الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء 15
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 222 “
الزبير بالسيف ، فولى حرب يعدو هاربا حتى دخل دار عبد المطلب ، فقال : أجرني من الزبير ، فألقى عليه عبد المطلب جفنة كان هاشم يطعم فيها الناس ، فبقي تحتها ، ثم قال له : اخرج ، فقال : وكيف أخرج وعلى بابك تسعة من ولدك قد اجتذبوا السيوف ؟ فألقى عليه رداء كان كساه إياه سيف بن ذي يزن له طرّتان خضراوتان ، فخرج عليهم ، فعلموا أنه قد أجاره ، فتفرقوا عنه .
روينا من حديث ابن عباس رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « لا تفخروا بآبائكم في الجاهلية ، فوالذي نفسي بيده لما يدحرج العجل برجله خير من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية » ، أخذها القطب المطهّر واعظ العجم ، وكان بليغا في اللسان الفارسي ، فوعظ الناس يوما ، فقام إليه بعض الناس فقال : أيها الواعظ ، أنت خير أم الكلب ؟ قال :
فأطرق ساعة واستعبر ، وكان صالحا فقال : يا أخي ، أما إني إن فزت بالجنة ونجوت من النار فأنا خير من الكلب ، وإن كان غير ذلك فالكلب خير مني . أخبرني بهذه الحكاية تلميذه صاحبنا مجد الدين أبو إبراهيم إسحاق بن محمد بن يوسف القونوي .
وكان الحسن بن أبي إسحاق البصري يقول : يا ابن آدم ، لم تفتخر وإنما خرجت من سبيل البول نطفة تنسحب بأقذار ؟ قال بعض الحكماء ، وكان من الصالحين لرجل آخر يفتخر : أيفتخر من أوّله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وهو فيما بينهما وعاء عذرة ؟
وأنشدنا ابن البطين لعليّ بن أبي طالب القيرواني ، وقيل : لعليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه :
الناس من جهة التمثل أكفاء * أبوهم آدم والأم حواء
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم * على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه * والجاهلون لأهل العلم أعداء
وكان أبي كثيرا ما ينشد :
الحمد للّه ليس الرزق بالطلب * ولا العطايا على فهم ولا أدب
إن قدّر اللّه شيئا كنت نائله * وليس ينفعني حرصي ولا نصيبي
وخطب بعض الخلفاء وقد خطر له حسن الظن باللّه تعالى فقال : الحمد للّه الذي أنقذني من ناره بخلافته .
ومن حسن كلام الحجاج أن كان ينفعه ذلك وقد أشاع موته بعض من يكرهه ، قال الناس يوم مات الحجاج : مات الحجاج ، فقال : مه ، ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت ، واللّه ما رضي البقاء إلا لأهون الخلق عليه إبليس ، إذ قال : رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ *
“ 223 “
قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * أطمع الحجاج في ربه حسن ظنه به واتساع عفوه وكرمه .
شعر
تعاظمني ذنبي فلما قرنته * بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وقال الآخر :
ذنبي إليك عظيم * وأنت أعظم منه
وحديث السجلّاتي ، وهو الرجل الذي ذكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه ينشر له يوم القيامة تسعة وتسعون سجلا ، كل سجل مدّ البصر ليس فيها خير قط إلا كلمة التوحيد ، فألقاها اللّه له في كفة ، والسجلّات في كفة ، فثقلت كلمة التوحيد ، وطاشت السجلات ، فدخل الجنة ، وهذا بلا شك أعظم ذنوبا من الحجاج ، فكيف لا يطمح الحجاج وكان من الذين خلطوا ؟
وروينا من حديث أنس بن مالك قال : دخلنا على قوم من الأنصار وفيهم فتى عليل ، فلم نخرج من عندهم حتى قضى نحبه ، فإذا عجوز عند رأسه ، فالتفت إليها بعض القوم فقال : استسلمي لأمر اللّه واحتسبي ، قالت : أمات ابني ؟ قال : نعم ، قالت : أحق ما يقوله ؟
قلنا : نعم ، فمدت يدها إلى السماء وقالت : اللهم إنك تعلم أني أسلمت لك ، وهاجرت إلى نبيك محمد صلى اللّه عليه وسلم رجاء أن تعينني عند كل شدة ، فلا تحملني هذه المصيبة اليوم ، قال :
فكشف ابنها الذي سجيناه عن وجهه ، وما برحنا حتى طعم وشرب ، وطعمنا وشربنا معه .
في الكتاب الأول يقول اللّه تعالى : يا ابن آدم ، أحدث لك سفرا ، أحدث لك رزقا .
قال الكميت : ولن تريح هموم النفس إن حضرت حاجات مثلك إلا الرجل والجمل .
وجد في بعض خزائن ملوك فارس لوح من حجارة مكتوب عليه : كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو ، فإن موسى عليه السلام خرج يقتبس نارا فنودي بالنبوّة .
روينا من حديث الأصمعي قال : حججت مرة فإذا أعرابي قد كوّر عمامته على رأسه ، وقد تنكّب قوسا ، فصعد المنبر ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنما الدنيا دار ممر ، والآخرة دار مقر ، فخذوا من ممركم لمقركم ، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم .
“ 224 “
أما بعد ، فإنه لن يستقبل أحد يوما من عمره إلا بفراق آخر من أجله ، فاستعملوا لأنفسكم لما تقدمون عليه لا لم تظعنون عنه ، وراقبوا من ترجعون إليه ، فإنه لا قوي أقوى من خالق ، ولا ضعيف أضعف من مخلوق ، ولا مهرب من اللّه إلا إليه ، وكيف يهرب من يتقلّب في يدي طالبه ؟ وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ * .
وروينا من حديث ابن ودعان ، حدثنا الحسن بن محمد الصيرفي ، نبأ أبو بكر بن محمد بن قاسم ، نبأ إسماعيل بن إسحاق ، نبأ نصر بن علي ، عن الأصمعي ، عن أبي عمرو ، عن عيسى بن عمير ، عن معاوية أنه قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول في خطبة أحد العيدين : « الدنيا دار بلاء ومنزل قلعة وعناء ، نزعت عنها نفوس السعداء ، وانتزعت بالكره من أيدي الأشقياء ، وأسعد الناس بها أرغبهم عنها ، وأشقاهم بها أرغبهم فيها ، هي الغاشّة لمن استنصحها ، والمغوية لمن أطاعها ، والجائرة لمن انقادها ، والفائز من أعرض عنها ، والهالك من هوى فيها ، طوبى لعبد اتقى فيها ربه ، وناصح نفسه ، وقدّم توبته ، وأخّر شهوته ، من قبل أن تلفظه الدنيا إلى الآخرة فيصبح في بطن مقفرة موحشة غبراء مدلهمة ظلماء ، لا يستطيع أن يزيد في حسنة ، ولا ينقص من سيئة ، ثم ينشر فيحشر ، إما إلى جنة يدوم نعيمها ، أو نار لا ينفكّ عذابها » .
لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز جزع عليه أبوه جزعا شديدا ، فقال ذات يوم لمن حضر : هل من منشد شعر يعزّيني به أو واعط يخفّف عني فأتسلى به ؟ فقال رجل من أهل الشام : يا أمير المؤمنين ، كل خليل مفارق خليله بأن يموت أو بأن يذهب ، فتبسم عمر وقال : مصيبتي فيك زادتني مصيبة .
وفي الكتاب الأول أن اللّه تعالى يقول : يا عبدي ، إن رضيت حكمي واليتك ، وإن اتقيتني قربتك ، وإن استحييت مني أكرمتك ، وإن توكلت عليّ صدقا كفيتك ، وإن ظلمت نفسك بمعصيتي عاقبتك . أنت بيدك جرحت فؤادك لما بلغت من المعصية مرادك ، أما علمت أنك لما نزعت لباس التقوى عرضت نفسك للمحن والبلوى ؟
ومن كلام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : الدنيا دار صدق ، ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزود منها ، مسجد أنبياء اللّه ، ومهبط وحيه ، ومصلى ملائكته ، ومتجر أوليائه ، يكسبون فيها الرحمة ، ويرجون فيها الجنة ، فمن ذا يذمها وقد أذنت بنعيها ، ونادت بفراقها ، ونعت نفسها ، وشوقت بسرورها إلى السرور ، وببلائها إلى البلاء ، تخويفا وتحذيرا وترغيبا وترهيبا . فيا أيها الذامّ للدنيا ، والمفتتن بغرورها ، متى غرتك بمصارع
“ 225 “
آبائك من البلا ؟ أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى ، كم تملكت بكفيك وكم مرضت بيديك ؟
تبتغي لهم الدواء ، وتستوصف لهم الأطباء ، وتلتمس لهم الشفاء ، لم تنفعهم بطلبتك ، ولم تشفعهم بشفاعتك ، ولم تستشفعهم باستشفائك ، تظنك مثلت لهم الدنيا بمصرعك ومضجعك حيث لا ينفعك بكاؤك ، ولا يغني أحباؤك . ثم التفت إلى قبور هناك وقال : يا أيها الثروة والعز ، الأزواج قد نكحت ، والأموال قد قسمت والدّور قد سكنت ، هذا خير ما عندنا ، فما خير ما عندكم ؟ ثم قال لمن حضر : واللّه لو أذن لهم لأجابوكم بأن خير الزاد التقوى .
ثم أنشد :
ما أحسن الدنيا وإقبالها * إذا أطاع للّه من نالها
من لم يواس الناس من فضلها * عرّض للإدبار إقبالها
وروينا من حديث الخطابي ، قال : حدثني الخلديّ موسى بن هارون ، عن هدية بن خالد ، عن حزام القطعيّ ، قال : سمعت الحسن يقول : المداراة نصف العقل ، وأنا أقول :
هو العقل كله .
وقال محمد ابن الحنفيّة : ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بدا حتى يجعل اللّه له فرجا ومخرجا .
وروينا من حديث الخطابيّ ، قال : انا محمد بن هاشم ، عن الديريّ ، عن عبد الرزاق ، عن ثابت بن رافع قال : أخبرني شيخ من أهل صنعاء يقال له أبو عبد اللّه ، قال :
سمعت وهب بن منبّه يقول : إني وجدت من حكمة آل داود : حق على العالم أن لا يشتغل عن أربع ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يصادقونه على عيوبه وينصحونه في نفسه ، وساعة يخلو فيها بين نفسه وبين لذّاتها فيما يحلّ ويحمد ، فإن هذه الساعة عون لهذه الساعات ، والاستجمام للقلوب ، وفضل وبلغة ، وعلى العاقل أن يكون عارفا بزمانه ، ممسكا للسانه ، مقبلا على شأنه .
وأنشدنا محمد الكتانيّ لبعضهم :
عليك بالقصد لا تطلب مكاثرة * فالقصد أفضل شيء أنت طالبه
واقنع بمالك لا تحسد أخا نشب * فعن قليل يردّ المال واهبه
فالمرء يفرح بالدنيا وبهجتها * ولا يفكر ما كانت عواقبه
حتى إذا ذهبت عنه وفارقها * تبين الغبن فاشتدت مصائبه
“ 226 “
وصار يروي بأن لو كان ذا عدم * ولم يكن عظمت فيها مكاسبه
وأنشدنا أيضا لبعضهم :
يا من تخلّف عن محل نجاته * متشاغلا باللهو والعصيان
كفّر بحزنك في مقامي ما مضى * واندب فهذا موقف الأحزان
واذر الدموع على الخدود بحسرة * لتنال عفو الواحد المنّان
وروينا من حديث محمد بن سلامة ، انا موسى الكاتب ، قال : أخبرنا ابن دريد ، انا عبد اللّه الرياشي ، وأبو حاتم ، عن الأصمعي ، قال : رأيت أعرابيا وقد وضع يده على الكعبة وهو يقول : يا رب سائلك عبد ببابك ، قد مضت أيامه ، وبقيت آثامه ، وانقطعت شهوته ، وبقيت تبعته ، فارض عني ، واعف عني ، فإنما يعفى عن الجاني ، ويثاب المحسن ، وأنت أفضل من عفوت ، وأكرم من رجوت .
ولنا من اللطائف والإرشادات العلوية :
غادروني بالأثيل والنقا * أسكب الدمع وأشكو الحرقا
بابي من ذبت فيه كمدا * بابي من متّ منه فرقا
حمرة الخجلة في وجنته * وضح الصبح يناغي الشفقا
قوّض الصبر وطلب الأسى * وأما ما بين هذين لقا
من لبثّي من لحزني دلّني * من لوجدي من لصبّ عشقا
كلما صنت تباريح الهوى * فضح الدمع الجوى والأرقا
فإذا قلت هبوا إليّ نظرة * قيل ما تمنع إلا شفقا
ما عسى تغنيك منهم نظرة * هي إلا لمح برق برقا
لست أنسى إذ حدا الحادي بهم * يطلب البين ويبغي إلا برقا
نعقت أغربة البين بهم * لا رعى اللّه غرابا نعقا
ما غراب البين إلا جمل * سار بالأحباب نصا عنقا
وروينا من حديث أبي داود سليمان بن الأشعث قال : مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن مائة ألف صاحب كلهم روي عنهم حديث .
روينا من حديث ابن باكويه ، عن محمد بن يحيى ، عن محمد بن عيسى القرشي ، حدثنا أبو الأشهب السائح قال : بينما أنا أطوف إذا نحن بجويرية قد تعلقت بأستار الكعبة وهي تقول : يا وحشتي بعد الأنس ، ويا ذلتي بعد العز ، ويا فقري بعد الغنى ، فقلت لها : ما لك ؟ أذهب لك مال ؟ أو أصبت مصيبة ؟ قالت : لا ، ولكن كان لي قلب فقدته ، قلت :
“ 227 “
وهذه مصيبة ؟ قالت : وأي مصيبة أعظم من فقد القلوب وانقطاعها عن المحبوب ؟ فقلت لها : إن حسن صوتك قد عطّل على سامعيه الطواف ، قالت : يا شيخ ، البيت بيتك أم بيته ؟
قلت : بل بيته ، قالت : فالحرم حرمك أم حرمه ؟ قلت : حرمه ، قالت : فدعنا نتدلل عليه على قدر ما استزادنا عليه ، ثم قالت : بحبك لي إلا ما رددت عليّ قلبي ، فقلت لها : من أين تعلمين أنه يحبك ؟ قالت : بالعناية القديمة جيّش من أجلي الجيوش ، وأنفق الأموال ، وأخرجني من بلاد الشرك فأدخلني في التوحيد ، وعرّفني نفسي بعد جهلي إياه ، فهل هذه إلا العناية ؟ قلت : كيف حبّك له ؟ قالت : أعظم شيء وأجلّه ، قلت : وتعرفين الحب ؟
قالت : فإذا جهلت الحب فأي شيء أعرف ؟ قلت : فكيف هو ؟ قالت : هو أرقّ من السراب ، قلت : وأي شيء هو ؟ قالت : عجنت طينته بالحلاوة ، وخمرت في إناء الجلالة ، حلو المجتنى ، ما أقصر ، فإذا أفرط عاد خبلا قاتلا ، وفسادا معضلا ، وهو شجرة غرسها كربة ، ومجتناها لذيذ ، ثم ولّت وأنشأت تقول :
وذي قلق لا يعرف الصبر والعزا * له مقلة عبرا أضرّ بها البكا
وجسم عليل من شجا لاعج الهوى * فمن ذا يداوي المستهام من الضنا
ولا سيما والحب صعب مرامه * إذا عطفت منه عواطف بالفنا
ولنا في باب الإشارات العلوية :
ألا يا حمامات الأراكة والبان * ترفقن لا تضعفن بالشجو أشجاني
ترفقن لا تظهرن بالنوح والبكا * خفي صباباتي ومكنون أحزاني
أطارحها عند الأصيل وبالضحى * بحنّة مشتاق وأنّة هيمان
تناوحت الأرواح في غيضة الفضا * فمالت بأفنان عليّ فأفناني
وجاءت من الشوق المبرّح والجوى * ومن طرق البلوى إليّ بأفنان
ومن لي بجمع والمحصّب من منى * ومن لي بذات الأثل من لي بنعمان
تطوف بقلبي ساعة بعد ساعة * بوجد وتبريح وتلثم أركاني
وكم عهدت أن لا تخون وأقسمت * وليس لمخصوب وفاء بإيمان
ومن أعجب الأشياء ظبي مبرقع * يشير بعنّاب ويومي بأجفان
ومرعاه ما بين الترائب والحشا * ويا عجب من روضة وسط نيران
لقد صار قلبي قابلا كل صورة * فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف * وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحبّ أنّى توجهت * ركائبه فالدين ديني وإيماني
لنا أسوة في بشر هند وأختها * وقيس وليلى ثم ميّ وغيلان
“ 228 “
ولنا أيضا في هذا الباب :
أطارح كل هاتفة بأيك * على فنن بأفنان الشجون
فتبكي إلفها من غير دمع * ودمع العين يهمل من جفوني
أقول لها وقد سمحت جفوني * بأدمعها تخبر عن شئوني
أعندك بالذي أهواه علم * وهل قالوا بأفياء الغصون
وروينا من حديث ابن الأشعث ، قال : ثنا عبد اللّه بن سلمة ، عن عبد العزيز بن محمد ، عن محمد بن طلحة ، عن محصن بن عليّ ، عن عوف بن الحارث ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم راح فوجد الناس قد صلّوا أعطاه اللّه مثل أجر من صلّاها وحضرها ، لا ينقص ذلك شيئا من أجرهم » .
ومن بال الترغيب في اتّباع السّنّة ، روينا من حديث أبي داود ، عن عبيد اللّه بن مسعود ، نبأ عمي عن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي اللّه عنها ، قالت : إن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث إلى عثمان بن مظعون فجاءه ، فقال : « يا عثمان ، أرغبت عن سنّتي ؟ » ، قال : لا واللّه يا رسول اللّه ، ولكن سنّتك أطلب ، قال : « فأنا أنام ، وأصلي ، وأصوم ، وأفطر ، وأنكح النساء . يا عثمان ، إن لعينك عليك حقا ، وإن لضيفك عليك حقا ، وإن لنفسك عليك حقا ، فصم ، وأفطر ، وصلّ ، ونم "
.
حديث بناء قريش الكعبة
روينا من حديث الأزرقي ، قال : حدثني جدي ، نبأ مسلم بن خالد الزنجي ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه ، قال : جلس رجال من قريش في المسجد الحرام ، فيهم حويطب بن عبد العزيز ، ومخزمة بن نوفل ، فتذاكروا بنيان قريش الكعبة ، وما هاجهم عن ذلك ، وذكروا كيف كان بناؤها قبل ذلك ، قالوا : كانت الكعبة مبنية برضم يابس ليس بمدد ، وكان بابها بالأرض ، ولم يكن لها سقف ، والكسوة إنما تدلى على الجدر من خارج ، وتربط من أعلى الجدر من بطنها بصخور عظام .
وكان في بطن الكعبة عن يمين من دخلها جبّ يكون فيه ما يهدى للكعبة من مال وغير ذلك ، وإن اللّه تعالى لما سرقت جرهم من ذلك المال مرارا بعث حيّة تحرسه ، فلم تزل حارسة لما في الكعبة ، وكان فيها قرنا كبش إسماعيل عليه السلام الذي فداه اللّه به من الذبح ، فاتفق أن امرأة ذهبت تجمّر الكعبة فطاردت من مجمرتها شرارة فأحرقت كسوتها ، فأضعفت النار حجارتها ، وجاء سيل عظيم ، فدخل البيت ، وصدع حيطانه ، ففزعت
“ 229 “
قريش ، وهابت هدمها ، وخشوا إن مسّوها أن ينزل اللّه عليهم عذابا من عنده ، ثم إنهم جمعوا رأيهم على هدمها ، والذي حرّضهم على ذلك وحثّهم عليه أن سفينة للروم انكسرت بالشعيبة ، ساحل مكة قبل جدة ، وكان في تلك السفينة روميّ يحسن البناء والتجارة ، يسمى ما قوم ، فأخذت قريش خشب تلك السفينة ، فكان وجود الصانع والآلات والخشب حثّهم على ذلك ، فأجمعوا وتعاونوا وتوافدوا وربعوا قبائل قريش أربعا ، ثم اقترعوا عند هبل في بطن الكعبة على جوانبها ، فطار قدح بني عبد مناف وبني زهرة على الوجه الذي فيه الباب وهو الشرقي ، وطار قدح بني عبد الدار وبني أسد بن عبد العزّى وبني عدي بن كعب على الشق الذي يلي الحجر وهو الشق الشامي ، وطار قدح بني سهم وبني جمح وبني عامر بن لؤي على ظهر الكعبة وهو الشق الغربي ، وطار قدح بني تميم وبني مخزوم وقبائل من قريش ضموا معهم على الشق اليماني الذي يلي الصفا وأجياد ، فنقلوا الحجارة ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غلام لم ينزل عليه وحي ينقل معهم الحجارة على رقبته ، فبينما هو ينقلها إذ انكشفت نمرة كانت عليه ، فنودي : يا محمد عورتك ، وذلك أول ما نودي واللّه أعلم ، فما رؤيت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عورة بعد ذلك ، وأدرك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الفزع حين نودي ، فأخذه العباس بن عبد المطلب فضمه إليه ، وقال : لو جعلت نمرتك على عاتقك تقيك الحجارة ، قال : ما أصابني هذا إلا من التعري ، فشدّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إزاره ، وجعل ينقل معهم ، وكانوا ينقلون بأنفسهم تبررا وتبركا بالكعبة .
فلما اجتمع إليهم ما يريدون من الحجارة والخشب ما يحتاجون إليه ، وغدوا على هدمها ، فخرجت لهم الحية التي كانت في بطنها تحرسها ، سوداء الظهر ، بياء البطن ، رأسها مثل رأس الجدي ، تمنعهم كلما أرادوا هدمها ، فلما أرادوا ذلك اعتزلوا عند مقام إبراهيم عليه السلام ، وهو يومئذ في مكانه الذي هو فيه اليوم ، فقال لهم الوليد بن المغيرة :
يا قوم ، ألستم تريدون بهدمها الإصلاح ؟ قالوا : بلى ، قال : فإن اللّه لا يهلك المصلحين .
ولكن لا تدخلوا في عمارة بيت ربكم إلا من أطيب أموالكم ، لا تدخلوا فيه مالا من ربا ، ولا مالا من ميسر ، ولا مالا من مهر بغيّ ، وجنّبوه الخبيث من أموالكم ، فإن اللّه لا يقبل إلا طيبا . ففعلوا ، ثم وقفوا عند المقام ، فقاموا يدعون ربهم ، ويقولون : اللهم إن كان لك في هدمه رضا فأتمه ، واشغل عنا هدا الثعبان ، فأقبل طائر من جو السماء كهيئة العقاب ، ظهره أسود ، وبطنه أبيض ، ورجلاه صفراوان ، والحية على جدار البيت فاغرة فاها ، فأخذ برأسها ثم طار بها حتى أدخلها أجياد الصغراء .
فقال الزبير بن عبد المطلب :
“ 230 “
عجبت لما تصورت العقاب * إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت يكون لها كشيش * وأحيانا يكون لها وثاب
إذا قمنا إلى التأسيس شدّت * تهيّبنا البناء ولا تهاب
فلما أن خشينا الزجر جاءت * عقاب بالسكات لها انصباب
فضمتها إليها ثم خلت * لنا البنيان ليس لها حجاب
فقمنا حاشدين إلى بناء * لنا منه القواعد والتراب
غداة نرفع التأسيس منه * وليس على مساوينا ثياب
أعز به المليك بني لؤي * فليس لأصله منهم ذهاب
وقد حشدت هناك بنو عدي * ومرة قد تقدمها كلاب
فبوّأنا المليك بذاك عزّا * وعند اللّه يلتمس الثواب
فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون اللّه قد رضي عملكم ، وقبل نفقتكم ، فاهدموها ، فهابت قريش هدمه ، فقالوا : من يبدأ فيهدمه ؟ فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم فأهدمه ، فإني شيخ كبير ، فإن أصابني أمر كان قد دنا أجلي . فعلا البيت ، وفي يده عتلة يهدم بها ، فتزعزع تحت رجله حجر ، فقال : اللهم لم نرع ، إنما أردنا الإصلاح .
ثم جعل يهدمها حجرا حجرا بالعتلة ، فهدم يومه ذلك ، فقالت قريش : نخاف أن ينزل به العذاب مساء ، فلما أمسى لم ير بأسا ، فأصبح الوليد على عمله ، فهدمت قريش معه حتى بلغوا الأساس الأول الذي وضعته الملائكة ، وهو الذي رفع عليه إبراهيم القواعد من البيت ، وهي حجارة كبار كالإبل الخلّف ، يحرك الحجر منها فترتج جوانبها ، وقد تشبكت بعضها ببعض ، فأدخل الوليد عتلة بين الحجرين ، فانفلقت منه فلقة ، فأخذها أبو وهب بن عمرو بن عمران بن مخزوم ، ففرت من يده حتى عادت في مكانها ، وطارت من تحتها برقة كادت تخطف أبصارهم ، ورجفت مكة بأسرها ، فلما رأوا ذلك أمسكوا عن أن ينظروا ما تحت ذلك ، فلما جمعوا ما أخرجوا من النفقة ، قلّت النفقة أن تبلغ عمارة البيت ، فتشاوروا في ذلك ، فأجمعوا رأيهم على أن يقتصروا على القواعد ، ويحجروا ما يقفون عليه من بناء البيت ، ويتركوا بقيته في الحجر عليه جدار مدار ، ويطوّفون الناس من ورائه ، ففعلوا ذلك ، وبنوا في بطن الكعبة أساسا يبنون عليه من شق الحجر ، وتركوا من البيت في الحجر سنة أذرع وشبرا ، فبنوا على ذلك .
فلما وضعوا أيديهم في بنائها قالوا : ارفعوا بابها من الأرض ، واكسوها حتى لا يدخلها السيول ، ولا ترقى إلا بسلّم ، ولا يدخلها إلا من أردتم .
“ 231 “
ففعلوا ذلك ، وبنوها بساف من حجارة ، وساف من خشب بين الحجارة ، حتى انتهوا إلى موضع الركن ، فاختلفوا في وضعه ، وكثر الكلام فيه ، وتنافسوا في ذلك .
فقالت بنو عبد مناف وزهرة : هو في الشق الذي وقع لنا ، وقالت تميم ومخزوم : هو في الشق الذي وقع لنا ، وقالت سائر القبائل : لم يكن الركن ممن استهمنا عليه ، فقال أبو أمية بن المغيرة : يا قوم ، إنما أردنا البرّ ، ولم نرد الشر ، ولا تحاسدوا ، ولا تنافسوا ، فإنكم إذا اختلفتم تشتت أمركم ، وطمع فيكم غيركم ، ولكن حكّموا بينكم أول من يطلع عليكم من هذا الفجّ
.
قالوا : رضينا وسلمنا . فطلع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقالوا : هذا الأمين وقد رضينا به ، فحكّموه ، فبسط رداءه ثم وضع فيه الركن ، فدعا من كل ربع رجلا ، فأخذوا أطراف الرداء ، وكان في الرّبع الأول عبد مناف بن عتبة بن ربيعة ، وكان في الرّبع الثاني أبو زمعة الأسود وكان أسنّ القوم ، وكان في الرّبع الثالث العاص بن وائل ، وفي الرّبع الرابع أبو حذيفة بن المغيرة ، فرفع القوم الركن ، وقام النبي صلى اللّه عليه وسلم على الجدار ، ثم وضعه عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة ، وذهب رجل من أهل نجد ليناول النبي صلى اللّه عليه وسلم حجرا يشدّ به الركن ، فنحى النبي صلى اللّه عليه وسلم الرجل النجدي ، فغضب النجدي حيث نحي .
فقال النجدي : وا عجبا لقوم أهل شرف وعقل وسن وأموال ، عمدوا إلى أصغرهم سنا وأقلهم مالا فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحرزهم ، كأنهم خدم له ، أما واللّه ليفوتنهم سبقا ، وليقمن عليهم حظوظا وحدودا ، وإن ذلك النجدي كان إبليس لعنه اللّه ، ثم بنوا حتى بنوا أربعة أذرع ، ثم كسوها ، وبنوا حتى بلغ ارتفاع البيت ثمانية عشر ذراعا ، زادوا التسعة أذرع على بناء إبراهيم ، وجعلوا سقفها مسطحا ، وأقاموا سقفه على ستة دعائم في صفين ، وبنوا درجة من خشب في بطنها من الركن الشامي ، يصعد بها إلى سقف البيت ، وزوّقوا البيت ، وصوّروا الأنبياء والشجر والملائكة ، وجعلوا لها بابا واحدا وكسوها من الحبرات اليمانية .
روينا من حديث الخطابي قال : أخبرني أبو الطيب طبطب الوراق ، عن محمد بن يوسف النحوي قال : حدثني بعض مشايخنا قال : ركبت في سفينة ومعنا شاب من العلوية ، فمكث معنا سبعا لم نسمع له كلاما ، فقلنا له : يا هذا ، قد جمعنا اللّه وإيّاك منذ سبع لا نراك تخالطنا ، ولا نراك تكلمنا ، فأنشأ يقول :
قليل الهمّ لا ولد يموت * ولا أمر يحاذر أن يفوت
قضى وطر الصّبا فأفاد علما * فغايته التفرّد والسكوت
“ 232 “
واقعة لبعض الفقراء
أخبرني صاحبي أبو محمد عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي قال : رأى بعض الفقراء في واقعة أبا مدين وأبا حامد الغزالي ، فسأل أبو حامد الشيخ أبا مدين عن سرّ معرفته ومحبته ، فقال له أبو مدين : المحبة مركبي ، والمعرفة مذهبي ، والتوحيد وصولي ، للمحبة سرّ لا يكشف ، وإدراكات لا يعبّر عنها ، ولا يوصف سرّها ، ومنبعها وفيّ ، وأصلها الجود العليّ ، فهي للخواص سنّة مسنونة ، دلّ على ذلك قوله تعالى : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ . فالمعرفة يا أخي فخري ، وهي قاعدة سري وأمري ، ثمرتها التوحيد ، ومنها وفيها يكون المزيد ، فالتوحيد أصل ، وما سواه فرع ، وهو غاية المقامات ونهاية الأحوال ، وما ذا بعد الحق إلا الضلال ؟
ثم سأله عن تنزيهه ، فقال : نزّهت الحق بما نزّه به نفسه ، وحمدته حمد من به قدسه ، ومجّدته تمجيد من كان معناه وحسّه ، فهو المحرّك للظواهر ، ومعلن العلانية ، ومسرّ السرائر ، فسرّه لسرّي لاح ، وتحفه تغمرني في المساء والصباح ، إن نظرته وجدته معي ، وإن تحققته كان بصري ومسمعي ، فهو الممدّ لوجودي ، ومقلّب قلبي ، وناصر وجودي ، فحياتي بحياته ظاهرة ، وصفاتي بصفاته مطهرة ، وخلقي بأخلاقه متخلّقة ، أمدّني بتوحيده ، وملأ ظاهري وباطني بجلاله وتمجيده .
ثم قال : يا واحد يا أحد ، يا فرد يا صمد ، يا من لم يلد ولم يولد ، جمّل ناظري بالنظر إليك غدا .
وحدثنا عبد الرحمن بن عليّ ، أنبأ أبو سعيد البغدادي ، عن أبي العباس الظهرانيّ ، وأبو عمرو بن منبّه ، قالا : حدثنا ابن بوه ، عن أبي الحسن اللبياني ، عن أبي بكر القرشي ، عن أبي حاتم الرازي ، عن أحمد بن عبد اللّه بن عياض ، عن عبد الرحمن بن كامل ، عن علوان بن داود ، عن علي بن زيد ، قال : قال طاوس : بينما أنا بمكة إذ بعث إليّ الحجاج بن يوسف فأجلسني إلى جنبه ، وأتكأني على وسادته ، إذ سمع ملبّيا يلبّي حول البيت رافعا يديه فقال : عليّ بالرجل ، فأتي به ، فقال : ممن الرجل ؟ قال : من المسلمين ، قال : ليس عن الإسلام سألت ، قال : فعمّ سألت ؟ قال : سألتك عن البلد ، قال : من أهل اليمن ، قال : كيف تركت محمد بن يوسف ؟ يريد أخاه ، قال : تركته عظيما جسيما لباسا ركّابا خرّاجا ولّاجا . قال : ليس عن هذا سألت . قال : فعمّ سألت ؟ قال : سألتك عن سيرته . قال : تركته ظلوما غشوما مطيعا للمخلوق عاصيا للخالق . فقال له الحجاج : ما حملك على هذا على أن تتكلم به وأنت تعلم مكانه مني ؟ قال الرجل : أتراه بمكانه منك أعز
“ 233 “
مني بمكانه من اللّه عز وجل ، وأنا وافد بيته ، ومصد نبيّه ، وقاضي دينه ؟ فسكت الحجاج ، وقام الرجل من غير أن يؤذن له . قال طاوس : فقمت في أثره وقلت : الرجل حكيم ، فأتى البيت وتعلّق بأستاره ثم قال : اللهم بك أعوذ ، وبك ألوذ ، اللهم اجعل لي في الكهف إلى وجودك ، والرضى لضمانك مندوحة ، عن منع الباخلين ، غنى عمّا في أيدي المستأثرين .
اللهم فرجك القريب ، ومعروفك القديم ، وعادتك الحسنة . ثم ذهب في الناس ، فرأيته عشية عرفة وهو يقول : اللهم إن كنت لم تقبل حجي وتعبي ونصبي ، فلا تحرمني الأجر على مصيبتي بتركك القبول مني . ثم ذهب في الناس ، فرأيته غداة جمع يقول : وا سوأتاه منك ، واللّه وأن عفوت . يردّد ذلك مرارا .
حدثنا أبو الحسن بن الصائغ بسبتة قال : سمعت أبا عبد اللّه محمد بن رزق ، وكان صاحب رواية وعلم ، يقول : مررت يوما في سياحتي بجبل فرأيت رجلا ساجدا يتضرّع ويبكي ، فقلت : هذا رجل سائح متبتل إلى اللّه عز وجل ، أدنو منه فأسمع ما يقول في سجوده . فدنوت منه بلطف ، فسمعته يقول : اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك ، صن يدي عن مدّها إلى غيرك . قال ابن رزق : فلزمت هذا الدعاء ، فرأيت له بركة عظيمة .
وبالإسناد قال ابن رزق : مررت بمسجد بفلاة من الأرض في سياحتي ، فدخلت لأركع فيه ركعتين ، فوجدت فيه قلبي ، فأقمت فيه عامين أتعبد اللّه تعالى .
خبر سلمان الفارسي وإسلامه
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه قال : حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن ، نبأ محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، وحدثنا أيضا أبو عمرو بن عمران ، نبأ الحسن بن سفيان ، قالا : حدثنا مسروق بن المرزبان الكندي عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، ثنا محمد بن إسحاق ، ثنا عاصم بن عمرو بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، قال : حدثني سلمان فيه ، قال : كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من قرية يقال لها جي ، وكان أبي دهقان في قريته ، وكنت من أحبّ الخلق إليه ، فما زال حبه إياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية ، وكنت قد اجتهدت مع المجوسية حتى كنت فطن النار أوقدها ، لا أتركها تخبو ساعة ، اجتهادا في ديني ، وكان لأبي ضيعة في عمله ، وكان يعالج بيتا له في داره ، فدعاني فقال : أي بني ، إنه قد شغلني بنياني كما ترى ، فانطلق إلى ضيعتي هذه ، ولا تحتبس عليّ فإنك إن احتبست عليّ كنت أهمّ إليّ من ضيعتي ومن كل شيء ، وشغلتني عن كل شيء من أمري . قال : فخرجت أريد الضيعة التي بعثني إليها ، فمررت بكنيسة من
“ 234 “
كنائس النصارى فسمعت أصواتهم وهم يصلّون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته ، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يفعلون ، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم ، فقلت : واللّه هذا خير من الدين الذي نحن عليه ، فو اللّه ما برحتهم حتى غابت الشمس ، وتركت ضيعة أبي فلم آتها ، ثم قلت لهم : أين أصل هذا الدين ؟ قالوا : بالشام ، قال : ثم رجعت إلى أبي ، وقد بعث في طلبي ، فشغلته عن عمله كله ، فلما جئته قال : يا بني أين كنت ؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت ؟ قال : قلت : يا أبي ، مررت بناس يصلّون في كنيسة لهم ، فأعجبني ما رأيت من دينهم ، فو اللّه ما زلت عندهم حتى غربت الشمس . قال : أي بني ، ليس في ذلك الدين خير ، بل دينك ودين آبائك خير ، قلت : كلا واللّه إنه لخير من ديننا . قال : فخافني ، وجعل في رجلي قيدا ، ثم حبسني في بيتي .
قال : وبعثت إلى النصارى فقلت : إن قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني . قال :
فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى . قال : فأخبروني . قال : قلت : إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم أعلموني بهم . قال : فألقيت الحديد من رجلي ، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام . قلت : من أفضل هذا الدين علما ؟ قالوا : الأسقف في الكنيسة . قال : فجئته فأعلمته أني قد رغبت في هذا الدين ، وأكون معك أخدمك في كنيستك ، وأتعلم منك ، وأصلي معك . قال : فافعل وادخل ، فدخلت معه ، قال : فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ، ويرغبهم فيها ، فإذا جمعوا له شيئا كنزه لنفسه ، ولم يعط المساكين منها شيئا .
قال : فما لبث أن مات فعرّفت النصارى بأمره ، قالوا : وما علمك ذلك ؟ قلت : أنا أدلكم على كنزه . قال : فأريتهم موضعه . قال : فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وفضة وورقا . فلما رأوها قالوا : واللّه لا ندفنه ، وصلبوه ، ثم رموه بالحجارة ، ثم جاءوا برجل آخر ، فجعلوه مكانه . قال : فما رأيت رجلا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه ، وأزهد في الدنيا ، ولا أرغب في الآخرة ، والآداب ، ليلا ونهارا . قال : فأحببته حبا لم أحب شيئا كان مثله ، فأقمت معه زمانا ، ثم حضرته الوفاة .
قال : قلت له : يا فلان ، إني كنت معك وأحببتك حبا لم أحب شيئا كان قبلك مثله ، وقد حضرك ما ترى من أمر اللّه تعالى ، من تأمرني ؟ قال : أي بني ، واللّه ما أعلم أحدا اليوم على ما كنت عليه ، لقد هلك الناس ، وبدّلوا كثيرا مما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان ، وهو على ما كنت عليه ، فالحق به . قال : فلما غيب لحقت بصاحب الموصل فقلت : يا فلان ، إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك ، وأخبرني أنك على أمره . فقال :
الجزء 15
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 222 “
الزبير بالسيف ، فولى حرب يعدو هاربا حتى دخل دار عبد المطلب ، فقال : أجرني من الزبير ، فألقى عليه عبد المطلب جفنة كان هاشم يطعم فيها الناس ، فبقي تحتها ، ثم قال له : اخرج ، فقال : وكيف أخرج وعلى بابك تسعة من ولدك قد اجتذبوا السيوف ؟ فألقى عليه رداء كان كساه إياه سيف بن ذي يزن له طرّتان خضراوتان ، فخرج عليهم ، فعلموا أنه قد أجاره ، فتفرقوا عنه .
روينا من حديث ابن عباس رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « لا تفخروا بآبائكم في الجاهلية ، فوالذي نفسي بيده لما يدحرج العجل برجله خير من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية » ، أخذها القطب المطهّر واعظ العجم ، وكان بليغا في اللسان الفارسي ، فوعظ الناس يوما ، فقام إليه بعض الناس فقال : أيها الواعظ ، أنت خير أم الكلب ؟ قال :
فأطرق ساعة واستعبر ، وكان صالحا فقال : يا أخي ، أما إني إن فزت بالجنة ونجوت من النار فأنا خير من الكلب ، وإن كان غير ذلك فالكلب خير مني . أخبرني بهذه الحكاية تلميذه صاحبنا مجد الدين أبو إبراهيم إسحاق بن محمد بن يوسف القونوي .
وكان الحسن بن أبي إسحاق البصري يقول : يا ابن آدم ، لم تفتخر وإنما خرجت من سبيل البول نطفة تنسحب بأقذار ؟ قال بعض الحكماء ، وكان من الصالحين لرجل آخر يفتخر : أيفتخر من أوّله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وهو فيما بينهما وعاء عذرة ؟
وأنشدنا ابن البطين لعليّ بن أبي طالب القيرواني ، وقيل : لعليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه :
الناس من جهة التمثل أكفاء * أبوهم آدم والأم حواء
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم * على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه * والجاهلون لأهل العلم أعداء
وكان أبي كثيرا ما ينشد :
الحمد للّه ليس الرزق بالطلب * ولا العطايا على فهم ولا أدب
إن قدّر اللّه شيئا كنت نائله * وليس ينفعني حرصي ولا نصيبي
وخطب بعض الخلفاء وقد خطر له حسن الظن باللّه تعالى فقال : الحمد للّه الذي أنقذني من ناره بخلافته .
ومن حسن كلام الحجاج أن كان ينفعه ذلك وقد أشاع موته بعض من يكرهه ، قال الناس يوم مات الحجاج : مات الحجاج ، فقال : مه ، ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت ، واللّه ما رضي البقاء إلا لأهون الخلق عليه إبليس ، إذ قال : رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ *
“ 223 “
قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * أطمع الحجاج في ربه حسن ظنه به واتساع عفوه وكرمه .
شعر
تعاظمني ذنبي فلما قرنته * بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وقال الآخر :
ذنبي إليك عظيم * وأنت أعظم منه
وحديث السجلّاتي ، وهو الرجل الذي ذكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه ينشر له يوم القيامة تسعة وتسعون سجلا ، كل سجل مدّ البصر ليس فيها خير قط إلا كلمة التوحيد ، فألقاها اللّه له في كفة ، والسجلّات في كفة ، فثقلت كلمة التوحيد ، وطاشت السجلات ، فدخل الجنة ، وهذا بلا شك أعظم ذنوبا من الحجاج ، فكيف لا يطمح الحجاج وكان من الذين خلطوا ؟
وروينا من حديث أنس بن مالك قال : دخلنا على قوم من الأنصار وفيهم فتى عليل ، فلم نخرج من عندهم حتى قضى نحبه ، فإذا عجوز عند رأسه ، فالتفت إليها بعض القوم فقال : استسلمي لأمر اللّه واحتسبي ، قالت : أمات ابني ؟ قال : نعم ، قالت : أحق ما يقوله ؟
قلنا : نعم ، فمدت يدها إلى السماء وقالت : اللهم إنك تعلم أني أسلمت لك ، وهاجرت إلى نبيك محمد صلى اللّه عليه وسلم رجاء أن تعينني عند كل شدة ، فلا تحملني هذه المصيبة اليوم ، قال :
فكشف ابنها الذي سجيناه عن وجهه ، وما برحنا حتى طعم وشرب ، وطعمنا وشربنا معه .
في الكتاب الأول يقول اللّه تعالى : يا ابن آدم ، أحدث لك سفرا ، أحدث لك رزقا .
قال الكميت : ولن تريح هموم النفس إن حضرت حاجات مثلك إلا الرجل والجمل .
وجد في بعض خزائن ملوك فارس لوح من حجارة مكتوب عليه : كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو ، فإن موسى عليه السلام خرج يقتبس نارا فنودي بالنبوّة .
روينا من حديث الأصمعي قال : حججت مرة فإذا أعرابي قد كوّر عمامته على رأسه ، وقد تنكّب قوسا ، فصعد المنبر ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنما الدنيا دار ممر ، والآخرة دار مقر ، فخذوا من ممركم لمقركم ، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم .
“ 224 “
أما بعد ، فإنه لن يستقبل أحد يوما من عمره إلا بفراق آخر من أجله ، فاستعملوا لأنفسكم لما تقدمون عليه لا لم تظعنون عنه ، وراقبوا من ترجعون إليه ، فإنه لا قوي أقوى من خالق ، ولا ضعيف أضعف من مخلوق ، ولا مهرب من اللّه إلا إليه ، وكيف يهرب من يتقلّب في يدي طالبه ؟ وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ * .
وروينا من حديث ابن ودعان ، حدثنا الحسن بن محمد الصيرفي ، نبأ أبو بكر بن محمد بن قاسم ، نبأ إسماعيل بن إسحاق ، نبأ نصر بن علي ، عن الأصمعي ، عن أبي عمرو ، عن عيسى بن عمير ، عن معاوية أنه قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول في خطبة أحد العيدين : « الدنيا دار بلاء ومنزل قلعة وعناء ، نزعت عنها نفوس السعداء ، وانتزعت بالكره من أيدي الأشقياء ، وأسعد الناس بها أرغبهم عنها ، وأشقاهم بها أرغبهم فيها ، هي الغاشّة لمن استنصحها ، والمغوية لمن أطاعها ، والجائرة لمن انقادها ، والفائز من أعرض عنها ، والهالك من هوى فيها ، طوبى لعبد اتقى فيها ربه ، وناصح نفسه ، وقدّم توبته ، وأخّر شهوته ، من قبل أن تلفظه الدنيا إلى الآخرة فيصبح في بطن مقفرة موحشة غبراء مدلهمة ظلماء ، لا يستطيع أن يزيد في حسنة ، ولا ينقص من سيئة ، ثم ينشر فيحشر ، إما إلى جنة يدوم نعيمها ، أو نار لا ينفكّ عذابها » .
لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز جزع عليه أبوه جزعا شديدا ، فقال ذات يوم لمن حضر : هل من منشد شعر يعزّيني به أو واعط يخفّف عني فأتسلى به ؟ فقال رجل من أهل الشام : يا أمير المؤمنين ، كل خليل مفارق خليله بأن يموت أو بأن يذهب ، فتبسم عمر وقال : مصيبتي فيك زادتني مصيبة .
وفي الكتاب الأول أن اللّه تعالى يقول : يا عبدي ، إن رضيت حكمي واليتك ، وإن اتقيتني قربتك ، وإن استحييت مني أكرمتك ، وإن توكلت عليّ صدقا كفيتك ، وإن ظلمت نفسك بمعصيتي عاقبتك . أنت بيدك جرحت فؤادك لما بلغت من المعصية مرادك ، أما علمت أنك لما نزعت لباس التقوى عرضت نفسك للمحن والبلوى ؟
ومن كلام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : الدنيا دار صدق ، ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزود منها ، مسجد أنبياء اللّه ، ومهبط وحيه ، ومصلى ملائكته ، ومتجر أوليائه ، يكسبون فيها الرحمة ، ويرجون فيها الجنة ، فمن ذا يذمها وقد أذنت بنعيها ، ونادت بفراقها ، ونعت نفسها ، وشوقت بسرورها إلى السرور ، وببلائها إلى البلاء ، تخويفا وتحذيرا وترغيبا وترهيبا . فيا أيها الذامّ للدنيا ، والمفتتن بغرورها ، متى غرتك بمصارع
“ 225 “
آبائك من البلا ؟ أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى ، كم تملكت بكفيك وكم مرضت بيديك ؟
تبتغي لهم الدواء ، وتستوصف لهم الأطباء ، وتلتمس لهم الشفاء ، لم تنفعهم بطلبتك ، ولم تشفعهم بشفاعتك ، ولم تستشفعهم باستشفائك ، تظنك مثلت لهم الدنيا بمصرعك ومضجعك حيث لا ينفعك بكاؤك ، ولا يغني أحباؤك . ثم التفت إلى قبور هناك وقال : يا أيها الثروة والعز ، الأزواج قد نكحت ، والأموال قد قسمت والدّور قد سكنت ، هذا خير ما عندنا ، فما خير ما عندكم ؟ ثم قال لمن حضر : واللّه لو أذن لهم لأجابوكم بأن خير الزاد التقوى .
ثم أنشد :
ما أحسن الدنيا وإقبالها * إذا أطاع للّه من نالها
من لم يواس الناس من فضلها * عرّض للإدبار إقبالها
وروينا من حديث الخطابي ، قال : حدثني الخلديّ موسى بن هارون ، عن هدية بن خالد ، عن حزام القطعيّ ، قال : سمعت الحسن يقول : المداراة نصف العقل ، وأنا أقول :
هو العقل كله .
وقال محمد ابن الحنفيّة : ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بدا حتى يجعل اللّه له فرجا ومخرجا .
وروينا من حديث الخطابيّ ، قال : انا محمد بن هاشم ، عن الديريّ ، عن عبد الرزاق ، عن ثابت بن رافع قال : أخبرني شيخ من أهل صنعاء يقال له أبو عبد اللّه ، قال :
سمعت وهب بن منبّه يقول : إني وجدت من حكمة آل داود : حق على العالم أن لا يشتغل عن أربع ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يصادقونه على عيوبه وينصحونه في نفسه ، وساعة يخلو فيها بين نفسه وبين لذّاتها فيما يحلّ ويحمد ، فإن هذه الساعة عون لهذه الساعات ، والاستجمام للقلوب ، وفضل وبلغة ، وعلى العاقل أن يكون عارفا بزمانه ، ممسكا للسانه ، مقبلا على شأنه .
وأنشدنا محمد الكتانيّ لبعضهم :
عليك بالقصد لا تطلب مكاثرة * فالقصد أفضل شيء أنت طالبه
واقنع بمالك لا تحسد أخا نشب * فعن قليل يردّ المال واهبه
فالمرء يفرح بالدنيا وبهجتها * ولا يفكر ما كانت عواقبه
حتى إذا ذهبت عنه وفارقها * تبين الغبن فاشتدت مصائبه
“ 226 “
وصار يروي بأن لو كان ذا عدم * ولم يكن عظمت فيها مكاسبه
وأنشدنا أيضا لبعضهم :
يا من تخلّف عن محل نجاته * متشاغلا باللهو والعصيان
كفّر بحزنك في مقامي ما مضى * واندب فهذا موقف الأحزان
واذر الدموع على الخدود بحسرة * لتنال عفو الواحد المنّان
وروينا من حديث محمد بن سلامة ، انا موسى الكاتب ، قال : أخبرنا ابن دريد ، انا عبد اللّه الرياشي ، وأبو حاتم ، عن الأصمعي ، قال : رأيت أعرابيا وقد وضع يده على الكعبة وهو يقول : يا رب سائلك عبد ببابك ، قد مضت أيامه ، وبقيت آثامه ، وانقطعت شهوته ، وبقيت تبعته ، فارض عني ، واعف عني ، فإنما يعفى عن الجاني ، ويثاب المحسن ، وأنت أفضل من عفوت ، وأكرم من رجوت .
ولنا من اللطائف والإرشادات العلوية :
غادروني بالأثيل والنقا * أسكب الدمع وأشكو الحرقا
بابي من ذبت فيه كمدا * بابي من متّ منه فرقا
حمرة الخجلة في وجنته * وضح الصبح يناغي الشفقا
قوّض الصبر وطلب الأسى * وأما ما بين هذين لقا
من لبثّي من لحزني دلّني * من لوجدي من لصبّ عشقا
كلما صنت تباريح الهوى * فضح الدمع الجوى والأرقا
فإذا قلت هبوا إليّ نظرة * قيل ما تمنع إلا شفقا
ما عسى تغنيك منهم نظرة * هي إلا لمح برق برقا
لست أنسى إذ حدا الحادي بهم * يطلب البين ويبغي إلا برقا
نعقت أغربة البين بهم * لا رعى اللّه غرابا نعقا
ما غراب البين إلا جمل * سار بالأحباب نصا عنقا
وروينا من حديث أبي داود سليمان بن الأشعث قال : مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن مائة ألف صاحب كلهم روي عنهم حديث .
روينا من حديث ابن باكويه ، عن محمد بن يحيى ، عن محمد بن عيسى القرشي ، حدثنا أبو الأشهب السائح قال : بينما أنا أطوف إذا نحن بجويرية قد تعلقت بأستار الكعبة وهي تقول : يا وحشتي بعد الأنس ، ويا ذلتي بعد العز ، ويا فقري بعد الغنى ، فقلت لها : ما لك ؟ أذهب لك مال ؟ أو أصبت مصيبة ؟ قالت : لا ، ولكن كان لي قلب فقدته ، قلت :
“ 227 “
وهذه مصيبة ؟ قالت : وأي مصيبة أعظم من فقد القلوب وانقطاعها عن المحبوب ؟ فقلت لها : إن حسن صوتك قد عطّل على سامعيه الطواف ، قالت : يا شيخ ، البيت بيتك أم بيته ؟
قلت : بل بيته ، قالت : فالحرم حرمك أم حرمه ؟ قلت : حرمه ، قالت : فدعنا نتدلل عليه على قدر ما استزادنا عليه ، ثم قالت : بحبك لي إلا ما رددت عليّ قلبي ، فقلت لها : من أين تعلمين أنه يحبك ؟ قالت : بالعناية القديمة جيّش من أجلي الجيوش ، وأنفق الأموال ، وأخرجني من بلاد الشرك فأدخلني في التوحيد ، وعرّفني نفسي بعد جهلي إياه ، فهل هذه إلا العناية ؟ قلت : كيف حبّك له ؟ قالت : أعظم شيء وأجلّه ، قلت : وتعرفين الحب ؟
قالت : فإذا جهلت الحب فأي شيء أعرف ؟ قلت : فكيف هو ؟ قالت : هو أرقّ من السراب ، قلت : وأي شيء هو ؟ قالت : عجنت طينته بالحلاوة ، وخمرت في إناء الجلالة ، حلو المجتنى ، ما أقصر ، فإذا أفرط عاد خبلا قاتلا ، وفسادا معضلا ، وهو شجرة غرسها كربة ، ومجتناها لذيذ ، ثم ولّت وأنشأت تقول :
وذي قلق لا يعرف الصبر والعزا * له مقلة عبرا أضرّ بها البكا
وجسم عليل من شجا لاعج الهوى * فمن ذا يداوي المستهام من الضنا
ولا سيما والحب صعب مرامه * إذا عطفت منه عواطف بالفنا
ولنا في باب الإشارات العلوية :
ألا يا حمامات الأراكة والبان * ترفقن لا تضعفن بالشجو أشجاني
ترفقن لا تظهرن بالنوح والبكا * خفي صباباتي ومكنون أحزاني
أطارحها عند الأصيل وبالضحى * بحنّة مشتاق وأنّة هيمان
تناوحت الأرواح في غيضة الفضا * فمالت بأفنان عليّ فأفناني
وجاءت من الشوق المبرّح والجوى * ومن طرق البلوى إليّ بأفنان
ومن لي بجمع والمحصّب من منى * ومن لي بذات الأثل من لي بنعمان
تطوف بقلبي ساعة بعد ساعة * بوجد وتبريح وتلثم أركاني
وكم عهدت أن لا تخون وأقسمت * وليس لمخصوب وفاء بإيمان
ومن أعجب الأشياء ظبي مبرقع * يشير بعنّاب ويومي بأجفان
ومرعاه ما بين الترائب والحشا * ويا عجب من روضة وسط نيران
لقد صار قلبي قابلا كل صورة * فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف * وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحبّ أنّى توجهت * ركائبه فالدين ديني وإيماني
لنا أسوة في بشر هند وأختها * وقيس وليلى ثم ميّ وغيلان
“ 228 “
ولنا أيضا في هذا الباب :
أطارح كل هاتفة بأيك * على فنن بأفنان الشجون
فتبكي إلفها من غير دمع * ودمع العين يهمل من جفوني
أقول لها وقد سمحت جفوني * بأدمعها تخبر عن شئوني
أعندك بالذي أهواه علم * وهل قالوا بأفياء الغصون
وروينا من حديث ابن الأشعث ، قال : ثنا عبد اللّه بن سلمة ، عن عبد العزيز بن محمد ، عن محمد بن طلحة ، عن محصن بن عليّ ، عن عوف بن الحارث ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم راح فوجد الناس قد صلّوا أعطاه اللّه مثل أجر من صلّاها وحضرها ، لا ينقص ذلك شيئا من أجرهم » .
ومن بال الترغيب في اتّباع السّنّة ، روينا من حديث أبي داود ، عن عبيد اللّه بن مسعود ، نبأ عمي عن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي اللّه عنها ، قالت : إن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث إلى عثمان بن مظعون فجاءه ، فقال : « يا عثمان ، أرغبت عن سنّتي ؟ » ، قال : لا واللّه يا رسول اللّه ، ولكن سنّتك أطلب ، قال : « فأنا أنام ، وأصلي ، وأصوم ، وأفطر ، وأنكح النساء . يا عثمان ، إن لعينك عليك حقا ، وإن لضيفك عليك حقا ، وإن لنفسك عليك حقا ، فصم ، وأفطر ، وصلّ ، ونم "
.
حديث بناء قريش الكعبة
روينا من حديث الأزرقي ، قال : حدثني جدي ، نبأ مسلم بن خالد الزنجي ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه ، قال : جلس رجال من قريش في المسجد الحرام ، فيهم حويطب بن عبد العزيز ، ومخزمة بن نوفل ، فتذاكروا بنيان قريش الكعبة ، وما هاجهم عن ذلك ، وذكروا كيف كان بناؤها قبل ذلك ، قالوا : كانت الكعبة مبنية برضم يابس ليس بمدد ، وكان بابها بالأرض ، ولم يكن لها سقف ، والكسوة إنما تدلى على الجدر من خارج ، وتربط من أعلى الجدر من بطنها بصخور عظام .
وكان في بطن الكعبة عن يمين من دخلها جبّ يكون فيه ما يهدى للكعبة من مال وغير ذلك ، وإن اللّه تعالى لما سرقت جرهم من ذلك المال مرارا بعث حيّة تحرسه ، فلم تزل حارسة لما في الكعبة ، وكان فيها قرنا كبش إسماعيل عليه السلام الذي فداه اللّه به من الذبح ، فاتفق أن امرأة ذهبت تجمّر الكعبة فطاردت من مجمرتها شرارة فأحرقت كسوتها ، فأضعفت النار حجارتها ، وجاء سيل عظيم ، فدخل البيت ، وصدع حيطانه ، ففزعت
“ 229 “
قريش ، وهابت هدمها ، وخشوا إن مسّوها أن ينزل اللّه عليهم عذابا من عنده ، ثم إنهم جمعوا رأيهم على هدمها ، والذي حرّضهم على ذلك وحثّهم عليه أن سفينة للروم انكسرت بالشعيبة ، ساحل مكة قبل جدة ، وكان في تلك السفينة روميّ يحسن البناء والتجارة ، يسمى ما قوم ، فأخذت قريش خشب تلك السفينة ، فكان وجود الصانع والآلات والخشب حثّهم على ذلك ، فأجمعوا وتعاونوا وتوافدوا وربعوا قبائل قريش أربعا ، ثم اقترعوا عند هبل في بطن الكعبة على جوانبها ، فطار قدح بني عبد مناف وبني زهرة على الوجه الذي فيه الباب وهو الشرقي ، وطار قدح بني عبد الدار وبني أسد بن عبد العزّى وبني عدي بن كعب على الشق الذي يلي الحجر وهو الشق الشامي ، وطار قدح بني سهم وبني جمح وبني عامر بن لؤي على ظهر الكعبة وهو الشق الغربي ، وطار قدح بني تميم وبني مخزوم وقبائل من قريش ضموا معهم على الشق اليماني الذي يلي الصفا وأجياد ، فنقلوا الحجارة ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غلام لم ينزل عليه وحي ينقل معهم الحجارة على رقبته ، فبينما هو ينقلها إذ انكشفت نمرة كانت عليه ، فنودي : يا محمد عورتك ، وذلك أول ما نودي واللّه أعلم ، فما رؤيت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عورة بعد ذلك ، وأدرك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الفزع حين نودي ، فأخذه العباس بن عبد المطلب فضمه إليه ، وقال : لو جعلت نمرتك على عاتقك تقيك الحجارة ، قال : ما أصابني هذا إلا من التعري ، فشدّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إزاره ، وجعل ينقل معهم ، وكانوا ينقلون بأنفسهم تبررا وتبركا بالكعبة .
فلما اجتمع إليهم ما يريدون من الحجارة والخشب ما يحتاجون إليه ، وغدوا على هدمها ، فخرجت لهم الحية التي كانت في بطنها تحرسها ، سوداء الظهر ، بياء البطن ، رأسها مثل رأس الجدي ، تمنعهم كلما أرادوا هدمها ، فلما أرادوا ذلك اعتزلوا عند مقام إبراهيم عليه السلام ، وهو يومئذ في مكانه الذي هو فيه اليوم ، فقال لهم الوليد بن المغيرة :
يا قوم ، ألستم تريدون بهدمها الإصلاح ؟ قالوا : بلى ، قال : فإن اللّه لا يهلك المصلحين .
ولكن لا تدخلوا في عمارة بيت ربكم إلا من أطيب أموالكم ، لا تدخلوا فيه مالا من ربا ، ولا مالا من ميسر ، ولا مالا من مهر بغيّ ، وجنّبوه الخبيث من أموالكم ، فإن اللّه لا يقبل إلا طيبا . ففعلوا ، ثم وقفوا عند المقام ، فقاموا يدعون ربهم ، ويقولون : اللهم إن كان لك في هدمه رضا فأتمه ، واشغل عنا هدا الثعبان ، فأقبل طائر من جو السماء كهيئة العقاب ، ظهره أسود ، وبطنه أبيض ، ورجلاه صفراوان ، والحية على جدار البيت فاغرة فاها ، فأخذ برأسها ثم طار بها حتى أدخلها أجياد الصغراء .
فقال الزبير بن عبد المطلب :
“ 230 “
عجبت لما تصورت العقاب * إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت يكون لها كشيش * وأحيانا يكون لها وثاب
إذا قمنا إلى التأسيس شدّت * تهيّبنا البناء ولا تهاب
فلما أن خشينا الزجر جاءت * عقاب بالسكات لها انصباب
فضمتها إليها ثم خلت * لنا البنيان ليس لها حجاب
فقمنا حاشدين إلى بناء * لنا منه القواعد والتراب
غداة نرفع التأسيس منه * وليس على مساوينا ثياب
أعز به المليك بني لؤي * فليس لأصله منهم ذهاب
وقد حشدت هناك بنو عدي * ومرة قد تقدمها كلاب
فبوّأنا المليك بذاك عزّا * وعند اللّه يلتمس الثواب
فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون اللّه قد رضي عملكم ، وقبل نفقتكم ، فاهدموها ، فهابت قريش هدمه ، فقالوا : من يبدأ فيهدمه ؟ فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم فأهدمه ، فإني شيخ كبير ، فإن أصابني أمر كان قد دنا أجلي . فعلا البيت ، وفي يده عتلة يهدم بها ، فتزعزع تحت رجله حجر ، فقال : اللهم لم نرع ، إنما أردنا الإصلاح .
ثم جعل يهدمها حجرا حجرا بالعتلة ، فهدم يومه ذلك ، فقالت قريش : نخاف أن ينزل به العذاب مساء ، فلما أمسى لم ير بأسا ، فأصبح الوليد على عمله ، فهدمت قريش معه حتى بلغوا الأساس الأول الذي وضعته الملائكة ، وهو الذي رفع عليه إبراهيم القواعد من البيت ، وهي حجارة كبار كالإبل الخلّف ، يحرك الحجر منها فترتج جوانبها ، وقد تشبكت بعضها ببعض ، فأدخل الوليد عتلة بين الحجرين ، فانفلقت منه فلقة ، فأخذها أبو وهب بن عمرو بن عمران بن مخزوم ، ففرت من يده حتى عادت في مكانها ، وطارت من تحتها برقة كادت تخطف أبصارهم ، ورجفت مكة بأسرها ، فلما رأوا ذلك أمسكوا عن أن ينظروا ما تحت ذلك ، فلما جمعوا ما أخرجوا من النفقة ، قلّت النفقة أن تبلغ عمارة البيت ، فتشاوروا في ذلك ، فأجمعوا رأيهم على أن يقتصروا على القواعد ، ويحجروا ما يقفون عليه من بناء البيت ، ويتركوا بقيته في الحجر عليه جدار مدار ، ويطوّفون الناس من ورائه ، ففعلوا ذلك ، وبنوا في بطن الكعبة أساسا يبنون عليه من شق الحجر ، وتركوا من البيت في الحجر سنة أذرع وشبرا ، فبنوا على ذلك .
فلما وضعوا أيديهم في بنائها قالوا : ارفعوا بابها من الأرض ، واكسوها حتى لا يدخلها السيول ، ولا ترقى إلا بسلّم ، ولا يدخلها إلا من أردتم .
“ 231 “
ففعلوا ذلك ، وبنوها بساف من حجارة ، وساف من خشب بين الحجارة ، حتى انتهوا إلى موضع الركن ، فاختلفوا في وضعه ، وكثر الكلام فيه ، وتنافسوا في ذلك .
فقالت بنو عبد مناف وزهرة : هو في الشق الذي وقع لنا ، وقالت تميم ومخزوم : هو في الشق الذي وقع لنا ، وقالت سائر القبائل : لم يكن الركن ممن استهمنا عليه ، فقال أبو أمية بن المغيرة : يا قوم ، إنما أردنا البرّ ، ولم نرد الشر ، ولا تحاسدوا ، ولا تنافسوا ، فإنكم إذا اختلفتم تشتت أمركم ، وطمع فيكم غيركم ، ولكن حكّموا بينكم أول من يطلع عليكم من هذا الفجّ
.
قالوا : رضينا وسلمنا . فطلع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقالوا : هذا الأمين وقد رضينا به ، فحكّموه ، فبسط رداءه ثم وضع فيه الركن ، فدعا من كل ربع رجلا ، فأخذوا أطراف الرداء ، وكان في الرّبع الأول عبد مناف بن عتبة بن ربيعة ، وكان في الرّبع الثاني أبو زمعة الأسود وكان أسنّ القوم ، وكان في الرّبع الثالث العاص بن وائل ، وفي الرّبع الرابع أبو حذيفة بن المغيرة ، فرفع القوم الركن ، وقام النبي صلى اللّه عليه وسلم على الجدار ، ثم وضعه عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة ، وذهب رجل من أهل نجد ليناول النبي صلى اللّه عليه وسلم حجرا يشدّ به الركن ، فنحى النبي صلى اللّه عليه وسلم الرجل النجدي ، فغضب النجدي حيث نحي .
فقال النجدي : وا عجبا لقوم أهل شرف وعقل وسن وأموال ، عمدوا إلى أصغرهم سنا وأقلهم مالا فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحرزهم ، كأنهم خدم له ، أما واللّه ليفوتنهم سبقا ، وليقمن عليهم حظوظا وحدودا ، وإن ذلك النجدي كان إبليس لعنه اللّه ، ثم بنوا حتى بنوا أربعة أذرع ، ثم كسوها ، وبنوا حتى بلغ ارتفاع البيت ثمانية عشر ذراعا ، زادوا التسعة أذرع على بناء إبراهيم ، وجعلوا سقفها مسطحا ، وأقاموا سقفه على ستة دعائم في صفين ، وبنوا درجة من خشب في بطنها من الركن الشامي ، يصعد بها إلى سقف البيت ، وزوّقوا البيت ، وصوّروا الأنبياء والشجر والملائكة ، وجعلوا لها بابا واحدا وكسوها من الحبرات اليمانية .
روينا من حديث الخطابي قال : أخبرني أبو الطيب طبطب الوراق ، عن محمد بن يوسف النحوي قال : حدثني بعض مشايخنا قال : ركبت في سفينة ومعنا شاب من العلوية ، فمكث معنا سبعا لم نسمع له كلاما ، فقلنا له : يا هذا ، قد جمعنا اللّه وإيّاك منذ سبع لا نراك تخالطنا ، ولا نراك تكلمنا ، فأنشأ يقول :
قليل الهمّ لا ولد يموت * ولا أمر يحاذر أن يفوت
قضى وطر الصّبا فأفاد علما * فغايته التفرّد والسكوت
“ 232 “
واقعة لبعض الفقراء
أخبرني صاحبي أبو محمد عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي قال : رأى بعض الفقراء في واقعة أبا مدين وأبا حامد الغزالي ، فسأل أبو حامد الشيخ أبا مدين عن سرّ معرفته ومحبته ، فقال له أبو مدين : المحبة مركبي ، والمعرفة مذهبي ، والتوحيد وصولي ، للمحبة سرّ لا يكشف ، وإدراكات لا يعبّر عنها ، ولا يوصف سرّها ، ومنبعها وفيّ ، وأصلها الجود العليّ ، فهي للخواص سنّة مسنونة ، دلّ على ذلك قوله تعالى : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ . فالمعرفة يا أخي فخري ، وهي قاعدة سري وأمري ، ثمرتها التوحيد ، ومنها وفيها يكون المزيد ، فالتوحيد أصل ، وما سواه فرع ، وهو غاية المقامات ونهاية الأحوال ، وما ذا بعد الحق إلا الضلال ؟
ثم سأله عن تنزيهه ، فقال : نزّهت الحق بما نزّه به نفسه ، وحمدته حمد من به قدسه ، ومجّدته تمجيد من كان معناه وحسّه ، فهو المحرّك للظواهر ، ومعلن العلانية ، ومسرّ السرائر ، فسرّه لسرّي لاح ، وتحفه تغمرني في المساء والصباح ، إن نظرته وجدته معي ، وإن تحققته كان بصري ومسمعي ، فهو الممدّ لوجودي ، ومقلّب قلبي ، وناصر وجودي ، فحياتي بحياته ظاهرة ، وصفاتي بصفاته مطهرة ، وخلقي بأخلاقه متخلّقة ، أمدّني بتوحيده ، وملأ ظاهري وباطني بجلاله وتمجيده .
ثم قال : يا واحد يا أحد ، يا فرد يا صمد ، يا من لم يلد ولم يولد ، جمّل ناظري بالنظر إليك غدا .
وحدثنا عبد الرحمن بن عليّ ، أنبأ أبو سعيد البغدادي ، عن أبي العباس الظهرانيّ ، وأبو عمرو بن منبّه ، قالا : حدثنا ابن بوه ، عن أبي الحسن اللبياني ، عن أبي بكر القرشي ، عن أبي حاتم الرازي ، عن أحمد بن عبد اللّه بن عياض ، عن عبد الرحمن بن كامل ، عن علوان بن داود ، عن علي بن زيد ، قال : قال طاوس : بينما أنا بمكة إذ بعث إليّ الحجاج بن يوسف فأجلسني إلى جنبه ، وأتكأني على وسادته ، إذ سمع ملبّيا يلبّي حول البيت رافعا يديه فقال : عليّ بالرجل ، فأتي به ، فقال : ممن الرجل ؟ قال : من المسلمين ، قال : ليس عن الإسلام سألت ، قال : فعمّ سألت ؟ قال : سألتك عن البلد ، قال : من أهل اليمن ، قال : كيف تركت محمد بن يوسف ؟ يريد أخاه ، قال : تركته عظيما جسيما لباسا ركّابا خرّاجا ولّاجا . قال : ليس عن هذا سألت . قال : فعمّ سألت ؟ قال : سألتك عن سيرته . قال : تركته ظلوما غشوما مطيعا للمخلوق عاصيا للخالق . فقال له الحجاج : ما حملك على هذا على أن تتكلم به وأنت تعلم مكانه مني ؟ قال الرجل : أتراه بمكانه منك أعز
“ 233 “
مني بمكانه من اللّه عز وجل ، وأنا وافد بيته ، ومصد نبيّه ، وقاضي دينه ؟ فسكت الحجاج ، وقام الرجل من غير أن يؤذن له . قال طاوس : فقمت في أثره وقلت : الرجل حكيم ، فأتى البيت وتعلّق بأستاره ثم قال : اللهم بك أعوذ ، وبك ألوذ ، اللهم اجعل لي في الكهف إلى وجودك ، والرضى لضمانك مندوحة ، عن منع الباخلين ، غنى عمّا في أيدي المستأثرين .
اللهم فرجك القريب ، ومعروفك القديم ، وعادتك الحسنة . ثم ذهب في الناس ، فرأيته عشية عرفة وهو يقول : اللهم إن كنت لم تقبل حجي وتعبي ونصبي ، فلا تحرمني الأجر على مصيبتي بتركك القبول مني . ثم ذهب في الناس ، فرأيته غداة جمع يقول : وا سوأتاه منك ، واللّه وأن عفوت . يردّد ذلك مرارا .
حدثنا أبو الحسن بن الصائغ بسبتة قال : سمعت أبا عبد اللّه محمد بن رزق ، وكان صاحب رواية وعلم ، يقول : مررت يوما في سياحتي بجبل فرأيت رجلا ساجدا يتضرّع ويبكي ، فقلت : هذا رجل سائح متبتل إلى اللّه عز وجل ، أدنو منه فأسمع ما يقول في سجوده . فدنوت منه بلطف ، فسمعته يقول : اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك ، صن يدي عن مدّها إلى غيرك . قال ابن رزق : فلزمت هذا الدعاء ، فرأيت له بركة عظيمة .
وبالإسناد قال ابن رزق : مررت بمسجد بفلاة من الأرض في سياحتي ، فدخلت لأركع فيه ركعتين ، فوجدت فيه قلبي ، فأقمت فيه عامين أتعبد اللّه تعالى .
خبر سلمان الفارسي وإسلامه
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه قال : حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن ، نبأ محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، وحدثنا أيضا أبو عمرو بن عمران ، نبأ الحسن بن سفيان ، قالا : حدثنا مسروق بن المرزبان الكندي عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، ثنا محمد بن إسحاق ، ثنا عاصم بن عمرو بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، قال : حدثني سلمان فيه ، قال : كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من قرية يقال لها جي ، وكان أبي دهقان في قريته ، وكنت من أحبّ الخلق إليه ، فما زال حبه إياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية ، وكنت قد اجتهدت مع المجوسية حتى كنت فطن النار أوقدها ، لا أتركها تخبو ساعة ، اجتهادا في ديني ، وكان لأبي ضيعة في عمله ، وكان يعالج بيتا له في داره ، فدعاني فقال : أي بني ، إنه قد شغلني بنياني كما ترى ، فانطلق إلى ضيعتي هذه ، ولا تحتبس عليّ فإنك إن احتبست عليّ كنت أهمّ إليّ من ضيعتي ومن كل شيء ، وشغلتني عن كل شيء من أمري . قال : فخرجت أريد الضيعة التي بعثني إليها ، فمررت بكنيسة من
“ 234 “
كنائس النصارى فسمعت أصواتهم وهم يصلّون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته ، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يفعلون ، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم ، فقلت : واللّه هذا خير من الدين الذي نحن عليه ، فو اللّه ما برحتهم حتى غابت الشمس ، وتركت ضيعة أبي فلم آتها ، ثم قلت لهم : أين أصل هذا الدين ؟ قالوا : بالشام ، قال : ثم رجعت إلى أبي ، وقد بعث في طلبي ، فشغلته عن عمله كله ، فلما جئته قال : يا بني أين كنت ؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت ؟ قال : قلت : يا أبي ، مررت بناس يصلّون في كنيسة لهم ، فأعجبني ما رأيت من دينهم ، فو اللّه ما زلت عندهم حتى غربت الشمس . قال : أي بني ، ليس في ذلك الدين خير ، بل دينك ودين آبائك خير ، قلت : كلا واللّه إنه لخير من ديننا . قال : فخافني ، وجعل في رجلي قيدا ، ثم حبسني في بيتي .
قال : وبعثت إلى النصارى فقلت : إن قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني . قال :
فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى . قال : فأخبروني . قال : قلت : إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم أعلموني بهم . قال : فألقيت الحديد من رجلي ، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام . قلت : من أفضل هذا الدين علما ؟ قالوا : الأسقف في الكنيسة . قال : فجئته فأعلمته أني قد رغبت في هذا الدين ، وأكون معك أخدمك في كنيستك ، وأتعلم منك ، وأصلي معك . قال : فافعل وادخل ، فدخلت معه ، قال : فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ، ويرغبهم فيها ، فإذا جمعوا له شيئا كنزه لنفسه ، ولم يعط المساكين منها شيئا .
قال : فما لبث أن مات فعرّفت النصارى بأمره ، قالوا : وما علمك ذلك ؟ قلت : أنا أدلكم على كنزه . قال : فأريتهم موضعه . قال : فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وفضة وورقا . فلما رأوها قالوا : واللّه لا ندفنه ، وصلبوه ، ثم رموه بالحجارة ، ثم جاءوا برجل آخر ، فجعلوه مكانه . قال : فما رأيت رجلا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه ، وأزهد في الدنيا ، ولا أرغب في الآخرة ، والآداب ، ليلا ونهارا . قال : فأحببته حبا لم أحب شيئا كان مثله ، فأقمت معه زمانا ، ثم حضرته الوفاة .
قال : قلت له : يا فلان ، إني كنت معك وأحببتك حبا لم أحب شيئا كان قبلك مثله ، وقد حضرك ما ترى من أمر اللّه تعالى ، من تأمرني ؟ قال : أي بني ، واللّه ما أعلم أحدا اليوم على ما كنت عليه ، لقد هلك الناس ، وبدّلوا كثيرا مما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان ، وهو على ما كنت عليه ، فالحق به . قال : فلما غيب لحقت بصاحب الموصل فقلت : يا فلان ، إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك ، وأخبرني أنك على أمره . فقال :
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin