"العالم الولي": لحضرة الشيخ عباس السيد فاضل الحسني:-
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله الذي برحمته تتم الصالحات، والصّلاة والسّلام على سيد أهل الحضرات، الذي جاء للعالمين رحمة مهداة، وسيلتنا العظمى إلى ذات الحق ـ جلَّ في علاه ـ سيدنا محمّد المجتبى لحب ذات الله، وعلى آله وأصحابه وأحبابه أهل الصدق والصفاء والوفاء ـ رضي الله تعالى عليهم جميعاً إلى يوم اللقاء.
أمّا بعد: فقال الله تعالى: }إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ{، وقال ـ جلَّ ثناؤه: }قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ{ ، وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: «أولياءُ الله الذين إذا رُؤوا ذُكر الله».
"أي سادة: لا يكون المؤمن صالحاً إلا إذا اتبع الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وآله وسلم، واهتدى بهديه، واقتدى به في أقواله وأفعاله وأخلاقه (لأن الشريعة الظاهرية هي ميزان الحق والباطل، فأي سر يخالف ذلك فهو باطل).
فإياكم والكذب على الله تعالى والخلق، وإن الدعوة بدون هذا فهي كذب على الله وخلقه، العبودية هي معرفة مقام العبدية، الدين عمل بالأوامر، واجتناب عن النواهي، وخضوع وانكسار وخشوع في الأمرين؛ العمل بالأوامر يقرب إلى الله تعالى، والاجتناب عن النواهي، خوف من الله تعالى، طلب القرب بلا أعمال محال وأي محال، الخوف مع الجرأة فضيحة، اطلبوا الله بمتابعة رسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم، وإياكم والسير إلى الله بطريق النفس والهوى، فمن سلك الطريق إلى الله بنفسه ضل في أول قدم .
"أيُ عزيزي": العالم الولي: من تحقق بعلم الظاهر والباطن، لأن العلم علمان: علم على اللسان وهو حجة الله على العباد، وعلم القلب وهو العلم النافع، وهو العلم الأعلى؛ أو علم المعاملة، وعلم المكاشفة، "ولا يخشى العبد الله إلا به"؛ كما قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: «أشدكم لله خشية أعلمكم بالله». قال سفيان الثوري؛ العلماء ثلاثة: عالم بأمر الله غير عالم بالله، فذلك العالم الفاجر الذي لا يصلح إلا للنار، وعالم بالله غير عالم بأمره، فذلك ناقص، "وعالم بالله وبأمره به، فهو العالم الكامل".
واعلم أن العلم: ظاهر، وباطن؛ وهو علم الشريعة الذي يدل ويدعو إلى الأعمال الظاهرة والباطنة، والأعمال الظاهرة كأعمال الجوارح الظاهرة، وهي العبادات والأحكام؛ مثل الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج وغير ذلك؛ "فهذه هي العبادات".
ـ وأما الأحكام؛ فالحدود، والطلاق، والعتاق، والبيوع، والفرائض، والقصاص وغيرها، فهذا كله على الجوارح الظاهرة التي هي الأعضاء، وهي الجوارح. وأما الأعمال الباطنة فكأعمال القلوب وهي "المقامات والأحوال"؛ مثل التصديق، والإيمان، واليقين، والصدق، والإخلاص، والمعرفة، والتوكل، والمحبة، والرضا، والذكر، والشكر، والإنابة، والخشية، والتقوى، والمراقبة، والفكرة والاعتبار، والخوف، والرجاء، والصبر، والقناعة، والتسليم، والتفويض، والقرب، والشوق، والوجد، والوجل، والحزن، والندم، والحياء، والخجل، والتعظيم، والإجلال، والهيبة؛ ولكل عمل من هذه الأعمال الظاهرة والباطنة ـ "علم، وفقه، وبيان، وفهم، وحقيقة، ووجد"؛ ويدل على صحة كل عمل منها من الظاهر والباطن آيات من القرآن، وأخبار عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، علمه من علمه، وجهله من جهله؛ ولا يستغني الظاهر عن الباطن، ولا الباطن عن الظاهر؛ كما قال تعالى: }وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً{، وقال تعالى: }وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ{.
قال العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام": وليست الحقيقة خارجة عن الشريعة، بل الشريعة طافحة بإصلاح القلوب بالمعارف والأحوال والعزوم والنيات؛ فمعرفة أحكام الظواهر معرفة لجل الشرع، ومعرفة أحكام البواطن معرفة لدق الشريعة، ولا ينكر شيئاً منها إلا كافر أو فاجر، وقد يتشبه بالقوم من ليس منهم ولا يقاربهم في شيء من الصفات؛ وهم شر من قطاع الطريق، لأنهم يقطعون طرق الذاهبين إلى الله تعالى، وقد اعتمدوا على كلمات قبيحات يطلقونها على الله، ويسيئون الأدب مع الأنبياء والرسل، وأتباع الأنبياء من العلماء الأتقياء، وينهون من يصحبهم عن السماع من الفقهاء، لعلمهم بأن الفقهاء ينهون عن صحبتهم وعن سلوك طريقهم.
وقال ـ رحمه الله تعالى: قَدّمَ الأولياء والأصفياء مصالح الآخرة على مصالح هذه الدار لمعرفتهم بتفاوت المصلحتين، ودرءوا مفاسد الآخرة بالتزام مفاسد بعض هذه الدار لمعرفتهم بتفاوت الرتبتين؛ وأما أصفياء الأصفياء فإنهم عرفوا أن لذات المعارف والأحوال أشرف اللذات فقدموها على لذات الدارين؛ ولو عرف الناس كلهم من ذلك ما عرفوه لكانوا أمثالهم فنصبوا ليستريحوا واغتربوا ليقتربوا؛ فمنهم من تحضره المعارف بغير تكلف فينشأ عنها الأحوال اللائقة بها بغير تصنّع ولا تخلق، ومنهم من يستذكر المعارف لينشأ عنها أحوالها؛ وشتان ما بين الفريقين؛ وقد يتكلف المحروم استحضار المعارف فلا تحضره؛ فسبحان من عرف نفسه لهؤلاء من غير تعب ولا نصب ولا استدلال ولا وصب، بل جاد عليهم خالص وبله وصافي فضله فشغلهم به عما سواه، فلا هم له سواه ولا مؤنس لهم غيره ولا معتمد لهم إلا عليه، لعلمهم أنه لا ملجأ لهم إلا إليه، فرضوا بقضائه وصبروا على بلائه وشكروا لنعمائه؛ يتسع عليهم ما يضيق على الناس، ويضيق عليهم ما يتسع للناس، أدبهم القرآن معلمهم الرحمن وجليسهم الديان وسرابيلهم الإذعان، قد انقطعوا عن الإخوان وتغربوا عن الأوطان، بكاؤهم طويل وفرحهم قليل، يردون كل حين مورداً لم يتهموه وينزلون منزلاً لم يفهموه ويشاهدون ما لم يعرفوه، لا يعرف منازلهم عارف ولا يصف أحوالهم واصف إلا من نازلها ولابسها، قد اتصفوا بأخلاق القرآن على حسب الإمكان، وتلك الأخلاق موجبة لرضا الرحمن وسكنى الجنان في الرغد والأمان مع النظر إلى الديان.
قال ذو النون المصري: للعارف نار ونور؛ نار الخشية، ونور المعرفة، فظاهره محترق بنار الخشية، وباطنه منور بنور المعرفة، فالدنيا تبكي بعين الفناء عليه، والآخرة تضحك بسن البقاء إليه، فكيف يقدر الشيطان أن يدنو منه ظاهراً وباطناً إلا كالبرق الخاطف، أو كالريح العاصف، فإن أتاه عارض من قبل العين، أحرقته نار العبرة، وإن أتاه من قبل النفس أحرقته نار الخدمة، وإن أتاه من قبل العقل، أحرقته نار الفكرة، وإن أتاه من قبل القلب، أحرقته نار الشوق والمحبة، وإن أتاه من قبل السّر، أحرقته نار القرب والمشاهدة، فتارة يحرق قلبه بنار الخشية، وتارة يتشفى بنور المعرفة، فإذا امتزجت نار الخشية ونور المعرفة هاجت ريح اللطف من سرادقات الأنس والقربة، فيظهر صفاء الحق للعبد، فتراها تلاشت الأنانية، وبقيت الإلوهية كما هو في الأزل.
قال يحيى بن معاذ: العارف علامته أربعة: محبة الجليل، وتركه الكثير والقليل، واتباعه التنزيل، وخوفه من التحويل. }رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ{.
"أي أخي": جاء في كتب الأنبياء تصف الأصفياء؛ يقول الله تعالى: «عبدي بي وجدتني، وبي وقع بيني وبينك عقد المحبة، وبي صرت من أهل خدمتي، وبي تعرفني، وبي تذكرني وتثني عليَّ، وبي تلذذ بذكري، وبي قصدت صحبتي، وبي قدرت أن تنظر في الآخرة إلى وجهي، عبدي نفسك لي، وروحك لي، وقلبك لي، وكليتك لي؛ فأن أعطيتني الكل أعطيتك الكل، وكنت لك مع الكل».
وأوحى الله تعالى إلى داود ـ عليه السلام: «يا داود أخبر أهل الأرض بأني حبيب لمن أحبني، وجليس لمن جالسني، ومؤنس لمن آنس بي، وصاحب لمن صاحبني، ومطيع لمن أطاعني، ومختار لمن اختارني، وقل لعبادي هلموا إلى مصاحبتي ومؤانستي، وسارعوا إلى محبتي وقربي».
«يا داود: أحبني، وأحب أحبائي، وحببني إلى عبادي"، فقال داود: إلهي أحبك وأحب أحبابك؛ فكيف أحببك إلى عبادك؟، فقال: "ذكرهم آلائي، وحُسن لطائفي».
وقال الله تعالى في بعض كتبه: «إنَّ أحب عبادي إليَّ من يحبب عبادي إليَّ، ويحببني لعبادي؛ أولئك الأبطال حقاً، إذا أردت أنزل بخلقي بلاء دفعت عنهم بهم»، وفي الخبر: إذا أحب الله عبداً من عباده، نادى جبريل عليه الصلاة والسلام: «يا أهل السماء والأرض، يا معاشر أولياء الله وأصفيائه؛ إن الله تعالى يحب فلاناً فأحبوه»، وفي أخرى، قال أكمل الرسل: «إذا أَحَبَّ الله الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ في أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ له الْقَبُولُ في الأرض» متفق عليه.
وفي رواية الإمام أحمد: «إنَّ الْعَبْدَ لَيَلْتَمِسُ مَرْضَاةَ اللَّهِ وَلاَ يَزَالُ بِذَلِكَ، فيقول الله عز وجل لِجِبْرِيلَ: إن فُلاَناً عبدي يَلْتَمِسُ أن يرضيني، ألا وإن رحمتي عليه، فيقول جِبْرِيلُ: رَحْمَةُ اللَّهِ على فُلاَنٍ، وَيَقُولُهَا حَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَيَقُولُهَا من حَوْلَهُمْ حتى يَقُولَهَا أَهْلُ السماوات السَّبْعِ، ثُمَّ تَهْبِطُ له إلى الأَرْضِ».
إن المحب نهاره مستوحش بين العباد كالمتفرد
فالعين منه قريرة بحبيبه يرجو لقاء الواحد المتوحد
يا حسن موكبهم إذا ما أقبلوا نحو الإله مع النبيِّ محمّدِ
اللَّهم؛ يا ربنا أكرمنا بالعلم والخشية، والطاعة والأدب، والمحبة والمعرفة، والافتقار والخدمة، وارحم هذه الأمة المرحومة، آمين.
اللَّهم؛ يا عُدَّتِنا عند شِدَّتنا، ويا غَوثنا عند كُربتنا؛ اُحرُسنا بعينك التي لا تنام، واكنُفنا بِرُكنك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، وانصرنا على أعدائنا، فلا نهلك وأنت رجاؤنا؛ اللَّهم إنَّك أكبرُ وأجلُّ وأقدرُ مما نخاف ونحذر، اللَّهم بك ندرأُ في نحورهم ونستعيذ بك من شرورهم، آمينَ آمين.
اللَّهم؛ صلِّ وسلّم وبارك على حبيب رب العالمين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. والحمد لله ربّ العالمين.
ابنه وخادمه محمّد
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله الذي برحمته تتم الصالحات، والصّلاة والسّلام على سيد أهل الحضرات، الذي جاء للعالمين رحمة مهداة، وسيلتنا العظمى إلى ذات الحق ـ جلَّ في علاه ـ سيدنا محمّد المجتبى لحب ذات الله، وعلى آله وأصحابه وأحبابه أهل الصدق والصفاء والوفاء ـ رضي الله تعالى عليهم جميعاً إلى يوم اللقاء.
أمّا بعد: فقال الله تعالى: }إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ{، وقال ـ جلَّ ثناؤه: }قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ{ ، وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: «أولياءُ الله الذين إذا رُؤوا ذُكر الله».
"أي سادة: لا يكون المؤمن صالحاً إلا إذا اتبع الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وآله وسلم، واهتدى بهديه، واقتدى به في أقواله وأفعاله وأخلاقه (لأن الشريعة الظاهرية هي ميزان الحق والباطل، فأي سر يخالف ذلك فهو باطل).
فإياكم والكذب على الله تعالى والخلق، وإن الدعوة بدون هذا فهي كذب على الله وخلقه، العبودية هي معرفة مقام العبدية، الدين عمل بالأوامر، واجتناب عن النواهي، وخضوع وانكسار وخشوع في الأمرين؛ العمل بالأوامر يقرب إلى الله تعالى، والاجتناب عن النواهي، خوف من الله تعالى، طلب القرب بلا أعمال محال وأي محال، الخوف مع الجرأة فضيحة، اطلبوا الله بمتابعة رسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم، وإياكم والسير إلى الله بطريق النفس والهوى، فمن سلك الطريق إلى الله بنفسه ضل في أول قدم .
"أيُ عزيزي": العالم الولي: من تحقق بعلم الظاهر والباطن، لأن العلم علمان: علم على اللسان وهو حجة الله على العباد، وعلم القلب وهو العلم النافع، وهو العلم الأعلى؛ أو علم المعاملة، وعلم المكاشفة، "ولا يخشى العبد الله إلا به"؛ كما قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: «أشدكم لله خشية أعلمكم بالله». قال سفيان الثوري؛ العلماء ثلاثة: عالم بأمر الله غير عالم بالله، فذلك العالم الفاجر الذي لا يصلح إلا للنار، وعالم بالله غير عالم بأمره، فذلك ناقص، "وعالم بالله وبأمره به، فهو العالم الكامل".
واعلم أن العلم: ظاهر، وباطن؛ وهو علم الشريعة الذي يدل ويدعو إلى الأعمال الظاهرة والباطنة، والأعمال الظاهرة كأعمال الجوارح الظاهرة، وهي العبادات والأحكام؛ مثل الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج وغير ذلك؛ "فهذه هي العبادات".
ـ وأما الأحكام؛ فالحدود، والطلاق، والعتاق، والبيوع، والفرائض، والقصاص وغيرها، فهذا كله على الجوارح الظاهرة التي هي الأعضاء، وهي الجوارح. وأما الأعمال الباطنة فكأعمال القلوب وهي "المقامات والأحوال"؛ مثل التصديق، والإيمان، واليقين، والصدق، والإخلاص، والمعرفة، والتوكل، والمحبة، والرضا، والذكر، والشكر، والإنابة، والخشية، والتقوى، والمراقبة، والفكرة والاعتبار، والخوف، والرجاء، والصبر، والقناعة، والتسليم، والتفويض، والقرب، والشوق، والوجد، والوجل، والحزن، والندم، والحياء، والخجل، والتعظيم، والإجلال، والهيبة؛ ولكل عمل من هذه الأعمال الظاهرة والباطنة ـ "علم، وفقه، وبيان، وفهم، وحقيقة، ووجد"؛ ويدل على صحة كل عمل منها من الظاهر والباطن آيات من القرآن، وأخبار عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، علمه من علمه، وجهله من جهله؛ ولا يستغني الظاهر عن الباطن، ولا الباطن عن الظاهر؛ كما قال تعالى: }وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً{، وقال تعالى: }وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ{.
قال العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام": وليست الحقيقة خارجة عن الشريعة، بل الشريعة طافحة بإصلاح القلوب بالمعارف والأحوال والعزوم والنيات؛ فمعرفة أحكام الظواهر معرفة لجل الشرع، ومعرفة أحكام البواطن معرفة لدق الشريعة، ولا ينكر شيئاً منها إلا كافر أو فاجر، وقد يتشبه بالقوم من ليس منهم ولا يقاربهم في شيء من الصفات؛ وهم شر من قطاع الطريق، لأنهم يقطعون طرق الذاهبين إلى الله تعالى، وقد اعتمدوا على كلمات قبيحات يطلقونها على الله، ويسيئون الأدب مع الأنبياء والرسل، وأتباع الأنبياء من العلماء الأتقياء، وينهون من يصحبهم عن السماع من الفقهاء، لعلمهم بأن الفقهاء ينهون عن صحبتهم وعن سلوك طريقهم.
وقال ـ رحمه الله تعالى: قَدّمَ الأولياء والأصفياء مصالح الآخرة على مصالح هذه الدار لمعرفتهم بتفاوت المصلحتين، ودرءوا مفاسد الآخرة بالتزام مفاسد بعض هذه الدار لمعرفتهم بتفاوت الرتبتين؛ وأما أصفياء الأصفياء فإنهم عرفوا أن لذات المعارف والأحوال أشرف اللذات فقدموها على لذات الدارين؛ ولو عرف الناس كلهم من ذلك ما عرفوه لكانوا أمثالهم فنصبوا ليستريحوا واغتربوا ليقتربوا؛ فمنهم من تحضره المعارف بغير تكلف فينشأ عنها الأحوال اللائقة بها بغير تصنّع ولا تخلق، ومنهم من يستذكر المعارف لينشأ عنها أحوالها؛ وشتان ما بين الفريقين؛ وقد يتكلف المحروم استحضار المعارف فلا تحضره؛ فسبحان من عرف نفسه لهؤلاء من غير تعب ولا نصب ولا استدلال ولا وصب، بل جاد عليهم خالص وبله وصافي فضله فشغلهم به عما سواه، فلا هم له سواه ولا مؤنس لهم غيره ولا معتمد لهم إلا عليه، لعلمهم أنه لا ملجأ لهم إلا إليه، فرضوا بقضائه وصبروا على بلائه وشكروا لنعمائه؛ يتسع عليهم ما يضيق على الناس، ويضيق عليهم ما يتسع للناس، أدبهم القرآن معلمهم الرحمن وجليسهم الديان وسرابيلهم الإذعان، قد انقطعوا عن الإخوان وتغربوا عن الأوطان، بكاؤهم طويل وفرحهم قليل، يردون كل حين مورداً لم يتهموه وينزلون منزلاً لم يفهموه ويشاهدون ما لم يعرفوه، لا يعرف منازلهم عارف ولا يصف أحوالهم واصف إلا من نازلها ولابسها، قد اتصفوا بأخلاق القرآن على حسب الإمكان، وتلك الأخلاق موجبة لرضا الرحمن وسكنى الجنان في الرغد والأمان مع النظر إلى الديان.
قال ذو النون المصري: للعارف نار ونور؛ نار الخشية، ونور المعرفة، فظاهره محترق بنار الخشية، وباطنه منور بنور المعرفة، فالدنيا تبكي بعين الفناء عليه، والآخرة تضحك بسن البقاء إليه، فكيف يقدر الشيطان أن يدنو منه ظاهراً وباطناً إلا كالبرق الخاطف، أو كالريح العاصف، فإن أتاه عارض من قبل العين، أحرقته نار العبرة، وإن أتاه من قبل النفس أحرقته نار الخدمة، وإن أتاه من قبل العقل، أحرقته نار الفكرة، وإن أتاه من قبل القلب، أحرقته نار الشوق والمحبة، وإن أتاه من قبل السّر، أحرقته نار القرب والمشاهدة، فتارة يحرق قلبه بنار الخشية، وتارة يتشفى بنور المعرفة، فإذا امتزجت نار الخشية ونور المعرفة هاجت ريح اللطف من سرادقات الأنس والقربة، فيظهر صفاء الحق للعبد، فتراها تلاشت الأنانية، وبقيت الإلوهية كما هو في الأزل.
قال يحيى بن معاذ: العارف علامته أربعة: محبة الجليل، وتركه الكثير والقليل، واتباعه التنزيل، وخوفه من التحويل. }رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ{.
"أي أخي": جاء في كتب الأنبياء تصف الأصفياء؛ يقول الله تعالى: «عبدي بي وجدتني، وبي وقع بيني وبينك عقد المحبة، وبي صرت من أهل خدمتي، وبي تعرفني، وبي تذكرني وتثني عليَّ، وبي تلذذ بذكري، وبي قصدت صحبتي، وبي قدرت أن تنظر في الآخرة إلى وجهي، عبدي نفسك لي، وروحك لي، وقلبك لي، وكليتك لي؛ فأن أعطيتني الكل أعطيتك الكل، وكنت لك مع الكل».
وأوحى الله تعالى إلى داود ـ عليه السلام: «يا داود أخبر أهل الأرض بأني حبيب لمن أحبني، وجليس لمن جالسني، ومؤنس لمن آنس بي، وصاحب لمن صاحبني، ومطيع لمن أطاعني، ومختار لمن اختارني، وقل لعبادي هلموا إلى مصاحبتي ومؤانستي، وسارعوا إلى محبتي وقربي».
«يا داود: أحبني، وأحب أحبائي، وحببني إلى عبادي"، فقال داود: إلهي أحبك وأحب أحبابك؛ فكيف أحببك إلى عبادك؟، فقال: "ذكرهم آلائي، وحُسن لطائفي».
وقال الله تعالى في بعض كتبه: «إنَّ أحب عبادي إليَّ من يحبب عبادي إليَّ، ويحببني لعبادي؛ أولئك الأبطال حقاً، إذا أردت أنزل بخلقي بلاء دفعت عنهم بهم»، وفي الخبر: إذا أحب الله عبداً من عباده، نادى جبريل عليه الصلاة والسلام: «يا أهل السماء والأرض، يا معاشر أولياء الله وأصفيائه؛ إن الله تعالى يحب فلاناً فأحبوه»، وفي أخرى، قال أكمل الرسل: «إذا أَحَبَّ الله الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ في أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ له الْقَبُولُ في الأرض» متفق عليه.
وفي رواية الإمام أحمد: «إنَّ الْعَبْدَ لَيَلْتَمِسُ مَرْضَاةَ اللَّهِ وَلاَ يَزَالُ بِذَلِكَ، فيقول الله عز وجل لِجِبْرِيلَ: إن فُلاَناً عبدي يَلْتَمِسُ أن يرضيني، ألا وإن رحمتي عليه، فيقول جِبْرِيلُ: رَحْمَةُ اللَّهِ على فُلاَنٍ، وَيَقُولُهَا حَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَيَقُولُهَا من حَوْلَهُمْ حتى يَقُولَهَا أَهْلُ السماوات السَّبْعِ، ثُمَّ تَهْبِطُ له إلى الأَرْضِ».
إن المحب نهاره مستوحش بين العباد كالمتفرد
فالعين منه قريرة بحبيبه يرجو لقاء الواحد المتوحد
يا حسن موكبهم إذا ما أقبلوا نحو الإله مع النبيِّ محمّدِ
اللَّهم؛ يا ربنا أكرمنا بالعلم والخشية، والطاعة والأدب، والمحبة والمعرفة، والافتقار والخدمة، وارحم هذه الأمة المرحومة، آمين.
اللَّهم؛ يا عُدَّتِنا عند شِدَّتنا، ويا غَوثنا عند كُربتنا؛ اُحرُسنا بعينك التي لا تنام، واكنُفنا بِرُكنك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، وانصرنا على أعدائنا، فلا نهلك وأنت رجاؤنا؛ اللَّهم إنَّك أكبرُ وأجلُّ وأقدرُ مما نخاف ونحذر، اللَّهم بك ندرأُ في نحورهم ونستعيذ بك من شرورهم، آمينَ آمين.
اللَّهم؛ صلِّ وسلّم وبارك على حبيب رب العالمين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. والحمد لله ربّ العالمين.
ابنه وخادمه محمّد
أمس في 21:08 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الرابعة: قوانين الميراث تفضل الرجال على النساء ـ د.نضير خان
أمس في 21:05 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثالثة: شهادة المرأة لا تساوي سوى نصف رجل ـ د.نضير خان
أمس في 21:02 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثانية: المرأة لا تستطيع الطلاق ـ د.نضير خان
أمس في 20:59 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الأولى: الإسلام يوجه الرجال لضرب زوجاتهم ـ د.نضير خان
أمس في 20:54 من طرف Admin
» كتاب: المرأة في المنظور الإسلامي ـ إعداد لجنة من الباحثين
أمس في 20:05 من طرف Admin
» كتاب: (درة العشاق) محمد صلى الله عليه وسلم ـ الشّاعر غازي الجَمـل
9/11/2024, 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
9/11/2024, 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin