إلا باللّه العليّ العظيم » .
فقال آدم لجبريل عليهما السلام : وأزيدكم أنا : "لا حول ولا قوة إلّا باللّه العليّ العظيم."
فبقيت سنّة في الذكر في الطواف لبنيه ، ولكل طائف به إلى يوم القيامة .
فأخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن هذه الكلمة أعطيها آدم عليه السلام من كنز تحت العرش . رواه البخاري ومسلم وابن حبان
"" فقال لي : « يا عبد اللّه بن قيس » قلت : لبيك يا رسول اللّه ، قال : " ألا أدلك على كلمة من كنز من كنوز الجنة ؟ " قلت : بلى يا رسول اللّه فداك أبي وأمي ، قال : « لا حول ولا قوة إلا باللّه » . ""
فالكنوز المكتنزة تحت العرش ، إنما هي مكتنزة في نشأتنا ، فإذا أراد اللّه إظهار كنز منها ، أظهره على ألسنتنا ، وجعل ذلك قربة إليه ، فإنفاقه النطق به .
وهكذا جميع ما اكتنزه مما فيه قربة ، وما ليس بقربة ممّا هو مكتنز ، بل يخلق في الوقت في لسان العبد ، وكانت صورة اختزانه - إذ لا يختزن إلّا أمر وجودي - أن اللّه لما أراد إيجاد هذا المكتنز ،
تجلى في صورة آدمية ، ثم تكلم بهذا الأمر الذي يريد أن يكتنزه لنا أو لمن شاء من خلقه ، فإذا تكلم به أسمعه ذلك المكان ، الذي يختزنه فيه فيمسك عليه ، فإذا أنشأ اللّه ذلك المكان صورة ظهر هذا الكنز في نطق تلك الصورة ، فانتفع بظهوره عند اللّه ،
ثم لم يزل ينتقل في ألسنة الذاكرين به دائما أبدا ، ولم يكن كنزا إلّا فيمن ظهر منه ابتداء ، لا في كل من ظهر منه بحكم الانتقال والحفظ .
وهكذا كلّ " من سنّ سنّة حسنة ". رواه ابن خزيمة وابن ماجة
ابتداء من غير تلقف من أحد مخلوق إلّا من اللّه إليه فتلك الحسنة كنز اكتنزها اللّه في هذا العبد من الوجه الخاص ، ثم نطق بها العبد لإظهارها ، كالذي ينفق ماله الذي اختزنه في صندوقه فهذا صورة الاكتناز - إن فهمت .
فلا يكون اكتنازا إلّا من الوجه الخاص الإلهي ، وما عدا ذلك فليس باكتناز .
فأول ناطق به هو محل الاكتناز ، الذي اكتنزه اللّه فيه .
وهو في حق من تلقفه منه ذكر مقرب كان موصوفا بأنه كنز ، فهذه كلها رموزه لأنها كلها كنوزه .
وبعد أن أعلمتك بصورة الكنز والاكتناز ، وكيفية الأمر في ذلك لتعلم ما أنت كنز له ، أي : محل لاكتنازه ، مما لست بمحل له إذا تلقنته ، أو تلقفته من غيرك فتعلم عند ذلك حظك من ربّك وما خصّك به من مشارب النبوة.
فتكون عند ذلك على بينة من ربك فيما تعبده به ، ولا تكون فيما أنت محل لاكتنازه وارثا ، بل تكون موروثا فتحقق ما ترثه وما يورث منك .
ومن هذا الباب مسألة بلال الذي نص عليها لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قوله له : " بم سبقتني إلى الجنة " . رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والترمذي.
يستفهمه إذ علم أن السبق له صلى اللّه عليه وسلم فلما ذكر له ما نص لنا قال : بهما . أي : بتينك الحالتين فمن عمل على ذلك كان له أجر العمل ، ولبلال أجر التسنين وأجر عملك معا .
فهذا فائدة كون الإنسان محلا للاكتناز .
وأمّا تسنين الشّرّ فليس باكتناز إلهي ، وإنما هو أمر طبيعي ، فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول معلما لنا : "والخير كله بيديك " .
أي : أنت الذي اكتنزته في عبادتك ، فهو يجعلك فيهم واختزانك ولذلك يكون قربة إليك العلم به ، ثم قال :"والشّرّ ليس إليك" . رواه مسلم وابن خزيمة والحاكم في المستدرك وأبو داود ورواه غيرهم
"" وفى رواية مسلم : عن علي بن أبي طالب عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال : « وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك أنا بك وإليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك »
وإذا ركع قال : « اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي »
وإذا رفع قال : « اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد »
وإذا سجد قال : « اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك اللّه أحسن الخالقين » .
ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم " اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت " .""
أي : لم تختزنه في عبادك . وهو قوله تعالى :ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [ النساء : 79 ] .
فأضاف السوء إليك والحسن إليه ، وقوله صدق وأخباره حقّ . وأمّا قوله :قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ[ النساء : 79 ] .
أي : التعريف بذلك من عند اللّه ، والحكم بأن هذا من اللّه وهذا من نفسك .
وهذا خير وهذا شر .
معنى( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) ولهذا قال في حق من جهل الذي ذكرناه منهم .فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً.
أي : ما لهم لا يفقهون ما حدثتهم به فإني قد قلت :ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فرفعت الاحتمال أو نصصت على الأمر بما هو عليه .
فلما قلت : ( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ). يعلم العالم باللّه أني أريد الحكم والإعلام بذلك أنه من عند اللّه لا عين السوء .
ولمّا علم ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : " والخير كله بيديك والشر ليس إليك " .
وكذلك قوله تعالى :وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ( 7 ) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ( 8 )[ الشمس :
7 ، 8 ] فجورها أنه فجورها ، وتقواها أنه تقوى .
ليفصل بين الفجور والتقوى . إذ هي محل لظهور الأمرين فيها .
فربّما التبس عليها الأمر وتخيلت فيه أنه كله تقوى .
فعلّمها اللّه فيما ألهمها ما يتميز به عندها الفجور من التقوى ، ولذا جاء بالإلهام ولم يجئ بالأمر .
فإن اللّه لا يأمر بالفحشاء ، والفجور فحشاء . فالذكر للأصل وهو القطب .
والتحميدان أعني تحميد السرّاء والضرّاء لما انقسم التحميد بلسان الشرع .
بين قوله : ( في السراء ) الحمد للّه المنعم المتفضل ،
وبين قوله : ( في الضراء ) الحمد للّه على كل حال ، وما له في الكون إلّا حالة تسر ، أو حالة تضر ، ولكل حالة تحميد ،
وهي قوله تعالى لنا في كتابه عن إبليس :ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ[ الأعراف : 17 ] .
وقام على كل جهة من هذه الجهات من يحفظ إيمانه منها جعل الأوتاد أربعة للزومهم هذه الجهات لكل وتد جهة أي الغالب عليه حفظ تلك الجهة خاصة .
وإن كان له حفظ لسائر الجهات " كأفرضكم زيد " رواه الحاكم " أفرض أمتي زيد بن ثابت ".
و " أقضاكم عليّ " رواه الطبراني ، و « كالجماعة تحمل ما لا يقدر الواحد على حمله إذا انفرد به .
"" قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأرفق أمتي لأمتي عمر بن الخطاب وأصدق أمتي حياء عثمان وأقضى أمتي علي بن أبي طالب وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل يجيء يوم القيامة أمام العلماء برتوة وأقرأ أمتي أبي بن كعب وأفرضها زيد بن ثابت " ."" رواه الطبراني
فلكل واحد من الجماعة قوة في حمله ، وأغلب قوته حمل ما يباشره من ذلك المحمول. فلولا الجماعة ما انتقل هذا المحمول لأن كل واحد واحد لا يقدر على حمله فبالمجموع كان الحمل .
كذلك هذا الأمر . فهذه سبعة .
وأمّا الأبدال : فلهم حفظ السبع الصفات في تصريف صاحبها لها ، إذ لها تصرف في الخير ، وتصرف في الشر ، فتحفظ على صاحبها تصريف الخير ، وتقيه من تصريفاتها في الشر .
فهذه جملة الأربعة عشر التي ذكرناها لقوم يعقلون من المؤمنين إذا أنصفوا ، ومن حصل له حفظ ما ذكرناه فذلك المعصوم ، وتلك العصمة .
ما ثم غير هذين في الظاهر والباطن وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[ الحجرات:16 ].
وإذا علمت هذا وانفتح لك مقفله مشيت لكل واحد من الذي عيّنّا لك على ما له مما ذكرناه من الأسماء الإلهية ، والحروف الرقمية المعينة ، والأفهام الموروثة من النبيين المذكورين والأرواح النورية، فيحصل لك ذوقا جميع ما ذكرناه وكشفا لمعناه فلا تغفل عن استعماله .
وفي هذا المنزل من العلوم .
علم الأذكار المقربة إلى اللّه تعالى ،
وعلم الأسماء الإلهية ،
وعلم اختصاص الرحمة وشمولها ،
وعلم الأسماء المركبة التي للّه ،
وعلم عواقب الأمور ،
وعلم العالم ،
وعلم مراتب السيادة في العالم ،
وعلم الثناء بالثناء ،
وعلم الملك والملكوت ،
وعلم الزمان ،
وعلم الجزاء ،
وعلم الاستناد ،
وعلم التعاون ،
وعلم العبادة ،
وعلم البيان والتبيين ،
وعلم طرق السعادة ،
وعلم النعمة والمنعم والإنعام ،
وعلم أسباب الطرد عن السعادة التي لا يشوبها شقاء ،
وعلم الحيرة والمتحيرين ،
وعلم السائل والمجيب ،
وعلم التعريف بالذات والإضافة وأيّ التعريفين أقوى .
هذه أمهات العلوم التي يحوي عليها هذا المنزل ،
وكل علم منها ، فتفاصيله لا تنحصر إلّا للّه تعالى . أي يعلم مع علمه بها أنها لا تنحصر ، لأنها لا نهاية لها .
ومنها تقع الزيادة في العلم لمن طلبها ، ومن أعطيها من غير طلب . وهو قوله :وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً[ طه : 114 ] .
فإن تناهى العلم في نفسه فإن المعلوم لا ينتهي .
وقد نهيت النّفس عن قولها .... بالانتها فيه فلم تنته
لجهلها بالأمر في نفسه .... لذاك قالت إنّه ينتهي
وقد رأينا نفرا منهم .... بمكّة يجول في مهمه
قد حكمت أوهامهم فيهم .... فانحاز ذو اللّبّ من الأبله
واعلم أن عالم الإنسان لما كان ملكا للّه تعالى كان الحق تعالى ملكا لهذا الملك بالتدبير فيه وبالتفصيل .
ولهذا وصف نفسه تعالى بأن "وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ"[ الفتح : 4 ]
، وقال :وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ[ المدّثر : 31 ] .
فهو تعالى حافظ هذه المدينة الإنسانية لكونها حضرته التي وسعته وهي عين مملكته ، وما وصف نفسه بالجنود والقوة إلّا وقد علم أنه تعالى قد سبقت مشيئته في خلقه أن يخلق له منازعا ينازعه في حضرته ويثور عليه في ملكه بنفوذ مشيئته فيه وسابق علمه وكلمته التي لا تتبدّل سماه الحارث ،
وجعل له خيلا ورجلا وسلّطه على الإنسان فأجلب هذا العدو على هذا الملك الإنساني بخيله ورجله .
ووعده بالغرور بسفراء خواطره التي تمشي بينه وبين الإنسان فجعل اللّه في مقابلة أجناده أجناد ملائكته ،
فلما تراءى الجمعان وهو في قلب جيشه جعل ميمنة ومسيرة وتقدمة وساقة
وعرفنا اللّه بذلك لنأخذ حذرنا منه من هذه الجهات
فقال اللّه تعالى لنا أنه قال هذا العدو .ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ[ الحجرات : 16 ] .
وهو في قلب جيشه في باطن الإنسان فحفظ اللّه هذا الملك الإنساني بأن كان اللّه في قلب هذا الجيش ، وهذا العسكر الإنساني في مقابلة قلب جيش الشيطان ، وجعل على ميمنته الاسم الربّ ، وعلى ميسرته الاسم الملك ، وعلى تقدمته الاسم الرحمن ،
وفي ساقته الاسم الرحيم ، وجعل الاسم الهادي يمشي برسالة الاسم الرحمن ، الذي في المقدمة إلى هذا الشيطان ، وما هو شيطان الجان وإنما أعني به شيطان الإنس .
فإن اللّه تعالى يقول :شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ[ الأنعام : 112 ] ،
وقال :مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ ( 4 ) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ( 5 ) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ( 6 )[ الناس : 4 - 6 ] .
فإن شياطين الإنس لهم سلطان على ظاهر الإنسان وباطنه ،
وشياطين الجن هم نوّاب شياطين الإنس في بواطن الناس ،
وشياطين الجن هم الذين يدخلون الآراء على شياطين الإنس ، ويدبرون دولتهم فيفصلون لهم ما يظهرون فيها من الأحكام ،
ولا يزال القتال يعمل على هذا الإنسان المؤمن خاصة فيقاتل اللّه عنه ليحفظ عليه إيمانه ، ويقاتل عليه إبليس ليرده إليه ، ويسلب عنه الإيمان ، ويخرجه عن طريق سعادته حسدا منه .
فإنه إذا أخرجه تبرأ منه وجثا بين يدي ربه الذي هو مقدم صاحب الميمنة ويجعله سفيرا بينه وبين الاسم الرحمن ، وعرّفنا اللّه بذلك كله لنعرف مكايده .
فهو يقول للإنسان بما يزين له ( أكفر ) فإذا كفر يقول له :إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها[ الحشر : 16 ، 17 ] .
لأن الكفر هنا هو الشرك ، وهو الظلم العظيم
ولذلك قال :وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَيريد المشركين ، فإنهم الذين لبسوا إيمانهم بظلم وفسره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما قاله لقمان لابنه :يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[ لقمان : 13 ] .
فعلمنا بهذا التفسير أن اللّه أراد بالإيمان هنا في قوله :وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ[ الأنعام : 82 ] .
أنه الإيمان بتوحيد اللّه ، لأن الشرك لا يقابله إلّا التوحيد .
فعلم النبي صلى اللّه عليه وسلم ما لم تعلمه الصحابة ، ولهذا ترك التأويل من تركه من العلماء ولم يقل به ، واعتمد على الظاهر ، وترك ذلك للّه ،
إذ قال :وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ[ آل عمران : 7 ] .
فمن أعلمه اللّه بما أراده في قوله ، علمه بإعلام اللّه لا بنظره ، ومن رحمة اللّه بخلقه أنه غفر للمتأولين من أهل ذلك اللسان العلماء به إذا أخطأوا في تأويلهم فيما تلفظ به رسولهم .
إمّا فيما ترجمه عن اللّه ، وإمّا فيما شرع له أن يشرعه قولا وفعلا ، وليس في المنازل الإلهية كلها على كثرتها ما ذكرنا منها في هذا الكتاب ، وما لم نذكر من يعطي الإنصاف ويؤدي الحقوق ولا يترك عليه حجة للّه ولا لخلقه فيوفي الربوبية حقها والعبودية حقها ،
وما ثم إلّا عبد ورب إلّا هذا المنزل خاصة هكذا أعلمنا اللّه بما ألهمه أهل طريق اللّه الذي جرت به العادة أن يعلم اللّه منه ورثة أنبيائه .
وهو منزل غريب عجيب أوله يتضمن كله ، وكلّه يتضمن جميع المنازل كلها .
وما رأيت أحدا تحقق به سوى شخص واحد مكمّل في ولايته لقيته بإشبيليّة ، وصحبته وهو في هذا المنزل ، وما زال عليه إلى أن مات رحمه اللّه .
وغير هذا الشخص فما رأيته مع أني ما أعرف منزلا ، ولا نحلة ، ولا ملّة إلّا رأيت قائلا بها ومعتقدا لها ومنصفا بها باعترافه من نفسه .
فما أحكي مذهبا ولا نحلة إلّا عن أهلها القائلين بها ، وإن كنّا قد علمناها من اللّه بطريق خاص ، ولكن لا بد أن يرينا اللّه قائلا بها لنعلم فضل اللّه عليّ وعنايته بي حتى أني أعلمت أن في العالم من يقول بانتهاء علم اللّه في خلقه ، وأن الممكنات متناهية ، وأن الأمر لا بد أن يلحق بالعدم والدثور ، ويبقى الحق حقا لنفسه ولا عالم .
فرأيت بمكة من يقول بهذا القول ، وصرح لي به معتقدا له من أهل السوس من بلاد المغرب الأقصى .
حجّ معنا وخدمنا وكان يصرّ على هذا المذهب حتى صرح به عندنا ، وما قدرت على ردّه عنه ، ولا أدري بعد فراقه إيّانا هل رجع عن ذلك ، أو مات عليه ؟
وكان لديه علوم جمة وفضل إلّا أنه لم يكن له دين وإنما كان يقيمه صورة عصمة لدمه.
هذا قوله لي ويعطيه مذهبه . وليس في مراتب الجهل أعظم من هذا الجهل .
واللّه يقول الحق وهو يهدي السبيل .
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin